عنوان أتيت به توضيحا لمضمون مع رفضي ان تكون هناك فئة مسماة رجال الدين. فأي ما نمتهنه أو نتعاطاه عملاً لا يصنفنا والناس ليسوا سواسية كأسنان المشط ولكن لكل منا وجه أي ملامح فكر وملامح سلوك ووجود. ومن بعد الدراسة الواحدة يصبح لكل طريقه ومناقبه ويجمعنا فقط ثوب أو اصطفاف وقراءة يقرأوننا بها معظمها خرافة وموروث مخزون شعبي لم يخضع لنقد.
هنا لا بد لي ان أقول بأن هذه السطور تتعلق بالاكليروس ولا علاقة لها بائمة المسلمين فالمسلمون عندهم علماء وليس عندهم من يعنى شخصيا ووجدانيا بكل مؤمن الا اذا كان ثمة شيخ طريقة أو مرجعية تقليد يرتبط بها المسلم في توجهه. ولكن بصرف النظر عن المقارنة بين دين ودين على هذا الصعيد يذهب المسلمون ان ليس عندهم ما يوازي الاكليروس وان عندهم فقط علماء، الأمر الذي يجعل المسلم أبعد من المسيحي عن انتقاد المسؤولين عن الكلمة ويجعله أقل اضطرابا منه فيما لو سقط العالم في زلة. هناك نوع من التوقير الذي نحيط به القس أو نفترضه فيه بسبب من قدسية الكهنوت الذي يتخذه من الله.
انها – مع ذلك – فرصة لأقول ان ليس في المسيحية بر يطلب من القسس ولا يطلب من المؤمنين. فاذا كان جوهر المسيحية في البر فليس هناك صنفان من المسيحيين: صنف فوق وصنف تحت. ان كرامة الكاهن في إمامة الصلاة لا تجعله أكرم من المؤمن العادي في عيني الله. الامامة ترتب عليه مسؤولية ولا توليه امتيازا اذ “ليس عند الله محاباة للوجوه”. لذلك كان الاعتقاد الشائع ان ثمة نوعا من الطبقية في الكنيسة المسيحية لا أساس له.
أظن ان ما يجعل المسيحي يتمنى الكمال في الكاهن ان هذا في وظيفته ايقونة المسيح وأب روحي يدعو الناس الى الاستعفاف عن كل شيء فينبغي له ان يحيا بمقتضى حق الانجيل عليه. جوابي عن هذا التمني ان ليس أحد مثل الانجيل وان الانجيل يديننا جميعا على السواء. في الكنيسة التي انتمي اليها عندما يقام انسان اسقفاً نضع الانجيل على رأسه مفتوحا لنوحي بأن الاسقف يجيء كيانه كله من كلمة الله. طبعا نحن لا نجهل اننا نتمم هذا على الرجاء وان ليس من بشر يصبح موحداً مع الكلمة لا في الدهر الحاضر ولا في الدهر الآتي. البار عندنا ليس الطاهر كمالاً. انه ذاك الذي يحيا بالإيمان أي الذي يريد ان يأتي من الله وحده وهاجسه الوحيد ان يحقق ذلك.
من هذه الزاوية البر ليس هذه الحال التي تقصي الخطيئة تمام الاقصاء. هذه الرؤية أدرجها مارتن لوتر بوضوح لما قال عن الانسان انه “في آن معا خاطئ وبار”. قبل ان يتجلى الرب في اليوم الأخير المرء والكنيسة كلاهما في مسعى. فان نشترط بطولات روحية من المسؤول الروحي هو ان نذهب ضد الموقف الأساسي ان «ليس من انسان يحيا ولا يخطئ».
بكلام آخر يجب ان تألف ان الكلمة شيء وان مبلّغها شيء آخر. لكن إخلاصه للكلمة ورغبته في ان تصل فعالة لا بد ان يدفعاه الى تقويم نفسه لئلا تبقى الهوة عظيمة بين الكلمة وأداتها البشرية. وبسبب من وحدة الواعظ والموعظة لا بد ان يتآزر المخلصون لكي يضع الواعظ نفسه في قالب الموعظة. دون الاخلاص عقبات كأداء منها ميراثنا لعدد من الكهنة لم يتلقوا علماً كافياً أو تلقوه وما قرأوا لانهماكهم بيوميات العمل وعدد كبير من بيوت يرعونها. وأظن ان هذا الجمال الأخاذ في الكنيسة الشرقية أعني عباداتها كان من الاسباب التي دفعت الكثيرين الى ان يستغرقوا بالعبادة بلا فهم ولا امعان عقل حتى قبلوا ان يستوي على عرش الجهالة القسيسون. مع ذلك هناك من يطلب المعرفة ليقينه انها بعض من خلاص. رؤية الجهل يحيط بنا تدفعنا الى مسعى تثقيفي كبير. وهذا أفضل من العدم أو شبه العدم الذي كنا عليه ولكني مع ذلك أخشى أنصاف المتعلمين الذين يحملون إجازة لاهوت ويعلمون القليل وفقدوا هاجس التربية الدائمة لعقولهم أو ظنوا ان التقوى تكفيهم عناء الدرس. والكسول ينسب الى نفسه التقوى بسرعة وسهولة.
