Monthly Archives

December 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

بعد اهتداء بولس/ الأحد 30 كانون الأول 2007 / العدد 52

في العهد الجديد إشارات على ان بعض المؤمنين ما كانوا يقبلون بولس ولا ما كان يسمّيه «إنجيله». وتضخّم هذا التيار في فرقة تهوّدت ورفضت بولس. في رسالة اليوم يؤكّد الرسول ان الإنجيل، اي التعليم الذي يبشّر به، لم يتسلّمه من إنسان اي لم يتسلّمه من رسول ولم يتعلّمه من إنسان بدليل ان معرفته للمسيحية تمّت على طريق دمشق لمّا ظهر له السيّد.

ما نعرفه عنه، قبل ان يكتب رسائله، أن حنانيا شفاه وعمّده: «وكان شاول (اي بولس) مع التلاميذ الذين في دمشق أيامًا» (أعمال 9: 19). ماذا تعلّم منهم في أيام قليلة؟ ما يؤكّده الكتاب ان الرسول «صار يكرز بالمجامع بالمسيح ان هذا هو ابن الله». هذا فعليا ما أخذه من البشر.

بعد هذا انطلق الى ديار العرب ونرجّح انها حوران وهكذا كانت تسمّى في الإدارة الرومانية. وليس من أثر الى كونه ذهب الى الحجاز. لا نعرف المدة التي قضاها في حوران، ولا بد انه التقى بمسيحيين.

لماذا عاد بعد ذلك الى دمشق وليس الى مكان آخر؟ لا ريب انه أراد ان يزداد علمه في المجموعة التي كانت هناك. ومكث في دمشق ثلاث سنين وما من شك انه كان يشارك في القداس الإلهي وبقية الصلوات ويستمع الى الوعظ الذي كان يُلقى فيها.

مع كل هذه العلاقات التي صارت تربطه بالمسيحيين كان واعيًا جدا، أن ما يعرفه جيدًا كان «بإعلان يسوع المسيح». وربما كان هذا أكثر من مرة اي ليس فقط على طريق دمشق. وأراد ان يؤكّد اتّصاله المباشر بالمسيح اذ ذكّر المؤمنين في غلاطية انه كان يضطهد كنيسة الله بإفراط وهو الذي ساهم في قتل استفانوس، اذ كان راضيًا عن هذا. وكأنه كان يوحي انه كان عدوًا شديدًا لإيماننا. هكذا كان فعلا. دعوته كرسول لم يرَ الا انها نزلت عليه من السماء ولم يكن مَدينا بها لإنسان. ويسمّي هذا ان الله أفرزه من بطن أمّه ليعدّه رسولا مع أنه لم يعرف يسوع حسب الجسد، ولا شيء يدلّ انه كان عائشًا في أورشليم لما كان السيّد فيها.

اهتداؤه اذًا تدخّل سماويّ لا شيء في حياته سابقًا يدلّ عليه غير انه كان مطيعًا لله وفق شريعة موسى وعلى مذهب الفريسيين. وكما كان كاملًا حسب الشريعة جعله يسوع كاملًا حسب الإنجيل.

الا أن في هذا الفصل قوله: «بعد ثلاث سنين من إقامتي في دمشق صعدتُ الى أورشليم لأزور بطرس». معنى ذلك ان بولس كان مقتنعًا انه لا بد له ان يعرض إنجيله على الكنيسة ليتأكّد صحّة تعليمه. انه أراد أن تمتحنه الكنيسة.

خمسة عشر يومًا قضاها في أورشليم كانت كافية ليتعلّم من بطرس حول يسوع قبل موته وقيامته ولكنه اكتفى ان يتحدّث في رسائله عن معنى هذا الموت وقيامته ربما لمعرفته ان الذين كان يكتب اليهم كانوا يعرفون عن يسوع اشياءَ كثيرة والحاجة كانت ان يجعلهم يتعمّقون في معنى الصليب والغلبة بالصليب.

وأخيرًا في هذا الفصل ذكر يعقوب أخا الرب الذي لم يكن من الإثني عشر ولكن هناك بيّنات تدل على انه أخذ يحتلّ مقامًا أساسيًا في كنيسة أورشليم لأنه كان نسيبًا ليسوع وصار أوّل أسقف على أورشليم.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

روسيا المقدسة / السبت29 كانون الأول 2007

استطبت، السبت الماضي، في هذه الصحيفة مقالا للسيّد سميح صعب عن روسيا فيما هي تواجه أميركا في اوربا وكلّه تحليل سياسي دقيق. ففي جهلي لن أغوص عليه وصف ما سماه الانبعاث الروسي في مجال الجيوبوليتيك. هذا لا يفي بفرض القول ان روسيا كانت حية قبل المجازر التي ارتكبها لينين وستالين وقبل الخراب الثقافي الرهيب الذي قام به البلاشفة منذ بدء ثورة اوكتوبر. الذي لم يقرأ شيئًا عن قتل مئتي وخمسين أسقفًا وستة آلاف كاهن أرثوذكسي ما خلا ألوفًا من المؤمنين العاديين له ان يفهم ان الانبعاث الروحي الحاصل في روسيا اليوم أعجوبة من السماء. الذي لم يتصفّح الموسوعة السوفياتيّة (باللغة الروسيّة) وقولها مثلا ان يسوع لم يوجد لا يستطيع ان يدرك هذا الغباء الذي كان منتشرًا في الأدبيّات السوفياتيّة. ان كان من عصر ظلمات في التاريخ فليس القرون الوسطى كما قال فلاسفة عصر الأنوار اذ كيف يكون ظلما عصر ابن رشد وتلميذه الأكويني وعصر الكاتدرائيّات والموسيقى الغريغورية؟

                      روسيا الأبدية تحدّث عنها منذ سنتين مثقّفون روسيّون تجاوزوا الستين من عمرهم في لقاء عقده البيت اللبناني الروسي الذي أخدمه مع بعض الأصدقاء. قالوا امام لبنانيين وعرب من الديانتين: «ما مضمون ثقافتنا الروسيّة؟ هي الأرثوذكسيّة». وكان هؤلاء طبعا نشأوا على العقيدة الماركسيّة. لماذا يريد معظم الناس هنا اذا تكلّموا عن الغرب ان نفهمه على انه فرنسا وبريطانيا واميركا بخاصة. افهم ان ثمّة ما يميّز غربي اوربا عن شرقها ولكن الذين يتحدّثون عن أوربا بهذه الصورة الحصريّة انّما تتلمذوا على الإرساليّات الغربيّة والانكلوسكسونيّة ولا يعرف احدهم شيئًا عن اوربا الشرقية وقلبها روسيا. وأريد بها ذلك البلد العظيم قبل ان يعجنه بطرس الأكبر عجنة غربية.

                      نحن كنا دائما على علاقة شائكة بالغرب الى جانب معرفتنا لغتين منه او ثلاثا. فرنسا تقول منذ ديغول عن اللبنانيين انها تحبهم جميعا على السواء. من قرأ الأدب السياسي الأميركي قراءة جيدة يعرف جيدا ان الولايات المتحدة لا تؤثر طائفة على طائفة او شريحة على شريحة ،اذا أرادت أن تتقارب من أحد فهي تقارب من عنده نفط. كل المسيحيين مجموعين لا يساوون عند الولايات المتحدة برميل نفط. فماذا ينفع حسب مصطلح مسيح صعب ان تقيم روسيا توازنا -ولست أقول حربا باردة- والبلاد الروسية. لقد أكّد لنا سيمون هيرش منذ فترة يسيرة ان بلاده ليست مناصرة لأحد في لبنان. انا ما استنتجت من هذا انه الأفضل لنا ان نختار محورا آخر. ولكني اقول ان تصريحات كهذه لا تقيمنا في مكان آمن وان حريّتنا في مصادقة بلد قوي في اوربا يدنينا من صدق المعاملة ويأتينا بدعم آخر قد يكون اقرب الى مصالحنا. واذا اتّخذنا هذا القول قد ينشأ عنه معادلة أخرى في الجيوبوليتيك.

#                  #

#

                      ولكني آليت على نفسي الا ادخل الى هذا المضمار وان أبقى في روسيا الأبدية. لا يهمّني اليوم ولا أفهم كيف تتحرك او كيف تشعر إزاء ايران. ما يهمّني مما أعرفه من المدارس المسكوبيّة التي درس فيها أبي وأمي ان اهل بلدنا تعلّموا اللغة الروسية ووما سعى معلّموهم ان يجلبوهم الى حب روسيا ذاتها كما فعل اساتذتي الفرنسيون. ولما درس بعض الفتيات الطرابلسيّات في بيت جالا اللغة الروسية جيدا عادوا بالعروبة وما عادوا بالعشق الروسي. في الناصرة نهل مخائيل نعيمة من الأدب الروسي قبل أن يتلقن بعض مبادئ اللاهوت في بولتافا.

