1992, محاضرات

القدس، ضمير المسيحيّين العرب / تشرين الأوّل 1992

القدس في تجاوز القدس. بهاؤها ككلّ بهاء يجيء من العمق، من المعنى، ولكنّ المعاني تهبط على الزمان والمدى لتكشف. أنت هنا مع الحجر الذي ارتفع بسبب من البركات التي نزلت على أرض المدينة. الحجر هنا إذًا لغة. نحن لسنا في عالم الجمال الشكليّ كما في كلّ المدن. فالعمارة في باريس وروما وبطرسبرج أجمل، ما في ذلك ريب، ومن المدائن من كان في التاريخ أكثر إيغالاً. نحن هنا على صعيد آخر. نحن مع المدينة المقدّسة في بعد آخر. نحن لسنا في الزمان. نحن في ملء الزمان، في إطلالات الأبد تتفجّر من كنيسة القيامة. نحن معاصرون للضياء لـمّا انبلج في بيت لحم تنشئنا الكلمات التي قالها المعلّم وعاشها في الناصرة وعند بحيرة طبريّه حتّى أدرك الجلجلة وقبر وقام وجلس فوق الشمس وساد أزمنة الناس.

من هذه المدينة وما حولها سطعت حقيقة الله وحقيقة الإنسان. إنّها كانت في رؤيتنا لها أرض لقاء الله والإنسان، أرض خطابهما. لذلك دعتها العبادات الشرقيّة «المدينة المقدّسة» والمقدّس في الفلسفة الساميّة من أو ما كان مخصّصًا لله مقتطَعًا للملكوت وكأنّه لم يبقَ من المكان ليصبح مقرّ الله. هذا لا يعني أنّ القدس زال اتّصالها بأزمنة الناس وأوجاعهم وقد صارت بامتياز مطرحًا لآلام ابن البشر وكأنّ في ما تقبّلت وما ترنو إليه وما تحتضن مصبَّ كلّ آلام البشريّة ورجائها الناهد.

القدس من هذا القبيل صارت عاصمة الروح أي تلك التي إليها تذهب أشواق أهل الآخرة لأنّهم يعرفونها رمزًا للمدينة الأخرويّة التي ننتظرها نازلة من السماء. وإنّها ذلك الرمز الذي نعرفه في المسيحيّة أي سرّ اللقاء بين المنظور وغير المنظور، بين الألوهة والناسوت بلا تمازج ولا انقسام ولا انفصال. في المسيحيّة التراثيّة يغدو الرمز حقيقة راهنة لا مجرّد علامة دالّة على ما لم يكن فيها. الرمز ملتقى، منطرَح، غذاء.

أن تكون القدس عاصمة الروح لا يعني أنّها بطلت أن تكون جسدًا. فمن هذه الزاوية إنّها عاصمة الشعب عاش فيها وتوقه إليها. وهذا ما سنأتي عليه. ولكنّ أهميّتها إطلاقًا أنّها قلب العالم وأنّها انحدارًا من هذا وبهذه الصفة يتعامل سكّانها معها فلا يُؤتَونها كأنّها المدينة الأولى في أرض لهم مستعادة ولكنّهم يؤتَونها هديّة من السماء ونصيب

السماء في أرض البشر. هذا يعطي لمعناها الوطنيّ عمقًا لا يجيء من نضال بشريّ. الجهاد الفلسطينيّ قد يردّ القدس إلى أهلها أو يزفّ أهلها إليها. المعنى الأعمق من كلّ هذا أنّ فلسطين مستعادةً تَرِثُ القدسَ من الله.

ليس في أيّة مدينة أخرى سرّ. ليس في أيّة مدينة أخرى ألوهة. لهذا لن نحيد عن القدس. لا نهملها للناهبين حتّى إذا حججنا إليها نكون حاجّين إلى إلهها الساكن فينا. كلّ مدائن الأرض إلى هذا العالم، إلى حضاراته. إليها نسوح أي نبصر جمالَ أرض نغنّي حجاراتها مع قيثارات الليل. نمضي فيها من ومضة إلى ومضة، من لوحة إلى لوحة. من وهج إلى وهج. هذا شيء بشري. القدس وحدها إيقونة كتلك التي رُسم عليها وجه السيّد وسمّيناها إيقونة غير مصنوعة بيد. صحّ أنّ القدس تكوّنت بدءًا من تراب الأرض. غير أنّ سمتها الأساسيّة أنّها جبلت بنور، بهذا النور الذي تقول فيه الكنيسة الأرثوذكسيّة إنّه غير مخلوق. نحن أمامها في انبهار لأنّ الأعماق الإلهيّة نزلت عليها.

