Monthly Archives

July 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

إلى الكاهن/ الأحد 27 تموز 2003 / العدد 30

هذه الكلمة تخص الإخوة العلمانيين أيضا لأنهم يصبحون أدنى إلى التقوى إذا كان راعيهم على صورة المسيح أو أراد أن يكون. غير أني أتوجه إليك ليس من عل ولكن لأني أشتهي أن تكون عظيما لتبقى كنيسة المسيح على بهائها. الناس يجعلونك مسؤولاً عن تجميلها أو عن تقبيحها. اجل، الإنجيل سُلم إلى كل المؤمنين، ولكن طُلب إليك أن تحفظه حفظا جيدا في قلبك وعلى لسانك لينسكب في قلوب المؤمنين ويضمّهم إلى صدر المعلم.

أنت تعرف هذا وتعرف أننا عاكفون على القراءة في كل حين. اجل، أنا أعلم انك منهمك بالعبادات والعمادات والمآتم وأن بعض المواسم تستغرق وقتك وقوّتك. حذارِ أن تألف العبادة حتى التكرار الرتيب فتصير كلماتها على لسانك ولا يبقى اللهب وراء الكلمات. ثم يهمس الشيطان في أذنيك: «أنت كاهن جيد لأنك تتقن القداس وتهتم للكنيسة-المعبد وإدارة الجلسات لمجلس الرعية وجمع الأطفال والشبيبة وعيادة المرضى. أليس وقتك مأخوذا ولاسيما انك تزور البيوت؟ مبدئيا تعمل وتُعلّم، وتحسب تاليا -حسب منطوق الكتاب- انك مؤهل لدخول ملكوت السموات».

انتبه! هذه كلمات إبليسية قد تنسيك الأهم. قال الله لملاك الكنيسة التي في أفسس: «انك تتحلى بالثبات، فتحملت المشقات في سبيل اسمي من غير ان تسأم. ولكن مأخذي عليك هو أن حبك الأول قد تركته» (رؤيا 2: 3 و4). ثم يقول لهذا المسؤول عن كنيسة أفسس: «اذكر من أين سقطتَ وتُبْ». وكأن الله لا يقيم وزنا لأي جهد بذله هذا الأسقف إذ يبقى أن المأخذ عليه انه ترك محبته الأولى.

ثم قد يهمس الشيطان في أذنيك: «هل من أشياء أخرى تعملها وتبذل وقتك في النهار وبعضا من وقت في الليل؟». الخطيئة هي عينًا هذا أن تحسب أن حياة الكاهن هي كلها بعمله وأهمه الطقوس والتعليم وبعض افتقاد للمرضى والفقراء. لا يا صاحبي، الإنسان ليس عمقه في ما يعمل ويعلّم. انه كله في قلبه، والعمل يدفق من القلب.

كثيرا ما يفتر القلب فيقع الإنسان فريسة مظهره أو فريسة خطابه أو اجتماعياته الكنسية وأحيانا دنيوياته. أحيانا يغرَّق المسيح في الطقوس المتقنة، ودائما يغرق في الكلام المعسول الذي لا يتدفق من داخلك المستنير بنور النعمة.

لا شيء من كل ما تقول أو تعمل يؤمّن عافيتك الداخلية وان كانت لا تستقيم بلا عمل وتعليم يعبّران عن إيمانك. ولكن المهم أن تكون دائم الالتهاب بمحبة يسوع هذا الذي يحفظك وحده من الكبرياء. والكبرياء تهدد الناجحة أمورهم كما تهدد الكاهن الكثير النشاط.

لا تستطيع أن تكمل الطريق بالفتور. اذكر أن السيد يتقيأ الفاترين. متروك لك أن تكون ساخنا وهذا يغذى بالكلمة والصلاة العميقة التي لا تنقطع وتؤدى بوعي كامل كلمة كلمة. الناس دائما يميزون بين من يستظهر درسا ومن تأتي كلماته من قلب عاشق لربه. وإذا كنت على هذا الاضطرام لا يعظم احد في عينيك حتى تخشاه ولا يبقى احد حقيرا. ذلك لأن السيد الساكن فيك هو يجعلك ترى كما يرى وتتضع أمام الكل كما تواضع.

فإذا انكسر قلبك لتستقبل المسيح فيه لن يقلقك شيء. الكيد والنميمة إذا حصلا ينفرطان عند نفسك المُحِبة. اذكر محبتك الأولى عندما اختارك الروح القدس ووضع الأسقف يده عليك وربما بكيت وأنت راكع أمام المائدة وسكبتَ روحكَ، ساعتئذ، كلها أمام المسيح. إن أحببت هكذا يخلص الكثيرون. إن أحببت بهذا المقدار وعففت عن كل ما في هذا العالم فمتَّ فأنت شهيد.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

فقراؤنا/ الأحد 20 تموز 2003 / العدد 29

في ديوان جميل يقول شاعرنا كابي فؤاد دعبول: «مشلوح عَ بْحور التعب». يمكن ان ينطبق هذا على المحتاج إلى المال والمحتاج إلى العاطفة. وفي قصيدة أخرى يقول: أنا مِش حدا/ بالنسبة لحَدَا. هكذا المعوز بيننا.