                      اجل كانت موسكو تحس انها وارثة القسطنطينيّة وتتصرّف بموجب ذلك. هذه مشكلة معقّدة لن أتعرّض اليها. ولكني فقط اذكر ان القسطنطينيّة بقيت مسيحيّة ألف سنة وكانت استتركت ثلاثمئة سنة فقط لما نشب الخلاف بين روسيا والعثمانيين. ولكن نحن العرب ليس لنا علاقة بهذا وفي الجيوبوليتيك الحاضرة من المؤكّد ان فلاديمير بوتين لا شهوة له في لبلاد الأتراك. بوتين او من خلفه يريد ان يقول ان الولايات المتحدة ليست كل العالم وان روسيا شيء ولها ان تصبح بعد سنوات قليلة شيئا عظيما.

                      والكنيسة الروسية لها علاقات طيّبة ونظاميّة مع مسلمي بلادها والأرثوذكس والمسلمون عانوا معا من البلشفة. لذلك لن تسعى روسيا الى احتضان الأرثوذكس في العالم الا اذا وقع الظلم عليهم. ولماذا يقع الظلم في بلاد العرب عليهم وهم يرون انفسهم عربا. ولكن الأرثوذكس ليس عندهم نفط.

#                #

#

                      نبقى اذًا في الجماليات وربما في الطبائع القوميّة. في الحد الأدنى من الرقص تقصد البلّشوي. ولا يعلوه على الرقص فيه باليه في العالم ويعادله احيانا. والعجيب ان الشيوعيين لم يمنعوا هذا الفن «البرجوازي» وما منعوا المرأة عند دخولها المسرح ان تضع في رجليها حذاءً برجوازيًا عند وصولها.

                      ما قد يكون أقرب الى فهمي هو الشعر في رقّته العظيمة كما عند اخماتوفا هذا اذا اهملت القرن السابع عشر عند الفرنسيين وشكسبير. ولكنك لا تستطيع ان تفهم شيئا في المشاعر البشريّة اذا لم تقرأ دوستويفسكي أبا القصة في العالم من ايامه الى دهر الداهرين. لم يصل أحد الى مستوى الإخوة كرامازوفي او الجريمة والعقاب او الأذلة والمهانين وغيرهما من فن  القصة. هذا اذا لم أذكر تولستوي واخيرا سولجنتسين.

                      غير أن العبقرية الروسية بدت انسانية في رهبانية مذهلة وفي قداس ولا أبهى مع ترتيل لا تعرف ان كانت السماء او الأرض مصدره. وربما في تحرّك القلوب ليس من شيء يفوق الأيقونة عندهم على مختلف مدارسها منذ تسعة قرون الى اليوم. واذا رأيت الى أيقونة الثالوث لروبليوف على عقلانيّتك الجافة لا تفرّق بين ما هو للرسام وما هو لله. هل الرب وحده كتب هذه الأيقونة بأصابع روبليوف؟

                      مرة اصطحبني البطريرك الياس الرابع الى موسكو في عيد الغطاس وأقمنا الخدمة وتبادلنا الخطب نحن والبطريرك الروسي ودامت الصلاة ست ساعات ونحن والروسيون واقفون ولا تلين لهم ركبة.

                      وعلى كثرة الخمرة في الشتاء التماسًا للدفء تلمس النفس وديعة رقيقة على شيء من التواضع وكأن التتار الذين حكموا الروسيين مئتي سنة لم يتركوا فيهم شيئا. ما عدا ذلك الحكم حكم في كل بلدان العالم وليس ما يلطفه شيء حتى يبقى عسكر. اما الشعب فشيء آخر.

                      انا ما كتبت هذه السطور لأعظ روسيا فهي عظيمة بلا شهادتي آخر مع ان الغرب حاول تحطيمها كثيرا كما حاول ويحاول تحطيم البلدان الأرثوذكسية منذ بدء الحرب الصليبيّة حتى الرابعة التي دنّست كنيسة اجيا صوفيا السنة ١٢٠٤. ولكن ليس عند الأرثوذكسيين حقد على الغرب وواضح عند الكتّاب الروس حبهم الكبير للغرب ولكن الغرب لا ينسى وان احدًا من الشرق المسيحي لم يحل به شيئا من الأذى. وقد حان الحين لتفهم اوربا الغربية انها ليست واحدة مع اميركا المهيمنة عليها وعلى العالم ولتدرك ان انبعاث روسيا المقدسة هدية من السماء الى اهل الشرق جميعا مسلمين ومسيحيين في انسجام نحبه.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الأسقف/ الأحد 23 كانون الأول 2007/ العدد 51

هذا هو المطران، الكلمة الأكثر شيوعا. ما وظيفته؟ هو رئيس الكنيسة المحليّة التي نسمّيها أبرشية بمعنى أنه يعلّم الإنجيل والعقيدة ويقيم الأسرار الإلهية ويختار الكهنة ويرسمهم وهم يلازمون رعاياهم بسلطانه وهم مندوبوه في رعاياهم. والقداس الذي يقيمه الكاهن فعليّ وشرعيّ ببركة الراعي ولذا يذكر فيه اسمه. وهو يأخذ سلطانه من المسيح بالانتخاب والرسامة. ويستمع الى الأتقياء العارفين الإيمان الذين لا يكتفون بأن الدولة تسمّيهم «روم أرثوذكس» على الهوية. الدولة تعرف الطائفة اي مجموعة تؤمن بالمسيح وتتناول جسده ودمه في الذبيحة الإلهية.

لك الحق ان تختلف مع المطران في رأي أبداه في عظة او في قرار إداري، واذا أصرّ المطران على التنفيذ فينفّذ وتبقى في نقاش بروح البنوّة بعد ذلك لأنه صاحب قرار وأنت صاحب رأي. العلماني الحكيم الورع المصلّي ينصاع له المطران اذا تبيّن انه على حق. فإذا لم يقتنع فالقرار للراعي. هذا يأتي من كونه الرئيس صاحب السلطة التنفيذيّة في كل أمر، واذا كانت هناك لجان أو مجالس فيتمّ النقاش في حضوره، ولكن ليس هناك من ديموقراطية عدديّة فلا تغلب الأصوات مهما تعدّدت صوت الراعي.

هذا هو تعليم العهد الجديد وكنيستنا. ولا يستطيع المطران أن يخلق أرثوذكسيّة جديدة إرضاءً لمشاعر الناس. غير أن كل هذا يتمّ بالثقة والاحترام المتبادل. وعند صدام يعرّض الرعيّة او الأبرشيّة الى فوضى عارمة، فالرجوع الى البطريرك والمجمع المقدّس لتكتمل روح الأخوّة وتنحلّ المشاكل.

أمّا قضايا الأوقاف فخاضعة ايضا لهذه القاعدة. وقد علّمت القوانين التي ورثناها من المجامع المقدسة أن الذي يرعى الشؤون الروحية يدير من باب أولى الأمور المادية التي هي الأوقاف. ولمّا دخل العرب بلادنا تركوا المسيحيين على قوانينهم ولم يعترفوا بغير المطران مرجعًا، وأيّد هذا العثمانيّون ثم الانتداب الفرنسي.

فقد أقام المجلس الملّي دعوى لفسخ إيجارة لشاطئ بحريّ بادعاء ان مبلغ الإيجارة فيه غبن للطائفة وأن المجلس لم يبدِ رأيه في هذه الإيجارة على عهد سلفنا الطيّب الذكر المطران إيليا (كرم) فخسر المجلس الدعوى بداية واستئنافًا على أساس أن المجلس الملّي آلية داخلية في الطائفة وأن الدولة لا تعترف إلاَّ بالمطران.

فبنظر الدولة وفي قانون البطريركيّة الأساسيّ، المطران هو الوليّ الوحيد على الأوقاف وذلك في كل رعيّة، وهو مقيّد للبيع والشراء بتوقيع البطريرك، ولا يسجّل أمين السجل العقاري أيّة عمليّة بيع وشراء ما لم تكن مقرونة بتوقيع البطريرك. فإذا كان هناك خوف من بيع يضع ثمنه المطران في جيبه، لا يمكن حصوله في الدولة. ونحن نفترض أن الذي يكلّلنا ويعمّد أطفالنا ويعطينا القرابين أقلّ ما فيه ألاّ يكون سارقًا.

وما جرينا عليه منذ تولّينا هذه الأبرشية أن المطران لا يُقْدم على عمليّة عقاريّة إلاّ بناء على طلب يُرفع اليه من مجلس الرعية، ثم يشاور الخبراء، والبيع لا يتمّ الاّ على أساس الاستبدال أي يُشرى عقار مقابل عقار.