هذه لـمّا فتحها العرب كان اسمها إيلياء. وهو اسم روماني عاديّ. بعد الفتح صارت القدْس أو القدُس. وهي والتقديس واحد والتقديس تنزيه الله تعالى وتبارك، والقدّوس اسم من أسماء الله الحسنى وهو الطهارة الكاملة. وبيت المقدس أي البيت المتطهّر هو المكان الذي يُتطهّر به من الذنوب. هذا هو المصطلح الإسلاميّ ولا يبدو لي أنّ المسلمين باستعمالهم اسم بيت المقدس أشاروا إلى الهيكل فإنّه كان مهدومًا ولم يروه. كما أنّ القرآن لم يعنِ ما صار المسجد الأقصى من حيث هو مبنى. وافتراضي أنّ عبارة المسجد الأقصى القرآنيّة دلّت فيما بعد على مبنى المسجد فإنّ بناءه تمّ في العهد الأموي والعبارة هي في الآية الأولى من صورة الإسراء: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى». فما أمكن أن تدلّ على مسجد غير موجود ولكنّها تدلّ على بيت المقدس كلّه كما ورد في تفسير الجلالين. القداسة تاليًا صفة من صفات المدينة كلّها.

اتّخذ المسيحيّون العرب التسمية كما جاءتهم من المسلمين وجاءتهم موافقة لما ورد في نصوصهم الطقوسيّة يسمّونها المدينة المقدّسة. التسمية العربيّة أيّدت ما كان بين أيديهم في العبادات ولـمّا انتقلت العبادة من أورشليم إلى أنطاكية ومن هذه إلى العالم الأرثوذكسي كلّه صار المسيحيّون يسمّون المدينة التي هم قاطنوها المدينة المقدّسة تيمّنًا بأورشليم وكأنّهم كانوا يمدّون هذه إلى العالم كلّه، كأنّهم يذوقون القدس في كلّ مكان.

ماذا يعني هذا سوى أنّ المسيحيّين الشرقيّين في عباداتهم كانوا يعتبرون القدس عاصمتهم الروحيّة كائنة ما كانت مرتبتها بين البطريركيّات. هي تأتي لأسباب تاريخيّة في المرتبة الخامسة بين الكراسي بسبب من انحجابها التاريخيّ المتأتّي عن هجرة المسيحيّين لها عند الحرب اليهوديّة في السنة السبعين للميلاد. ولكنّ القانون الكنسيّ أو التنظيم البنيويّ شيء والوعي الروحيّ شيء آخر. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ مع كونه كان ينتمي إلى الكرسي الأنطاكي مولدًا ونشأة سمّى أورشليم أمّ الكنائس وانتقلت تسمية هذه إلى كتبنا الطقوسيّة.

