Monthly Archives

May 2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

ثياب «المنذورين»/ الأحد 28 أيار 2000 /العدد 22

منذ ان توليت خدمة هذه الأبرشية ألتقي أولادا لابسين ثوب مار انطونيوس أو ثوب مار الياس (وهو المأخوذ عن الرهبان الكبوشيين)، ورأيت مؤخرا (وبعد حلول الشهر المريمي) نساء يرتدين الأبيض والأزرق. وربما كن من أصل غير أرثوذكسي لأن هذا الثوب كما نراه منسوخ بوضوح عن تمثال سيدة لورد.

ويحصل أحيانا صدام بين الكهنة المتنوّرين وأمهات الأطفال لأن الأم تطلب تبريك هذه الثياب، ولا نمارس نحن عادة التقديس لأي ثوب. ماذا يدور في بال هذه النسوة؟ تقول كل واحدة: أنا نذرتُ ابني لمار الياس أو مار انطونيوس. ماذا يعني هذا؟ إذا كانت تلتمس قوة أو شفاء أو نعمة، فهذه تُطلب في الصلاة ولا علاقة لها في خرقة من الخرق. فليس من خرقة تسكنها قوة إلهية، وإذا ابتغيت صلاة فقلها مباشرة. أنْ نَحسب ان مادة من المواد تفرز بركة لمجرد حمل هذه المادة على الجسم فهذا من السِحْر. وإذا أخذتَ كتابات من المزامير أو الإنجيل ولففتها معا وعلقتها في صدرك، نحن لا نؤمن انها تفيدك. بالعكس نعتقد ان هذا نوع من السحر. فالسحر هو بالضبط ان تعتقد انك إذا قمت بحركةٍ ما تنتج مفعولا روحيا كالشفاء. أيّ شيء لا يكون دعاءً منك وتؤمن أنه يُستجاب بالنعمة وحدها هو سحر، وتاليًا مؤذٍ.

نحن عندنا تبريك واحد وهو تبريك الحُلَل الكهنوتية. نقول لله: «بارك هذه الثياب المعدّة لإكرام مجد اسمك القدوس ولجمال وزينة خدام هيكلك المقدس وأسرارك الطاهرة». وننضح هذه الثياب بالماء المقدس ونطلب من أجل الذين يلبسونها حتى يكونوا أهلاً لخدمة الأسرار المقدسة.

وحتى لا يظن الكاهن ان هذه الثياب صارت تحمل «قوة» تقديسية بحدّ نفسها، فإنه يباركها هو قطعةً قطعةَ قبل الخدمة الإلهية، وذلك لأن لها علاقة بشخصه المدعوّ إلى إقامة السر الإلهي.

الكلام الجاري في أوساطنا أن اتركوا الناس على إيمانهم. عندنا أن هذا ليس إيمانا. هو تصديق خرافات. والخرافة من واجبنا أن نحاربها.

ما جاء في العهد الجديد أنْ «آمِنْ بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك». والمعنى ان هذا الذي تؤمن به أي المخلّص هو الذي ينقذك من الخطيئة والمرض. الكلام الآخر: «آمِنْ بالحجر تبرأ» أيضا كلام مرفوض. فما رأينا حجرًا يبرئ. نحن لا تهمّنا حركة القلب نحو أي شيء. تهمنا حركة القلب نحو المسيح. أنْ تصدّق كل شيء يخرّب كيانك الداخلي ويبقيك في الأوهام والأشباح المميتة.

هكذا إذا أُلقيَ قماش حول جسد طفلٍ أو بالغٍ لن يختلف عن أي قماش آخر. الوثنية يمكن ان تتسرب إلى الكنيسة عن طريق عقول السذّج، المتلهّفين للشفاء. ماذا يعني روحيا أن تنذر ابنك لهذا القديس أو ذاك؟ كل منا منذور بالمعمودية لله، وقلبه يتطهر بلا أية وسيلة مادية. ادخُلْ إلى مخدعك (أي إلى قلبك) وصلّ إلى أبيك في الخفية. قلبك منذور للرب. في هذا شفاؤك وفي هذا تعزيتك.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

الحقد/21 أيار 2000 / العدد 21

في عظة الجبل ينقلنا السيد من الخطيئة المحسوسة إلى الأصل الذي تنبع منه، إلى ما نسمّيه الهوى أي الانفعال الداخلي، فيقول مثلا: «سمعتم انه قيل للأولين: لا تقتل، فإن من يقتل يستوجب حكم القضاء. أما أنا فأقول لكم: مَن غضبَ على أخيه استوجبَ حُكْمَ القضاء» (متى 5: 21 و22). يسوع يهمّه القلب، ان ينقيه من الأسباب التي تدنسه. ومما يدنس الإنسان الحقد وهو الاستمرار في الضغينة وتربص الظروف التي تحييها.