الى هذا فالمطران خاضع للمجمع المقدّس فإذا ارتكب جرمًا أخلاقيًّا يُشكى الى المجمع المقدّس الذي يحاكمه. والقاعدة أنه أب وأن المؤمنين أبناء.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

شباب بلادي / السبت 22 كانون الأول 2007

إلى نايلة جبران تويني

كل الأرقام التي قرأتها عن الأعمار في بلاد الناس قاطبة تقول إن الشباب أكثر من نصف السكان فمن خاطبهم يكون في الحقيقة مخاطبًا البلد في مسيرته. وتختلف القواميس في تحديد هذه الفترة من العمر ولكني آثرت أن أجعلها دون الأربعين أو لنقل من كان له من الصحة والجاذبية والنضج العقلي ما يجعله متأهّبا لخدمة أو نضال أو عمل على صعيد علم أو مهنة لأن الذي فيه خلل لا ندخله في أية فئة. قلت متأهِّبًا لخدمة، لاعتقادي ان الشباب من رأى ان له غدًا يجاهد فيه أو يبدع فيه ولا يحس بترهل أو ميل الى التكرار.

هناك التماع ما مع مضمون وعطاء يجعلك من جيل الشباب ولا شيء يمنع ان تأخذ معك هذه المعطيات الى الكهولة والشيخوخة. غير ان دعوتي اليوم، هي الى شبابنا المتعطش الـى قلب عادات في الحياة العامة والحياة الخاصة وهذا قد يكون انقلابا اذا تضخّم حجم التغيير ونوعيّته.

توًا يذهب فكري الى موقفكم من أهل السياسة. وهنا ينبغي الا يأتي رأينا فيهم تعميمًا اذ لا يشبهون بعضهم بعضًا والشيوخ أيضًا لا يشبهون بعضهم بعضًا ولكني أشاطركم القول بأن البلد الى خراب وبعضه خراب الأخلاق مثلما لم نشاهد قبل الحرب الأهلية أو شبه الأهلية. ولكنكم تنظرون الى المستقبل لأنه اذا طغت عليكم نظرة الماضي وحدها تحصرون أنفسكم بالاحتجاج والاحتجاج مرحلة اولى شرعية من مناقشة أحوال البلد ولكنها تبقى مرحلة أولى. ما يفرض اذًا نفسه ان تعرفوا كيف تريدون ان تكونوا.

لا أجادلكم هنا في خياراتكم السياسية اذ أسمع أن معظمكم مسيّس اي انكم تابعون لأهل السياسة القائمين، وفي هذا تكون قفزتكم الى الكهولة العقلية والمبتغى ان تأتوا بسياسة جديدة أو رؤية جديدة للبنان. واذا أحببتم أن تتبعوا الموجود فقدموا فكرا نيّرًا وليد خبرتكم أو صرخة من صرخاتكم. ليس في النقيق (النق) حياة. انشطوا، أنشئوا أنتم حياة جديدة ولكن هذا كله يقتضي حياة متأججة فيكم اي حبًا كبيرًا للإنسان وطهارة لم تنثلم وثقافة واسعة. ربما يتضح لكم انكم حاملو حضارة جديدة فيها الكثير من المرئيات المسموعة والإلكترونيّات. انا جاهل لاستعمال الحاسوب وليس عندي هاتف محمول ولا ألومكم على الإقبال على هذا. ولكني موقن – مع الذين درسوا الموضوع – انكم لا تقدرون على الاستغناء عن الكتاب وتكون حياتكم فارغة ان لم تستوعبوا أهم ما في تراث البشر من اليونان القديم وبلاد الرافدين ومصر وصولاً إلينا والى دياناتنا وشِعرنا امتدادًا الى اوروبا بما فيها روسيا المقدسة.

أعرف أن هذا يتطلّب الحياة كلها وان تتقنوا في الحد الأدنى لغة أجنبية صافية الى عربية أنيقة. يجب ان تفتشوا عن عظمة الفكر. العضلات والجمال والثروات والسيارات وكل بهرجة هذا العالم ليست بشيء. ولا تسمحوا أن يستهين أحد بحداثتكم في توهّم أن الكهولة أنضج. ليس للعمر نضج لكنه لا يحصل بلا تعب كثير. غير ان هذا لا يعني ان لكم الحق في ان تفتخروا بشبابكم اذ لن يحسب لكم الإقدام ولكن نتيجة الإقدام. سوف يسألكم ضميركم عن تعبكم ولكن المهم ان تغيّروا نفوسكم قبل أن تغيّروا العالم.

•••
لا تكبّوا الأشياء القديمة بسرعة وبلا تأمّل. اذا كانت الحقيقة ما تقصدون فهذه حملته الأجيال السالفة ايضًا. خذوها بقوتكم وضعوها في مراميكم. بلّروها وترجموها بلغتكم واخزنوها في مساعيكم لأن كل كلام لا حقيقة فيه مظهر من مظاهر الخطابة الإنشائية ولا دسم فيه. واذا شئتم آلية لتجمعكم اقرأوا كل شيء وتمسّكوا بالأفضل ولا تخشوا الأجهزة الأمنيّة اذا قامت على الباطل أو الانحياز السياسي. ولكن تصدوا للسياسات القائمة اذا آمنتم انها ضد الحق وضد الحرية اي صارعوها بفهم وبأسلوب سلمي لأن السلم دائما أفضل من الدم.


كونوا متواضعين فالتواضع ليس له سن. الشاب القادر على التواضع يعني خضوعا للحقيقة. راهنوا على الحق ولا تراهنوا على العدد فالعدد الى جانبكم لكونكم نصف البلد أو أكثر وحاولوا ان تقنعوا أهل الحكم أو مَن تعاطى السياسة وذلك بالحجة اذ ليس من فئة كاملة اعتراها الفساد وسوف يحاولون ان يخضعوكم بغير الحق ولكن ارفضوا كل كذب وكل اهتراء خلقي لأن شبابكم لا يعود يعني شيئًا. المهم في كل تحرّك ان تكونوا طاهرين.

يمكنكم خارج كل حزب ان تؤلّفوا حكومة ظل أو بضع حكومات ظل تدرس كل مشاريع الوزارات وتناقشها بكل وسائل الإعلام واذا جاء فكركم صالحًا وعلميًا لا بد له ان يهز ضمائر الحكام فيأخذوا منه ما يأخذونه وتتابعوا دراساتكم حتى يصل منها ما يصل وتُقلقوا من كان قابل القلق. العمل السياسي الصادق، الحق يأتي من القاعدة ومن تبادل الفكر في القوى الضاغطة التي تؤلّفونها. هذا لا يمنع مواجهتكم للأحزاب أو الكتل القائمة بحيث تأخذون منها ما يوافق تطلّعاتكم ولعلّها تتلقّى ما بلغتموه من فكر. يمكن البعض ان يتأثر بهذا القائد السياسي أو ذاك، ولا مانع، اذ ذاك، ان تختلفوا في ما بينكم، ولكن لا بد لكم ان تقولوا انتم كلمتكم وتصبروا عليها فتنشأ مواقف شبابية متقاربة أو متباينة وقد تبين أحزاب جديدة من صفوفكم، لكن المهم ان تنكشف افكار جديدة والتزام جديد.

غير ان الحياة المجتمعيّة في لبنان ليست محصورة في الفكر السياسي. يمكن ان تظهر منك أعمال على صعيد الواقع. لكم مثلا أن تقدِّموا اهتمامًا بنظافة الشوارع وتبنّي مؤسسات ترفع من شأن الفقراء. ضمّوا الفقراء اليكم. اجمعوهم حولكم. ابنوا بلدًا خارج الهاجس السياسي المباشر. قد يهزأ بكم بعض الزعماء وأزلامهم ويسمونكم جمعيات خيريّة. هل تكوين جمعيات خيرية سخيف الى هذا الحد؟ لا تكتفوا بالنقد الكلامي. اعمَلوا باستمرار ليؤمن الناس بكم ويعتبروكم مستقبل البلد. الخطباء قالوا لكم دوما انكم مستقبل البلد ولكنهم لم يسلكوا لتصبحوا حقيقة هكذا. برهنوا لهم ان الله يفتح أمامكم اليوم الحاضر والأيام الآتية. اجرفوا كل وساخة وافضحوا كل كذب في الحياة العامة واكشفوا الهدر في كل مجال. قد يعرضكم هذا للإهانة أو الضرب. هذه شهادتكم.

•••
بتجمّعكم الصادق، المخلص برهنوا لهم انكم لا تخشون احدا أو شيئًا لأن الكذب لا بد له ان يفتضح. ثابروا واصبروا ولكن لا ترجئوا قولا حلالا وعملا شكورا. لازموا البلد ولا تهاجروا وتبنّوا ما قاله مفكّر سياسي كبير: “لبنان ليس فندقًا ذا خمسة نجوم”. سوف تتعذّبون في لبنان. هذا هو صليبكم اذا آمنتم أن الألم شرط القيامة.

وقبل كل شيء لا تقيموا اي وزن وطني للانتساب الديني. لا تؤلّفوا قوى ضاغطة على أساس طائفي. شرط الاجتماع ان تكونوا من كل الألوان. ثابروا على ايمانكم إن كنتم مؤمنين وامتنعوا عن التكلّم على حصص طوائفكم الا اذا قلتم معا – بعد فحص دقيق – ان هذه الطائفة أو تلك مغبونة لأن رفع الغبن يكون، عند ذاك، رفع شأن البلد مجتمعا.

