التوبة الوطنية في لبنان. أين نحن منها؟ / اللقاء اللبناني – تعنايل / السبت في 13 تشرين الأول 1998
التوبة الوطنية، بدءًا من قبول الآخر واختلافه، هي أن نعود معًا إلى لبنان واحدًا وكما ينبغي أن يصير في احيائه نفسه على طريق علوه بلا انقطاع. التوبة تبدأ بتمنيها ثم تصير جهدًا فإقامة في التطلع إلى الآتيات الممكنة أو المستحيلة لكون المستحيل يصنع الممكن والمنظور اليه يصنع الآن.
رؤية لبنان الواحد تجلت من محنة الحرب. بلورتها آلامنا واعتقادنا ان الآخر قدرنا. ولكن اي قدر؟ أهو الذي تحكي عنه الروحانية المسيحية الشرقية عندما تقول ان اهل النار كان الحكم الإلهي عليهم ان يكون ظهر احدهم إلى ظهر الآخر حتى لا يراه. هل بتنا عكس ذلك وجها إلى وجه في التعارف والتبادل والتحاب؟ لقد اسلم اللبنانيون في وثيقة الوفاق الوطني فالدستور بعد الثوابت الإسلامية لنهائية الوطن، بمعنى اللاذوبان في الكيانات الأخرى. وهذا في جوهره لا يبدو لي الا تعبيرا آخر عن ميثاق 1943. ربما استلهم ذلك من كون الفريق المسلم يتبوأ الحكم بهذه اللبنانية فيزيل امتياز الآخر ليستولي عليه. اظن ان المسيحيين هكذا فسروا الموقف في باطنهم. الموقع الامتيازي يحتله حزب أو يأخذه زوج في المجتمعات الذكورية. احد يسود احدا تلك كانت القاعدة. ولكن الزواج القسري له ان يتحول إلى زواج حب فيما بعد. ويكون المسلمون أشاحوا بسيادة طائفة ليقيموا سيادة اخرى فظلوا اذًا على لمنطق الطائفي. ومل الموارنة الحرب أو يئسوا منها فأعطوا إلى حين ما كان لهم على ان يستردوه عند تبدل الأزمان.
يرفض الموارنة انهم كانوا قبلا يريدون امتيازات. قالوا ضمانات. ولكن من يضمنهم بعد ان يئسوا من الحمايات؟ ثم ماذا يضمن لهم؟ تصوري ان الهاجس الحقيقي يبقى عند اللبنانيين السلطة التنفيذية وتاليا التفوق السياسي. الإشكالية تبدو اشكالية حكم وتنازع عليه. لعل هذا آتٍ من تخيل المسيحيين انهم في قبول الاولية للمسلمين يحسون بأنهم غرقوا في البحر الإسلامي أو العربي الذي لا يدل شيء فيه على ان المجتمعات تصنع الحكم وكل فيه يشير إلى ان الدولة تصنع كل شيء. يضاف إلى هذا ان الصحوة الإسلامية أو الأصولية فيها هذا الصدق الذي يجعلها تقول انها تسعى إلى تطبيق الشريعة وتاليا إلى إقامة الحدود بحق اهل الكتاب كما تقيمها بحق المسلمين. المسيحيون يحسون بخطر الظلامية وتاليا بخطر الهجرة.
البعبع الحقيقي عند المسيحيين في اقتناعهم بأن عددهم قلّ وقد لا يكون هذا صحيحا إلى حد مريع. الطرفان في إشكالية التسابق وفي إشكالية الدولة اكثر بكثير مما هما في البحث عن التلاقي الاجتماعي الائتلافي. قلت هنا وهناك اننا لسنا مجتمعا منصهرا واننا مجتمع مؤتلف. الدولة في المساق الحضاري تأتي ثانية. قلت مجتمعا مؤتلفا في دولة واحدة ممكنة الاهتزاز لكوننا لونين روحيين ولو عشنا في ظل الثقافة العربية المنفتحة في إطلالتها الدائمة على العالم.
