Monthly Archives

October 2002

2002, مقالات, نشرة رعيتي

خطف العروس/ الأحد 27 تشرين الأول 2002 / العدد 43

عندنا عادة قبيحة تُسمّى بالدارج الخطيفة. وهي تذكِّرنا بسبي النساء عند العرب القدامى. طبعا ترافق الفتاة الشاب بإرادتها ويخفيان هذا عن الأهل. ويقول لي الخبثاء ان القضية كلها، في معظم الأحوال، ألاّ يتكبد العروسان نفقات العرس. غير ان القضية في ظاهرها تعني إقصاء الأهل عن حضور الإكليل. وهذا ليس بجميل لأنه مكتوب: «أكرِمْ أباك وأمك».

غير ان ما يبعث إلى الطمأنينة ان الفتاة تبقى عند أنسباء لها حتى يتم الإكليل. ولكن الصعوبة عندنا تكمن في ان شروط الزواج احيانا لا تكون مكتملة مثلا من جهة السن. ويكون مكتب الزواج في المطرانية في حرج ولاسيما أنّ قِصَر السن عند اي من العروسين يُعرّض الزواج الى الإبطال.

ويخفى عن الشابين ان القران لا ينحصر بالعروسين بمعنى انه يهم العائلتين وانه نوع من الحلف بينهما. لماذا لا نواجه الأهل بالحقيقة والجهد حتى نصل الى إقناعهما؟

هذه فرصة لأقول ان الزواج في وجهه العملي والاجتماعي لا ينبغي ان يقطع العلاقة مع الأهل. يبقى الإنسان مربوطا بذويه ويحنّ اليهم ويظلّون اساسيين في حياته العاطفية. كذلك اهل زوجته يصبحون اصدقاء له ويحتضنونه. العاطفة نحو الزوجة تكتمل بمحبة ذويها.

غير ان الصعوبة الكبرى التي تعترضنا ان الصبية قد تكون على دِين آخر. وفي فهمنا للزواج والقانون الكنسي انه يتم بين ارثوذكسي وارثوذكسية وانه، توسعا، قد يتم بين طرف ارثوذكسي وطرف مسيحي آخر. نحن لا نفهم الزواج على انه امر يجري على مستوى الطبيعة ولكنه سر إلهي بمعنى ان الحضرة الإلهية ساكنة هذه العائلة الناشئة، وهذا لا يتم الا اذا آمن الطرفان بالمسيح وربّيا اولادهما على محبته.

ما يصدم وحدة الإيمان ان يأتي رجل بفتاة غير مسيحية ويطلب اليك ان تعمِّدها فورا وكأنه لا يعلم قول السيد: «مَن آمنَ واعتمدَ يخلص». هذه قاعدة البالغين. فإذا عمّدْنا الأطفال على دين والدهم لا يحق لنا ان نعمِّد شخصا لا يؤمن بما نؤمن به. ولذلك لا بد له ان يخضع لتعليم لا يمكن ان ينتهي بيومين أو ثلاثة. ولو بقي سنة او سنوات ليتعلم، لا شيء يدلُّك مسبقا على انه سيقبل المسيح سيدا ومخلّصا. الماء المرشوش على انسان بلا إيمان لا يجعله مسيحيا. ونكون نحن مدنِّسين للسر الإلهي وغير مقدّرين عظمة السر.

لذلك لا يمكننا الا ان نرفض خطيفة كهذه. من هنا ان من يشعر بتعلّق بفتاة غير مسيحية يجب ان يمتنع عن الخطيفة ويتصل بكاهن رعيته حتى يقوم بواجب الإرشاد لهذه الفتاة التي اذا آمنت واتمت شرط المعمودية وهو الإيمان نستطيع اجراء المقتضى.

ينبغي ان يفهم الكل اننا بسبب ايماننا بيسوع لا نقدر ان نلين ونعمّد امرأة لا نعرف عن ايمانها شيئا.