ما أريد هو ان أدعو مجالس الرعايا هنا ان يكون المحتاج أول اهتماماتها. وهذا لا يتحقق في كثير من الأماكن إذ أرى بعضًا من القابضين على أموالنا يسعون فقط إلى البناء وإلى إضافة البناء على البناء، وارى مبالغ كثيرة أحيانا مجمدة في المصارف، واذا زاد الدخل فلا أفق الا انتظار عمار جديد وهذا يبقى لما يسمونه «مجد الطائفة» وهذا مجد باطل يزول بزوال الحجر.

ان المسؤولين عن الأوقاف عندنا يطلب يسوع منهم ان يحافظوا على الطائفة أي على البشر لا ان يحافظوا حصرا على الحجر. الفقير عندنا لا يحس ان الكنيسة تحبه لأنها تتركه على وضع العوز الذي يضنيه ولا يسمح له بإطعام أولاده وتربيتهم وتطبيبهم في بلد أضحى فقيرا جدا.

ألستم تعلمون ان السيد يسمي الفقراء: «إخوتي هؤلاء الصغار»؟ محبتنا لهم هي المحك الوحيد لمحبتنا ليسوع. هذا المال الذي بين أيديكم هو لهم، هو حقهم علينا. أنا أموت ألما إذا سألت أحدا منكم معونة للفقير ويأتي جوابكم: عندنا هذا المشروع أو ذاك. فقبل إنجازه كيف تريدون ان يعيش الفقير الذي سكب من أجله يسوع دمه؟

اطلب إليكم -وهذا طلب رئاسي أي طلب ملزم- ان تولوا الفقير اهتمامكم الأول وان تنفقوا الأموال له أولا. في الدرجة الثانية يأتي البناء ويأتي توسيع الكنائس. الكنيسة هي انتم ميسورين كنتم أم معسرين. أما قرأتم ما قاله القديس يوحنا الرحيم: «الفقراء سادتنا»؟. ماذا فعلتم بقول المخلص: «كنت جائعا فأطعمتوني»؟ يسوع الناصري كان فقيرا ووحد نفسه بالفقراء بالدرجة الأولى. أي ان المعلم في اليوم الأخير سوف يقول لكم: «أنا وكلتكم على كنيستي لترعوها مع الأسقف والكهنة». وإذا أجبتموه نحن بنينا لك حجارة ومنها حجارة الكنيسة، يجيبكم: «أحسنتم، ولكن ما كان أحسن ان تحافظوا على الحجارة الحية التي هي أحبائي الفقراء».

المطلوب منكم قانونيا ان تضعوا موازنة كل سنة وان تخصصوا منها للفقراء نسبة كبيرة قبل ان أتدخل وأضع المبلغ الذي يترتب للمحتاجين. لا احد منا يملك أموال الكنيسة لا أنا ولا انتم. نحن مؤتمنون فقط على مال الله، والله يريد ماله لأخصائه، وأخصاؤه هم هؤلاء الإخوة الذين لا يشبعون ولا يتطببون كما يليق. وتليق بهم العناية التي يعتني بها الموسر بنفسه.

والأمر الذي يضايقني كثيرا ان يأتي فقراؤكم إلى دار المطرانية مستعطين وانتم أولى مني بمساعدتهم الا إذا أسهمتم بتغذية الأبرشية لتقوم بواجب الإحسان تجاه هؤلاء ولست أرى فلسا واحدا من تسعين بالمئة منكم لهذا الغرض أو غيره.

«احملوا بعضكم أثقال بعض وهكذا تمموا شريعة المسيح» (بولس الرسول).

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الطلاق أيضا وأيضا/ الأحد 13 تموز 2003 / العدد 28

سأتكلم على حالات خلاف. قد يكون أسوأها ان يعاشر متزوج امرأة اخرى وينجب منها ويضطر على اعتناق ديانة اخرى ليشرعن زواجه الثاني بهدف شرعنة الولد الناتج من المرأة الثانية. ثم تراه يطلب العودة الى الكنيسة. ربما لم يكن واعيا دينه ليفهم ان في تركه خيانة. وربما أتى اعتناق ديانة اخرى من كونه يريد استعجال صدور الحكم عندنا وقد يطلب ذلك تدقيقا واستجواب شهود. هذا وضع تقدر الحكومة وحدها ان تمنعه بتشريع يمنع تغيير الدين لسبب الزنى.

         ومن المصائب ان المرأة التي ترى زوجها يميل الى امرأة اخرى ان تحاول “حرقصته” ابتغاء استعادته واذا بها تسقط. الزوجة العفيفة لا تلجأ الى هذه الأساليب الرخيصة. ومثلها في الرخص ان يختار احدهما الوقوع في الخطيئة لتؤخذ عليه وينال طلاقا يراه صعبا لعدم الدليل.

         وهناك عائلات في الحي الراقي (مخملية) والحمد لله انها قليلة حيث يحرر كل من الزوجين الآخر من رباط العفة ولكن في وقت التأزم يدعي عليه ويتهمه باختراق العفة.

