تنطوي غدًا وأنا كلي شكر للذي وهب ما كان فيها من رضاه وغفر لما كانت تحمله من خطايا ولست أنتظر أشياء عظيمة تنبع مني لأنه هو وحده أبو المراحم. وما أرجو الا أن يهبني نعمة على نعمة. انه وحده يعطي للنفس عافيتها. وهذا الجسد عائد إلى التراب في اليوم الذي يحدده هو في حكمته وفي رضاه. وادعو خاشعًا ومنكسرًا ليزول عني كل انزلاق حتى يتعرف الله فيّ إذا استدعاني صورته. وهذا متعلق فقط بحنانه وليس لي فيه سوى اليقظة حتى لا يجيء ابليس خلسة ليقلق نفسي.
وإذا كان لي من شهادة أؤديها فأن أردد قول الرسول: “لنا هذا الكنز في آنية خزفية” (2كورنثوس 4: 7). فالبهاء بهاء الكنز لا بهاء الوعاء. وإذا شئتم استعارة أخرى ليس للقناة فضل على الماء. الحياة في الماء لا في معبره. وإذًا سأبدو له لا شيء من ذاتي ويرى نوره الذي أكرم فأنزله. ويعود هذا إلى مصدره. جميل هذا الحس بالمعطوبية لا لأعذر نفسي ولكن لكي لا أتفاخر لأن التفاخر تفاهة الجهل.
وعلى ذلك لا بد من مراجعة النفس لئلا تغدو التوبة قليلة فإذا لم تمتحن قلبك في حضرته يبقى مملوءًا بالمجد الباطل أي بالتفه أيضًا. أنت جاهل في العمق نفسك. ووحده سيقرأها في اليوم الأخير. والويل لك إذا رآها قذرة. وحدها الرحمة ترحضها لأنك ستمثل بين يديه حافيًّا عاريًّا وإذا هو وحده شاء يلقي عليك حلة الضياء من داخل ملكوته وبجمالها تدخل. لن تدخل لظنك انك حامل تذكرة دخول. هذه لا يملكها بشر. أنت فقير إلى الأبد، فقير في السماء ان رأيتها وتظل فيها إلى الأبد آتيًّا من الرضا لا من شيء فيك. وهذا يعني بكاء على بكاء هنا حتى “يمسح هو عن عينيك كل دمعة” (رؤيا 7: 17).
وإذا صرت بكّاء في دنياك لا تهم الساعة التي يخطفها فيك. قد تطلب العيش إذا علمت انك لم تدرك التوبة. أما ان تلتمسه لسبب آخر يعني انك لم تزهد بعد في هذه الدنيا وان اطايبها لا تزال تعني لك شيئًا. وفي العمق يعني هذا انك لم تع انك تجيء من فوق. طبعًا يخيف الموت المؤمن ليس لأن الموت رهيب ولكن لأن الخطيئة مرهبة. ولك أن تقول له قبل نومك: “يا رب في يديك استودع روحي” لكي يلطف بك ويضمك إلى صدره على ما تحمل من آثام.
“يا سيد أرنا الآب وحسبنا” (يوحنا 14: 8). ان تشتاق وجه الآب بعدما ذقت المسيح لشرعي لأنه منتهى المسيح ومنتهاك بآن. ويكونك وجهه لحظة بعد لحظة في الملكوت. طيب هذا الاشتهاء لتنوجد.
***
وإذا سألني أحد عن نفسي يكون فهمي لهذا السؤال: ما علاقتك بالرب. قلت في ما سبق اني لا أعرف نفسي ثم كيف يتكلم المؤمن على الحب الذي يربطه بالله. أنت لا تعرف متى بدأ العشق ولا كيف عشته. وإذا عرفت لا تبوح لأن البوح انتهاك لحميمية الرابط بين العشق والمعشوق والحبيب الإلهيّ سوف يقول هذا للمختارين في اليوم الأخير. غير أني أعرف شيئًا واحدًا أني صبي من حارة النصارى في مدينة من مدائن الشرق. وهذا يعني اني اتحدر من عائلة بسطاء عرفوا شيئًا واحدًا في حياتهم ان كل فرحهم من كونهم جيرانا للكنيسة وانهم كانوا يعملون ليرتزقوا وتنموا أجسادهم ليتمكنوا من أن يصلوا الفصح وما يعد له صبيحة كل أحد.
