لا بد ان يستهجن الأثرياء مقالي لأني لا اعرف الكثيرين يندمون على شهوة نافعة كانت أو ضارة. ويستغرب الفقراء – لو قرأوا – هذا الكلام وكأني اقطع عنهم رزقهم. وقد لا يكونون دون الأغنياء اشتهاء للمال. العفة عن رغبة المال لا علاقة لها بما تحوز ولكن بميل القلب. وهذا ينطبق على كل حيازة. فقد يكون الملك حرا من سلطان ملكه عليه. وقد يكون الأجير راغبا في التسلط. كيف تتحرر من سيطرة الوجود كله عليك؟
استهل شهادتي بأن الخلق صالح وإننا أحسنا لما اخترعنا العملة إذ سهلت بذلك التجارة وكبرت وشاءت القوة، على اختلاف ألوانها ودرجاتها، أن يتوزع الرزق بين الناس. ومن القوة السرقة والاغتصاب والتعدي على الأجراء والاستيلاء على حصص ليست لك في الميراث. ومن التعدي الربا بحيث بات البشر من العصور الغابرة متفاوتي الكسب. فاللامساواة هي القاعدة التاريخية واني لأذكر في طفولتي ان من “الاتقياء” من كان يقول: “الفقير الحق عليه” ناسين او متناسين ان ثمة وساوس من الشيطان تجعل الانسان يحصل على ما ليس بشرعي او عادل أكان من كبار الأثرياء ام من صغار الفقراء. لا ينعم الله الا على من ابتغى من تحصيله إحسانا لأن الإحسان لا المال هو النعمة.
يقول العارفون بالله لا يحق لك ان تفرح باقتناء الا عندما تروم تبديده على المحتاجين او لكون بنيك في حاجة اليه حقا. اما السرور بالمقتنى وهو شعور بالقوة فهذا ليس شعورا إلهيا. وبعامة، كل تعلق بالزائل يستبعدك عن “الباقيات الصالحات”. انت قائم بها وهي التي تصورك روحيا على البهاء. اما اذا تشهيت الزائلات فتصبح مثلها كائنا هشا، قلقا على فقدانها، جزعا لعدم تكاثرها. وتكون نقلت مركزك وهو الله الى ما لا يركز عمقك على شيء.
الإنسان يأتي من رغبته. فاذا رغبت في الباقي اعني الفضيلة فأنت باقٍ بها وان رغبت في العابر فكيانك الداخلي مهتز. المال لا ينتمي الى عالم القيم. انت من عالم القيم اذا عرفت استعماله للخير. عندما يقول الناس: هذا انسان مادي فكلامهم فلسفي اكثر مما يتصورون. اجل هذا الانسان عنده روح ولا يمكن ان تكون تركيبته البشرية مادة محضة. ولكن عند الرؤية الروحية يكون هذا الانسان قد اصبح وكأنه كله مادة لكون عاشقا لها. انت دائما من جنس ما تعشق. انت تصير من جديد كائنا انسانيا عندما تنتقل عن هذا العشق الى رؤية الأبدي فيك. القضية جدية كثيرا، خطيرة كثيرا لأنها تدخل الذات كلها. ما يحدث لنا في الخطيئة اننا بدل ان نرغب في الله نصير راغبين في المخلوق الذي من طبيعته ان يعبر فيزول. عندما يقول بولس ان “الطمع عبادة وثن” كان يعلم ان ليس من عبادتين تلتقيان في النفس الواحدة. احداهما تصبح عبودية.
هناك وثنية اذا اتكلت اتكالا عميقا او محضا على ما بين يديك وان احسست ان مالك يوفر لك مستقبلا وايماننا نحن انك بين يدي الله. “لا تهتموا بالغد” قولة المسيح هذه لا تحول دون سهرنا على اولادنا وتعليمهم والطبابة. انها فقط دعوة الا يصبح هذا الاهتمام انشغالا. اجل في الاقتصاد الحالي لا بد من توفير وتاليا من بعض القوة. قصد الكلمة الإلهية ان تجعل الله متكلك وان تسعى في الاتكال وان تطلب العضد الإلهي ولا تستسلم الى التوهم انك قادر بالسعي وحده ان تضبط الوجود اذ تكون آنذاك قد أنكرت مجانية العطاء الإلهي وان الرب معيلك. وفي هذا يقول القديس كاسيانوس: “لا تستطيع في آن واحد ان تحب روحك والمال”. وذلك مصداقا لقول الإنجيل: “حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك ايضا” (متى 6:12). ما يخشاه اهل المعرفة الروحية انك اذا انكببت على ملذات الدنيا لا يبقى لك صبر على اللذات الروحية لأن ترف الدنيا يحجب عنك فرح الملكوت الآتي عليك كل يوم.
