إن الكمال إنما هو السعي إلى الكمال / كلمة المطران جورج في قداس الذكرى الاربعين لكهنوته، كنيسة مار يوحنا المعمدان في وادي شحرور، 19 كانون الأول 1994.
إخوتي،
إنكم أحببتم إحياء هذا اليوم معي لنقيم ذبيحة الشكر لهذا الذي له وحده المجد في أنه دعاني وأكرم في ما أعطى وعلّمني ما علَّم ورآني فرأيته ولطف بي فالتقطتُ من أنواره ما مكّنتني من ذلك طاعتي وذلك في ذوق صليب هو وحده خلوة هذا الحب الذي غدا عندنا نحن العيسويين كل الكيان وكل اللغة.
أربعون سنة انقضت ألتمس فيها الرحمة وما عرفت فيها قوة الا تلك التي حلّت من انعطافه، وأنت في كثرة من الأحايين وحدك في المحنة، فكيف تُواجهها بهذه الجبلة التي جُبلت بها، بنواقص ثابتة أو تجارب تختفي ثم تعود، وأمامك جبال من الوهن والفتور فيك وفي الناس، وتطوي الأيام وهم يتغيرون قليلاً أو قلة منهم تتوب وأنت تنتظر توبتك فكيف تعطيهم وأنت صفر اليدين وكيف تنشئهم وأنت لا تزال في رحم المعرفة الكبرى جنينا. كل هذا مما تَعلمه عن نفسك وما لم تعلم سيكشفه الله لك يوم الدينونة، ورجاؤك وأنت عار أن يُلقي عليك حُلّة الغفران خشية أن تكون قد سعيت باطلا أو لا تكون قد سعيت بالمقدار الذي يتطلبه حفظ الإيمان فيك وفيهم.
ولا يبقى في أية حال سوى زمان يسير أرجو فيه من محبتكم الصراحة الكاملة لتقويم اعوجاجي لأن الوديعة التي ائتُمنّا عليها ليست ملكا لي ولا لكم وقد أُمرنا بتسليمها. أنا أخاف المثول بين يدي الاله الحي الذي ليس عنده مزاح. ادعوا لي حتى لا يكون هذا المثول مخزيا عسى أقضي معكم ما يبقى لي من العمر بانتباه وتواضع وزخمِ عملٍ وإحسان الكلمة. في هذا السياق يلفتني منذ سنين طولى هذا القول في إرمياء بعد أن قضيتُ في عشرته عاما كاملا في أيام صباي. يلفتني قوله: «فكانت كلمة الرب إليَّ قائلاً: قبلما صوّرتُكَ في البطن عرفْتُك، وقبلما خرجتَ من الرحم قدّستُك. جعلتُك نبيا للشعوب. فقلت: آه يا سيدُ الربُ اني لا أعرف ان أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أُرسلك تذهب وتتكلم بكل ما آمرك. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأُنقذك يقول الرب. ومدّ الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي: ها قد جعلتُ كلامي في فمك. انظر قد وكّلتُك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتُهلك وتنقض وتبني وتغرس».
ما يهمّني ألا يأتي هذا اليوم منتهى لحقبة بل انطلاق لزمان لكم جميعًا. ولهذا أعود بكم من الكلام عن نفسي إلى الكلام في هذا الذي وحده ساغ الكلام فيه. خوف إرمياء من نفسه عرفه نبي آخر لما فوّضه الرب أمر النبوءة فقال: «اني لستُ نبيا ولا ابنَ نبي، انما أنا راعي بقر وواخزُ جمّيز. فأخذني الرب من وراء الغنم وقال لي الرب: انطلقْ وتنبأ لشعبي إسرائيل» (عاموس 7: 14 و15). لعل كلاًّ منا عرف هذه الحيرة وهذا التكلؤ أنه هش وأن بينه وبين الرسالة هوّة لأنه يعرف نفسه ساعيًا إلى شيء آخر ليس من الرسالة في شيء وقد لا يحسّ بحنان الأُبوّة ويستثقل موقعه وأن يشاهد في الرعية إهمالا له وقسوة وقد لا تكون مشغوفة بالمراعي الخضر ولا تُقبل على الخبز السماوي. وإغراؤه أن يهرب في العمق ولو قام على صلاته صبيحة الأحد وما اليها. قد يغزونا هذا الضجر ونعالجه باللهو فنملأ بالكهنوت أيامنا ولا نملأ به قلوبنا ويحسّ الناس بهذا فتُكَمّ أفواهنا دون الكلام الحلال. اذ ذاك نذكر إرمياء يقول: «ومدَّ الرب يده ولمس فمي». يده تحمل ملقط جمر إن ذكرتم اشعياء. «لمس فمي وقال لي الرب قد جعلتُ كلامي في فمك». فلماذا تُصرّ على أن تبقى أبكم؟
انظرْ قد وَكَّلتُك هذا اليوم على الشعوب. أنت صرت أبكم بعد أن تعوّدت ألاّ تنظر إلى وجهي لشعورك بأن بهائي يفرض عليك البهاء وهذا يكلّفك تعبا كثيرا. وقد تؤْثر أن تبقى غافلا أو تتغافل اذا ما أتى العريس في منتصف الليل، فعندك أنه يعرف شغله وأن تغطّ أنت في النوم أدنى إلى ما تحسبه راحة لك. الحق أن الكلمة تعود إلى أفواهنا من داخلنا اذا دخلت حسب رؤية حزقيال: «فقال لي: يا ابن الانسان، كلْ ما انت واجد، كلْ هذا السِفر واذهب فكلّمْ بيت اسرائل. ففتحتُ فمي فأَطعمَني ذلك السِفر. وقال لي: يا ابن الانسان، أَطعمْ جوفك واملأ أحشاءك من هذا السِفر الذي أنا مُناولُك. فأكلته وصار في فمي كالعسل حلاوة» (3: 1-3).