         غير ان المرأة كثيرا ما شكت من البخل. تغالي احيانا. ولكن عند حصول البخل فما من شك ان الزوج فقد محبته وأفسد الرباط. هنا يجب ان نعرف ان آباء الكنيسة يعظّمون الكرم ويرون انه يغفر جما من الخطايا اذ يدل على قلب مفتوح وكثيرا ما كان سببا للمصالحة. وقد يكون البخل إشارة على ان الزوج ينفق امواله على امرأة اخرى. ومن الواضح ان البخل اذا ظهر فجأة فلا تفسير له الا ان هناك خيانة.

         كثيرا ما تحصل الخيانات بين عائلات تجمعها الصداقة وتختلط كثيرا يالسهرات والمطاعم. ان الإكثار من الخروج من البيت مع نفس الأشخاص لأمر فيه خطر بسبب جمال النساء وذكاء الرجال وقوة شخصيتهم. هذا امر يحتاج الى يقظة كثيرة وان يفاتح كل من الزوجين الآخر انه يحس بخطر عليه بسبب تذوق لشخصٍ يجذبه. ولا بد عند ذاك من قطع العلاقة لأن بولس يقول: “اهربوا من الزنى”. لم يقل الرسول هذا عن خطيئة اخرى. الهروب هو العلاج الشجاع.

         ما من شاك ان الأزياء غير المحتشمة لا تلجأ اليها المرأة العفيفة. ان تسعى المرأة الى ان تكون محط الأنظار النهمة يدل احيانا على انها راغبة في الشذوذ. اما اذا كانت موقنة ان جسدها مباح لزوجها فقط فلماذا هذا التعري الفاضح؟

         الى هذا فالملل من رفيق الحياة الزوجية وارد كثيرا لمئة سبب وسبب. وهذا يدفع الرفيق الى السعي الى مغامرة اذ يرى ان اشواقه انطفأت او انه اخطأ الاختيار (معظم الناس يخطئون الاختيار فهل نطلق معظم الناس؟). والطبيعة الفاسدة فينا تجعلنا نميل الى الفتوة اذا بلغت المرأة الكهولة او ما بعد الكهولة. هل يعني هذا اننا نرفض نساءنا في منتصف عمرهن ام نجد لهن كمالا روحيا يفوق الجمال الجسدي؟ ألا نستطيع ان نبعث فيهن جمالات روحية كانت قليلة او ضعيفة عندهن؟ الزواج جهد مستمر لننشئ الآخر من جديد، لنرى فيه بهاء كان الزهو الجسدي دونه بكثير؟

         المهمة الكبيرة الملقاة على من ارتبط بالميثاق الزوجي ان يكتشف كل يوم عند رفيقه حسنات لم ينتبه اليها سابقا او يحضه على اكتساب فضائل ما كانت قوية عنده. فاذا كان الرجل مثلا تهمه الثقافة ورأى ان زوجته قليلة التحصيل العلمي فلماذا لا يدفعها الى المطالعة ليقوى ذكاؤها فتصير احلى لديه. او اذا كانت قليلة الأناقة وهو يحبها لماذا لا يشجعها على ذلك ومن شأنها ان تحسن الأناقة.

         انا لا اعتقد بما يسمونه الانسجام الجنسي. ربما كان هذا حقيقيا بمقدار وهذا له قواعده. انا اعتقد باتحاد شخصيتين في كيانهما العميق اي بالتوافق الروحي بينهما. وهذا يعني عندنا ان يدفع كل من الزوجين الآخر الى الصلاة فهي العمق الإنساني الكبير. فاذا تقدما على هذه الطريق يكون المسيح جامعا اياهما. وامام وجهه يكتشف كل منهما وجه الآخر ويقوى الحب بينهما ليس على أساس الجسد ولكن في اعماق القلب.

         هذا مشوار يتطلب كل العمر. واذا ظهر الجفاء فيجب معالجته منذ البدء واتخاذ العلاج الحقيقي اي اعطاء المحبة بلا حساب والغرف من الإنجيل والاهتمام المكثف بالاولاد لأن الاولاد يعلّمون ذويهم ان يتقاربوا اكثر فاكثر. الزواج مأثرة من مآثر القلوب النقية. يمكن ان يصعد به الناس الى السماء وهم لا يزالون على الأرض.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

القومية أو الثقافة في الكنيسة / السبت 12 تموز 2003

منذ العهد الرسولي نشأت الفتنة القومية في الكنيسة فجاء في سفر أعمال الرسل: «وفي تلك الأيام اذ تكاثر التلاميذ حدث تذمر من اليونانيين (أي اليهود المتحدثين باليونانية في فلسطين) على العبرانيين ان أراملهم كنّ يغفل عنهن في الخدمة اليومية» أي الإعاشة (6: 1). انصهار المؤمنين بالإيمان الواحد والقرابين الواحدة لم يؤتِ ثمرا اجتماعيا. وتماسّت القوميات وطعنت بالكيان المسيحي فقد قال كثيرون من المؤرخين ان الخلاف الذي نشأ في السنة الـ451 في المجمع الخلقيدوني بين أصحاب الطبيعة وأصحاب الطبيعتين يخفي خلافا بين اليونانيين وأهل سوريا ومصر وأرمينيا. وما من شك ان الانقسام الكبير في السنة الـ1054 بين رومية والقسطنطينية لم يغب عنه اختلاف الحضارتين اللاتينية والإغريقية. ولا ريب أيضًا ان القومية هي الداء الوحيد الذي يؤثر على العلاقات اليوم بين القسطنطينية وموسكو وبين الرئاسة الروحية اليونانية في القدس وشعبها العربي.