الحقد هو الانكماش دون الآخر والتقوقع في النفس الذي يلغي الآخر ذهنيا لكوننا لا نجرؤ ان نبيده جسديا. هو قتل معنوي للآخر الذي تحس انه يضايقك أو يمس بمصالحك وكبريائك. لا نطيقه مختلفا عنا أو مخاصما، وكأن وجوده إلغاء لوجودنا، فلا نعتبر ان له حرية في ان يكون كما يريد ان يكون.

الحقد هوى في النفس يقع فيه ناس من كل المستويات، ناس يحسبون انهم روحانيون وهم في واقعهم غير روحانيين. نوع من التحجر يصيب أعظم الناس. هذا التصلب يدمر كل من يقع فيه لأن الإنسان الذي يغلق نفسه دون إنسان آخر ويقصيه إنما يهدد قلبه ويجففه.

وأدرك خطر هذا الشعور الناسك الكبير القديس يوحنا السلَّمي الذي قال: «الحقد ثمرة الغضب ومرارة محبوبة». والإنسان المتمرمر لا يسعه ان يكون مبدعا، معطاء وخادما بلطفه. الغضوب الجامح يُفني نفسه ويُفني الآخر فلا يحسب لغيره حسابا ولا يقيم له مقاما. خطر الحقد انه يتشرش ويحتاج إلى نعمة من السماء تنزل على القلب كالندى ليطرى.

فإذا تكلم الكتاب عن الله يقول في المزامير انه «طويل الأناة وكثيرة الرحمة. ليس إلى الانقضاء يسخط ولا إلى الدهر يحقد». الرب يؤدب ولا يكره ابنا من أبنائه، أما الذي يغضب كثيرا ويحقد كثيرا فإنه كالمجنون ويحتاج إلى قوة سماوية كبيرة ليتعافى.

أجل في الناس غباوة وسوء نية تجاهنا، وعند بعضهم رفض لنا وقهر. وفي كثرة الأحيان لا يعرفون لماذا يبغضون. ولذلك يقول الكتاب: «بغضَ ظلمٍ أَبغَضوني». لا يروقهم وجهك أو كلامك أو مظهرك أو كلمة قلتها وأوّلوها تأويلا خاطئا وجرحتهم، ولا يعللون لماذا جرحتهم فحزنوا وحوّلوا حزنهم إلى بغض. وكلما صدرت عنك حركة مقتوك وأضافوها إلى ما قلته سابقا وبنوا عليها قصورا وعلالي، وقد تكون أنت طيب القلب ولا تقصد شرا يحل بهم ولا تبتغي ان تجرحهم فيميتوا أنفسهم وليس عليك في ذلك مسؤولية. هم يظلمونك وتتساءل إذا كان عليك ان تختفي من دربهم لئلا يسيئوا إلى أنفسهم في البغض، ولكن إلى أين تذهب إذا كانوا من أهل بيتك أو معارفك أو كانوا زملاء لك؟ هل تسكت كل الوقت لتريحهم، وانى لك، إذ ذاك، ان تؤدي شهادة الحق؟

وتتساءل لماذا لا يحق لكم ان تختلفوا وتبقوا أصدقاء؟ أليس جمال الدنيا بالتنوع؟ وماذا يضيرهم ان تكون موهوبا أكثر منهم، والمواهب الله معطيها وتعود إلى مجده. وليتمجد الله بمن شاء. فهذا له أكثر، وهذا له أقل. وقد تكون أنت قد جاهدت وتعبت كثيرا لتطهر نفسك وتعرف وتفهم، ويكونون قد ظلوا على كسلهم ويريدون ان تكون أنت على الفقر العقلي الذي هم عليه.