اذا كان بعضكم لقناعة فيه لا يحب استعمال كلمة عَلمانية لأنه لا يفهم مضمونها الحقيقي فهي ليست ضدّ أية عقيدة قائمة في هذا البلد، قولوا نريد حكما مدنيًا في لبنان. من كان مدنيًا بهذا المعنى الجامع فهو الإنسان الحضاري. خذوا ما أردتم من الإلهام الديني أو الروحي فهذا مكوّن من مكوّنات الحضارة. ولكن لا يدخل في شعوركم أبدا في العمل المجتمعي والسياسي ان هذا مسلم وذاك مسيحي. القوى الضاغطة من القلب الطاهر الشجاع وهذا ممكن وجوده في اي دين.

عيشوا اللاطائفيّة منذ اليوم في تجمّعاتكم ولا تسمحوا بجدل ديني أو طائفي في ما بينكم لأن هذا يجعلكم شبيهين بالموجود المهترئ. هناك من أحب لبنان حتى الموت. هذا خذوه في صفوفكم. اعلموا قبل كل شيء انكم لستم بلدًا موقتًا وان فيكم كل المقوّمات التي تجعلنا معكم وطنًا نهائيًا. كل بحث بينكم على أساس تجزئة البلد أو انقساماته أو مرحليّته بحث هدام يجعلكم طغمة تودّع الحياة.

لبنان فيه من الطاقات الخلقيّة والطبيعة ومواردها والحب ما يجعلكم قادرين على التأمّل في صموده في الحرية على أن تكون هذه الحرية فرصة للنمو الفكري والاقتصادي في الإبداع. المهم الا تقبلوا الشرخ بين طائفة واخرى والا تقبلوا ببلد فقير أعد للاغتراب. الفقير أو الضعيف الثقافة لا يهاجر. كيف يتألّف البلد ويزدهر بالطبقات المحرومة أو الجاهلة؟ تمسّكوا بهذه الأرض وبالأدمغة فيها. هذان العنصران قادران ان يُنشئا بلدًا يتجدّد. هذا يعني ان تحبوا البلد حبا لا حد له. ان تحبّوه هو ان تلازموه وان تخدموه ايا تكن الصعاب.

على هذه الأسس كلنا ننتظركم. لا تخيّبوا الآمال. اعطونا انتم الطمأنينة. انتم قادرون ان تستنزلوا علينا نِعم السماء.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأجداد/ الأحد 16 كانون الأول 2007 / العدد 50

هذا الأحد نذكر أجداد السيّد وهم كل البشر من آدم الى ابراهيم ومن ابراهيم الى المسيح. والمقطع الذي نقرأه اليوم هو من الرسالة الى أهل كولوسي الذي هو مقطع أخلاقي الذي يكلل فيه بولس الرسول حديثه اللاهوتي ويستهلّه الرسول بقوله: «متى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم ايضا تظهرون معه في المجد» ويقصد اليوم الأخير حيث يخطفنا يسوع بعد القيامة الى مجد السماء.

ولكن هذا الاختطاف يتطلّب منا ان نعيش هنا فضائل الإنجيل، ويذكر بعض الرذائل التي هي ضدها: «الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة» التي هي متقاربة بالمعنى، ثم يذكر الطمع (بالمال) ويعتبره بولس رهيبا اذ يسميه عبادة وثن. ولا يستخف بجسامة هذه المنكرات انه لأجلها «يأتي غضب الله على أبناء العصيان». فإن الله لا يرحم الا اذا رغبت انت في رحمته، واذا لم ترغب فهو غاضب وتتعذب انت من غضبه.

ثم يذكّر المؤمنين بماضيهم الوثني حيث كانوا يرتكبون كل هذه المعاصي. واذا فعلوها من جديد بعد معموديتهم يكونون سالكين في وثنيّتهم القديمة. ثم يقول: «اما الآن» (اي بعد تنصّركم) فاطرحوا الكل (اي كل خطيئة) ويعدّد خطايا اخرى: «الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح من أفواهكم». وواضح عنده ان الغضب يأتي من البغض، وان المؤمن مدعو الى ألا يجرح انسانا بل عليه ان يضبط أعصابه لو ثار ويبقى على الأقل مهذبا، ثم له ان يصير لطيفا ويضم الى قلبه من أغاظه ويصلي من أجل الذي آذاه.

اما الخبث او الرياء فيعنيان انه لم يبقَ أخًا، وعليه ان ينظر الى المؤمن الآخر على انه أخوه في المسيح فيلازم الشفافية والصدق. ولذلك يكمل فكره بقوله: «لا يكذب بعضكم بعضا»، فالانسان الآخر له حقّ بمعرفة الحقيقة. يمكن ان تكتمها احيانا تربويا، ولكن اذا تكلمت فلا يجوز ان تبقى هوّة بين لسانك وقلبك. يجب ان يعرف الآخر قلبك فلا تقول ما لا تضمر ولا تقول عكس ما تفكّر به. ولماذا تكذب؟ أليس لأنك تخاف؟ وممن تخاف اذا كنت فقط تخشى الله؟ الكذب في حقيقته خوف من البشر، وانت قوي بالله.

ثم يعطي بولس اساسا لاهوتيا لاجتناب الخطيئة بقوله: «اخلعوا الإنسان العتيق» الذي كنتم عليه في الوثنية التي أنكرتموها، اما الآن فالبسوا الانسان الجديد اي المتجدد بالمعمودية حسب قوله في موضع آخر: «انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم» اي اتّحدتم به كاتحاد الثوب بالجسد. ثوب جديد بالمعمودية يعني انسانا جديدا يسكنه الروح القدس.

وهكذا يتجدد الانسان «للمعرفة على صورة خالقه». والمعرفة هي اتحاد بالله، وهذا الاتحاد يزيل الفروق بين البشر، فاذا كنتم في الله لا يبقى عندكم فرق بين اليوناني (اي الوثني) واليهودي (اي الذي كان يهوديا قبل تنصّره). ويرادفها قوله: لا ختان ولا قلف. فأن يختتن الصبي المسيحي لا يعني شيئا، والختانة لا تفيد بعد ان اقتبلنا المعمودية، وكذلك القلف (اي عدم الاختتان) عندما كان وثنيا لا يفيد. كذلك لا فرق بين بربريّ واسكيثي وهو اسم شعب كان يعيش في جنوبي روسيا. لا فرق بين الشعوب التي دخلت في المسيح.

وأخيرًا لا يميّز بين العبد والحر، فالعبد صار حرا بالمسيح، ويختم ان كل هذه الفروق لا أساس لها لأن المسيح هو «كل شيء وفي الجميع». لا يزاد على المسيح انتساب آخر لأنه كل شيء، ولا يدخل قلبك شيء آخر لأن «المسيح كل شيء وفي الجميع».

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

هذه الضوضاء / السبت ١٥ كانون الأول ٢٠٠٧

يرافق الضوضاء كثيرًا استعمال مفردات لم يقرأ القائلون بها القاموس. فالكونفدرالية التي يهمس بعض خفرا انها اتحاد دولة كاملة السيادة تشكّل مرحلة غايتها حلّ الاتحاد او تحوّله الى دولة فيديرالية. هبوا مثلا أن الموارنة في كسروان وجبّة بشري وعكار وبيروت والجنوب دولة في هذه الكونفدرالية. كيف يستطيعون أن يجتمعوا دولة خارجة عن لبنان لو أرادوا؟ وهبوا أن سنّة جبيل ضمن دولة إسلامية ذات سيادة، كيف تنفصل عن باقي السنة وما الى ذلك؟ عبارة كونفدرالية طوائف عبارة لا معنى لها في الحقوق الدستورية ما لم نجمع كل طائفة من الثماني  عشرة في منطقة، وهذا لا يتم عقليا الا بحرب. نبقى اذًا في النظام الطوائفي كما هو او نتعلمن. ولكن كل هذا اللغو او اللغط يحتاج الى حرب، والناس متمسّكون ببيوتهم وقراهم. بلا قتال استطاع ستالين وحده أن ينقل سكانا في الاتحاد السوفياتي.

                      هنا تحضرني بعض من سورة الناس: «قلْ أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس». والشيطان هو المهرّج الكبير الذي ترى قناعه ولا ترى وجهه اي لا تعرف خلفيّة فكره التي يريد ان تتبناها.

                      ورقصة الشياطين على مسرح لبنان تجعلك تشكّ في أهل الدين الآخر. وأظن أننا على هذا المسرح المتعدّد الشخصيّات لا نزال نشك بوحدة المسلمين والمسيحيين، والشك يعني هنا أن تخشى أن يبتلعك الآخر. أهل العَلمانية أبرياء من الشكوك ولكن ما قدرتهم الآن؟ولا يطمئنني أن اللبنانيين اجتمعوا في الفريقين المتصارعين وتلازمهم خلفيّاتهم لأن كل طائفة تفكّر بسيادتها بدليل تمسّكها بالحقائب الهامّة وانا لست أشك في وسوسات الدول ولكن لو استلهمنا الحق وحده لا نبقى طائفيين في خياراتنا، او متبارعين في موضوع التعديل وآلياته بحيث نبقى رافضين لأي حل ولو رأينا فيه خير البلد. الأزمات الظاهرة التي لا نهاية لها يبطنها تأزمات نضمرها ويحس بها الآخر ولكنا جميعا باطنيون. الباطنية حضارة البلد.