Continue reading
2002, مقالات, نشرة رعيتي

هيكل الله/ الأحد 20 تشرين الأول 2002 / العدد 42

«أنتم هيكل الله الحي». هنا الكلام على ان الجماعة هي بعضها مع بعض هيكل الله. والمكان الذي نصلي فيه سُمّي كنيسة لأن كنيسة الله أي الجماعة تجتمع فيه. البشر أولا، والحجر يقدَّس بالمؤمنين الذين فيه لكونهم يشتركون بالذبيحة. هؤلاء يحييهم الله الحي بكلمته وبجسد المسيح.

استشهد بولس بكلام من سفر اللاويين ومن سفر حزقيال بتصرف قليل وجعل الكلام هكذا: «سأسكن فيهم وأَسيرُ بينهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبا». يبني على هذا ويقول ان وعد الله هذا لشعبه انه سيسكن فيهم ويسير بينهم انما يتحقق الآن في الشعب الذي جدده المسيح بدمه. ومع ان الرب وعد بني إسرائيل انه سيسكن فيهم، ما سمّاهم مرة هيكله. كلمة هيكل في العهد القديم كانت تطلق على هيكل سليمان. يزول هذا الهيكل بعد ان صار ابن الله بشرا. وبحلول الروح القدس تصبح الكنيسة هيكل الله.

ما يلفت في كلام الرسول ان الله ساكن فينا بالروح القدس، وهذا ما سيوضحه بولس بقوله اننا –نحن بناء الله- ننمو «هيكلا مقدسا في الرب… مسكنا لله في الروح» (أفسس 2: 21). هيكل الله في كماله يتحقق في الملكوت: «هوذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم» (رؤيا 21: 3). وفي الرؤية الأخيرة عندما شاهد يوحنا الحبيب أورشليم المقدسة النازلة من السماء قال: «ولم أرَ فيها هيكلا لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها» (رؤيا 21: 22). نحن الآن لسنا هيكلا ولن نصير هيكلا كاملا الا لأن الله ومسيحه يجعلاننا كذلك. لن نصير هيكلا الا إذا توحدنا بالثالوث المقدس.

فإذا كنا كذلك اليوم بالنعمة وعلى رجاء اكتمالها فينا، يطلب الرسول ان نعتزل الخطيئة وألا نمسّ نجسا. هذا هو شرط ان يكون لنا أبا ونكون له بنين وبنات غير مولودين من رغبة بشرية فينا بل مولودون من الروح القدس. ولذلك يحرضنا الرسول الإلهي ان «نطهر أنفسنا من كل أدناس الجسد والروح ونكمل القداسة بخوف الله».

في مواضع عديدة، يسمي بولس النجاسات التي يتندس بها الخاطئ. وقد عرفتها الوصايا القديمة والعظة على الجبل. وقد تناولها الآباء النساك واحدة واحدة وبيّنوا أضرارها، ويكفي الإنسان ان يفحص قلبه ليرى فيه أصول الخطايا، وهذه الأصول نسميها الأهواء وكشف لنا آباؤنا السبل إلى مكافحتها حتى نتزين بالفضائل المضادة لها ويتمكن كل منا بعد الجهاد ان يصير هيكلا لله ويذوق به الفرح والهدوء. وقد سمينا الآباء الذين قاموا بجهاد عظيم مستميت «هدوئيين» أي أهل الصفاء، الذين لا تعكر نفوسهم معصية. فالحرب الروحية ليس فيها استرخاء ومزاح. أنها جهاد حتى الدم. وليس لنا ان نترك أنفسنا بلا رقابة وبلا يقظة لحسابنا ان المسيح أحلّنا بموته في بر مقيم. المسيح لا يخلصك بلا تعاونك معه. لذلك دعانا إلى حمل الصليب كل منا بمفرده. الخلاص عمل شاق مصحوب بفرح الانتصار على الخطيئة. في صلوات الصوم نقول: «ارحمني أنا الواقع»، وفي كل خدمة نردد: «يا رب ارحم». أجل نحن أمام مشهد قيامة المسيح. ولكن هذه القيامة يجب ان تتحقق فينا، فإن لم نطهر أنفسنا كل يوم تصير القيامة شيئا لاغيا.