فإذا وجدتهم حاسدين، والحسد والحقد توأمان، فصلّ من اجلهم ليزيل الرب عنهم خطيئتهم هذه ويقوموا بالجهد الذي قمت أنت به. اذكر هؤلاء الضعاف في دعائك كل يوم حتى لا تتمرمر أنت، علهم يذوقون طعم المحبة، علهم يفرحون كما تعرف أنت ان تفرح.

لعل الأعجوبة تحدث وينزل عليهم الندى.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

أمّا وقد انقضَت الأعياد/ 14 أيار 2000/ العدد 20

العيد تتركه كما تترك بستان ورد. تشتاق إلى رائحتها بعد ان انقطعت. وتحنّ إلى عودة المواسم بسببٍ من التجليات التي رأيت والجديد الذي ذقت. وما من شك ان الارثوذكسي المؤمن المصلّي يتوق إلى مجيء الصوم ويتحسّر لانقضاء أسبوع الآلام العظيم. اجل، لا تزول المواسم الكبرى، فتأتيك العنصرة في الربيع، ويتعيّن في الصيف غير عيد. ولكن ليس كالفصح وما يهيئ له، فالنفس في تلك الفترة لصيقة بالله، تائبة او تُدغدغها التوبة، ومع ذلك على شيء من الحسرة لأن بعضا منا لم يشارك. ونحزن لكون الكثيرين لم يَرَوا الجمالات التي رأينا ولم يريدوا نفوسهم ضيوفا على الله. يحزنوننا انهم لم يأكلوا من المائدة السرية ولم يدخلوا الخلوة مع العريس الإلهي او هكذا يبدون لأنهم ظلوا خارج الجماعة المجتمعة للكلمة والجسد.

          اما الذين ذاقوا طعم الملكوت وارتشفوا كأس الخلاص فالخوف عليهم بعد انقضاء الموسم أن يَفتُروا لأن الكنيسة لا تُلاحقهم بالزخم الذي لاحَقَتهم به في الصيام الكبير وما جاوره وتبعه. الا انها تُقدّم لهم الغذاء في الآحاد وبعض التذكارات. وحضَّتهم ليصيروا بالغين ويبقوا على إلفة يسوع التي كانوا عليها في المواسم العظيمة. تريدهم الكنيسة ان يتّكلوا على مُعاشَرتهم للإنجيل في بيوتهم وعلى صلاتهم الفردية وألاّ يدعوا التجربة تَطغى عليهم. فحبهم للسيد يُمكّنهم منه. هكذا يفعل المهاجر إلى بلد ليس فيه كنيسة من كنائسنا. يصطحب إنجيلا والسواعي الصغير او اي كتاب صلاة. ويصير الكتاب كنيسته، ويبقى على الأمانة كما يبقى على الأمانة من ودّع زوجته وسافر. ذِكْرُ وجهها يُبقيه على العهد. ووجه يسوع يتابعنا في كل مكان. الراهب القديم الذي كان يغادر ديره طوال مدة الصيام ويعود اليه في أحد الشعانين كان حافظا لبعض الصلوات ولكنه لم يكن يحمل كل الكتب الطقسية ويكتفي بما هو معروف بدعاء اسم يسوع: «ايها الرب يسوع المسيح يا ابن الله ارحمني انا الخاطئ». هذا الدعاء كان يجعل في قلبه حضرة السيد المباركة.

          هناك اذًا الصلاة الفردية الواعية، وهناك الطاعة على ما قاله المخلّص: «مَن أَحبني يحفظ وصاياي». كنيسة الانسان فيه إن كان بعيدا. والعيد فينا اذا انقضى. ما نسمّيه بالعامية «الصلبة» مساء الخميس العظيم هي في القلب بعد ان انحجبت عن العين. فالمؤمن صالب شهواته ويرتقي إلى فوق حيث المسيح جالس في السماويات.

          ويرافق كل هذا المحبة. فهي التي تبقى بعد زوال كل شيء. والمحبة ألاّ تحسد اذا حسدوك، ولا تُقصي عن قلبك ذلك المخلوق الذي يبغضك لأن قلبه غير قادر ان يحتويك. ابذل نفسك دائما هو الفصح ولا تنتظر جزاء ولا شكورا. فهناك من لا تؤثّر فيه المحبة ولكنها تَجْمع جمرًا على رأسه. هذا شأنه اذا أراد أن يبقى قزما. لا تطلب لنفسك امتيازا او معاملة خاصة، وبخاصة لا تشتهِ مكانةً في قلب أحد. ارمِ قلبك في كل القلوب. ما جاء في الإنجيل انهم يرثونه. البهاء الروحي لا يبهر الا المعدّين له. قد يحجم الأقزام. قد تعطي نفسك لإنسان ولكنه هو يؤْثر ان يموت في خطاياه. كفاك ان تبكي عليه وتبكي عنه.

