Monthly Archives

December 1963

1963, لسان الحال, مقالات

خواطر خريف / الأحد 8 كانون الأوّل 1963 – من جنيف

هذا الامتداد الآخر يمنةً ويسرةً، والقطار يشقّ الهواء، ترتاح العين إليه كأنّ الخضراء وحدها أليف. كلّ شيء في هذا البلد لون، وجنّاتهم لم تتحوّل صحارى. بعض من الشجر الباسق تكسوه أوراقه حتّى المنتهى في إخلاصها إلى جذع يرتوي. وبعض من الجذوع حيرى بين اكتساء وتعرّ. ولكنّ أغصانها تجرّدت، لينطلق البصر من خلال تجرُّدها إلى ملءٍ أمدى. مع ذلك، لا يكتمل العراء، لأنّ ما يلوح كذلك بعد رؤية خاطفة إنْ هو إلاّ شيء أدنى إلى الفسيفساء، وكأنّ الطبيعة تماثل الفنّ ولا تتكسّر إلاّ ابتغاء الفداء. وينساق اللون تلو اللون بغير نفور، لعلّ يدًا ساحرة أحبّت أن تطمئنّ العين إلى هذا التنوّع العجيب الذي يُنقل إليك في سرّ وحدته. وإذا أنت سرت على دروب البلاد – وكلّ بقعة فيها مغناج – تطأها عسجديّةً، لأنّ الخريف أهمل الورق تحت قدميك، لتطأه، بدون رفق، في تناهيه.

وإذا فاتتك هنا فرصة الشمس، تنال نعمة فوق النعمة من كلّ ما هو طريح الأرض. هذا إلاّ طراح فيه بعض من مبتغانا. إنّ المتعبّدين أنفسهم يسعون إلى الواحات. الإنسان دائمًا بين صحراء وجنان في التمزيق. ولكن، قيل مرّةً إنّ البادية تنقلب فردوسًا. وجنّات الأرض، إن أبعدت بعضًا عن الباقيات، ليست بالضرورة ملهاة. أليست سماء الله كلّها لونًا ونغمًا؟ لن تكون ملكوت الضجر. وإذا كانت البادية مهبطًا للوحي، فالمنشود انطلاق الوحي إلى آفاق لا تحدّ. الفراديس مصاحف كالبوادي. المتاهات تهجئة، والناس كلّهم يعبرون الهجاء إلى اللفظة فالكلمة. والمعاني دقيقة، ولذلك تعود إلى المصدر، حينًا بعد حين، لنلتمسها فيه. كذا، بعد الجهاد، تغمر الروح أنوار التأمّل، ثمَّ نرجع إلى رياضات قد تبدو جافّة بعد المشاهدة، ولكنّ القحط طريقنا الطويلة إلى محجّة الأبد.

وفي أعماق التبصّر، الغبطةُ جنين الكفاح الداخليّ. الفرح لا يتلو الجهاد كما تتتابع صفحات الكتابة، لكنّه السطور المكتوبة في سفر الجهاد. لا بدّ للمعاني من كتاب يحويها، ليحفظها. هي فيه للأمّيّ دفين، حيّة للعارفين. إنّ من طلب ربيع الفرح لن يدركه إلاّ إذا قبل شيئًا من خريف، رغائب تضمحل كالورق، مطامح يدوسها الناس، أن يحتجب العنف كما تنكفئ الشمس فوق غيوم هذا الفصل العظيم.

Continue reading
1963, لسان الحال, مقالات

1964 / الأحد 29 كانون الأوّل 1963

أليست تمنّيات العيد نابعة من ملل الماضي؟ والسعادة التي ننشد نراها في الوقت الذي أمامنا، لأنّ ما انقضى من الوقت لم يؤتنا ما كنّا نبتغي، فنمتدّ شوقًا إلى الآتي علّنا نستردّ ما فات من فرص انطوت في زمان ميت. هذا يطرح مشكلة السعادة من أساسها. والفرق بين السائلين عنها ليس فرقًا جذريًّا. إذا كان الأنا هو ما يبحثون عنه، فتكون أسباب سعيهم قد اختلفت، لتتلاشى جميعًا في مقبرة واحدة. فما الفرق بين متع الهنيّهة ألهوًا كانت المتعة أم ارتزاقًا؟ إنّ اتخّام هذه «الذات» العابرة عابر أيضًا. إنّه ظلّ الظّل، وهم لا يكاد يرنو إلى الوجود حتّى يغيب. ولذلك السؤال عن مكمن السعادة سؤال باطل إذا كان المقصود منه الاختيار بين الشهوات. فكلّها تنصبّ أخيرًا في الأنانيّة مهما تباينت ألوانها. والذين يفاضلون بين لذّة ولذّة، بين مجد ومجد، بين وجه ووجه، ويجدون كلّ الحياة في ما يفضّلون، صائرون جميعًا إلى التعب. وما التنقّل بين اللذّات أو الأمجاد سوى تأكيد لهذا السأم البشريّ الذي يتخبّط فيه كلّ من ابتغى لنفسه، في حدود المنظور، مقرًّا ومن جعل الأنا فيه ملتقى الكائنات.

إذا كان ماضينا فيئًا يميل، فالمستقبل كذلك في حال اعتقادنا أنّ السعادة هي في ما يأتي إلينا، في ما نجنيه. ولكن، إن آمنّا بأنّ السعادة هي في ما نُعطي، في الشهوات التي ننحر لنصبح قادرين على النموّ، عندئذٍ لن تكون السنة الـ1964، بحدّ ذاتها، شيئًا. سيكون جمالها ليس في ما تقدّم، بل في ما نقدّم نحن فيها للناس الذين جعلهم الله في نطاقها. هذه الأزمنة المتقادمة ليست سوى فرصة لنا نمارس فيها حرّيّة انطلاق، نحيا فيها ارتقاب النعمة، يتكثّف النور فينا في مدارها، لنذيعه على العالمين خلاصًا من دوران الوقت ومن التقيّؤ. وبكلمة، لا نسأل عن أنفسنا ولا عن امتدادها، بل عن الآخرين، وإذا بالنفس تكتسب وجودًا وتمتلئ فاعليّة.

تبتدئ السعادة، بالضبط، عندما أنسى أن أسعى إليها، لمّا أخضعها، هي أيضًا، للمشكلة الكبرى: كيف يتمّ حقيقةً خلاص الناس؟ إذا صرت هذا الإنسان المغترب من فلسفة التمتّع، فالمستمعون يطرحون، عندئذٍ، على أنفسهم مشكلة معناهم في الوجود. وقد يدركون أنّ سبب الخيبة كان في طبيعة سعيهم وأنّ الانتقال منه إلى سعي مثيل فريد في الخيبة. ولذلك كان لهم في من استنار فرصة الخروج من الامتداد إلى الصعود. «وكلّ ما يصعد فيهم يتّجه إلى لقاء»، لقاء الله مصدر فرحنا ولقاء الآخرين في محبّة معطاء.

Continue reading