ان الخلاص الذي نلناه بيسوع لن يكتمل فينا الا في اليوم الأخير. فرحك هو بالمسيح الذي يحل فيك. المسيح اليوم وفي قلبك هو معك لتحيا بكلمته وتنقذها بالطاعة.

Continue reading
2002, مقالات, نشرة رعيتي

أرملة ناين/ الأحد 6 تشرين الاول 2002 / العدد 40

ناين بلدة صغيرة نظن انها كانت واقعة على بعد بضعة كيلومترات من الناصرة. جنازة اي واقع الموت يقابلها واقع الحياة الجديدة التي هي يسوع. الحياة تقابل الموت، تدمره. الميت شاب، وفي الشرق يتفجعون كثيرا اذا غاب شاب، ولاسيما اذا كان وحيدا. يتحسرون على امه الأرملة التي صارت وحدها كليا.

         لا يقول الكتاب ان السيد حزن على فقدان هذا الشاب بل يقول انه تحنن على أمه. وإنجيل لوقا تلعب فيه المرأة دورا كبيرا. انه انجيل مريمي بامتياز وانجيل المحسنات الى يسوع وحركته. والنساء في حاجة الى رقة خاصة من المعلم في مجتمع ذكوري. يا ليت رجالنا اتخذوا من السيد حنانه وكانوا جميعا اقل غلظة مع نسائهم.

         عند هذا المشهد دنا الرب ولمس النعش. الله هو الذي يبادر الى شفائك والى الغفران والتذكير والتوعية. يسوع هو دائما في حالة الدنو اليك ولاسيما اذا كنت في مأزق او وقعت او نسيته لأنه هو الراعي الذي  يسعى وراء الخروف الضال في جبال هذا الوجود ووعورة طرقه.

         “لمس النعش”. يدنو يسوع حتى يوحد نفسه بك. هذا ما فرضه التجسد. فبعد ان أقام في جسدنا اخذ يقترب ويقترب حتى لا يدعنا في هذا الوهم الوثني ان الآلهة تسكن أعالي الجبال او الوهم اليهودي انه يظهر بالرعد وبالحروب. المسيح هو معنا في حالة ملامسة.

         يقول للشاب لك اقول قم فاستوى الميت. هنا اراد الإنجيلي ان يوضح ان ليسوع قوة الله وانه يحكم الموت مباشرة كما يحكم الحياة. عند هذا استوى الميت (جلس) وبدأ يتكلم. امر يسوع نافذ للفور.

         ثمرة الأعجوبة كانت ان شهد الشعب للمسيح. “لقد قام فينا نبي عظيم”. هذا ما كان يمكن ان يصلوا اليه. لم يكن باستطاعتهم قبل قيامة المسيح ان يقولوا فيه شيئا آخر. فالإيمان بالسيد كان ايمانا متدرجا كان يكفيهم في هذه الحقبة ان يعتبروا المسيح نبيا عظيما وقد شاء التدبير الإلهي ان ينتقل بالناس آنذاك من بشرية يسوع المنظورة الى ألوهيته. ولعل الطريقة التربوية في الكنيسة وعند القارئين للإنجيل ان تصعد بالمؤمنين مما يقرأنوها من خطب الرب وعجائبه الى رؤيته إلها.

         اذا أنت أسلمت ليسوع في حال الضيق وبعد تعب روحي وبعد ان عرفته “نورا من نور” وإلها حقا من إله حق فاعرف انه قريب منك حتى الالتصاق وانه يكفيك لمسة من روحه حتى تقوم وتنتعش. واعرف انك عزيز كالوحيد وان السيد لا يهملك كما يهملك البشر. المسيح يتعذب ان لم تعد لأنه يريد خلاصك، وخلاصك بالعودة اليه.