          سِرْ وكأنك دائما في العيد. لأن جمال العيد يهبط عليك ويجعلك دوما انسانا جديدا. مَن ساعَدَك على التوبة كان هو صديقك، ولكن لا يَهَبُكَ توبة إلا ربك. لا تَخفْ الا من القادر ان يرميك في نار جهنم، ولكن إن جعلت المسيح درعك فلا يصل اليك سهم من احد ولا من نفسك. توكل وعش على الرجاء. كن عليه ولو سقط الأكثرون حولك فأنت قادر ان تخلّص نفسك. اما نفس الآخر فجلّ ما تستطيع مِن أجْلها ان تُمهّد لها سبيل الخلاص. سرّها فيها ولا يعرفه الا الله. لا تدنْها لئلا تُدان! اذا مشيت مع الله وكنت في صحراء فإنه واحة لك ترافقك. هكذا يطل عليك دائما وجه يسوع.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

دوام الفصح/ 7 أيار 2000/ العدد 19

يعبّر الذائقون لجمال الصيام عن فرحهم به بقولهم: يا ليته لا ينقضي لأنهم يكونون فيه في إلفة يسوع. في الفصح تمّ اللقاء الكامل بيسوع من حيث اننا ورثنا الحياة الجديدة. ونبقى مُنتشين بهذا الفرح ولا نَقبل ان ينقطع. لذلك أَسّسنا «اسبوع التجديدات» هذا الذي قضيناه بين العيد وأحد توما. وكنا كل يوم نكرر خدمة العيد وكأننا لا نحب ان يحلَّ زمان آخر لا فصح فيه.

          العيد من حيث هو ذكرى لا بد ان ينقضي. نكون قد أخذنا منه تربية ومعاني. نكون قد اختُطفنا إلى الفردوس وعلينا ان نعود إلى هذا العالم في كل تعاريجه وكل صعابه.

          نظلّ اربعين يوما نرتل فيها «المسيح قام» وكأننا نأبى ان نغادر العيد. كيف يترك الإنسان الفردوس. هذا العالم، يقول لنا الأحد الذي نحن فيه اليوم، نحيا فيه بالإيمان بالسيد المنتصر. اجل انه منتصر ولكنه خفي، حي في نفوسنا بالروح القدس. ولذلك كانت انطلاقة المسيح إلى العالم بعد موته وانبعاثه هي العنصرة. هي تفعيل القيامة في المخلَّصين المتعاهدين كلمة يسوع في ما تتطلّبه الأمانة من دقة.

          ماذا يعني ان نكون جددا في دنيا كلها عتيقة؟ الخطيئة عتيقة والمسَمَّون مسيحيين الكثيرون منهم عاشقون هذه الدنيا وزخرفها، ولا يبدو ان شيئا يميّزهم عمن لا يؤمنون بقيامة المسيح. في الرسالة إلى اهل افسس تكلم بولس الرسول على فجور الوثنيين وانغماسهم في كل فاحشة حتى قال: «اما انتم فما هكذا تعلّمتم المسيح»، ورجا ان يُقلعوا عن سيرتهم الاولى ويخلعوا الإنسان القديم ويلبسوا «الانسان الجديد الذي خُلق على صورة الله في البِرّ وقداسة الحق».

          ليس كلام الرسول فقط تمنّيا أو تحريضا على البر، ولكنه في كثير من كلامه يتكلم على المسيحيين على انهم احياء بالبر. «دُفِنّا معه في موته». وفي وضوحها قوله: «من مات بُرِّر من الخطيئة» اي من مات مع المسيح او من التصق بالمسيح المصلوب تحرر من الخطيئة.