لست أظن اني اكتسبت خبرة أخرى. لعلي أعرف ان أقول كيف أنا حتى اليوم ولد من أولاد هذه الحارة. بفضل كنيسة الحي التي أسهم جدي المعمار في بنائها أعرف كيف لا يبقى الإنسان صبيًّا من حارة النصارى ولكنه يعرف الطريق اليها. وهو لا يدين من نأى عنها فللإنسان حرية الهروب. غير ان لأولاد الحارة لغتهم أي تهذيبهم وانكسارهم وهذا جاءهم من الترتيل في الآحاد وفي ليالي الصيام. وتلطف نفسك من الكلام الذي ينزل عليك فتصير وكأنك كلمة من هذه الكلمات. ولا يهمك بعد هذا ما تعلمته في المدارس أو ما جهلته لأن الكتب التي وضعها البشر لا نفع فيها الا إذا وافقت هذا الإنجيل الذي رباك فأنت ترجمة له أو إيقونة مكتوبة بأحرف الحضارة.
أنت، مسيحيا، تقرأ لتتمكن مما أنزل على القديسين مرة واحدة. والقديسون يقرأون لك ما يطيب لهم من الكتب الباقية. لا يهم ان تعرف كثيرًا أو قليلًا. الأمر الوحيد الهام أن تعرف جيدًّا أن يسوع يحبك ويحب أصدقاءه ويغفر للآخرين فتفهم ان عقلك وقلبك قد تكونا من هذه المحبوبية. قد تنشأ فيك قدرة المتحدث عن المسيح وعن المعرفة ولكن حذار أن تستخدم هذه استقلالًا عنه. إذ ذاك تصبح من باطل الأباطيل.
ولكوني راسخًا في حارة النصارى أرى نفسي مرصوفًا بين الفقراء. انهم وطني حيثما حلّوا، وأهم الفقراء الأميون، دائمًا كان حنيني إلى هؤلاء وما كان لي أي حنين إلى المثقفين إذ كنت دائمًا أخشى الغنى العقلي الذي يدفع صاحبه إلى الزهو، إلى اقرار وجودية الزهو. وما بتُ مقتنعًا أن العلم يهذب النفس فالمجرمون الكبار متقنون لعلمهم.
والمجرمون الصغار لم يدركوا المحبة التي تهذب وحدها النفس. أنا فقير حتى النهاية بكوني عاريًّا حتى النهاية. وان كنت أعرف بعض الأشياء من هذه الدنيا فلكي أضعها في خدمة الذي عدمها لعله يرتقي قليلًا. أجل لا يستوي في هذه الدنيا من يعلمون ومن لا يعلمون ولكن لا يستوي الفقير والغني أمام الرب لأن من استغنى بمال أو جاه أو تحصيل أو جمال يكون قد استغنى عن إلهه.
***
أما بعد فقد دعاني البطريرك إلى الكهنوت وإذا الرئيس في الكنيسة تكلّم يكون الله قد نطق وليس لي في هذا شيء فأطعت لأن الطاعة مقامنا في المسيحية. وحاولت في التكليف هذا أن أخدم المشتاقين إلى السيد وأن أشوق الفاترين. وفي هذه الرسالة تزرع ولا تعرف شيئًا عن الحصاد لئلا يبطل فقرك.