         لاحظوا ان الذين شاهدوا ابن الأرملة يقوم مجدوا الله. نحن اذا اخذنا منه نعمة علينا ان نشكر اولا لنعيد كل عطاء الى ينبوعه، وهذا الشكر نفسه يكتمل بالتسبيح الذي هو الدعاء الأكبر اذ نكون، اذ ذاك، كالملائكة محيطين بالعرش الإلهي. صلاة الطلب وصلاة الشكر إشارتان على اننا لا نزال في هذا العالم. صلاة التمجيد او التسبيح تدل اننا انتقلنا الى وجه الآب.

Continue reading
2002, جريدة النهار, مقالات

علمانية وطوائف وبلد / السبت 5 تشرين الأول 2002

لم يرَ المثقفون اللبنانيون خروجا من أزمة الطائفية – كائنا ما كان مداها- إلا إلغاء الطائفية السياسية والسبب الذي يدلون به هو ان الطائفية بكل معانيها وامدائها هي العلة. إنها مسلّمة لم يناقشها احد. ما من شك في ان ثمة ذلا لمن كان غير ماروني ان يكتب عليه إلى الأبد أن رئاسة الجمهورية باب موصد أمامه ولمن كان غير سني انه لا يستطيع أن يتبوأ رئاسة الحكومة وهكذا دواليك إلى آخر وظيفة في الدولة. واللبنانيون تسحرهم الدولة وهي مركز همومهم ومكان العدل أو الظلم وهي عندهم ما يفسد المجتمع المدني أو يرقيه. وابتلاع الدولة للمجتمع ليس رؤية الشعوب التي بلغت في الحضارة مبلغا اكبر.

            في الحقيقة إن العلمانية تغطي عند أهل الغرب مفهوم فصل الدولة عن المؤسسة الدينية ولعل هذا الوصف غير ما يعبر عنه بكلمة فصل الدين عن الدولة لأن الشرقي لا يحتمل أن يوضع الإيمان في معزل عن الشأن العام. وما من شك أن عبارة “فصل الكنيسة عن الدولة” عبارة فرنسية من مطلع القرن العشرين ومعناها ألا تمنح الكنيسة الكاثوليكية مواقع في الشأن العام. المنطلق التاريخي للعلمانية الفرنسية لا علاقة له بتاريخنا. وتاريخنا السياسي العربي-الإسلامي لا يرى هذه الإشكالية.

            غير ان الفكر الغربي، بعامة، تجاوز مجرد الـ laïcité بمعنى الحكم المدني البحت ليقول بالـ sécularisme التي أُعرّبها الدهرية واللفظة قائمة في تاريخ الفكر الإسلامي وفي المنطوق الأوربي وفي شيء من التبسيط المفردة تعني ألا يكون الله وشؤونه مرجعا للفكر ولا للسياسة. وهذا ما رفضه الدستور اللبناني المتحدث عن الإجلال لله. وما من شك أن هذه الدهرية صائرة الآن دين الغرب الأوربي بالتوازي مع استمرار الكنائس والأديان الأخرى التي تتوغل في الغرب. ولكن بعضا من المفكرين يأخذون الآن على هذه الدهرية (بمعنى أن كل شيء هو من هذا الدهر الذي نعيش فيه بلا إله)، يأخذون عليها انها صائرة دينا بحد نفسها وانها آخذة بالاهتزاز ككل عقيدة.          ويبدو لي انه ليس عندنا دراسة استعرضت كل التيارات العلمانية القائمة في البلد. ولكن مما لا شك فيه ان ثمة تيارا ولو غير منتشر لا يحصر نفسه في فصل الدين عن الدولة حسب تعبير انطون سعادة ولكنه ينحو النحو الغربي العام في عزل الروحانيات عن كل عمل مجتمعي أو عن بنية الدولة. بكلام ابسط يتمنطق هؤلاء المثقفون وكأنه لا اعتبار لوجود اديان بمعنى انهم يحبون وضعها في الخزانة أو على الرف وهذا – في الظاهرة النفسية – إلغاء. الصحيح ان بعض اللبنانيين لا يؤمنون الا بهذا الدهر ولا يهمهم شأن الدهر الآتي. استبعدوا السماء فلا يختلفون عليها في حين ان كل الموضوع هو اذا ما كانت تبقى الأرض سمأوية كما يريدها المؤمنون ام تبقى ارضا على كثافة ماديتها.