                      لنأخذ مثلا قضيّة التوطين التي كانت تسع سنوات حديث الرئيس العماد لحود واتخذها الدستور. ولكن لم نفصل هذه المسألة عن تساؤلات كثيرة. هذه ليست قضية تخص المسيحيين وحدهم، فالفلسطينيون يريدون العودة ونحن نريدها لهم. ولماذا يأتي خطر التوطين عنصر إحباط عند المسيحيين. فلم نواجه فكرة التوطين لنقول ان لبنان يمنح الفلسطينيين هوية لبنانية ولهم ان يحملوا جواز سفر فلسطيني حتى يعودوا الى حيث يشاؤون، واذا لعبنا لعبة الخبث من قال ان المسلمين او بعض المسلمين يريدون هذا التوطين؟ كنت أتمنّى أن أسمع من غير جهة أنه يجب رفع الظلم والفقر عن أهل المخيّمات وأن يلحّ المسيحيون على ذلك.

#             #

#

                      لعل جزءًا آخر من الإحباط موضوع العدد. قبل كل بحث كنت أتمنّى على المسيحيين أن يقولوا أنهم مغتبطون بأن عضوية مجلس النواب مناصفة هي تضحية من قبل المسلمين بعد ان قال جميع الناس إن المسلمين أكثر من نصف الأمّة وانا لا أعرف النسبة ولست أظنّ أن مسؤولًا يعرفها بدقّة.

                      هنا نأتي الى موضوع أسلمة الأرض. لست أظن أن أحدا يقول إن المسيحيين يرتدّون عن دينهم. نحن اذًا مع موضوع شراء أرض يبيعها صاحبها بكل خاطره لكونه محتاجا، والمسلم على ما عرفته في صباي يؤثر الملك العقاري على أيّ استثمار آخر. لماذا لا يجتمع أغنياء المسيحيين في جمعيّة او مصرف قليل الفائدة ليدعم فقراء المسيحيين؟ لماذا لا تحول الكنائس وعلى رأسها الكنيسة المارونية المعروفة بكثرة أملاكها لتحل هذه المشكلة. أنا أفهم أن يضطرب المسيحي الفقير إن لم يبقَ له موضع يضع قدميه عليه او يضطرب لانتقال الثروة من طائفة الى طائفة، ولكن هذا كله لا يؤسس لإحباط إن كان أثرياء المسيحيين او رؤساء كنائسهم حريصين على بقاء الثروة في طوائفهم.

                      هناك قضيّة المناصب. هبوا أن مركزا من الفئة الأولى معيّن لطائفة ما قد لا يكون فيها أكثر من اثنين او ثلاثة لائقين بالمنصب، وان طائفة أخرى او أكثر فيها من كان أعظم كفاءة. أنت تكون ضد سلامة المؤسسة إن أصررت على إسناد المركز لطائفة محددة. قلت هنا غير مرة ان الفئة الاولى لا ينبغي ان تكون مسيّسة  ولكونها تقنية بطبيعتها لا علاقة لها بالانتساب الديني. هبوا  مثلا ان اية طائفة فيها مهندس نفط واننا أنشأنا مديريّة للنفط لا نجد من يشغلها الا واحد في كل الشعب. كيف يتم التوزيع؟ ان الحكومة نفسها لا تجد فيها دائما  واحدا من طائفة معينة ذات اهمية كبرى. أنا أفهم أن مجلس النواب ينبثق عن الطوائف كلّها في هذا البلد ما دمنا على هذا النظام  لأن النيابة عمل سياسيّ أصلا يقوم على مشاعر وروابط ولكن يحتاج الى حقوقيين. اما الوزارات ولئن كان بعضها فقط سياسيا، فما من شك ان بعضا منها يغلب عليه الفكر السياسي وكأن الوزير شبيه بالمدير العام. هذا يجب تقريره بعد مجيء الرئيس حتى ننهض بالمؤسسات على أساس علميّ.

#         #

#

                      أنت تهيئ لزوال الطائفيّة السياسيّة منذ الآن تدريجيا بحيث يحس المواطنون أن عظام الفكر اذا باتوا مغلوبين تأتي المؤسسة عرجاء ويبقى الشك في الأذهان ويذهب الناس الى أن أهل السياسة خاضعون لثنائيّة القلب واللسان وان الحكم اللبناني مسرحية كبيرة ولو ذكيّة بذكاء الوسواس الخنّاس.

                      انه لمن العسير جدا أن تعيش في بلد يشك كل الناس بكل الناس. ويكلّمونك عن الموازين ويفسرونها لك على ان كل فريق يتنازل عن شيء وكأن الأمر معادلة بين فريق وفريق وكأنهما هما الكيانان المتقابلان في حين ان طلب كل منهما هو الله او ينبغي ان يكون كذلك. انا لا أستطيع أن أنصح المسلمين فلهم علماؤهم وساسة منهم ويقدر كل مواطن ان ينصح سياسيا لأنه مدني يقوم يمسؤوليّته من أجلك . ولكني في الحديث عن المسيحيين لست أذكر أن أحدًا كلّمهم على غير السياسة وعلى غياب حقوقهم او ضعفها ولم أذكر أن أحدا ذكر لهم اسم المسيح ليروه رجاء في حالة يحسبونها إحباطا.

                      لنذهب على ان المسيحيين بعد عشرين سنة أضحوا فقط ثلث البلد وبعض يقول انهم اليوم على هذه النسبة او اكثر بقليل، هل يكون المسيح قد غاب إن هم خفّت أراضيهم او ابنيتهم ولم يرضَ المسلمون بزوال الطائفيّة السياسيّة او أصروا على انتخاب اي رئيس جمهورية من الشعب. ماذا ينتقص عند ذاك من بهاء المحبين للمسيح؟ هل تنحدر فاعليّتهم الروحية والفكريّة وطهارتهم؟ لا يفهمنّ أهل السياسة هذا القول على ان ما يحتجون به باطل او ان المسألة السياسية غير واردة عندي. انا لا أنفي عن الإكليروس حقه في الدفاع عن المسيحيين، وما يسر الجميع ان كبارهم ولا سيّما في الكنيسة المارونية همهم كل لبنان، ولكني أتمنّى على كل الساسة المسيحيين المؤمنين الا يخافوا لأن المسيح قام. مئة ألف مسيحي يضيئون كالمصابيح في لبنان خير من كل رمل البحر.

                      الخوف قتّال لأنه يلغي الفكر او أقلّه يوحي بفكر مغلوط وعصبيّة. الى هذا أضيف انه عيب ان يخيف احد أحدًا. واذا أتانا رئيس لا بدّ ان تنقلب الموازين وأخشى، اذ ذاك، مواجهات جديدة.

                      ونحن ماضون الى الأضحى اي الى النحر، واذا أجاز لي المفسّرون بالمجاز فهذا نحر خطايانا اذا كنا نشترك جميعا بالأضحى معنويا. كذلك نحن مقبلون  على ميلاد المسيح الذي أحد أسمائه السلام. كنت أتمنّى أن نقدّم لله نحر أحقادنا وسلام قلوبنا بحيث يصير لبنان كله قيامة عنيت بها بساطة الثقة.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

العائلات/ الأحد 9 كانون الأول 2007 / العدد 49

الإنسان المسيحي متصل بأبيه وأمه وذويه وأولاده ومستقل عنهم جميعًا. وهو متصل بالمحبة ومنفصل بالفكر والقرار. فقد يكون لأخيك رأي ولك انت رأي. عند ذاك لا تناصر. انت تنصر أخاك او قريبك اذا كان بجانب الحق. اما اذا كان مخطئًا فأنت لست معه ولكنك عليه.

أنت فقط أسير الحقيقة، واللحم والدم لا يعنيان الحقيقة. أنت عاشق الحقيقة ولست عاشقًا شيئًا آخر. أنا أفهم أن تقول: لي ابن عم محتاج. اعطيه بامتياز. فالعطاء المادي او بذل النفس ينشئ لك عائلة جديدة ليس فيها استبداد اللحم والدم والعروق. فإن ناصرت أخاك في كل الأحوال لا تستحق المسيح.

أنت فقط من عائلة المسيح وهي مفتوحة لكل الناس، لمن هو من دمك ولمن هو من غير دمك. أنت تأتي بالناس الى المسيح، واذا ذهبت اليهم تعرف انك بهم واصل الى المسيح.