          واذا قال رسول الأمم في الرسالة هذه إلى اهل رومية: «احسَبوا أنكم اموات عن الخطيئة (اي مميتين الخطيئة في انفسكم)، أحياء لله في يسوع المسيح». في فكر بولس ان المسيحيين نوع جديد من البشر. ولذلك كان بعض المسيحيين مثل باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم يرجئون معموديتهم إلى ما بعد سن العشرين لقناعتهم الكاملة ان المسيحي لا يجوز ان يخطئ بعد المعمودية. كاتب الرسالة إلى العبرانيين ويوحنا الحبيب تَصوَّر كلاهما ان المؤمن يستطيع ألاّ يخطئ عمدا أو ألاّ يخطئ بما يقوده إلى الموت الروحي.

          هل هذا حلم؟ اضعف الإيمان ان يكون هذا طموحا، طموح ان نخرج من الخطيئة كلما اقترفناها، ألاّ نتعاقد مع وضع خاطئ، ألاّ نَبِيْت في معصية ونرتاح اليها. مَن صادَقَ الخطيئة ليس انسانا فصحيا. وصلاته كاذبة إنْ صلّى. وأعياده باطلة.

          هل عبَرْنا العيد ونحن مصمِّمون على ان نبقى على خطايانا؟ كيف نعمل معا حتى لا يكون مشهد المسيحيين في كنيستنا مشهدا وثنيا اي مشهد ناس ما ذاقوا جمال يسوع؟ بالتأكيد الوثنيون في العهد المسيحي الاول يلحظون ان المسيحيين نوعية جديدة من البشر وقالوها. وكتب المسيحيون عن امور يرتكبها الوثنيون وهم لا يرتكبونها.

          هل هذا صحيح اليوم في العالم، في أنطاكية، في هذه الأبرشية؟

Continue reading
2000, جريدة النهار, مقالات

القتل / السبت في 6 أيار 2000

الحياة التي فينا هبة الله يعطيها ويأخذها وليس لصاحبها حق عليها بحيث لا يجوز له ان ينحر نفسه او يؤذيها وليس لأحد حق على حياة سواه. انت تستلم نفسك وتستلم الآخر من الله ويحيا كما يحيا وعليك وجب ارشاده وافتقاده وخدمته ورفع شأنه لتكون له حياة افضل فتصير انت تاليا جميل النفس. من هنا ان ليس لك حق بإماتته لو شاء منك ذلك لأنه لا يملك ان يضع حدا لعمره وقد سلم اليه وديعة. ومن هنا ان لا مسوغ للاجهاض لأن الام لا تملك جنينها ولا تملك انت مريضك لتجهز عليه مهما اشتد مرضه وليس لك سلطان على جثته. ولا تفكر انت عنه في غيبوبته ولو كاملة ففي هذا انتهاك لسر الوجود. ليس جسدك شيئا لتستعمله كما تشاء. انه بعض من شخصيتك. وليس هو ملكا للحاكم ليضربه ولا ملكا للقاضي ليعدمه، الجسد في حالة الخطاب الانساني او هو مطرح الخطاب فاذا لم تنشأ حالة انسانية بينك وبين الآخر يكون قضاؤك على جسد الاخر احتقارا لانسانيته وقمعا للحوار بينكما.

انت والآخر، انت وجسد الآخر تنموان معا الى فوق. اي ان الله يشدكما هو مع جسديكما اليه ويكون الجامع. فانت دائما في مسيرة الى الاعلى والآخر لن يكون معك الا في توقه الى الاعلى. فاذا لم تنجذبا معا الى الرب تبطل العلاقة الثنائية بينكما. تكون استغلالا او عبودية. اذذاك كان المستعبد والمستعبد كلاهما شيئا من الاشياء. فالعلاقة بين ذات وذات ولا تتحقق هذه الذاتية الا اذا انعطف الله عليها. فالذات في حقيقتها العميقة لا تنشأ الا بانفتاحها على خالقها وتاليا بانعطافها الى المخلوق. لأنها، عند ذاك، لا تقول انا فقط ولكنها تقول “نحن”. في المعية فقط تكتمل الانا. كذلك الجسد في انعتاقه من نفسه ومن عبوديته يصبح ممدودا الى احتضان الآخر واقتباله. وعند حصول هذه الثلاثية الجامعة بين الانا والانت وال”هو” الالهي يكون الانسان كله والناس معا الى ال”هو”. وتنفرط هذه الثلاثية بالقتل.