غير ان الكنيسة الارثوذكسية أبسلت (حرمت) في المجمع القسطنطيني المنعقد السنة الـ1871 الذين «أحبوا العرق وفرقوا بين الأجناس البشرية وأثاروا الفتن القومية». العنصرية اذًا منبوذة. وما سمي اليوم كنيسة موسكو أو كنيسة بلغاريا أو صربيا لا تغطي مفاهيم قومية. تشير فقط الى كيانات جغرافية من حيث انك ان عشت في موسكو مثلا، كائنة ما كانت قوميتك، تنتسب اليها كأي روسي. ولذلك لا معنى لقول القائلين ان الكنائس الارثوذكسسية قومية. هذا محظر بقرار مجمع السنة الـ1871 الذي أشرنا اليه. على هذا الأساس اذا سميت كنيسة هذه المنطقة انطاكية فلا يشير ذلك الى اية جنسية اذ يقيم بيننا في كل الأبرشيات ارثوذكسيون أجانب يتمتعون بكل حقوقهم كمؤمنين في هذه الرعية أو تلك.

المسيحي يعيش في وطن ويحبه ويندمج به ولكن هذا انطلاقا من هذه الأرض وتاريخها وايمانه حافز لخدمة الوطن ولكن الوطن قد يكون تعدديا وحتى اذا كان من لون واحد أو شبه واحد يبقى للكنيسة كيانها المستقل عن كل وطن وعن كل تغزل بالاوطان. فأنا لست لبنانيًا لكوني مسيحيًا أو انطلاقا من ايماني بالإنجيل. انا مسيحي لكوني مؤمنا بالمسيح ومعمدًا وواحدًا في المسيح مع كل الذين يؤمنون به وقد أكون مع الارثوذكسيين الأجانب على اختلاف أو خلاف.

#  #  #

يبقى التراث الثقافي الذي ورثناه من التاريخ. فهذا يصلي بالسريانية وذاك بالعربية. الا ان هذا لا يعني ان ثمة ماهية سريانية أو عربية ولا يعني كذلك ان السريانية أو العربية تدخل في التعريف عن مسيحيتي. اللغات أدوات ثقافة. والثقافة ليست جزءًا من الكيان الكنيسي. انا لا اعترض على تكتل سرياني قائم على لغة مذاهب مختلفة حتى النفور العقائدي اذا كان المراد من ذلك احياء تراث عظيم والإحسان به الى من يجهله. والاعتزاز مقبول. الاعتداد غير مقبول. غير ان التوضيح يقضي ان نقول ان الإنجيل في جوهره مستقل عن الأرض وازمنتها ومستقل تاليًا عن اللباس التاريخي الذي ارتدته الكلمة.

الفاصل القطعي بين ما هو للكنيسة وما هو ليس لها هو الفاصل بين ما هو خالق وما هو مخلوق. فالمسيح وحده ومن اليه من الأبرار هم الذين ننتسب اليهم. أما الثوب التاريخي الذي ارتضى السيد راعيًا تاريخيًا ان يرتديه فليس بشيء. هكذا كانت الثقافات اليونانية والآرامية والعربية واللاتينية مخلوقة. فقد تكون العبادات في هذه الكنيسة أو تلك متصلة بالفلسفة أو كانت الفلسفة نوعًا من النفخة أو اطارًا للعبادات. فلك ان تتبين مثلاً ان جماليات الليتورجيا البيزنطية لا تخلو من اتصال بالحكمة الإغريقية. ولكنا لسنا اغريقًا اذ نأتي من الإنجيل وحده ومن تأملات القديسين في الإنجيل. نحن ندرس الميراثات البشرية لا لنتبناها ولكن لنحب يسوع المسيح. من لا يكفيه يسوع المعلق عاريا على خشبة الصليب هذا يريد ان يفتخر بالخلائق. لذلك يبتدع نظريات تتعلق بعظمة هي من هذا العالم. على سبيل المثال التساؤل عن الروم الارثوذكس وما قد يتباهون به قوما من هنا الى بطرسبرج والى أقاصي الدنيا ما هو الا سؤال عن «زينة الحياة الدنيا». أما القديسون من بلدنا واليونان ورومانيا وما اليها فلم يكن لهم أي انتساب في نفوسهم الى غير حوض المعمودية وما أثارته الكأس المقدسة من فكر. فلا تهمنا الأقوام التي قال سفر الأعمال انها سمعت بشارة بطرس بعد حلول الروح القدس يوم العنصرة (بعضها لم يبق مسيحيًا) ولكن ما أراد الكتاب ايحاءه ان هذه جمعها الروح الإلهي في فهم واحد للرسالة. اما من افتخر منها ان اجداده كانوا هناك فهذه خلاصة التفه «ليكون الفضل لله لا منا».