وقد يتوهَّم أحدنا ولا سيما اذا تَقادَم عليه الزمان أنه عمل في أول عهده في الكهنوت عملا كبيرا وأنه آن له الآن أن يستريح على ما ألفه من الخدمة وبعض ما يحيط بها من افتقاد قليل. اذ ذاك يسمع الرب يُكلّمه كما كَلّم إرمياء: انظرْ، قد وكّلتُك هذا اليوم. كل فجر يا إخوة فجر الخليقة الجديدة فينا ووعد نور في المؤمنين. وقد يكون أحدنا في كهولته الطاعنة أو الشيخوخة أعمق عطاء وأحرّ حبا. إن من لم يعش كل يوم كأنه يوم رسامته يكون قد دخل في تأفُّف الرتابة. فإنْ هبَّ الروح فيك من جديد فهو إياه الذي يَقلع ويَهدم في مواضع الاقتلاع والهدم وهو إياه الذي يبني في موضع البناء. أي انه عليك أن تكافح الخطيئة والجهل في كل نفس، ومن بعد هذا أن تُجمّلها وأن تزيدها جمالاً. وليس لك من مهمة غير هذه.
أنت كاهن لأنك نبي. لأنك لا تُحابي الوجوه، ولا تُحابيها إلا لكونها تنظر إلى وجه الله وحده كما كان موسى وإيليا في ثابور لا ينظران إلا وجه الإله. غير أن أحدًا منا لا يقتبل النبوءة ولا يحملها الا اذا مات عن كل شهوة فيه على غرار ذلك الذي لم يصر راعي نفوسنا العظيم الا بعد أن قَبِل أن يصير بالموت حَمَل الله. ولهذا يقول إرمياء: «لنُتلِف الشجرةَ مع ثمرها ولنستأصله من أرض الأحياء» (11: 19). ولأنك، كاهنًا، تقبل الموت كل يوم، سيطلبون نفسك قائلين: «لا تتنبأ باسم الرب، لكي لا تموت بأيدينا» (11: 21).
ستبقى طائفة من الناس متمرّدة كثيرة كانت أم قليلة. ولكنّ ثمة كثيرين في هذه الأبرشية ارتدّت قلوبهم إلى الرب بفضلٍ مِن سهركم. نحن ولجنا طريق الخلاص، والتعزيات كثيرة، ولكن ينبغي أن نقلق كثيرًا لو سمعنا الله يقول على لسان حزقيال: «لا تَرعَون الخراف، الضعاف لم تُقوّوها والمريضة لم تُداووها والمكسورة لم تجبروها والشاردة لم تردّوها والضالّة لم تبحثوا عنها، وإنما تسلّطتُم عليها بقسوة وقهر. فأصبحَتْ مشتتة بغير راعٍ» (34: 4 و5). واذا صحّ هذا في واحد منا فليس عليه إلا أن يسعى على أن يكون على صورة الراعي الصالح الإلهي الذي يبذل نفسه في سبيل الخراف. لهذا يُحجَب وجهُ الكاهن المسجّى بالستر لأنه يكون قد صار ذبيحةً ووجهه محجوب لأنه لم يَعُدْ يطيق الا رؤية وجه الحبيب.
أنا أدعو ربي أن يمنّ على كل منا بأن يكون على قدر النعمة التي وُهب على صورة المعلّم، المسحوق حبا، أن يصير أخًا لشريكه في الخدمة الإلهية وأن يزداد علما. في تصوُّري أننا نجحنا في جعل المعرفة مطلبا عند الكهنة، وهذا ممكن لكل منكم لأن الذكاء لا يُعوزكم، ولكن الجهد الموصول يُعوز بعضًا منكم على صعيد قراءة الكلمة هذه التي إن أكلناها نحيا بها إلى الأبد. وكلمة السر في هذا أن مَن صلّى كل يوم في عمق الايمان وحرارة الاستغفار تصير له صلاته مع الكتاب الإلهي المدرسة التي لم تؤهّله ظروفه أن يدخل اليها.
نحن لا نستطيع أن نخلّص المؤمنين الا اذا رأوا في مسلكنا صورة الراعي الصالح الذي يدعو كل خروف باسمه بمعنى أنه يحبه شخصيًا ويخدمه شخصيًا، ولا خدمة عندنا الا اذا أطعمناه الكلمة. العبادات لا تكفي للعلم. وينبغي ألا يكون أداؤها عذرا لجهلنا. يجب أن تعود الكنيسة إلى ما كانت عليه في الألف الأول كنيسة صلاة وكنيسة معرفة. هذا تكامل يضمن وحده أننا على طريق الخلاص. أن نكون عالمين بالكلمة ومتواضعين بآن معًا لسعيٌ ممكن. على هذا نتعاهد إنْ ودّعْنا الذكرى بعد هذه الخدمة الالهية. نودّعها ليعيش كل منا كهنوته بوعي متزايد وتفانٍ لا يُحدّ على أن تَذْكروا كلمة غريغوريوس اللاهوتيّ: «إن الكمال إنما هو السعي إلى الكمال». اذا اقتنعتم بهذا أعرف أن كنيسة جبيل والبترون باتت في عهدتكم وأنه حان لي أن أقول للرب: «الآن أَطلِقْ عبدَك أيها السيد حَسَب قولك بسلام» (لوقا 2: 29). تكونون أنتم قد جعلتم هذه الأبرشية عتبة للملكوت.
Continue reading