الكنيسة تتعرف الى العائلة الصغرى المؤلّفة من زوج وزوجة وأولاد. تكلّل الزوجين وترشدهما وتعمّد الأولاد وتحافظ على الوصية: أكرم أباك وأمك. وإكرام الشيوخ يحفظ الشيوخ ويعزّيهم. ولكن الكنيسة تقيم وزنًا للقربى الأبعد. أنت مرتبط بهذه القربى عاطفيا فهذا جيّد، ولكن لا تهتم الكنيسة بالعشائر اي بمجموعة بيوت متفرعة من جد واحد، ولا تشجّع على تأسيس رابطة عائلية. فكل العيل عيال الله.

يجب كسر الرباط الضيّق اذا كان يأسرنا ونفتح قلوبنا للجميع. من هذا المنظار كان العمل الكنسي عمل أفراد وليس عمل مجموعة بيوت. انت معمّد فأنت موجود بالاستقلال عن أهلك. ومجموعة البيوت او العيلة الواسعة لا قرار لها، ولا هي تعين الكاهن او القندلفت، وليس لها تمثيل لأن كل إنسان قائم بنفسه ولا عبرة لأزمان مضت كانت تأخذ بعين الاعتبار التجمّع العائلي لأن هذا التجمّع لا وجود له كنسيا.

اذا كنت فهيمًا ففهمك يفرض نفسه، وإن كنت تقيًا فيشاهدك جميع الناس، وتُسند المسؤوليات في اي موقع للتقيّ الفهيم مستقلًا عن أخواله او أعمامه او جدَيه او بنيه وبناته. وفي الكنيسة يكون الإنسان نشيطا او كسولا، ويؤخذ النشيط ويُهمَل الكسلان.

الشيء الأخير المتصل بهذه التأمّلات انك نشيط في الكنيسة بإيمانك اولا، وبصلاتك ومحبتك ثانيا، وهذه لا تتطلّب اي تعيين في أية حلقة من حلقات العمل الكنسي. وقد تكون في دائرة من دوائر العمل، ويختارك المطران لصفاتك الحسنة او ما يعتبره كذلك. في المحيط الكنسي المحب المقدس تجري مشاورات غايتها اختيار الانسان الصالح في المكان الصالح. وقد يخطئ الأسقف الخيار. ليس في الأمر كارثة لأن الصالحين يتغلّبون على السيّئين بالموعظة الحسنة والنصيحة والإرشاد. المحبة ترقى الى كل موقع.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الرئيس ايضا وايضا / السبت ٨ كانون الأول ٢٠٠٧

فيما أكتب لست أعلم بما سيجري يوم الجمعة (أمس). وهنا تحضرني الآية: «يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع» (سورة الجمعة، الآية ٩). واذا ترجمتها للنواب على أطيافهم أقول الانتخاب يتضمّن دعاء في القلب وان يذر مندوبونا البيع بمعنى التفاوض والنقاش الذي لا منتهى له حتى نموت اختناقا بالكلمات التي تولد احيانا عقما رهيبا فاذهبوا ان لم تذهبوا بعد وقلوبكم مطهّرة وأتونا بالحسن ان لم يكن الأحسن لئلا تهمشوا نفوسكم عن حب الجماعة التي دعتكم الى حمل وزرها عالمين ان كل نسان مكتوب عليه الموت وان البلد مدعوّ الى القيامة بكم او بمن تستخلفون.

                      هنا أذكر حديثا لصديق لي كان يقودني الى مطار باريس أرجع منه الى لبنان وكانت على يمين الطريق مقيرة مليئة بأكاليل زهور بسبب من ذكرى للموتى في الكنيسة الكاثوليكية فقال لي رفيقي: «انظر الى هذه القبوركلها ملأى بناس لا غنى عنهم». وانا في شيخوختي ارتب بعض أموري برؤيتي موت قد أكون معه على موعد قريب. ثم اذا نظرت الى ما قد يعتبره أصدقائي إنجازات لي أفكر دائما بأن خلفي قد يكون عظيما ويكمل الطريق.

                      لقد تعب محبو هذه الأمة من الكلام على صفات الرئيس وهو أتى من أمّة كما أتى. وأنتم تختارون واحدا من الموجودين في هذا الشعب ولا تأتون بالضرورة بعبقري او قديس. فاذا كنتم لم تُجمعوا على واحد أمس فأجمِعوا على الممكن وجوده بين الأبرار والفاهمين ومن أعدتهم طبيعتهم للقيادة. وهذا أمر قابل للنقاش بينكم اي قابل للاستنساب. صونوا أنفسكم بالإخلاص وانا آمن انكم خرجتم او تخرجون باختيار من يناسب المقام وان المقام سيعلّمه أشياء كثيرة ويمده بملازمة الحق بمحبة لنا جميعا. واما الحكومة والمناصب والحقائب فستأتون بها في حينه وفي دستورنا هذه أهم من الرئيس في صلاحياتها وأفعل واذا أصررتم على رؤية جامعة لهذه الأمور فقد لا تبلغون شيئا من مراد الأمة.

                      والأمة راغبة في إتمام هذا الاستحقاق لتستعيد رجاءها ولا تخشى الجوع الذي يهددنا حقيقة ولعل كل ما يهمها من أمر السياسة ان يأكل الأطفال ويدرسوا ويحبوا بعضهم بعضا ويتهذّبوا.

                      لقد اصطلحنا في هذا البلد على كلمتين: الحكم والحكومة. والحق ان هذا الاصطلاح كان ذا أساس قبل الطائف والحاكم  من نفّذ. اما الآن فالنص يقول ان الرئيس رمز الوحدة ولا يعترف له بصلاحية تفسر على انه حاكم وظننتم ان هذا التغيير يسكت المدفع ولكن تحول المدفع من آلة الى كلام يقتل هو ايضا على صعيده.

                      مع ذلك اؤمن بأن رئيس الجمهورية هو ليس فقط رمزا لكونه يختار بمشاورات ملزمة رئيس الوزارة التي وحدتها انها تقرر مجتمعة.

#            #

#

                      فمن المؤكد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون أكثر من رمز وهذا له ان ينتزعه ممارسة لا بتجاوز القوانين ولكن بالإيحاء الذي تعطيه طهارته وشهامته ونفوذه المعنوي »الكتاب« كما كان يسميه الرئيس فؤاد شهاب لا يكفي. يجب ان يصبح الرئيس بنظره الثاقب ومرونته واقترابه من الأطراف المتنازعة حَكما يحكم بالقانون والحب معا.

                      لست أقول ان المسيحيين يجب ان يكونوا محتشدين وراءه او حوله. هذا رئىس البلد وليس فريقا طائفيا. والسدة نفسها دلّت منذ الاستقلال ان رئيس الجمهورية لم يكن في خدمة حماسية لطائفته او متحيّزا لها. فاذا راق المسيحيين ان ينصروه وهو قائم في عدله فقد يشفي المحبطين منهم ومجموعتهم اذا تجمّعت -وهذا نادر- قد يزيد انتعاشها ويقل إحباطها اذ لا ينبغي ان ندرك يوما يشعر فيه المسيحيون بضعف بعد ان كانوا أقوياء.

                      في الإنجيل هذه الكلمة: «مبارك الآتي باسم الرب»، لنترجمها سياسيا ونقل «مبارك الآتي باسم الشعب اللبناني» ممثَلا بالنواب كما هم اذ ليس لنا وسيلة اخرى افضل. بعد ظهور الرئيس واذا نضج الوضع لنا اننتكلّم على نظام رئاسي. غير ان هذا يزيد في التوتر الحالي. ولا يمنع نظريا النظام الرئاسي على ان نبقي على رئيس ماروني. هذه قد تكون رمزية نافعة. كلنا يذكر الدور الذي لعبه المغفور له الرئىس سليمان فرنجية عندما تكلّم باسم العرب في الأمم المتحدة. عرف العالم عند ذاك ان العرب فيهم غير دين ولم يشك المسلمون اللبنانيون ان هذا كان عملا مليحا.

                      واذا جئنا على ذكر العسكر أذكر اني كنت أكلل عميدا في الجيش أرثوذكسيا لا يزال حيا يرزق وكان الشاهد في الإكليل المرحوم الرئيس كميل شمعون فلما جاء وقت الموعظة قلت للعريس: أنت عسكري في الثكنة ولن تكون عسكريا في البيت. لقد رئس شارل ديغول وأيزنهور بلديهما وصارا مدنيَين. وما يبقى من ديغول خارج رئاسته لفرنسا انه كان كاتبا بليغا. وهكذا ستعرفه الأجيال. القول الحسن والتصرف الحسن اي الحكمة ستخلعان اللباس المدني على رئيس عسكري اذا ما أتى.

                      «الطبيعة تكره الفراغ». والنساك قالوا لنا ان الفراغ يملأه الشيطان. اجعلوا الله في البلد واشتموا إبليس الذي يضع الفوضى في عقول الناس وقلوبهم واعلموا يا سعادة النواب ان لبنان اذا تحوّل الى جحيم بسبب من خصوماتكم لن يبقى على ما نعرفه عليه. قالت المزامير: «نجّني من الدماء يا الله». عوا هذا القول لئلا تفنوا وأتوا برجل فاضل ان لم تأتوا به أمس. الدنيا فيها أبرار والقديسون العظام قلائل. لا تحدثوا في أية نفس خيبة فقد تختلط الأوراق بعد انتخاب الرئيس ولا يتساجل المتساجلون او تختلف نقاط السجال. ويحل سلم كبير او بعض من سلم حتى نتلاحم في الوقت الذي تنزل علينا فقط حكمة الله ورأفاته.