منذ الثاني عشر من السنة الـ1954 أنا في هذه الخدمة. هل كنت في الطاعة لست أعلم الله يعلم. غير أني صبرت كثيرًا كما يقول بولس عن نفسه. وصبرت على هواني إذ كنت أتعب كثيرًا ولا تزال الغباوة ترهقني، ذلك لأني لم أكتمل. وشهادتي ليست لي ولكنها له. ما استطيع أن أدلي به اني عشت مع العائشين حقًّا من القداس وسمعت فيه “كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كورنثوس 12: 4). أن تقف أمام المائدة المقدّسة تسعًا وأربعين سنة في حضرة الرب تتلو كلامه وتحاول بعد خروجك من الهيكل أن تطيع هذا الكلام هو لعمري فرح ليس من هذا العالم. من أكل من هذا الخبز وارتشف هذه الكأس يكون قد أدرك النهار الذي لا يليه ليل.
ثم أراد رؤساء الكنيسة أن أخدمها في الأسقفية وذلك منذ ثلاث وثلاثين سنة بحيث أكون أخًّا مع الإخوة وأسقفًا ازاءهم. واحتسب اني وهبت أن أكون أخًّا ولست أعلم إذا قدرت على أن أقف ازاءهم لأقول لهم نعم في موضع النعم ولا في موضع اللا. وكان علي أن أتولى شؤونا من دنياهم وما كنت متدربًّا عليها ولعلّه فات أوان دربتي. غير ان “وقت انحلالي قد حضر” (2تيموثاوس 4: 6) وفي احتسابي انه لم يبق لي زمان أتعلم فيه الأشياء التي من الدنيا وهي نافعة للمؤمنين. غير أني جاهدت – ما استطعت – الجهاد الحسن. ولم أكمل السعي الذي طلبته مني السماء. وإذا صحت شهادة الإنسان عن نفسه فإني “حفظت الإيمان” وهذا كلفني كثيرًا. ولعلي علّمت علم اليقين ان المهمة الأولى للأسقف أن “يفصل كلمة الحق باستقامة” (2تيموثاوس 2: 15). وتقديري اني كنت أرثوذكسيًّا في كشف المسيح بالكلمة. أجل كان لي أدائي بإعطاء الكلمة وربما رأى بعض أني أشط أو أني أهذي ولكن كل جهدي انصب على ان أبلغ “الإيمان المسَلم مرة للقديسين” (يهوذا 3).
ولكن كيف تسلك مع الذين لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا أو الذين طمروا الوزنات التي استلموا؟ تقضي معظم أوقاتك عالـمًا بأن الزرع الذي زرعت يقع على الصخر وانه لم ينبت. هل هي واقعية مفرطة أن تلحظ ان كلمة الله قلما تنغرس في القلوب؟ ينبغي الا يجعل ذلك في نفسك مرارة. يجب ان ترجو دومًا من رب الحصاد ان يحصد هو ما لا تراه أنت. اللهم اني بلّغت.
وأظن اني رعيت في حدود ضعفي واني كنت أعود إلى الصبر بعد نفاده أحيانًا لأني علمت أن الكلمة هي بحدّ نفسها راعية. هل صارت هذه الرعية حسنة في عيني الرب وازدادت علمًا به وأحبته أكثر مما أحبت دنياها؟ هل تابت؟ هل تاب بعض؟ كلّ هذه أسئلة تبقى أجوبتها مغلقة عليّ إلى أن يقبضني الرب في يوم رحمته. الكنائس الكثيرة التي بنيناها معًا لا تعني شيئًا ان لم أتب أنا ورعيتي. قد تملأها أجسادنا. هل ستملأ هي قلوبنا. سيكشف الله ذلك في اليوم الأخير.
يوجعني هذا الجسد يا رب. انك رأيت ان تلطمني فيه لئلا استكبر. ولطمتني بخطاياي لئلا استكبر. أنت وحدك تعلم لماذا تقادم علي كل هذا الزمان. ولكن “لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بزجرك”. رضاك يا رب، رضاك. شيئًا واحدًا أطلب الا تصرف وجهك عني ولكني اشتقت الذهاب لاستريح. اكتبني في سفر الحياة. “تعال أيها الرب يسوع” واكشف لي وجه الآب.
Continue reading