ومن الواضح اذا الغيت الآخر انك تلغي نفسك في الفعل ذاته وتنكر في الواقع هيمنة الله عليك وعليه. كل خطيئة جحود ولكنها جحود لصفة من صفات الله، لصبره او لرحمته او لحبه. القتل هو جحود لله مطلق لأنه نكران لوجوده باعتباره معطي الحياة. انت انما تلغي الآخر لأنك تعتبر ان واحدا من الناس يعرقل مشروعك او مصالحك او شهواتك او حريتك وما اليها جميعا. انك قررت ان تكون وحدك صاحب القرار وتظن ان قرارك هذا هو الذي يحييك وينفذ كلمتك ويؤمن سيطرتك. القتل في الاخير انعزال لتسقط ايهاماتك على الوجود وتعتبر نفسك الإله. انت في فكرك الواعي او اللاواعي بديل الله. في كل معصية انت بديله بمقدار. هنا انت بديله كليا.

راقني ما شاهدته في آخر فيلم انتج عن جان دارك انها بعد انتصارها على الانكليز في معركة اورليان حزنت على كثرة الدم الذي اهرق في صفوف اعدائها. وعلى اعتقادها ان السماء فوضت اليها خوض الحرب لم تطق كل هذا الهدر. فسّر لها القائد ان ليس من حرب بلا سفك دم. كان منطقها اخر. لست ادخل في هذا الجدل الذي جرى بين عذراء قديسة وقائد واقعي. اني احس دائما بالرهبة اذا تلوت المزمور الخمسين: “نجني من الدماء يا الله”. ليس احد منا بعيدا – ولو في الطاقة – عن تجربة كهذه.

#   #

#

بسبب اهمية الدم ورد في الكنيسة القديمة ان الكاهن الذي يتسبب غير عامد بموت انسان يفصل عن خدمته الكهنوتية فورا. كذلك جاء في القوانين ان الكاهن او الاسقف الذي يصفع انسانا انما يجرد من الكهنوت فورا. علاقة الناس لغة او ما من علاقة. واللغة من اللوغوس الذي تكلم عليه انجيل يوحنا اي الكلمة. الصلة التي بينك وبين الآخر هي هذا الكلمة والا انتفيت ونفيته. هذا يطرح مشكلة المجازر.

ان ينبري قوم ليبيدوا قوما آخرين بسبب من الخوف يعني ان القتلة الخائفين يظنون انهم يثبتون انفسهم بالوجود وحدهم خارج المعايشة وذلك لأن المائتين مختلفون. هابيل يقتله اخوه لأن هابيل كان راعيا وكان قايين (او قابيل في الاسلام) ذا مهنة اخرى. الآخر ليس من بلدك او عرقك او دينك او حزبك. لذلك وجب ان يموت. ولكونه لا يستطيع ان يموت قانونيا تبيده انت بلا محاكمة والمحاكمة حوار. بطريقة ما، كل مجزرة مجزرة باسم الله أكان هذا معبودا في السماء ام معبودا في الارض. كل مذبحة “دينية” بمعنى ان العرقية او العقائدية السياسية دين. والدين بمفهوم ما لا يحتمل الخطأ ولا الخطائين. “ستأتي ساعة يظن كل من يقتلكم انه يقدم عبادة الله” (يوحنا 16: 2). هناك ليتورجية الابادة. هناك ابسال او تحريم باسم الله يستند الى ان الله يفوض الى “المختارين” إماتة من يحسبون انهم ليسوا لهذه الإله. منطق الابادة الجماعية ان الدنيا على لون واحد يجب ان تكون.

هذا يختلف كليا عن منطق الجيش الذي لا يقول انا ذاهب لاقتل. يقول اتمنى – لو كان ذلك ممكنا – ان اعيد الحق الى نصابه، ان ادافع عن وطني بلا قتل واحد وآسف اذا مات العدو. الجيش ليس عنده عدو. عنده خصم موقت ينبغي الا يؤذي والا يحتل لأن في الاحتلال اذى للنفس واذلالا. ولذلك كان القادة الكبار خير من قاد في زمن السلم لكونهم يكرهون الدم. فلسفة الجيش انه يحمل الامة كاملة وهي ليست جوهريا معادية لامة اخرى.الامم الراقية جدا لا تشحن مواطنيها بالبغض. وفي المثال الحربي للامبراطورية البيزنطية، هذه لا تعرف الحرب الهجومية، الجيش فيها درع السلم او قوة رادعة لا تلتمس القهر.