#           #

#

                      لبنان يعلونا جميعا وهو دائم بوحدتنا على اختلاف السياسات. ومن طبيعتها أن تختلف. الاختلاف بلا حقد هو الفن الممكن ان كنا رحماء وطوبى للرحماء. هذا بلد فيه طاقات مذهلة ولكن يجب ان تتجمع واذا أردتم الا يتلاعب بكم احد فأنتم على ذلك قادرون. اذ ذاك نكون قد بلغنا الاستقلال الناجز. ليس الاستقلال بأن نتباعد عن أحد ولكن ان نجتمع بعضنا الى بعض اي انه عمل داخلي اولا وهذا فيه مساعي الكل وان يعي الشعب اولا انه يحكم الحكام ويدربهم على انهم مسؤولون أمامه.

                      واذا قمنا بسياسة الحكم المدني تتضاءل الطائفيات اذ رغبتنا جميعا ان نربّي اولادنا وان ننعش مناطقنا ونبني وطنا قائما على العمل وعلى الفهم وعلى ايماننا بأننا متراحمون بحيث لا يتهمّش أحد لأننا في حاجة الى مساهمة كل الأطياف ولا سيما الأدمغة النيّرة العالمة وهذا لا ينقصنا.

                      وتبدأ السياسة بالعمران والاقتصاد فلا تبقى طريق لا تُسلَك ولا قرية ينقصها ماء او إضاءة او مدرسة ولا تُهمل الموارد التي نتكلّم عليها وتلك التي ينبغي ان نفتش عنها ويكون مال الدولة مقدَسًا كمال الأفراد. ذلك لأن أساس كل إصلاح هو الاستقامة في تعاملنا والدولة.

                      لبنان فيه كل المقدرات التي تجعله وطنا وحكما عصريا يحس فيه المواطن بالطمأنينة وانه عديل كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات. هل تؤمنون بإمكان ظهور هذا اللبنان؟ ومن كان هذا إيمانه فليتقدّم الى النيابة والمسؤوليات الأخرى. وليترك لكل امرئ اعتقاده بالقضاء وحريته الشخصية وقدراته على الإنتاج في كل مجال من مجالات الاقتصاد والمعرفة والفنون.

                      واذا رحّبنا بالمبدعين في كل مضمار فهم يغيّرون الناس في مضمارهم اذ لم يكتب القدر لعنة على شريحة من شرائحنا ولم يكتب علينا دوام التحالف. والإبداع تساعد عليه الدولة الجيّدة فلا يموت احد بسبب من عطائه او حدة فكره. والتنوّع لا قيمة له الا ان يعضد الفهماء من كل صوب حتى لا نموت يأسا من البلد. فعند ازدهارنا الجماعي الحق وعند عدالة الحكم يرجو الناس الى مستقبل زاهر نضعه في خدمة العرب وخدمة العالم ونصبح على صغر حجمنا وعددنا نافعين للعالم كله.

                      هذا كله يتطلّب جمالات في النفس اي هداية الى الحق او تحوّلا الى الله. وبعد هذا يهبنا ربك كل ما نحتاج اليه لمجده وبهائنا تحت مجده.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

قدرة الرب/ الأحد 2 كانون الأول 2007 / العدد 48

رسالة اليوم على عادة بولس تُنهي التعليم اللاهوتي لتصل بنا الى الروحانيات والأخلاقيات التي يجب ان نتحلّى بها، فيدعو الى ان ننظر الى قدرة الرب الذي يُلبسنا سلاحه الكامل حتى نستطيع ان نقف ضد مكايد إبليس. فاذا تشددنا بالرب نكون ضد «ولاة العالم» ويريد بذلك الأرواح الشريرة الذين يسودون عالم الظلمة، ظلمة هذا الدهر.

توضيحا لذلك الكلام، يدعونا بولس الى ان نحمل السلاح الكامل «لنستطيع المقاومة في اليوم الشرير» وهو أيّ يوم يهاجمنا إبليس فيه «حتى اذا تمّمتم كل بِر تثبتون». كل بر هي الفضائل الإنجيلية التي تبيت في قلوبنا. ويعود الى القول أن اثبتوا «ممنطقين أحقاءكم بالحق» الذي ينزل علينا بالنعمة. وحتى نتمكّن من هذه النعمة.

هنا يعطي بولس كلمات عسكرية تشبيهًا بقتال الحرب فيدعونا الى ان نلبس درع البِر الذي يأتي عند بولس، في غير رسالة له، من الإيمان. ثم يقول: «أنعِلوا (كنعل الجندي) أقدامكم باستعداد إنجيل السلام، هذا الذي انتم تؤمنون به. يقول «انجيل السلام» اذ المسيح الذي هو مضمون الإنجيل هو السلام. ثم يعطي سلاحا آخر الذي هو «ترس الإيمان». هذه هي أسلحة الجندي الروماني والعسكر في ذلك الزمان، ويوضح انكم بترس الإيمان قادرون ان «تطفئوا جميع سهام الشرير» (السهم كان آلة حرب)، هذه السهام «الملتهبة»، ثم يذكر آلتين حربيّتين «خوذة الخلاص وسيف الروح»، ويحدد ان سيف الروح هو كلمة الله.

وبهذا يصوّر بولس الرسول على ان كل مسيحيّ جندي للمسيح، حامل كل أسلحة الروح وهي تُختصر بكلمة الله التي بشّر بها اهل أفسس المرسَلة اليهم رسالته، وطبعا من أفسس قرأ هذه الرسائل كل الكنائس التي في آسيا الصغرى. رسائل بولس كانت تُستنسَخ وتُرسَل من كنيسة الى كنيسة وتُقرأ في القداس الإلهي حتى عمّت العالم المسيحي ودخلت شيئا فشيئا في كل كنائس العالم وهي تُقرأ الى جانب من رسائل تلاميذ آخرين مع أعمال الرسل وبعدها يُقرأ الإنجيل الذي انتقل مخطوطًا الى كل كنائس العالم قبل ظهور الطباعة.

كان بولس يختم رسائله بالدعوة الى الأخلاق المبنية على التعليم الإلهي الذي كان يشكّل القسم الأكبر من مضمون الرسائل. فإننا نحن نؤمن ان لا أخلاق مسيحية الا اذا كانت مبنيّة على معرفتنا للتعليم اللاهوتي.

ليس هناك أخلاق اصطلح عليها البشر في هذا المجتمع او ذاك. فكل الفضائل الإنجيلية مؤسَسة على ما علّمَنا إياه المسيح عن نفسه وعن الثالوث المقدس، فاذا امتلأنا من معرفتنا لله كما وردت في الإنجيل تتحوّل هذه المعرفة الى سلوك. عندنا اولا ايمان يعمل بالمحبة تؤتينا الأعمال الصالحة التي نتنقّى بها. شرطان هما أساسيان للخلاص: الإيمان العامل بالمحبة، والمحبة مترجمة أعمالًا هي أساسيّة للخلاص.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

تعدد ووحدة / السبت ١ كانون الأول ٢٠٠٧

الأزمة السياسية التي تجتاحنا تدعوني الى التكلّم عن لبنان الأساس لأن بعض الأزمة متعلق بالجذور ولا تقتصر على اشتهاء السلطة عند هذا الفريق او ذاك والصعوبة في الكلام على الجذور لا تكمن فقط في ان الإسلام والمسيحية في مواجهة دينية بعد ان اختلط اللبنانيون من كل حدب وصوب اختلاطا سياسيا بحيث لم يبقَ التواجه بين الديانتين هو الأصل الوحيد لأزماتنا ولم يبقَ صحيحا ان التوتر قائم بين مسيحيين ومسلمين اذ الصدامات الإقليمية والدولية انصبت على هذا البلد. غير ان المقابلة بين المسيحية والإسلام عند بسطاء القوم ومفكريه نائمة في النفوس وتبعث من حين الى آخر في ترجمة سياسية.

                      وتبديدا لكل سوء فهم وسيرا في الجيوبوليتيك ما من شك ان الخلاف بين اهل بلدنا ليس مرآة للصراع القائم بين الغرب «المسيحي» والشرق المسلم. فخلافا لممارسات الدول الغربية في القرن التاسع عشر ومنذ القرن السادس عشر تم الاتفاق بين فرنسا والسلطنة على حماية فرنسا للكاثوليك الشرقيين تم في أواخر القرن التاسع عشر كان العثمانيون يتقبّلون حماية روسيا للأرثوذكس ولكن بلا تفاهم مكتوب بين الروس والأتراك ثم مع ظهور البلشفة لم يبقَ من اتصال بين الاتحاد السوفياتي والأرثوذكس وانتهت رعاية فرنسا للموارنة عند انتهاء الحرب العالمية الثانية. اما الولايات  المتحدة فلم يكن يوما لها شعور خاص بالمسيحيين. اميركا كانت بروتستنتية ولا إحساس لها بالكنائس الشرقية القديمة الى ان تمّ احتضان اميركا للمملكة العربية السعودية منذ تأسيس المملكة بعيد الحرب العالمية الأولى.