ويبدو مع ذلك ان المؤمنين لا يصيبهم انزعاج كبير من المعرفة الناقصة عند الكهنة ولا ينتقدونهم على ضآلتها. المؤمنون يشعرون ان الطهارة أهم من العلم. ولكن ماذا يعملون حتى لا يسقط رعاتهم سقوطاً عظيماً؟ أحياناً يتأفف بعض من تشهي الكهنة للمال. قد يكون لهذه التهمة أساس ولكني لست أظن ان الفساد عميم لان العميم هو الفقر والعوز أحياناً. ليس هنا المجال للبحث في أمور التنظيم المالي. ففي هذا كنائس موهوبة وكنائس غير موهوبة. منا من خطا خطوات رائعة في هذا الشأن. غير ان تحول الكنيسة مؤسسة عصرية في بعض جوانبها يقلقني. يهمني ان يدعم المؤمن أباه الروحي شخصياً، ان يعبر له عن ود بما في ذلك العطاء المالي. ان أردت ان يترفع أحببه وقل له، بالاحسان اليه، انه حبيبك. أزل من دربه أسباب الغواية.
ان أحببت الرجل تعفّ عن ذمه وذلك عملاً بقول الكتاب: “رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً” (أعمال الرسل 23:5). بادئ بدء هذا يثبط عزيمتك وعزيمة سامعيك وقد يمرمر الرجل. وهذا قد يعذر الكسالى عن الانخراط الفعلي في حياة الجماعة. يضربونها حتى لا يدفعوا ثمناً لخدمتها. فاذا كان الواجب يقضي بان تستر ذنوب الناس جميعاً فمن باب أولى – ان كنت من المؤمنين – ألا تمس مسحاء الرب. للقس مسحة من القدوس تقف أمامها خاشعاً. وهذا لا يحول دون تنبيهك من يرعاك او دون لومه بينك وبينه. فالبنوة التي ارادك الله عليها لابيك الروحي اذا رقت وسمت تدفعه الى تقويم ابوته واصلاحها.
ولن تدرك البنوة ما لم تتحرر من كل المسبقات التي تجعلك مجاناً خصماً للاكليروس. في المجتمع المسيحي هذا كثير في الاوساط التي تمارس كما في الاوساط الفاترة المهملة. هذا شبيه كل الشبه بمن يكرهون المحامين او الاطباء او التجار جملة، بلا تمييز وهم تعاملوا ومحامياً واحداً او طبيباً واحداً او تاجراً واحداً. ليس من رصف ممكن للناس صفاً واحداً. ليس من مهنة الاخلاق فيها واحدة. ما من كاهن مثل الكاهن الآخر كما ليس من ورقة على شجرة كورقة اخرى.
عندما تشتعل انت حباً ترى في الآخرين طاقات ما كنت تراهم عليها في بغضك او احتقارك اياهم. اذا اشتعلت حباً يملي عليك الحب فكرك والعمل وتبادر ولا تنتظر الآخر بما في ذلك من يسوس الجماعة. فإذا تحركت بالروح تحيي الموتى وينهض الكاهن مع الموتى ان كان منهم. ان تحركت تقول كلمات الحياة فتصل الى من تصل فيجمعون قدرة الى قدرة وكلمة الى كلمة.
واذا لاحظت ان قلب هذا الراعي لا فعل فيه للكلمة الحلال فلك ان تشكو امره الى من كان صاحب سلطان حتى يؤدبه. فهذا من باب الحب. قد يبدو القديسون من تشدد مورس عليهم.
أجل نصلح أنفسنا والآخرين بروح الوداعة لكنا نصلح الجميع بوضوح الشريعة. انها هي المنقذة ومن تسلح بها لنفسه ولسواه هو وحده المحب. ذهنية التسوية التي تسود كل اعمالنا في هذا البلد تنساب الينا من رفضنا للناموس، من نكراننا قدرة الكلمة الالهية على تقويم الطبائع. فإذا كان الله يؤدب من يحبه فليس لنا نحن منهاج آخر. غير اننا نؤدب ونحن على عفة لسان ورأفة واشفاق.
هنا ألفت الى ان كلمة “اكليروس” اليونانية تعني النصيب وهي مأخوذة من سفر يشوع بن نون: “انه ليس للاويين (الكهنة اليهود) قسم (اي ميراث ارض) في وسطكم لان كهنوت الرب هو نصيبهم” (18:7). من سماه المسيحيون “اكليريكيا” هو من كان الله نصيبه. هذا الرجل نعامله حسب هذا المنهاج. نحبه بسبب الرب الذي اختاره. نطالبه بسبب العهد الذي قطعه للرب.
Continue reading