هذا التقديس العظيم للمدينة أخذ يتّسع مع نموّ حركة الحجّ في القرن الرابع. فكانت الأعياد تنشأ في المدينة بطواف الحجّاج من بيعة إلى بيعة فكان تدشين المقادس انطلاقة التعييد. ومع أنّ هذا أو ذاك من آباء الكنيسة ما كان يعطي للزيارات المقدّسة معنًى عظيمًا إلاّ أنّ ما طغى على التراث الأهميّة القصوى التي اتّخذتها الأماكن المقدّسة. ومنطق ذلك كما يبدو لي هو تعظيم المسيحيّين لناسوتيّة السيّد. فالمكان الذي ولد فيه والعليّة التي أقام فيها العشاء السرّي والبلاط الذي حكم عليه فيه بالموت وما إلى كلّ ذلك صارت للمسيحيّين مناسك وكأنّها مصاعد لهم إلى السماء. أن نتمسّك بالمكان الذي وطئته قدما المعلّم كان شيئًا من التروّض على التقوى وتجديدًا للروح نتوب به إلى وجه المخلص. فالحجّ ليس إلى البيت بل إلى ربّ البيت كما تقول رابعة العدويّة. أنت تذهب إلى الإله الساكن فيك بعد أن تكون قد خرجت عن أناك المنغلق. السير إلى القدس وما حولها سير في الله، هنا تزول الهوّة بين المحسوس والمعقول وتختبر ذلك في نفسك حضورًا إلهيًّا. الحركة هي هذه أنّك التمست المعلّم أوّلاً في منسك فأحببت أن توغل في الروية فترحل إلى الأرض التي بوركت بسيره عليها فتلمس ما لمس ونفسك في حركة توبة، وهي اللمسة الكبرى، وتتصاعد بذلك على الدرجات العلى من الحبّ الإلهيّ. فإذا حجّ ربّ بيت إلى تلك المقادس فكثيرًا ما يترك كنيته هناك ويسمّي نفسه المقدسي أو يطلق عليه ذووه وأهل بلده هذا اللقب لكونهم أحسّوا أنّه بعد أن أمسى في حضرة القدس لا يليق به اسم آخر. هنا يشبه تغيير الاسم عند الرهبانيّة وكأنّ المقدسيّة سِلْك أو سلوك أو كشف جديد. كلّ شيء يجري هنا في حركة دائمة فالمدينة في انتظار من أتى إليها وهي عالمة أنّه يتخطّاها لأنّها درجة من درجات معراجنا كلّنا. المدينة ليست موقفًا. إنّها معبر، يأخذها الإنسان معه فيما هو يمتدّ إلى الآتيات. ولذلك كان السائح الروسي يقتبس فيها النور الفائض من القبر ويحمله إلى بلاده وهو يحسّ أنّه نقل إلى داره بركات لا تنقطع.

والسرّ في القداسة، في هذا التوق الشرس العنيد الى الكمال. صحّ أنّ بطريركيّة أورشليم ما أعطت أبًا كبيرًا بين الآباء المفسّرين. كانت عبقريّتها العبادة والمحافظة على التراث. ففي الوقت الذي كانت فيه المسيحيّة الشرقيّة تتقسّم منذ منتصف القرن الخامس كان رهبان دير القدّيس سابا يحفظون استقامة الرأي. القول الحلال عندهم من القلب الحلال. ويكثرون ويتقشّفون بما يفوق قدرة البشر المألوفة. يمارسون في هذا المنسك العظيم لغات مختلفة لأنّهم يأتون من كلّ صوب. كلّ يصلّي بلغته ويجتمعون للذبيحة الإلهيّة. دير القدّيس سابا كما جعله مؤسّسه تجتمع فيه الأقوام بلا عنصريّة حسب قول بولس: «ليس يونانيّ ولا بربريّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل وامرأة. كلّكم واحد في المسيح يسوع». ومن بعد الفتح يتولّى رئاسة كنيسة أورشليم أبناؤها وقد عُرِّب لسانهم وكان قد تولّى أسقفيّات فيها أساقفة البدو يتبدّون مع الرعية. لذلك عرفت كنيسة الأردن بكنيسة الخيام وتمثّلت كنائس العرب الأقحاح في المجمع النيقاوي ودخلت أورشليم، إذ ذاك، في حركة الكنيسة الجامعة.

أمّا الذين كان لسانهم آراميًّا فتعرّبوا رويدًا رويدًا وذلك في كلّ بلاد الشام حتّى اضطرّ ثيودورس أبو قرّه، وهو من تلاميذ يوحنّا الدمشقيّ، أن يكتب بعضًا من كتبه بالعربيّة.