ان الكنيسة حافظة للوحي وليست حافظة لبلاغة العرب أو لحكمة اليونان. ولكن قد نتعرف جمالات الله في تراثات الشعوب لنتعزى ونتمكن من مد الجسور بين الإنجيل وهذه الشعوب. وهكذا رأى غير أب من آبائنا أثر المسيح قبل ظهوره في الفلسفة الإغريقية. غير ان المسيحية ليست مبنية على اية فلسفة ولا مختلطة بما عداها أي لم تأت العقيدة تلفيقًا بين الإنجيل والفلسفة. وعلى هذا المنوال ما كانت الكنيسة مزجًا تاريخيًا بين مقدساتها واية امة من الأمم. فأنا لبناني وشرقي مثلا بجسدي أي ترابيتي.

ويحلو لي ذلك ومرتبط ذوقي بهذا. غير ان هويتي الكنسية لا علاقة لها بجسد هذا العالم وذاكرته وعصبياته. واذا ووريت في التراب فيوارى الوطن فيك ويحفظ الروح القدس عظامك ليبعثها في اليوم الأخير ويسألك الله عما فعلته بمعموديتك.

#  #  #

لنا في كنيستي في الأحد الاول من الصوم نص كبير يحتوي على تبريكات وعلى إبسالات يخرج بها الهراقطة باسمائهم من الكنيسة. ومن الأشياء التي نتنكر لها بعض «التعاليم اليونانية» ويراد بها أجزاء من الفلسفة. هذا كله لنذكر ان الله لا يؤبد الا الأبدي. وهذا ينطبق على ما نرفضه في الحضارة الحديثة وفي ما شذّ عن الإلهام الإلهي أو ناقضه.

أجل لك ان تستخدم عبارات قديمة أو تستغني عنها وفق حاجتك التربوية. القالب لا يهم. المهم ان تبقى أمينا وان تخيط ثوبا جديدا للحقيقة الأبدية التي استُودعت وهذا ما يعلل تغييرًا في الطقوس أحيانًا أو في التنظيم. ان جسد المسيح ليس له ثوب واحد. فقد مزق الأثمة ثوبه قديما. ولك انت بالحب ان تبدله ولكن الجسد الإلهي العاري يبقى معبودا. ويسوس الكون والتاريخ. والكلمة الإلهي الذي هو المسيح ينشىء الكلمات التي يريد ليبلغ العقول اليوم فلا يتراكم عندنا ما ينبغي زواله. وهذا يتم في كل تيار نهضوي حقيقي.

اذا كان ما قلته هو الرؤية التي نزلت على الكنائس فلا يفرقنها تاريخ أو اعتزاز بتاريخ ولا تفرقنها لغة. فنحن في هذا المشرق واحد أكنا سريانا أم بيزنطيين أم أرمن لكون الإنجيل واحدًا. والتراثات التي انوجدت لحفظ الإنجيل نتبادلها ويستغني كل فريق بالفريق الآخر. وهذا يكون له ترتيب اذا ارتضى لنا ان نكون كنيسة واحدة. وليس لنا ان نتفق على الأمور الزائلة اذ يحتفظ كل منا بجذوره التاريخية والثقافية ونتشاور في حركية التلاقي الدائم لتأتي تعابيرنا وتجسيداتنا موافقة للعصر الحديث وموافقة أولا لأداء البشارة بالإنجيل الواحد لأن ما يريده الله منا ان نخلص للكلمة كما حلت في بركات الروح. فلا تعزل أحدا ذاكرته التاريخية اذ يكون قد وضعها في خدمة التلاقي وتسرب الإنجيل الحي في الأقوام جميعا.

وبفضل هذه الحرية التي نكون قد اكتسبناها من المسيح تقوى طاقتنا على ملاقاة الذين ليسوا من الإنجيل اذ يرون آنذاك ان لغتنا لغتهم وثوبنا ثوبهم وآلامنا آلامهم. نكون من البلد الواحد والمنطقة الواحدة بانتسابنا الى كل بهائها الانساني لأننا واياهم نكون نورًا طلعنا من أرض واحدة وذاكرة من الأرض واحدة. لا بد من انصهار للمسيحيين بالروح الإلهي الواحد ليكتمل الانصهار الحضاري بيننا وبين هذا المشرق العظيم.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الطلاق/ الأحد 6 تموز 2003 / العدد 27

لست أخوض الموضوع الآن من الناحية اللاهوتية فأنا في حالة حزن شديد لأن الكثير من العائلات يعيش والأزواج منفصلون روحيا بلا انقسام قانوني. لا يجمعهم الا سقف واحد وصاروا غرباء بعضهم عن بعض. زواج بلا روح وربما كان الاولاد جامعين. لا ينفصلون لعلمهم بأن الانفصال كارثة عليهم وعلى بنيهم، ولكن لا يعون انهم تعاهدوا على تأسيس عائلة يجمعها المسيح اي تواجه الصعوبات بالإيمان والصبر.