***

            هذه أمور لا يمكن هندستها ما لم نشبعها درسا ونعرف ماذا نريد في الحقيقة من أفهومة العلمنة. انا لا اعتقد انه بسبب من التأزم الحالي ينبغي ان نكتفي بالقول ان الأزمات الطائفية تضطرنا إلى إرجاء الموضوع. ففي الأزمات نجبه امور الحياة ولو اختلفنا.

            غير ان التدرج قد يتم باتباعنا الطائف فيكون عندنا مجلس نواب غير طائفي ومجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف وبعض الهيئات الأخرى. ولكني لا اذكر ان الشارع حدد العلاقة بين المجلسين. في دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة – وقد عايشته – كان مجلس الشيوخ يعيد النظر في القوانين. لنتخذ الطائف مختبر فكر ونشرّع. لماذا لا نحاول الخروج من الأزمة – في البنية القانونية للبلد – بالإسراع في إنشاء مجلس الشيوخ بحيث تحس الطوائف انها متقابلة ومتلاقية على مستوى راقٍ ولا تشعر بأنها شطبت من الوجود السياسي بمجلس نواب وطني التركيبة؟

            غير ان ما جاء في الدستور الجديد يجعلنا أمام تساؤلات عدة لا بد من الإجابة عنها بقوانين سياسية أهمها قانون الانتخاب لأن هذا هو الذي يعطي المواطنين طمأنينة. فإذا قلنا على سبيل المثال أننا نريد لبنان دائرة واحدة لن يعتقد لبناني واحد انه من الإمكان ان يأتي النواب مناصفة في وثيقة الوفاق الوطني. هل تلغى ورقة الناخب إن لم يضع أسماء المرشحين على هذا الأساس؟ هناك حيتان سياسية – وأقولها بالمعنى المهذب والمحب – قد يتحكمون بهذه الدائرة الواحدة فيأتي معظم النواب من لون ديني واحد وينفرط البلد. وليس ما يضمن لي ان هذه الحماقة لا ترتكب.            ليس المجال هنا لأدافع عن الدائرة الصغرى وأريد بذلك اصغر دائرة ممكنة لأن النائب المنبثق عن هذه الدائرة هو وحده الذي يمثل تمثيلا حقيقيا ناخبيه. يجب ان نخلص من هذا القول الهزلي القائل بأن هذا النظام يقوي الطائفية كأن الطائفية لا تنتهي عندنا الا يوم الانتخاب اذا وجد نواب من مختلف الطوائف على لائحة واحدة. النائب ينبثق من مكان راهن، محسوس يحمل شعور ناخبين يعرفون من ينتخبون. واذا اجتمع هؤلاء في الندوة البرلمانية يعرفون انهم يمثلون كل الشعب اللبناني ويعملون له دون إهمالهم المنطقة الصغيرة التي أتت بهم إلى المجلس. عكس ذلك إذا أحس سكان الدائرة الصغرى ان نائبهم يشعر بشعورهم ويهتم لمعضلاتهم المحلية يكونون اكثر اندفاعا نحو المجلس كله. اما ان يلحظ اللبنانيون بأن الشيعي يأتي بالمسيحي والماروني بالأرثوذكسي وان المسيحي يأتي بالدرزي على نظام المحافظة أو ما كان اكبر منها فهذا عينا ما يفرق.