                      ربما قادت العَلمانية الفرنسية الى عدم التصرف التمييزي بين طوائف هذا البلد وهذا واضح منذ تسلم شارل ديغول للحكم في بلاده وتتالت التصريحات بحياد فرنسا عن الطوائف وآخرها ما فاه به وزير خارجيّتها برنار كوشنير في ايام او اسابيع خلت.

                      واذا كان من ميل خاص للأميركيين غير مقول ولكنه واضح فهو ميلهم الى البلدان الإسلامية -قبل مشكلة إيران الحالية-  لعلمها بأن النفط مخزون في البلدان الإسلامية. الثابت تاليا ان ليس للمسيحيين في لبنان رعاية من أحد وعلى تدخل اسرائيل في الحروب الأهلية عندنا فلم يكن عندها احترام للمقاتلين «المسيحيين» الذين آزرت وهذا وارد حرفيا في الأدبيات الصهيونية التي في مكتبتي.

#           #

#

                      مل يفخر به اللبنانيون التنوّع الثقافي. وهذه مفردة خفرة يراد بها التنوع الديني القائم على السلام. وعندما أتبنّى هذا القول امام الأجانب يجيبون اصطدام الموارنة والدروز مرتين في اربعينات القرن التاسع عشر وكذلك السنة الـ ١٨٦٠ ثم نشبت الحرب الأهلية وكانت ذات طابع طائفي وذُبح المسيحيون في دمشق في السنة  الـ ١٨٦٠ وحماهم فيها عبد القادر الجزائري في منزله الى ان هاجر بعضها منهم الى بيروت واحفادهم معروفون حتى اليوم فيها. فهل السلم الأهلي في لبنان سوى مرحلة بين قتال وقتال؟ مسيحيو دمشق لم تكن لهم اية علاقة باللبنانيين لكون دمشق قلب ولاية عثمانية ولكون مسيحيي لبنان كانوا من المتصرفية. اجل كان للسلطنة إصبع في هذه الحوادث الطائفية ذات الطابع السوسيولوجي ولكن لم يدخل عنصر الحقد الديني في هذه المواجهات ولم يكبحها الايمان في هذه الشريحة او تلك. قال الوزير طارق متري في فصلية «أبجدية» الصادرة عن نقابة المعلمين في عدد تشرين الثاني عندما سُئل: «هل نحن بإزاء طبقية وطائفية ومذهبية في الثقافة»؟ قال: الثلاثة معا. انما ما يعنيني هو حماية التنوّع من ان يأسره الانعزال ويحكمه الصدام، لتتحول غنى «حواريا».

                      معنى ذلك ان التنوّع ليس بحد نفسه مدعاة للفخر ولكن الوحدة هي الفخر. التنوّع ملحوظة اجتماعية تحمل مخاوف التصادم، والوحدة الدينية الانصهارية تحمل خطر الانغلاق اذ ليس في الوحدانية الدينية ضمان دون الانكفاء الحضاري. افهم علماء الاجتماع والسياسة اذا قالوا لنا: فتشوا اولا عن الدوافع السياسية والظرف الديني ليس منشئا للخلافات. أميل الى الاعتقاد مع ذلك انه ينبغي التفتيش عن العنصر الديني الذي يختفي وراء الصدام السياسي. ليس من أمر ينفصل عن أمر في الحياة الاجتماعية. هنا تظهر مشكلة الأكثريات والأقليات وقد تكون اأقلية أعظم يسرا من الأكثرية ويلبس الصراع الاقتصادي بين الشريحتين لباسا دينيا. انا اوافق مبدئيا علماء الاجتماع على القول انك لا تستطيع ابدا ان تفرق بين الأسسباب وان العنصر المجتمعي كثيرا ما يطغى على العنصر الديني.

                      هذا كله يعني في كل مرة انه لا بد لك من فحص العوامل المختلفة وفحص قوتها فاذا قال الدكتور متري انه عليك ان تحمي التنوّع من ان يأسره الانعزال ويحكمه الصدام يكون عليك الا تبتهج تبسيطا بالتنوّع وانه عليك ان تدرس العناصر التي تقود الى الوحدة.

#                 #

#

                      لنسمها الوحدة الثقافية او الحضارية التي بعض روافدها من الإيمان الديني وهذا فيه غنى للجميع ويتجلّى في التناضح الروحي والفكري بين عامة الشعب وبين المؤمنين الأصحاء من كل ديانة عندنا. هذه أمة الأبرار القائمة في كل عائلة روحية النابعة من ينابيعها الصافية والذائقة لجمالات الدين الآخر. هذه الظاهرة قائمة في تقديري في كل الهلال الخصيب وفي واقع تفاعلي يومي في لبنان. هذه علاقتها بالقلوب وبالطهارة الساطعة في كل مجموعة دينية والتي تولي السياسة أهمية نسبية وهي لا تمزج بشكل عشوائي بين ما ينزل عليها من الله وبين المنافع الدنيوية للمنتفعين. وهذا ظاهر في علاقات الصداقة والعائلات التي تتعايش ويتعذر على الصديق اذا كان عميق الود الا يتبيّن المبادئ الروحية التي تنزل نفحات على الواد والمودود. واذا صح ما قاله الفيلسوف برغسون من انك لا تقدر ان تعرف لغة جيدا وتكره شعبها كذلك يتعذّر عليك ان تتنكر للبهاء الروحي الساطع على وجه صديقك المسلم او المسيحي.

                      هنا للنخبة الفكرية دور متميّز لأنها تضع جمالات القلب الذائق في فكر ذائق. وهناك خاصة الخاصة كما يقول الإمام الغزالي القادرة ان ترفع قيم الدين الآخر الى مرتبة العقل. وهذا حاصل بلا تبسيط وفي موضوعية كثيرة. وهذا ممكن تعميمه في تعليم الأديان بصورة علمية مجردة. هذا ما عرضه الإخوة الذين اجتمعوا في اواسط الستينات الى المغفور له الرئيس شارل حلو، اولئك الذين قاموا بأول حوار اسلامي -مسيحي في اواسط الستينات وكانت الندوة اللبنانية جمعتهم.

                      ايا كان المكان الذي تنشأ فيه على معرفة ديانتك وعباداتها هذا لا ينفي استقاء معرفتك، بصورة موضوعية، كل أديان العالم ولا سيما المسيحية والإسلام. هذا الكتاب اذا درس في الصفوف العليا وفي كليات  العلوم الإنسانية وربما في غيرها لا يتضمّن تبشيرا او دعوة وتوافق عليه المرجعيات الدينية القائمة في لبنان.

                      ولعل من اهم ما يتضمّنه معرفة الأ خلاق في كل ديانة وفي هذا الباب يجد الطالب ان الكثير او الأكثر يجمعنا. وهذا يكون جزءًا من الثقافة الواحدة. انا أخطئ ما شاع منذ بضع عشرات من السنين ان ثمة ثقافتين عندنا. فكل منا يقبل على ثقافة عالمية واحدة ذات لون عربي واضح. فالمسلمون والمسيحيون سواء في معرفة العربية وكلهم يقبل على العلوم الطبيعيّة او الانسانية. فهذا مسيحي طبيبه مسلم وهذا سلم طبيبه او محاميه او مهندس بيته مسيحي. والموسيقى العربية من أربابها مسيحيون. واذا أممت بيت مسلم ذي ثقافة أجنبيّة متقدمة تسمع عنده الموسيقى الكلاسيكية. وفن الرسم عندنا كباره من اهل الديانتين. واذا شئت آن تدرس اللاتينيّة في بيروت يكون عظيمها مسلما. وفي التاريخ البيزنطي حاورتني مسلمة تعرف اللغة اليونانية القديمة. ويذهلك ان يكتب سماحة السيد هاني فحص عن مريم ما لم يكتبه مسيحي هنا وفي الغرب. وقد يعلم في الجامعة الحضارة العربية الإسلامية مسيحي لا يصدم اي طالب من طلابه. واذا أحببت ان تقرأ أرقى نص فرنسي اشير عليك بصلاح ستيتيه المسلم.

                      اذا أردتم أن نتقارب في العمق فاقصدوا المسيحيين والمسلمين على السواء. واوّل المتقاربين في هذا المجال اللبنانيون الذين يتعايشون في صدق. هذه القاعدة المعرفية والمتشربة للروح الإلهي قائمة وستقوى. وهذه تنقذنا من السياسة السياسية فتجد نفسك ايا كان انتماؤك على قربى سياسية مع ناس ليسوا من دينك يحيون ملكوت الله في القلوب.

                      هذا هو المكوّن الأساسي لوحدتنا الوطنية على التنوّع.

Continue reading