Category

رسامته الأسقفية

السيرة, رسامته الأسقفية, مناسبات

القضيب الساهر / كلمة المطران جورج يوم سيامته مطرانًا، كنيسة المريمية في دمشق، 15 شباط 1970.

«وكانت كلمةُ الرب اليّ قائلاً ماذا أنت راء يا إرميا؟

فقلت إني راء قضيبًا ساهرًا.

فقال لي الرب أحسنتَ فيما رأيتَ

فإني ساهر على كلمتي لأُجريها».

                                                            (إرميا 1: 11و12)

الرسوليّ الرائي يؤتى به أسقفا ليرعى شأن الكلام الرسولي يأخذه من أبعاد ويمدّه إلى أبعاد. ولا يكون رسولاً إلا مَن اختاره ربّه على وفق قلبه ليرعى شعبه بعلم وعقل كما يقول النبي (إرميا 3: 15)، بذلك العلم الذي يؤتيه السيد أحباءه إذا ارتشفوا الكأس المقدسة ولاصقوا المساكين، وبذلك العقل الذي يتدرّج إلى مرتبة الألوهة إذا استلذَّ الإنجيل وعكف عليه طيلة العمر. من اختطفته الكلمة تصقله خليقةً جديدة، فإذا بالكلمة تُطيّب شفتيه وتعزّي فتنسلّ إلى الروح انسلال العطر وتَبيتُ فيها لطف إله.

ومن فُوِّض أمر الكلمة إنما تُقيمه على الناس ليَقلع ويَهدم ويُهلك ويَنقُض ويَبني ويَغرس حتى يبقى الحُكْم في الأرض لله ولمسيحه ليزهق الباطل فيتراءى لنا الملكوت في عواصف الوجود. ومن سحرَتْه هذه الرؤية لا يقدر أن يستمتع بغيرها. والرؤية وحدها هي التي تجعله رأسًا للكنيسة، نموذجًا ملوكيّ الملامح على قدرِ تخلُّقه بأخلاق الملك العظيم، وقد شاهدتم في هذا الاحتفال المبارك، أن الانجيل وُضع على رأس مَن انتُدب إلى رئاسة الكهنوت فيما كان الرعاة يستدعون الروح القدس عليه. طلبوا اليه بذلك أن يكون دائمًا تحت الإنجيل وعَنَوا أن أحدًا لا يعلو هامته سوى الله وأنه، بآن معًا، مطأطئ الرأس أمام المتواضعين لكونهم هم الإنجيل. إنه غدًا عالي الرأس لأنه لا يسكن بيتًا أرضيًا منذ صارت السماء سقفه بالدعوة.

وإنْ هو كذلك إلا ليحفظ رعيته في أدب الإنجيل ولا يستكين حتى يقودها من دار غربتها إلى جوار الكتاب القيِّم ليجعلها عروسًا بتولاً لا لوم عليها عند مجيء ربنا يسوع المسيح. ولا يقدر الأسقف على تهيئة أخته العروس ما لم يُفض نفسه حتى الموت. ففي الموت، نحن العيسويين نحتفل بعرسنا. وإذا ذقناه، بنعمة الله، فإنما يظهر الخلق كله وتصبح الانسانية جميعًا بعض قربان.

أجل كشْفُ الكلمة مؤداه للصلاة حسب القول العزيز: «سأُبشّر باسمكَ إخوتي، وفي وسط الجماعة أُسبّحكَ» (مزمور 21: 27). فالرعية، إذا تطهرّت بالإنجيل، تجتمع حول راعيها للتسبيح، لتمتد وإياه إلى الآب. الأسقف هو ذلك الإنسان الذي يُغذّي الحنين إلى الآخرة. هو المهاجر أبدًا إلى محجّة تسري أمامه وتذهب به إلى حياة الأبد. انه لا يرسخ في الدنيا ولا يرسخ فيها قومه، فالكلمة تجري وهو يجري بها، والقداس يصعد وهو يتصاعد به إلى يومَ يستعيد المسيحُ الكونَ في جسده المجيد.

هذا البشير الكاهن يتولى الإمامة الحق، إذا استطاع أن يصبح حَمَلاً لله لا تسلُّط عنده ولا قهر، يستمدّ سلطانه لا من حرف ميت بل من طاقة الحب التي تتفجّر في يديه. «ينزل في كل أمر منزلة خادم بصبر في الشدائد… والفتن والتعب والسهر… والرفق والروح القدس والمحبة الخالصة، بكلام الحق… بالكرامة والهوان، بسوء الذكر وحُسْنه» (2كورنثوس 6: 4-8). كل ذلك في حرية المسيح وبساطته لأن شيئًا في العالم لا يحتاج إلى المحبة وهي لا تحتاج إلى ما عداها لتغلب وتُقيم في الأرض سيادة المسيح. إن رفعة السيد هي عينًا في أنه «تجرَّد من ذاته متخذًا صورة العبد وصار على مثال البشر. وظهر بمظهر الانسان» (فيلبي 2: 6-7).