ما بقينا متباينيين على صعيد العلم أو التعليم فقد خطا المسلمون فيه خطوات جبارة منذ 40 أو خمسين عاما. أجل نحن مجتمع متعدد أو مجتمعات متعددة. مع هذا لا يشبه تعددُنا أو تنوعنا التنوع السويسري أو البلجيكي. اختلاف الاثنيات أو اللغات يعرقل سير الدولة إلى حد كبير أو صغير ولكن الاختلاف الكبير القائم بين المسيحية والإسلام يجعل كثيرا من رؤانا الانسانية والخلقية والدينية الأصيلة على كثير من الخلاف. اين يقف الخلاف ليصبح مجرد اختلاف؟
المحاولة الايديولوجية قومية كانت أم اشتراكية أو علمانية حاولت ان تحجب التباين لتقيم أرضية اخرى نقف عليها معا. نتجاهل الانتماء الديني ويبقى الاندماج في مكان تبيناه أو اصطنعناه لنقول وحدتنا فيه. في تأملي ان القومية العربية لم تبق فاعلة أو جامعة وليس من إمارة تشير إلى بعثها في المنظور القريب. وهي تعني وعيا قوميا دائما ورقيا مجتمعيا وتكنولوجيا وحرية ونقدا دينيا أو ارتضاء النسبية التاريخية في قراءة النصوص المنزلة وإدراك انسانوية على النسق الاوربي وفصل الدين عن الدولة ما يجعل القومية العربية بعيدة المنال وتستهلك جهودها اسرائيل أو تعرقل نهوضها بحيث انطوت العروبة بمعناها السياسي ولو بقيت أو اردناها ان تبقى ثقافة.
ولا إخالني مضطرا ان انعي سقوط الشيوعية أو انحجابها كلها على اختلاف فصائلها فهذا هو الواقع العالمي. ونحن نذهب إلى الحج بعد عودة الناس منه. كذلك لا احسب باننا ادركنا العلمانية مجتمعا ونفسيا وان كان لا بد من السعي اليها في تركيبة الدولة. الآتي هو العولمة التي نقدناها في غير مطرح وخوفي علينا منها انها آتية لا محال وانها سوف تكون محل تذييلنا للإعلام والمعلوماتية وتفريقنا ان لم نقاوم من شخصيتنا الوطنية. اخشى انها آتية وانها تأتينا بحلول قد تكون هي انتقالنا من مشاكلنا الحالية.
قبل هذا المتوقع نحن مضطرون ان نواجه مسألتنا الانسانية بصورة جدية وليس عندي وصفة لهذه المواجهة. اظن اننا كنا سطحيين في عصر النهضة لما قلنا اننا نقيم ارضا جديدة ليست الإسلام ولا المسيحية في تبنينا شعار “الدين لله والوطن للجميع” غير عارفين ان علاقتك بالله أو صورة علاقتك به وبأهل دينك من الأشياء التي تحدد العلائق في الوطن. العلمانية حل اداري لمشاكل الدولة وليست حلا فلسفيا. تجاهل الموجود الفاعل في النفوس لا يقيم مجتمعا واحدا.
على ضوء هذا لا يغري المسلمين ان يتوبوا إلى المسيحيين كما هم المسيحيون. ليس علي ان اقول اذا كان المسلمون هم كما هم لا ينبغي ان نتوب اليهم. الهزالة الروحية التي عليها المسيحيون، انغلاقيتهم في الطائفية والمجد الباطل القائمة عليه برجوازيتهم وانحدارهم الثقافي الحقيقي لا يجعلهم ساحرين. المسيحي لم يولد بعد في هذه البلاد ما خلا قلة طاهرة فهيمة مُحبة. ما القوى الروحية القائمة في الإسلام اللبناني؟ هل من احياء روحي فيه، هل من ثورة تفسيرية حقيقية لا تجتر الشريعة والفقه. هل من إبداع، هل من تأليه ما خلا المتقين البسطاء. على المسلمين ان يجيبوا اذا امتحنوا قلوبهم وما ينتجون. عند ذاك يلتقي المألوه بالمألوه ايا كان المعتقد. السيرورة الخلاقة هي إلى مسيحية متصوفة وإلى اسلام متصوف. اما النظم الدينية والعمل الفقهي والتفسيري المحض وعلم الكلام التقليدي في الإسلام والكنيسة في انشقاقاتها واكليروسيتها المغالية وزواجها بقبليتها وآحادية التراث في هذا المذهب أو ذاك وانطواؤها التاريخي كل هذا لا يجعلنا في الحرية المبدعة والحق المحرر والقدرة على لقاء المسلمين في اعماق الحب.