         “ويصيران كلاهما جسدا واحدا” لا تعني بالضرورة ان الحب الذي جمعهما في البداءة يمكن ان يستمر على لهبه الاول. هذه العاطفة الجياشة قلما تدوم على تأججها وهذا ليس بمطلوب. توتر الأعصاب والخطايا التي يرتكبها هذا او ذاك والعنف المنزلي بحق المرأة والبخل او العوز ومئة سبب وسبب من شأنها ان تطفئ اللهيب الجامح الذي بسببه نشأ الزواج. “ان يكونا جسدا واحدا” تعني ان يصلبا ليبقيا جسدا واحدا، ان يحتمل احدهما الآخر وكأنه صليبه. في الحياة العادية خارج العائلة اناس كثيرون يصلبوننا. هناك جهد لينكر الإنسان نفسه اي انانيته ومصالحه الآنيّة ليدوم هذا الرباط الذي تعهدنا ان نحافظ عليه. الزواج ميثاق نلازم به الآخر مهما صار ومهما غضب ومهما تشتت او تشرد. كل فريق يبقى محبا بلا توافر شروط عند الفريق الآخر. نحبه لأن المسيح أمرنا بذلك، لأننا اذا احببنا الزوج نكون محبين للمسيح.

         قد يذهب فرح اللقاء بالآخر او قد يتغير. الفرح لا يجيء فقط من الآخر. يأتي من قلبنا المفعم بالمسيح اي اذا عرفنا ان السيد يحبنا فنحن مملوؤون غبطة ولو سقط رفيقنا سقوطا كبيرا. المحبة التي هي في المسيح لا تقوم على شرط التبادل. قد يتفه الآخر او يصير مملاً او يضعف بيولوجيا. مع ذلك يبقى اخا في المسيح واذا عاملناه حسنا يشعر بمحبوبية، والمحبوب يشفى.

         ليس عندنا إحصاءات تدلنا على ان احكام الطلاق قد كثرت. فقد يطلب فلان الطلاق ولا يحكم له به. ولكن مجرد طلب الطلاق اشارة الى ان الانقسام قائم وان السقوط قد دخل الى العائلة.

         ما يجب ان نعرفه ان معظم اولاد المطلقين ولاسيما اذا كانوا صغارا يعيشون في حزن شديد. والسوء البادي أن كلاً من الوالد او الوالدة يشدهم الى نفسه ويدفعهم ضد الآخر.

         المحزن كثيرا انك ترى الناس يجيئون الى المحكمة ويقولون نحن اتفقنا على الطلاق والكنيسة لا تعرف طلاقا بالتراضي. احيانا يكون الطرفان قد تعاقدا على الرذيلة كل من جانبه فيأتون ويدعيان انهما راغبان معا في الطلاق.

         يجب ان يفهم الناس انهم يتزوجون الى الأبد كما ان المسيح متزوج مع كنيسته الى الأبد. ما يزيدني ألما ان كل المواطنين يظنون ان الطلاق سهل عند الارثوذكسيين. هذا غير صحيح من الناحية القانونية. ولكنه قد يكون صحيحا في هذه المحكمة او تلك. وهذا كثيرا ما كان مرتبطا بالرشوة. وفي احيان اخرى يكون القاضي قد ملّ ويريد ان ينهي الدعوى. الإكثار من طلب الطلاق قد يجعل المحكمة مسترخية. ولكن اي قاضٍ يحتمل ان يلفظ حكم الطلاق بسهولة؟ اي قاضٍ يرغب في ان يعرّض الاولاد الى التشرد؟ قال الفيلسوف الفرنسي برغسون “ان من اراد لذة الزرع يجب عليه ان يتحمل شقاء الحصاد”. وأراد بذلك ان يتحمل تعب العيش المشترك وتعب التربية.

         كثير من عائلاتنا ليس فيها المسيح. بلا مسيح لا يستطيع رجل ان يعيش مع امرأة. لا يستطيع بلا الرب ان يعيش مع موظفيه فكيف بالعائلة؟ صار الإكليل عند بعض كالعقد يكسره الناس متى شاؤوا. يعيش بعض الناس زيجاتهم كأنها عقود مدنية لا إله يسودها. هذه هي ظلمة الخطيئة الرهيبة. تلك هي اللعنة الكبرى.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

ثمانون / السبت 5 تموز 2003

تنطوي غدًا وأنا كلي شكر للذي وهب ما كان فيها من رضاه وغفر لما كانت تحمله من خطايا ولست أنتظر أشياء عظيمة تنبع مني لأنه هو وحده أبو المراحم. وما أرجو الا أن يهبني نعمة على نعمة. انه وحده يعطي للنفس عافيتها. وهذا الجسد عائد إلى التراب في اليوم الذي يحدده هو في حكمته وفي رضاه. وادعو خاشعًا ومنكسرًا ليزول عني كل انزلاق حتى يتعرف الله فيّ إذا استدعاني صورته. وهذا متعلق فقط بحنانه وليس لي فيه سوى اليقظة حتى لا يجيء ابليس خلسة ليقلق نفسي.

وإذا كان لي من شهادة أؤديها فأن أردد قول الرسول: “لنا هذا الكنز في آنية خزفية” (2كورنثوس 4: 7). فالبهاء بهاء الكنز لا بهاء الوعاء. وإذا شئتم استعارة أخرى ليس للقناة فضل على الماء. الحياة في الماء لا في معبره. وإذًا سأبدو له لا شيء من ذاتي ويرى نوره الذي أكرم فأنزله. ويعود هذا إلى مصدره. جميل هذا الحس بالمعطوبية لا لأعذر نفسي ولكن لكي لا أتفاخر لأن التفاخر تفاهة الجهل.