كرامتنا نحن أن نموت. بعد ذلك ينبعث الكون فينا ويكون كل منا كملاك قائم على الشمس (رؤيا 19: 1). مَن جلس على النور يصبح نورًا. عند ذاك لا يبقى من سؤال. شؤون الزمن التي للناس ينصرف الناس اليها بصحو ومسؤولية ومعرفة، ويُطلّ الراعي على ذلك إطلالة نَصوحًا لأن الكنيسة لا تغيب، فقد سمَّرت ألحاظها على المسيح «به قوام كل شيء» (كولوسي 1: 7) لتنصرف إلى كل حق وعدل وطُهْر جاء به أهل الأرض. إن كل تنهُّد، كل أنين، كل تطلُّع إلى غد أفضل تتلاحم في هامة المسيح الكونيّ. كل نموّ للانسان فرحة عند الملائكة. ولذلك كان كل مسعى نحو الحرية والمشاركة الإنسانية في الأمّة والعالم شيئًا من تمخُّضات الروح في ولادة ما يصنعون.

والكنيسة شريكة بما تُعنى به، بعض مما تعطي نفسها لأجله، بشرية كليًا ولو غير ترابية، متجذرة في تاريخ بلادها، تحمل على منكبيها صليب البلد وتصنع البلد بشهادة العدل والتحدّي النبويّ. ترمي كلاًّ من أبنائها في التزام هذه الدنيا.

هذا الحسّ جعل الناس يعرفون أصالة كنيستنا في هذه الديار. من آمن بتجسد ابن الله يؤمن بالتالي أن أرض بلادنا هي لحمنا وأننا فيها راصدون لمن أراد انتهاكها ظالمًا أو معتديًا.

حقُّ الله على الناس وحقُّ الانسان على التاريخ جُعل الأسقف لإعلانهما في الكنيسة وكانت الكنيسة لإعلانهما في العالم. وإني لأرجو أن يكون ربنا قد منحني هذه الرؤية وأنا أجيء من بيت طقوسيّ الذوق ومن حركةٍ لشبيبةِ كنيستي تروَّضتُ فيها على معرفةِ كونيةِ المسيح وانبعاثية كل حق في روحه. وما أَدركتُ شيئًا مما أدركتُ إلا لأني كنت أقرأ النور على وجوه شبابٍ عاهد ربَّه على تشوُّف أنطاكية جديدة.

تراث أنطاكية نريد أن نعلنه عمقًا في دمشق العربية شهداء على أننا في منزلة القلب من المصير العربي. أنطاكية في غناها كله نريد إقامتها في فكر لبنان الحبيب. كنيسة واحدة هنا وهناك لا زيف فيها تخدم الله في مرافق الانسان.

هذه الكنيسة التي اختلج فؤادها للتجدد منذ ربع قرن ونيف أرادت تكليفي برعاية أبنائها في كرسي جبيل والبترون وما يليهما وكأنها تقول لإخواني في جبل لبنان انها تريدني في وسطهم قضيبًا ساهرًا بالكلمة، يقظًا للخدمة. فالله أسأل أن يتمّم قصدها راجيًا إليكم ألا تُهملوني من دعاء رفيق.

Continue reading
رسامته الأسقفية, مناسبات

أرجو غفرانكم وستر ذنوبي وخطاياي / كلمة المطران جورج في وداع أبناء رعية الميناء، شباط 1970.

الكاهن إنسان كلفه الله أن يجمع شتات شعبه بالكلمة والأسرار، وكلفه أيضًا أن يُهذّب نفسه بالإنجيل. فعلى ما قدر ما كان التهذيب للراعي ممكنًا كان تأديب الناس بأدب الرب ومخافته ممكنًا أيضًا.

لقد شاء الله، بنعمة منه، أن أرحل إلى مكان آخر في هذه البلاد لخدمة شعب الله أيضًا. إني لا أزال مبتدئًا على دروب الفضيلة. إن ذنوب الأخ الصغير الذي يرحل عنكم الآن فاضحة، ولهذا أرجو غفرانكم وستر ذنوبي وخطاياي.

Continue reading