افهم ان تقولوا ان المجتمع يسوس الناس كما هم الناس. عند ذاك لا مهرب لنا من انسانوية علمانية وليبرالية واليوم يرى الناس اختناق الانسانوية اللاإلهية وانسداد الطرق امام الليبرالية الجديدة حتى بت اتساءل اذا صح تحليلي لسقوطنا الروحي العام ان كنا ايضا امام ازمة حضارية رهيبة تهدد الكبار قبل الصغار. التأزم الاقتصادي الكبير في العالم وتهافت العقائديات كلها لا يجعلاننا بمنأى عن كل هذه الأخطار. لذلك لست اومن الا بانبعاث روحي عظيم يجمل كل وجه فاذا بلبنان ملتقى الوجوه الحية المتجددة نبضارتها.
هذا يعني ان مشروعنا هو الناس لا الدولة وان صراع الطوائف فيها مرتبط بخشونة الطوائف أو ركاكتها كما هو عليه عنصرها الانساني اليوم.
امام هذا السؤال الباقي هو اننا هنا واننا نتعامل والنسيج اللبناني كما نلمسه. ماذا نعمل ببابل هذه أو بهذه البعثرة الرهيبة؟ هل يهب الروح في هذه العظام وينضم اليها لحمها كما يقول حزقيال النبي. افهم ان الوطن ليس ديرا وان السياسة فن تعاطيك لهذا الفتات. غير اني مدرك ايضا ان السياسة بلا ثقافة تفه كبير وان الثقافة بلا اخلاق فذلكة مترفة وانك تاليا امام مشروع حركة دائمة بين الدولة والمجتمع ذهابا وإيابا وانك في حركة تصاعد إلى الله وإلى رؤيته حتى تنزل منه إلى الانسان الآخر وانك في حركة صدق وتنزه عن الظرف وعن الموروث واستقلال عن جماعتك وحرية من تاريخك ورهبة امام الآتي واستشراف راجٍ له حتى تكون تمتمة الحروف الاولى من التوبة.
مع ذلك لا مفر لنا من ان نحيا معا. العيش المشترك ليس فقط قدرنا ودونه الانتحار ولكنه خيارنا الراجي. البلد يتوحد في اقتحامه الواحد للانسان على ضعفاته وإخفاقاته المتكررة. هذا ليس مجرد براغمية. البراغمية مراس لا بد من الكثير منه في السياسة. ولكنها ليست فلسفة. هي تحل لنا تطبيقا لأن البلد، كل بلد مريض. خطأ اللبنانيين اعتقادهم ان المريض يعالج اولا بالسياسة. لا، السياسة ليست اكسيرا. هي واحد من الأدوية. والعيش الواحد نحياه كثيرًا في الوطن الصغير. الفنون الجميلة والأدب الرفيع والتهذيب الذي ألفته كل مجموعاتنا بما فيه الذوق المشرقي الذي يجعلنا على رهافة كبيرة وهو عميم عائلاتنا الروحية لا ينبغي ان نستهين بها موحّدة. ارجو الا تجتاحنا الفردية الغربية التي قتلت مجتمعاتهم وأعمت بصائرهم عن المشترك وعن القيم الثوابت. ارجو الا تجتاحنا لئلا تفنى العائلة والضيعة والحي والتقاليد الانسانية في الفرح والترح وحرارة التلاقي.
على هذه القاعدة ينبغي ان نبني مشروع المجتمع المؤتلف اذا قبلتم هذا الاصطلاح أو المجتمع القائمة فيها عناصر ائتلاف وعناصر انصهار مثل التي ذكرت في عيشنا المتوحد. نحن في نمطنا الشرقي العربي على توبة مقيمة ولكني ناديت بالتوبة الدائمة التي الله مجريها ومرسيها. اني اومن ان لا إله الا الله واذا عكست الشهادة على ارضنا انا اومن بالإله فيك وبالإله فيّ كائنة ما كانت كتبي وكتبك لأن الرب اذا هيمن أو اردته ان يهيمن يقيمنا في ذلك الإسلام الذي تكلم عنه القرآن أو -اذا شئتم لغة اخرى- يعمدنا جميعا بروحه. كنيستنا الواحدة لبنانيين هي قدسية الانسان المتصاعد ابدا إلى فوق والتواق إلى الانسان الآخر في دعوته وبكارته.