هذه الصعوبة لا تنحل على طريقة الوعظ التافه الذي أخذ يستعبدنا منذ قرون والذي يدعو الى شيء من الإحسان تكفيرا عن الذنوب او طمعا بالجنة بحيث تعطي ما لا يتناسب وثروتك وترضي ضميرك القلق. معلمنا الكبير يوحنا الذهبي الفم يعلن ان “الأغنياء (اي الذين يظلون على غناهم بلا عطاء كبير) والبخلاء هم سراق من نوع خاص”. الفكرة الأساسية عند المعلمين القدامى – وهم المرجعية – ان الله وهب خيرات هذا العالم ليشترك فيها الناس جميعا بلا استثناء وليتمتعوا بها على التساوي. واما ان يحصل بعض اكثر من الآخرين فهذا يناقض المساواة التي ارادها الله في توزيع الثروة وهذه الحال لم تكن في البدء. هذا نشأ مع الأهواء. ان اشياء هذه الدنيا والتمتع بها هو للجميع. انها ليست “لأحد من حيث الملك” كمل يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث. وكلام باسيليوس الكبير قاطع: “انت كوكيل وليس كمستمتع تستعمل الغنى”.
الكلمة-المفتاح في هذا المجال ان المال وكالة من الله. انه يأتمنك عليه لمنفعة الناس جميعا بدءا من عائلتك ما في ذلك ريب ولكن امتدادا الى كل محتاج. ليس عندنا نحن المؤمنين بالتراث المسيحي القديم فكرة الملك. اجل هذا لا ينبغي ان يقود احدا الى السرقة لأنها طمع الا اذا تعرض اولادك الى الفاقة الحقيقية او الى الجوع. تنتفي عند ذاك السرقة. اجل قال الله في الوصايا العشر لا تسرق. كان هذا في الحضارة العبرية حيث كان الناس بداة او مزارعين متساوين في الفقر. اما في الاقتصاد الرأسمالي حيث التفاوت الرهيب فيمكن ان يتعرض المصاب بالفقر المدقع الى الجوع الحقيقي. هذا لا يبرر اختلاسا يقوم على خوف من جوع غير قائم بعد. غير ان اساءة الاستعمال للتعليم الذي أطرحه – وهو مؤسس في تراثنا – لا يلغي القناعة ان ليس هناك من ملك وان الأمر الذي يريده الله هو الكرامة الواحدة لكل مخلوق.
قال الذهبي الفم “ان في الثروة سببا لأحزان وانقسامات ومشاجرات وأفخاخ واحقاد ومخاوف”. وعلى المستوى العالمي ان التفاوت المادي بين الشعوب مصدر للحروب. ان المال اذا لم تعط منه شيئا يمكن ان يجعلك بلا إحساس. ويقول القديس غريغوريوس النيصصي ان ناسا كهؤلاء يفقدون كل ملامح جنسهم ليصيروا مسوخا.
ما يرعب في شهوة كهذه انها تمسي مرضا لا شفاء منه اذ النزعة عند الثري الكبير انه لا يكتفي بما عنده. كل شهوة من طبيعتها ان تغذي نفسها بنفسها. الشراهة والزنا وحب السلطة لا تقف عند حد. ويدخل في تشهي المال المجد الباطل الذي يدفعك الى ان تصبح اقوى من غني آخر. هناك قلق ناتج من المقارنة. ان التخمة تقلق كالفقر الشديد. تتوجع لأنك لست الغني الاول في البلد وتضطرب اذا لم تستطع ان تحافظ على كل ما كسبت. انت بسبب من ذلك في حالة إحباط دائم اهم ما فيه الإحباط على انك سعيت ولم تصل كما صممت. هناك حزن شديد لعدم بلوغ المأرب الذي هو ازدياد الثروة.
ويسيطر على هذه الشهوة ان صاحبها مدفوع الى ان ينظر الى الإنسان الآخر من ناحية المنفعة المادية. الآخر قيمته بما يملك اي بالعلاقات المادية التي تقيمها معه. وفي هذا يقول الذهبي الفم: “ان الآخرين ليسوا بشرا. انهم ادوات للكسب”. الهذيان الآخر ان للمال قيمة مطلقة وانه هو الحياة.
كل شيء عند هذا الرجل ذهب. انه في هلوسة دائمة. وفي كلمة موجزة ليوحنا الذهبي الفم: “ارادتك في ان تفوق سواك في امتلاك الأشياء الجسدية ليس لها مصدر الا برودة المحبة فيك”.
مع ذلك العجائب ممكنة. اما الشفاء الأعجوبة ففي قوله تعالى: “بدد، اعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد”. قال لي صديق كان غنيا كبيرا: “كلما ربحت مبلغا كبير اوزع منه كمية كبيرة لئلا اقع في اشتهائه”. غير ان المعجزة لا يمكن ان تتم الا باهتداء والاهتداء ان تؤمن انك لست مالكا لشيء او انك فقط مؤتمن. لقد شاءت ظروف الدنيا، شرعية كانت ام غير شرعية، ان تجتمع في يديك ثروة. سؤالك نفسك هو كيف اشتري نفسي من وطأة هذا الذي تجمع عندي. الإنقاذ الوحيد ان تعطي بقدر كبير حتى تصل الى الحرية. كيف تعطي، من تعطي ليس هذا هو الموضوع. الموضوع ان تتحرر داخليا من العبودية. قد توزع قليلا اذا ملكت قليلا. اذ ذاك انت حر. تعطي كثيرا جدا ان ملكت كثيرا. اذ ذاك، انت حر. المهم ان تتجرد من كبرياء التملك. اذا أزلت هذه العاطفة عنك تصبح فقيرا الى الله. اذ ذاك فقط تنوجد.
Continue reading