فيما أكتب لست أعلم بما سيجري يوم الجمعة (أمس). وهنا تحضرني الآية: «يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع» (سورة الجمعة، الآية ٩). واذا ترجمتها للنواب على أطيافهم أقول الانتخاب يتضمّن دعاء في القلب وان يذر مندوبونا البيع بمعنى التفاوض والنقاش الذي لا منتهى له حتى نموت اختناقا بالكلمات التي تولد احيانا عقما رهيبا فاذهبوا ان لم تذهبوا بعد وقلوبكم مطهّرة وأتونا بالحسن ان لم يكن الأحسن لئلا تهمشوا نفوسكم عن حب الجماعة التي دعتكم الى حمل وزرها عالمين ان كل نسان مكتوب عليه الموت وان البلد مدعوّ الى القيامة بكم او بمن تستخلفون.
هنا أذكر حديثا لصديق لي كان يقودني الى مطار باريس أرجع منه الى لبنان وكانت على يمين الطريق مقيرة مليئة بأكاليل زهور بسبب من ذكرى للموتى في الكنيسة الكاثوليكية فقال لي رفيقي: «انظر الى هذه القبوركلها ملأى بناس لا غنى عنهم». وانا في شيخوختي ارتب بعض أموري برؤيتي موت قد أكون معه على موعد قريب. ثم اذا نظرت الى ما قد يعتبره أصدقائي إنجازات لي أفكر دائما بأن خلفي قد يكون عظيما ويكمل الطريق.
لقد تعب محبو هذه الأمة من الكلام على صفات الرئيس وهو أتى من أمّة كما أتى. وأنتم تختارون واحدا من الموجودين في هذا الشعب ولا تأتون بالضرورة بعبقري او قديس. فاذا كنتم لم تُجمعوا على واحد أمس فأجمِعوا على الممكن وجوده بين الأبرار والفاهمين ومن أعدتهم طبيعتهم للقيادة. وهذا أمر قابل للنقاش بينكم اي قابل للاستنساب. صونوا أنفسكم بالإخلاص وانا آمن انكم خرجتم او تخرجون باختيار من يناسب المقام وان المقام سيعلّمه أشياء كثيرة ويمده بملازمة الحق بمحبة لنا جميعا. واما الحكومة والمناصب والحقائب فستأتون بها في حينه وفي دستورنا هذه أهم من الرئيس في صلاحياتها وأفعل واذا أصررتم على رؤية جامعة لهذه الأمور فقد لا تبلغون شيئا من مراد الأمة.
والأمة راغبة في إتمام هذا الاستحقاق لتستعيد رجاءها ولا تخشى الجوع الذي يهددنا حقيقة ولعل كل ما يهمها من أمر السياسة ان يأكل الأطفال ويدرسوا ويحبوا بعضهم بعضا ويتهذّبوا.
لقد اصطلحنا في هذا البلد على كلمتين: الحكم والحكومة. والحق ان هذا الاصطلاح كان ذا أساس قبل الطائف والحاكم من نفّذ. اما الآن فالنص يقول ان الرئيس رمز الوحدة ولا يعترف له بصلاحية تفسر على انه حاكم وظننتم ان هذا التغيير يسكت المدفع ولكن تحول المدفع من آلة الى كلام يقتل هو ايضا على صعيده.
مع ذلك اؤمن بأن رئيس الجمهورية هو ليس فقط رمزا لكونه يختار بمشاورات ملزمة رئيس الوزارة التي وحدتها انها تقرر مجتمعة.
# #
#
فمن المؤكد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون أكثر من رمز وهذا له ان ينتزعه ممارسة لا بتجاوز القوانين ولكن بالإيحاء الذي تعطيه طهارته وشهامته ونفوذه المعنوي »الكتاب« كما كان يسميه الرئيس فؤاد شهاب لا يكفي. يجب ان يصبح الرئيس بنظره الثاقب ومرونته واقترابه من الأطراف المتنازعة حَكما يحكم بالقانون والحب معا.
لست أقول ان المسيحيين يجب ان يكونوا محتشدين وراءه او حوله. هذا رئىس البلد وليس فريقا طائفيا. والسدة نفسها دلّت منذ الاستقلال ان رئيس الجمهورية لم يكن في خدمة حماسية لطائفته او متحيّزا لها. فاذا راق المسيحيين ان ينصروه وهو قائم في عدله فقد يشفي المحبطين منهم ومجموعتهم اذا تجمّعت -وهذا نادر- قد يزيد انتعاشها ويقل إحباطها اذ لا ينبغي ان ندرك يوما يشعر فيه المسيحيون بضعف بعد ان كانوا أقوياء.
في الإنجيل هذه الكلمة: «مبارك الآتي باسم الرب»، لنترجمها سياسيا ونقل «مبارك الآتي باسم الشعب اللبناني» ممثَلا بالنواب كما هم اذ ليس لنا وسيلة اخرى افضل. بعد ظهور الرئيس واذا نضج الوضع لنا اننتكلّم على نظام رئاسي. غير ان هذا يزيد في التوتر الحالي. ولا يمنع نظريا النظام الرئاسي على ان نبقي على رئيس ماروني. هذه قد تكون رمزية نافعة. كلنا يذكر الدور الذي لعبه المغفور له الرئىس سليمان فرنجية عندما تكلّم باسم العرب في الأمم المتحدة. عرف العالم عند ذاك ان العرب فيهم غير دين ولم يشك المسلمون اللبنانيون ان هذا كان عملا مليحا.