غير ان التوبة الحق ليست مني إلى كتلتك التاريخية الجامدة أو منك أنت إلى كتلتي الجامدة. هي توبتنا جميعا إلى الفقير. مجتمعنا صار بالحرب مجتمع طبقات أكثر مما كان. واتسعت الهوة بين أهل الثراء الكبير والفقر الكبير. ودولتنا غافلة أكثر مما مضى عن المحرومين لظنها انهم ينتعشون آليا اذا اقامت هي بنية تحتية. ليس صحيحا ان الناس يفيدون على التساوي من الطرقات والجسور والمجارير والكهرباء وما اليها. ان السياسة الاقتصادية النيوليبرالية من شأنها ان تثري الغني والطفيليين الذين حوله ولا تحل مشكلة الطعام والمسكن والطبابة والمدرسة.
ان فقر الفقراء في حالة تقاعس الحكم هو الذي يدفعهم إلى اللجوء إلى طوائفهم ملاجئ انسانية رؤوفة ويحجب المجتمع الواحد. انا مؤمن بالأسرة الروحية مطرحا من مطارح الدفء البشري وقد دلت تجربة الضمانات الاجتماعية المختلفة في اوربة انها لا تغني عن الحرارة التي يجدها الانسان في عائلته الجسدية وعائلته الروحية. ولذلك لست ارى ان مؤسسات الدولة هي بالضرورة بديل عن المؤسسات الدينية المنفتحة التي تحب وترعى انطلاقا من إيمانها. انه غير صحيح ان المجموعات الدينية انها تغذي بالضرورة الانغلاق. لقد اثبتت معظم مدارسنا الخاصة انها تعامل طلابها في احترام كبير وانها قلما مارست الاقتناص الديني. المدرسة ذات اللون الروحي افضل من مدرسة لا لون فيها وفي كثرة من الأحيان عطاؤها اجدى من عطاء موظفين رسميين لا رسالية فيهم. الصراع عندنا لا يقوم بين المدرسة الخاصة والمدرسة العامة هذا اذا اعطي التعليم الديني بلا تشنج ولا تأكيد على كفر الآخر واذا كانت المدرسة وطنية. أنا لم اشاهد المدارس تزرع التفرقة والعصبية. الكثير من صداقاتنا قام في هذه المعاهد حتى في أيام الانتداب. ولكن البون الذي كنا نلمسه فيها هو البون بين ابناء العائلات المدعوة العريقة والعائلات الشعبية إلى اي دين أو مذهب انتمت.
مكافحة الفقر هو المشروع الوطني الأكبر. دونكم هذه القصة. كان البطريرك غريغوريوس حداد قائما على إعاشة دمشق في الحرب العالمية الأولى وكان يوزع الحنطة بالإضافة إلى ذلك في البطريركية الأرثوذكسية. مرة جاء اليه واحد من طائفته محتجا على المساواة في المعاملة بين المسلم والمسيحي. قال له البطريرك: أرني رغيفا فأتاه برغيف. سأله البطريرك هل تقرأ على هذا الخبز كلمة مسيحي أو كلمة مسلم. قال: لا. قال البطريق: أعطه اذًا لكل من سألك خبزا.
ان تجندنا في سبيل المحرومين هو طريقنا إلى مستقبل الانسان. الانسان الجائع يسكن فيه المسيح حسب قوله المبارك: “كنت جائعًا فاطعمتوني”.
لست ارى مخرجا من التفتت المجتمعي ومن التساؤل عن هويتنا الطائفية وعظمتنا المزعومة الا بإقرار هوية اخرى لست أقول انها خارجة عن المسيحية والإسلام ولكنها هوية الآخر. مسيحي هو الآخر. في هذا العطاء يرقى المعتقد الديني إلى صبغته الإنسانية. لا يصبح ذريعة للتقاتل. كم من مرة غطيت الحاجة بصراعات طائفية كانت وهمية.
تريدون أرضا واحده نجتمع عليها وننطلق منها. انها ليست الايديولوجية التي نحاول بها لغة أخرى. فاللغة موجودة. هي لغة المحبة التي لا خطابة فيها ولا انشاء. ان سحر لغتنا العربية يلهينا عن التخاطب الحق واللقاء الحق بين المحروم والمحروم حتى يمن الله على الأغنياء بلغة الرحمة.
إذا وجدنا هذه اللغة نكون قد تبنا أحدنا إلى الآخر ونكون قد شرعنا ببناء الوطن الذي ينشئك وينشئ الآخر. الصراع العقائدي الديني كما الصراع الطائفي يحيله الله إلى سر الحب. واذا قال القرآن: “وللآخرة خير لك من الأولى” ففي ادراكي لعمق الآية أقول: ان لك آخرة هنا وهي الآخر في سر فرادته وسر بهائه.
Continue reading