الأيقونة / 25 نيسان 1994
هاجس المسيحي الأرثوذكسي ان يعبّر عن إيمانه في كل المجالات وبالدرجة الاولى في العبادة. والعبادة لا تحتوي قط على صلوات متلوة ولكن على ترانيم وركعات وهندسة توافق إداء الصلاة. الفن يصبح بالضرورة طريقة من طرق التعبير عن العقيدة وهذا ليس فقط لأن للانسان جسدا وحواسا ولكن لأن كلمة الله صار بشرا وحلّ فينا. تقول هذا بالكلام ولك ان تقوله بالرسم. فاذا تعذّر تصوير الإله غير المنظور -وهذا كان محرّما في العهد القديم- أفلا ينبغي ان تصوّر الإله الذي غدا منظورا أعني يسوع المسيح؟ الأيقونات انطلقت من هنا.
لم يكن الجمال الفني هو الهاجس ولكن الرؤية اللاهوتية أتت بالفن. فلا بد من قراءة الرؤية من خلال الصورة. اذا كان هذا فنا كنسيا فمن هذه الزاوية تنظر اليه. فن طقوسي بالتالي تذوقه ضمن العبادة. جانب منه تعليمي. هذا يؤكد وضوحه وواقعيته. نحن لسنا مع المجرّد الكامل بالرغم من وجود بعض عناصر تجريد (استبعاد العمق والجسم البارز) ولسنا في المذهب الطبيعي الذي ينفي الخشوع.
اندراج الأيقونة في الكنيسة يجعلها جزءا من المعبد. تنتصب فيه كأنها كائن حي. نبخّرها لأن التبخير عملية إكرام لشخص المرسوم عليها. نقبّل أيقونة السيد لنعانقه هو وأيقونة القديس الذي نرتفع اليه في القلب. وفي آخر السعي إلى كون الأيقونة كنسية نغطي كل جدران معابدنا أصلاً بالفسيفساء أو الجدرانيات لأن القديسين -لا الجدران العارية- هم المحيطون بنا.
غير ان الكنيسة ليست فقط هذه التي نراها على الأرض. انها كنيسة السماء أيضًا. انها الملكوت الذي نذوقه منذ الآن ونرى المسيح قائمًا في هذا المجد ونرى القديسين يساهمون هذا المجد. ننعت هذا الفن الكنسي بأنه ملكوتي. كيف يطل الملكوت علينا؟ بالصلاة التي ترفع القلوب، بجعل الأيقونات تعبيرًا من التعابير التي تحكي الملكوت.
من هنا اننا اخترنا ان نستغني عن المنظور (perspective) لأنه قائم على نقطة الهروب، على تلاقي السطوح في الأفق. هذا هو الشوق، التماس الفردوس المفقود في الجماليات. اما الآتون من الملكوت فالملكوت مطل عليهم من هدوئه، من سلامه. في الأيقونة ينقلب المنظور. القديس ينظر الينا، يسعى الينا، نحن في افق رعايته.
والقديس في ملكوتيته محاط بالذهب لأنه يجيء من الأبدية ورمزها الذهب ولا يجيء من حركة الشهوة وبعامة يجيء من النور. والألوان المسيطرة هي الفاتحة (الأسود يُستعمل للدلالة على العالم الخاطئ او عالم الموت. المسيح على جبل التجلي او في نزوله إلى الجحيم ابيض اللون لأنه كاشف ألوهته).
الملكوتية تأتي بأجسام-أعمدة للدلالة على انتصابها الروحي. العينان مستديرتان بسبب من الذهول في حضرة الله وللتعبير عن النفس التي أدركت الصفاء. الأذنان ملتصقتان بالخدين لأنهما لا تصغيان إلى صوت هذا العالم. الشفتان رقيقتان لأنهما تعبّران عن الصمت الداخلي وبعامة يحكم الاعضاء منحى هندسي لتجريدها عن ترابيتها.
ولكون القديسين نورًا وما حولهما من نور فالأيقونة خالية من الظل والعنصر الإنساني حاكمها. فالشجر والجبال والبيوت والأنهار وما اليها ليست ذات أهمية. يُرمز اليها رمزًا، وليس في ما بينها علاقة نِسَب. فالقديس (أو السيد) اذا كان في مشهد فلا تراعي في رسمه نسبا بينه وبين الجوامد أو النباتات ولا نراعي نسبًا بين شخص وآخر حسب القامة الطبيعية. الأهم مكانه، هو الأبرز. ففي أيقونة السيد والقديس الشهيد ماما (القرن السادس، متحف اللوفر) المسيح أطول من رفيقه الشهيد. ليس في الأمر أمانة لسياق تاريخي فأنت تضع قديسين لم يتزامنوا ولكن نعيّد لهم في يوم واحد أو تضع شفيع الزوج وشفيع الزوجة معا وليس لهما تاريخيا او في التقويم من علاقة). من تريدهم معا في الصلاة تجمعهم.
ولكون التعليم همّك ترسم مشاهد مختلفة من سيرة القديس وهي متعاقبة زمنيا. نرسم حسب مصطلحات من التراث تعبيرية (مثلاً يوحنا المعمدان الكامل القامة يحمل رأسه مقطوعا في يده).
فن كنسي ما في ذلك ريب ويتعاطاه من سعى إلى قداسة حياته وهو لا يرى نفسه فنانا. ولكن هذا التواضع المبتغى لم يحل دون ظهور رسامين كبار(روبلوف، تيوفان الرومي، نعمةالله المصوّر…) والكثيرين ممن لم نعرفهم لأنهم ما كانوا يوقعون اسماءهم. انك ضمن القانون الكنسي تستطيع ان تبدع. وقد تبدع ضمن عبقرية شعبك وآلامه. من هنا ان ثمة مدارس يمكن تمييزها: سيناء، حلب، موسكو، نوفغورود، كريت، القسطنطينية…) كل ذلك في وحدة المنحى الروحي الذي نحاه التراث البيزنطي.
الأيقونة هي سعي إلى فن إلهي بأيدٍ بشرية.
Continue reading