ثمّ كانت الحرب الصليبيّة وكانت موجّهة ضدّ مسيحيّي البلاد بمقدار ما كانت ضدّ المسلمين فقُتل الأرثوذكسيّون والأرمن في القدس كما طُردوا من أنطاكية ونُفي البطاركة والأساقفة من القدس كما نُفوا من أنطاكية وأقام في القسطنطنية بطاركة أنطاكية حتى انتهاء الحكم الفرنجي لهذه البلاد. وفي تلك الحقبة عُرِّبت كتب الصلاة إذ تعرّب لسان المسيحيّين ما خلا بقاعًا صغيرة ظلّت على اليونانيّة أو السريانيّة. ولـمّا فتح صلاح الدين القدس وأعاد للمسيحيّين حريّتهم من الإفرنج ازداد حسّ المسيحيّين بأنّهم مع المسلمين واحد، وكان من الطبيعيّ أن يكون بطريرك أورشليم من المواطنين. ولم يكن سوى البطريرك الأرثوذكسي آنذاك على العرب وما كانت قد تجلّت فكرة حراسة الأماكن المقدّسة لأنّ المكان بسكّانه وما كانت الفرق المسيحيّة المختلفة قد توزّعت بينها تلك الأماكن حتّى اشتدّت الوطأة الغربيّة فكان لا بدّ من اتّفاقات دوليّة ترعى علاقاتهم في المقادس.

غير أنّه بالرغم من انقسام الرئاسات الروحيّة الأجنبيّة ظلّ المسيحيّون العرب يحسّون بوحدتهم ويشعرون أنّ القدس لهم جميعًا ولو لم يكن بعضهم يستعملون هذه المزارات. الوحدة الأهليّة هي وحدة القدس فالكفاح واحد والمواطنة الفلسطينيّة العربيّة التطلّعات كانت الجامعة.

ذلك أنّ القدس إلى جانب كونها إلهيّة الأفق والملمس إلاّ أنّها متّحد بشري ولذلك أطلق الياس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق أنّها بشر لا حجر. المقامات الشاغرة ممّن قام فيها على صلاته ليست بشيء.

تحدّثنا مليًّا عن الحجّ لنبيّن المكانة الكبرى للمدينة المقدّسة عند المسيحيّين في العالم ولا سيّما الشرقيّين منهم، ولكنّ القدس من بعد أن تآخى مسيحيّوها ومسلموها منذ أربعة عشر قرنًا ورفض مسيحيّوها الصليبيّة باتت مقرًّا لذويها وليس للحجّاج. الزائر يجيء ويروح ويحمل بركات المدينة في نفسه. أمّا المقيم فالمدينة روح شعبه وقطب شعبه. إنّ المسيحيّين العرب في نصرتهم لفلسطين نقلوا الاهتمام المفرط من الأماكن المقدّسة إلى الإحساس بالشعب الفلسطيني مستقطَبًا بالقدس وبذلك أبطلوا مقولة المصير المنفرد للمدينة. هذه ليست في زمان البشر قائمة في نفسها. إنّها قلب جوار محيط ورأس للجسد الفلسطينيّ. هذا يدين لها بهويّته ويستمدّ منها لونًا من ألوان ثقافته. فلسطين ليست بلدًا ككلّ البلدان إذا اتّسعت رقعته أو ضاقت تنقل عاصمته إن شئت لسبب جيوسياسي. هنا التاريخ ليس تاريخًا علمانيًّا مادّته الزمان ورقعته الأرض. نحن نتعامل وشيئًا آخر. وإذا انتُهك ذلك لا تبقى القدس مدينة السلام وملتقى روافد التوحيد في العالم.

هذا ما قلناه باختصار في كلّ المحافل الكنسيّة العالميّة لـمّا كانوا يريدوننا أن نبحث قضيّة القدس وكانوا يحاولون عزلها عن الجسم الفلسطينيّ. كنّا نشدّد على تاريخيّة المدينة، على حضارتها القائمة، على كونها حضن فلسطين أو رأسها.

ليس شأني أن أتحدّث عن علاقة القدس بكلّ هذا الواقع المرير القهّار القائم حاليًّا في الأراضي المقدّسة. إنّ كلّ ما حلّ بأهل فلسطين من ظلم لن يكون أقصى الظلم لو اعترف لهذا الشعب بأن يتغذّى روحيًّا وحضاريًّا من القدس. هذه هي القوّة المحيية لهذا الشعب العظيم ولذلك يجب أن تنفتح من جديد مجاري الينابيع الحيّة المنفجرة في القدس لنرتوي ونشكر.

Continue reading