واذا جئنا على ذكر العسكر أذكر اني كنت أكلل عميدا في الجيش أرثوذكسيا لا يزال حيا يرزق وكان الشاهد في الإكليل المرحوم الرئيس كميل شمعون فلما جاء وقت الموعظة قلت للعريس: أنت عسكري في الثكنة ولن تكون عسكريا في البيت. لقد رئس شارل ديغول وأيزنهور بلديهما وصارا مدنيَين. وما يبقى من ديغول خارج رئاسته لفرنسا انه كان كاتبا بليغا. وهكذا ستعرفه الأجيال. القول الحسن والتصرف الحسن اي الحكمة ستخلعان اللباس المدني على رئيس عسكري اذا ما أتى.
«الطبيعة تكره الفراغ». والنساك قالوا لنا ان الفراغ يملأه الشيطان. اجعلوا الله في البلد واشتموا إبليس الذي يضع الفوضى في عقول الناس وقلوبهم واعلموا يا سعادة النواب ان لبنان اذا تحوّل الى جحيم بسبب من خصوماتكم لن يبقى على ما نعرفه عليه. قالت المزامير: «نجّني من الدماء يا الله». عوا هذا القول لئلا تفنوا وأتوا برجل فاضل ان لم تأتوا به أمس. الدنيا فيها أبرار والقديسون العظام قلائل. لا تحدثوا في أية نفس خيبة فقد تختلط الأوراق بعد انتخاب الرئيس ولا يتساجل المتساجلون او تختلف نقاط السجال. ويحل سلم كبير او بعض من سلم حتى نتلاحم في الوقت الذي تنزل علينا فقط حكمة الله ورأفاته.
# #
#
لبنان يعلونا جميعا وهو دائم بوحدتنا على اختلاف السياسات. ومن طبيعتها أن تختلف. الاختلاف بلا حقد هو الفن الممكن ان كنا رحماء وطوبى للرحماء. هذا بلد فيه طاقات مذهلة ولكن يجب ان تتجمع واذا أردتم الا يتلاعب بكم احد فأنتم على ذلك قادرون. اذ ذاك نكون قد بلغنا الاستقلال الناجز. ليس الاستقلال بأن نتباعد عن أحد ولكن ان نجتمع بعضنا الى بعض اي انه عمل داخلي اولا وهذا فيه مساعي الكل وان يعي الشعب اولا انه يحكم الحكام ويدربهم على انهم مسؤولون أمامه.
واذا قمنا بسياسة الحكم المدني تتضاءل الطائفيات اذ رغبتنا جميعا ان نربّي اولادنا وان ننعش مناطقنا ونبني وطنا قائما على العمل وعلى الفهم وعلى ايماننا بأننا متراحمون بحيث لا يتهمّش أحد لأننا في حاجة الى مساهمة كل الأطياف ولا سيما الأدمغة النيّرة العالمة وهذا لا ينقصنا.
وتبدأ السياسة بالعمران والاقتصاد فلا تبقى طريق لا تُسلَك ولا قرية ينقصها ماء او إضاءة او مدرسة ولا تُهمل الموارد التي نتكلّم عليها وتلك التي ينبغي ان نفتش عنها ويكون مال الدولة مقدَسًا كمال الأفراد. ذلك لأن أساس كل إصلاح هو الاستقامة في تعاملنا والدولة.
لبنان فيه كل المقدرات التي تجعله وطنا وحكما عصريا يحس فيه المواطن بالطمأنينة وانه عديل كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات. هل تؤمنون بإمكان ظهور هذا اللبنان؟ ومن كان هذا إيمانه فليتقدّم الى النيابة والمسؤوليات الأخرى. وليترك لكل امرئ اعتقاده بالقضاء وحريته الشخصية وقدراته على الإنتاج في كل مجال من مجالات الاقتصاد والمعرفة والفنون.
واذا رحّبنا بالمبدعين في كل مضمار فهم يغيّرون الناس في مضمارهم اذ لم يكتب القدر لعنة على شريحة من شرائحنا ولم يكتب علينا دوام التحالف. والإبداع تساعد عليه الدولة الجيّدة فلا يموت احد بسبب من عطائه او حدة فكره. والتنوّع لا قيمة له الا ان يعضد الفهماء من كل صوب حتى لا نموت يأسا من البلد. فعند ازدهارنا الجماعي الحق وعند عدالة الحكم يرجو الناس الى مستقبل زاهر نضعه في خدمة العرب وخدمة العالم ونصبح على صغر حجمنا وعددنا نافعين للعالم كله.
هذا كله يتطلّب جمالات في النفس اي هداية الى الحق او تحوّلا الى الله. وبعد هذا يهبنا ربك كل ما نحتاج اليه لمجده وبهائنا تحت مجده.
Continue reading