وعلى ذلك لا بد من مراجعة النفس لئلا تغدو التوبة قليلة فإذا لم تمتحن قلبك في حضرته يبقى مملوءًا بالمجد الباطل أي بالتفه أيضًا. أنت جاهل في العمق نفسك. ووحده سيقرأها في اليوم الأخير. والويل لك إذا رآها قذرة. وحدها الرحمة ترحضها لأنك ستمثل بين يديه حافيًّا عاريًّا وإذا هو وحده شاء يلقي عليك حلة الضياء من داخل ملكوته وبجمالها تدخل. لن تدخل لظنك انك حامل تذكرة دخول. هذه لا يملكها بشر. أنت فقير إلى الأبد، فقير في السماء ان رأيتها وتظل فيها إلى الأبد آتيًّا من الرضا لا من شيء فيك. وهذا يعني بكاء على بكاء هنا حتى “يمسح هو عن عينيك كل دمعة” (رؤيا 7: 17).

وإذا صرت بكّاء في دنياك لا تهم الساعة التي يخطفها فيك. قد تطلب العيش إذا علمت انك لم تدرك التوبة. أما ان تلتمسه لسبب آخر يعني انك لم تزهد بعد في هذه الدنيا وان اطايبها لا تزال تعني لك شيئًا. وفي العمق يعني هذا انك لم تع انك تجيء من فوق. طبعًا يخيف الموت المؤمن ليس لأن الموت رهيب ولكن لأن الخطيئة مرهبة. ولك أن تقول له قبل نومك: “يا رب في يديك استودع روحي” لكي يلطف بك ويضمك إلى صدره على ما تحمل من آثام.

“يا سيد أرنا الآب وحسبنا” (يوحنا 14: 8). ان تشتاق وجه الآب بعدما ذقت المسيح لشرعي لأنه منتهى المسيح ومنتهاك بآن. ويكونك وجهه لحظة بعد لحظة في الملكوت. طيب هذا الاشتهاء لتنوجد.

***

وإذا سألني أحد عن نفسي يكون فهمي لهذا السؤال: ما علاقتك بالرب. قلت في ما سبق اني لا أعرف نفسي ثم كيف يتكلم المؤمن على الحب الذي يربطه بالله. أنت لا تعرف متى بدأ العشق ولا كيف عشته. وإذا عرفت لا تبوح لأن البوح انتهاك لحميمية الرابط بين العشق والمعشوق والحبيب الإلهيّ سوف يقول هذا للمختارين في اليوم الأخير. غير أني أعرف شيئًا واحدًا أني صبي من حارة النصارى في مدينة من مدائن الشرق. وهذا يعني اني اتحدر من عائلة بسطاء عرفوا شيئًا واحدًا في حياتهم ان كل فرحهم من كونهم جيرانا للكنيسة وانهم كانوا يعملون ليرتزقوا وتنموا أجسادهم ليتمكنوا من أن يصلوا الفصح وما يعد له صبيحة كل أحد.

لست أظن اني اكتسبت خبرة أخرى. لعلي أعرف ان أقول كيف أنا حتى اليوم ولد من أولاد هذه الحارة. بفضل كنيسة الحي التي أسهم جدي المعمار في بنائها أعرف كيف لا يبقى الإنسان صبيًّا من حارة النصارى ولكنه يعرف الطريق اليها. وهو لا يدين من نأى عنها فللإنسان حرية الهروب. غير ان لأولاد الحارة لغتهم أي تهذيبهم وانكسارهم وهذا جاءهم من الترتيل في الآحاد وفي ليالي الصيام. وتلطف نفسك من الكلام الذي ينزل عليك فتصير وكأنك كلمة من هذه الكلمات. ولا يهمك بعد هذا ما تعلمته في المدارس أو ما جهلته لأن الكتب التي وضعها البشر لا نفع فيها الا إذا وافقت هذا الإنجيل الذي رباك فأنت ترجمة له أو إيقونة مكتوبة بأحرف الحضارة.

أنت، مسيحيا، تقرأ لتتمكن مما أنزل على القديسين مرة واحدة. والقديسون يقرأون لك ما يطيب لهم من الكتب الباقية. لا يهم ان تعرف كثيرًا أو قليلًا. الأمر الوحيد الهام أن تعرف جيدًّا أن يسوع يحبك ويحب أصدقاءه ويغفر للآخرين فتفهم ان عقلك وقلبك قد تكونا من هذه المحبوبية. قد تنشأ فيك قدرة المتحدث عن المسيح وعن المعرفة ولكن حذار أن تستخدم هذه استقلالًا عنه. إذ ذاك تصبح من باطل الأباطيل.

ولكوني راسخًا في حارة النصارى أرى نفسي مرصوفًا بين الفقراء. انهم وطني حيثما حلّوا، وأهم الفقراء الأميون، دائمًا كان حنيني إلى هؤلاء وما كان لي أي حنين إلى المثقفين إذ كنت دائمًا أخشى الغنى العقلي الذي يدفع صاحبه إلى الزهو، إلى اقرار وجودية الزهو. وما بتُ مقتنعًا أن العلم يهذب النفس فالمجرمون الكبار متقنون لعلمهم.