غير هذا منطق الميليشيا لأنها “جيش” فئة. انها لا تحمل القضية العامة. انها ازاء ميليشيا اخرى. والفئة لا قضية لها لأنها قامت تحديدا لتلغي. من هنا ان االحرب الأهلية، اية حرب اهلية كانت دائما معصية. بهذه الفلسفة وجب محاكمة الحرب التي دارت في لبنان. وما لم يتب كل فريق ارتكب مجزرة لا نكون تبنا الى الوطن اي الى الكلية الانسانية التي يحملها. ولا يكون الله غالبا الا اذا اعترف كل فريق للآخر في حضرة الوطن الكلي انه اساء.

في هذا المنطق لا اعرف اسوأ من القول الشائع عندنا: “عفا الله عما مضى”. فلا يغفر الله عنا وليس من طبيعته ان يعفو الا اذا رأى كل منا انه اجرم بالغاء الآخر او بتمني الغاء الآخر.

فالذي غمس يديه بالدم او الذي اشتهى موت الآخر او هجرانه او تهجيره او تحجيمه واحد في خطيئة الالغاء. كل مقتول كائنا ما كان معتقده بريء لانه كان نصيب الله، الله لا يريد احدا ان يقاتل باسمه. هو يعرف ان يميت من شاء. ما من احد وكيل الله في مجال الموت.

#   #

#

من اراد ان يحيي الاخرين يموت هو. لذلك كان المسيح هو المحيي. ان “اسلامه” على الصليب ينسف بالكلية اي لاهوت قتل واي تقديس عسكري لأية ايديولوجية واي تحريم يقود الى العزل واية عقيدة انتقام واي احقاق لحق الله بالقصاص واية دعوة الهية تستخدم السيف. “اردد سيفك الى غمده لأن من اخذ بالسيف بالسيف يؤخذ”. متى 26: 51). لم يفوض الرب الى احد محاكمة احد في هذا المجال وهو وحده يدين سرائر الناس ويدعها حرة في المعصية وحرة في البر وهو لا يفصل بين الصالحين والطالحين ويشرق بشمسه الواحدة عليهم جميعا ويمطر عليهم وينعم على الكل عسى يأخذ كل منا ما قدر له ان يأخذ.

لست ارى امكانا لتربية الانسان على المسالمة ما لم يؤمن بالله. ان لم يكن الله موجودا فأنت اله. ان هذه الموجة المتصاعدة من القتل في كل مكان ما لها من تفسير الا عبارة الانسان لنفسه أكان فردا ام جماعية. طبعا الاحجام عن الجريمة يمكن تأسيسه على خوف العقاب. هذا في مجال العلاقات الفردية. ولكن حيث لا عقاب اي في نطاق الحروب الاثنية والطائفية فما من تعليل معقول الا ان الهك يلغي الإله الآخر واعني بذلك ان قراءتك لهذا الاله المجسم في مجموعتك او المعبر عنه بحركتها يلغي القراءة الاخرى او التجسيم الآخر والحركية الآخرى.

ما سمي المجتمع التعددي ان هو الا ثقافة التنوع اي اعتبار ان ثمة غير قراءة للإله الواحد او ان له اطلالات كثيرة في مجتمع واحد تؤلفه مجموعات صغرى. ما يسمى اليوم التربية على السلام قد يكون ملتبسا كثيرا اذ يكون في بعض المناطق من العالم قبولا للخيانة. لكن الفكرة بحد نفسها وطهارتها تنطلق من ان كل بلد يجب ان يعيش حرا ليتمكن من التعاون. وفي البلد الواحد ان كل مجموعة اثنية او دينية لها الحق في الخطأ وان الخروج من الخطأ هداية من ربك او ثمرة حوار وذلك انك تخطئني واخطئك وان لا مجال للخروج من التأزم الا اذا اقررت انا بدءا بحقك في الحياة لأتمكن من مكالمتك. معنى ذلك ان هذه المعايشة يجب ان تؤسس على شيء غير براغماتي ولست ارى غير الله اساسا.

مات الله فينا فصرنا الله. لذلك اجزنا كل شيء. هل يعود الله؟ اظن ان الانجيل عندما قال: “المجد لله في العلى وعلى الارض السلام “اراد ان تمجيدك الرب شرط لمحبتك السلام. والسلام اسم من اسماء الله في المسيحية والاسلام. متى يعطينا هو ان نحب هذه الصفة فيه؟

Continue reading