***

            بكلام بسيط ما من ضربة ممكنة للطائفية الا اذا درس معا مسألة مجلس الشيوخ وقانون الانتخاب الذي لا يشعر فيه احد انه مقصي. لن نهرب من هذا المشهد ان هناك عقدة في الطوائف مرتبطة بقانون الانتخاب وعقدة اخرى مرتبطة بالوظائف الحكومية. هنا اقولها صارما: الإدارة يجب فصلها الكامل عن الأديان ولكن هذا يتطلب إحياء المؤسسات التي تختار اهل الكفاءة بناء على مسابقات على ان تبتر يد النائب أو الوزير الذي يتدخل بالإدارة.

            لو وصلنا إلى اعظم توازن ممكن بين الطوائف على صعيد الدولة لا يعني هذا اننا ادركنا وحدة وطنية لأن ما ينبغي ان نتوخاه هو ان نزيل الخوف بيننا اي ان نحب لغيرنا ما نحبه لأنفسنا وان نفرح لنمو الغير وقوته. هل يمكن ان ننقل الصراع على الحكم بين الطوائف الكبيرة النافذة ونجعله في فئات سياسية كالأحزاب والقوى الضاغطة؟ حتى الآن لم نستطع على مستوى العيش الحضاري الواحد بعد إقرار اللاطائفية. جميل ان نرى انفسنا جماعات دينية متقاربة ثقافيا حتى التوحد أو شبه التوحد ومنصهرة في العيش ولا سيما في الاقتصاد. ليس من التخلف ان نشعر اننا نتكامل عيشا من حيث اننا مجموعات دينية مختلفة، تتكامل مواهبها وتراثاتها وتتناضح وتتمايز. ما نسميه تعددا كلمة فارغة اذا عنينا بها التراكم أو التلامس المجتمعي. ما نبتغيه هو التداخل الصميمي بحيث يحافظ كا منا على خصوصيته المشروعة ويلقى الآخر من حيث انه آخر. الآخرية شرط التلاقي.

            الإمبراطورية العثمانية شاءتنا مللا بمعنى انها اعترفت روحيا وقانونيا بذاتية كل ملة. هذا لم يكن خطأ من حيث المبدأ. وفي منتصف القرن التاسع عشر اعترفت بنا مواطنين متساوين. هي لم تكن على غرار أوربا دولة-امة Etat-nation ولم يكن للسلطنة قومية. وبعد ان اخترع مسيحيو لبنان فكرة العروبة صارت كل ملة دويلة ذات حلم عربي اي قوميتها منتشرة خارج الحدود التي وضعها الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لم ننشئ إمبراطورية عربية ولا أنشأنا في الحقيقة الدولة-الأمة أو امة في حدود الدولة. كانت السلطنة تحتضن الطوائف وتغطيها. ثم نشأت دولة لبنان الكبير فلم تكن إمبراطورية ولم تصبح الدولة قوية بحيث تعمل كجسم إمبراطوري يحمي المجموعات الدينية حقا. أخذت كل ملة تحاول الحفاظ على نفسها ولم تستطع وظنت ان الدولة قادرة ان تحضن الجميع بالتساوي ولكنها لم تقدر ان تفعل. السؤال الآن هو هل ان دولة لبنان الكبير راغبة في ان تتكون من طوائف تتلامس وتتداخل ولكنها راغبة في تكوين دولة مضمونها الحقيقي علماني لتتمكن من عدم تسليط طائفة على أخرى؟ امة طوائف متعاونة في ظل كفاءة الأشخاص ضمن دولة يأتي بها المواطنون المؤلفون مجتمعا مدنيا لا يتنكر للخصوصيات الدينية.

            هذا الجمع بين الطوائف لا تريد احداها ان تكون دويلة وبنية حكم عصري لا يبدو لي شيئا مصطنعا ويبدو قادرا على النفاذ. ولكن ذلك يقتضي منا حركة وجدانية عامة اسمها اهتداء احدنا إلى الآخر. اجل دولة مؤسسات ولكن المؤسسة بحد نفسها ليست الخلاص. نحن في حاجة إلى توبة تاريخية، توبة الواحد إلى وجه الآخر. مؤسسات يحميها القانون ولكن تنعشها المحبة بآن.

Continue reading