والمجرمون الصغار لم يدركوا المحبة التي تهذب وحدها النفس. أنا فقير حتى النهاية بكوني عاريًّا حتى النهاية. وان كنت أعرف بعض الأشياء من هذه الدنيا فلكي أضعها في خدمة الذي عدمها لعله يرتقي قليلًا. أجل لا يستوي في هذه الدنيا من يعلمون ومن لا يعلمون ولكن لا يستوي الفقير والغني أمام الرب لأن من استغنى بمال أو جاه أو تحصيل أو جمال يكون قد استغنى عن إلهه.

***

أما بعد فقد دعاني البطريرك إلى الكهنوت وإذا الرئيس في الكنيسة تكلّم يكون الله قد نطق وليس لي في هذا شيء فأطعت لأن الطاعة مقامنا في المسيحية. وحاولت في التكليف هذا أن أخدم المشتاقين إلى السيد وأن أشوق الفاترين. وفي هذه الرسالة تزرع ولا تعرف شيئًا عن الحصاد لئلا يبطل فقرك.

منذ الثاني عشر من السنة الـ1954 أنا في هذه الخدمة. هل كنت في الطاعة لست أعلم الله يعلم. غير أني صبرت كثيرًا كما يقول بولس عن نفسه. وصبرت على هواني إذ كنت أتعب كثيرًا ولا تزال الغباوة ترهقني، ذلك لأني لم أكتمل. وشهادتي ليست لي ولكنها له. ما استطيع أن أدلي به اني عشت مع العائشين حقًّا من القداس وسمعت فيه “كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كورنثوس 12: 4). أن تقف أمام المائدة المقدّسة تسعًا وأربعين سنة في حضرة الرب تتلو كلامه وتحاول بعد خروجك من الهيكل أن تطيع هذا الكلام هو لعمري فرح ليس من هذا العالم. من أكل من هذا الخبز وارتشف هذه الكأس يكون قد أدرك النهار الذي لا يليه ليل.

ثم أراد رؤساء الكنيسة أن أخدمها في الأسقفية وذلك منذ ثلاث وثلاثين سنة بحيث أكون أخًّا مع الإخوة وأسقفًا ازاءهم. واحتسب اني وهبت أن أكون أخًّا ولست أعلم إذا قدرت على أن أقف ازاءهم لأقول لهم نعم في موضع النعم ولا في موضع اللا. وكان علي أن أتولى شؤونا من دنياهم وما كنت متدربًّا عليها ولعلّه فات أوان دربتي. غير ان “وقت انحلالي قد حضر” (2تيموثاوس 4: 6) وفي احتسابي انه لم يبق لي زمان أتعلم فيه الأشياء التي من الدنيا وهي نافعة للمؤمنين. غير أني جاهدت – ما استطعت – الجهاد الحسن. ولم أكمل السعي الذي طلبته مني السماء. وإذا صحت شهادة الإنسان عن نفسه فإني “حفظت الإيمان” وهذا كلفني كثيرًا. ولعلي علّمت علم اليقين ان المهمة الأولى للأسقف أن “يفصل كلمة الحق باستقامة” (2تيموثاوس 2: 15). وتقديري اني كنت أرثوذكسيًّا في كشف المسيح بالكلمة. أجل كان لي أدائي بإعطاء الكلمة وربما رأى بعض أني أشط أو أني أهذي ولكن كل جهدي انصب على ان أبلغ “الإيمان المسَلم مرة للقديسين” (يهوذا 3).

ولكن كيف تسلك مع الذين لا يفهمون أو لا يريدون أن يفهموا أو الذين طمروا الوزنات التي استلموا؟ تقضي معظم أوقاتك عالـمًا بأن الزرع الذي زرعت يقع على الصخر وانه لم ينبت. هل هي واقعية مفرطة أن تلحظ ان كلمة الله قلما تنغرس في القلوب؟ ينبغي الا يجعل ذلك في نفسك مرارة. يجب ان ترجو دومًا من رب الحصاد ان يحصد هو ما لا تراه أنت. اللهم اني بلّغت.

وأظن اني رعيت في حدود ضعفي واني كنت أعود إلى الصبر بعد نفاده أحيانًا لأني علمت أن الكلمة هي بحدّ نفسها راعية. هل صارت هذه الرعية حسنة في عيني الرب وازدادت علمًا به وأحبته أكثر مما أحبت دنياها؟ هل تابت؟ هل تاب بعض؟ كلّ هذه أسئلة تبقى أجوبتها مغلقة عليّ إلى أن يقبضني الرب في يوم رحمته. الكنائس الكثيرة التي بنيناها معًا لا تعني شيئًا ان لم أتب أنا ورعيتي. قد تملأها أجسادنا. هل ستملأ هي قلوبنا. سيكشف الله ذلك في اليوم الأخير.

يوجعني هذا الجسد يا رب. انك رأيت ان تلطمني فيه لئلا استكبر. ولطمتني بخطاياي لئلا استكبر. أنت وحدك تعلم لماذا تقادم علي كل هذا الزمان. ولكن “لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بزجرك”. رضاك يا رب، رضاك. شيئًا واحدًا أطلب الا تصرف وجهك عني ولكني اشتقت الذهاب لاستريح. اكتبني في سفر الحياة. “تعال أيها الرب يسوع” واكشف لي وجه الآب.

Continue reading