لم يرَ المثقفون اللبنانيون خروجا من أزمة الطائفية – كائنا ما كان مداها- إلا إلغاء الطائفية السياسية والسبب الذي يدلون به هو ان الطائفية بكل معانيها وامدائها هي العلة. إنها مسلّمة لم يناقشها احد. ما من شك في ان ثمة ذلا لمن كان غير ماروني ان يكتب عليه إلى الأبد أن رئاسة الجمهورية باب موصد أمامه ولمن كان غير سني انه لا يستطيع أن يتبوأ رئاسة الحكومة وهكذا دواليك إلى آخر وظيفة في الدولة. واللبنانيون تسحرهم الدولة وهي مركز همومهم ومكان العدل أو الظلم وهي عندهم ما يفسد المجتمع المدني أو يرقيه. وابتلاع الدولة للمجتمع ليس رؤية الشعوب التي بلغت في الحضارة مبلغا اكبر.
في الحقيقة إن العلمانية تغطي عند أهل الغرب مفهوم فصل الدولة عن المؤسسة الدينية ولعل هذا الوصف غير ما يعبر عنه بكلمة فصل الدين عن الدولة لأن الشرقي لا يحتمل أن يوضع الإيمان في معزل عن الشأن العام. وما من شك أن عبارة “فصل الكنيسة عن الدولة” عبارة فرنسية من مطلع القرن العشرين ومعناها ألا تمنح الكنيسة الكاثوليكية مواقع في الشأن العام. المنطلق التاريخي للعلمانية الفرنسية لا علاقة له بتاريخنا. وتاريخنا السياسي العربي-الإسلامي لا يرى هذه الإشكالية.
غير ان الفكر الغربي، بعامة، تجاوز مجرد الـ laïcité بمعنى الحكم المدني البحت ليقول بالـ sécularisme التي أُعرّبها الدهرية واللفظة قائمة في تاريخ الفكر الإسلامي وفي المنطوق الأوربي وفي شيء من التبسيط المفردة تعني ألا يكون الله وشؤونه مرجعا للفكر ولا للسياسة. وهذا ما رفضه الدستور اللبناني المتحدث عن الإجلال لله. وما من شك أن هذه الدهرية صائرة الآن دين الغرب الأوربي بالتوازي مع استمرار الكنائس والأديان الأخرى التي تتوغل في الغرب. ولكن بعضا من المفكرين يأخذون الآن على هذه الدهرية (بمعنى أن كل شيء هو من هذا الدهر الذي نعيش فيه بلا إله)، يأخذون عليها انها صائرة دينا بحد نفسها وانها آخذة بالاهتزاز ككل عقيدة. ويبدو لي انه ليس عندنا دراسة استعرضت كل التيارات العلمانية القائمة في البلد. ولكن مما لا شك فيه ان ثمة تيارا ولو غير منتشر لا يحصر نفسه في فصل الدين عن الدولة حسب تعبير انطون سعادة ولكنه ينحو النحو الغربي العام في عزل الروحانيات عن كل عمل مجتمعي أو عن بنية الدولة. بكلام ابسط يتمنطق هؤلاء المثقفون وكأنه لا اعتبار لوجود اديان بمعنى انهم يحبون وضعها في الخزانة أو على الرف وهذا – في الظاهرة النفسية – إلغاء. الصحيح ان بعض اللبنانيين لا يؤمنون الا بهذا الدهر ولا يهمهم شأن الدهر الآتي. استبعدوا السماء فلا يختلفون عليها في حين ان كل الموضوع هو اذا ما كانت تبقى الأرض سمأوية كما يريدها المؤمنون ام تبقى ارضا على كثافة ماديتها.
***
هذه أمور لا يمكن هندستها ما لم نشبعها درسا ونعرف ماذا نريد في الحقيقة من أفهومة العلمنة. انا لا اعتقد انه بسبب من التأزم الحالي ينبغي ان نكتفي بالقول ان الأزمات الطائفية تضطرنا إلى إرجاء الموضوع. ففي الأزمات نجبه امور الحياة ولو اختلفنا.
غير ان التدرج قد يتم باتباعنا الطائف فيكون عندنا مجلس نواب غير طائفي ومجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف وبعض الهيئات الأخرى. ولكني لا اذكر ان الشارع حدد العلاقة بين المجلسين. في دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة – وقد عايشته – كان مجلس الشيوخ يعيد النظر في القوانين. لنتخذ الطائف مختبر فكر ونشرّع. لماذا لا نحاول الخروج من الأزمة – في البنية القانونية للبلد – بالإسراع في إنشاء مجلس الشيوخ بحيث تحس الطوائف انها متقابلة ومتلاقية على مستوى راقٍ ولا تشعر بأنها شطبت من الوجود السياسي بمجلس نواب وطني التركيبة؟
غير ان ما جاء في الدستور الجديد يجعلنا أمام تساؤلات عدة لا بد من الإجابة عنها بقوانين سياسية أهمها قانون الانتخاب لأن هذا هو الذي يعطي المواطنين طمأنينة. فإذا قلنا على سبيل المثال أننا نريد لبنان دائرة واحدة لن يعتقد لبناني واحد انه من الإمكان ان يأتي النواب مناصفة في وثيقة الوفاق الوطني. هل تلغى ورقة الناخب إن لم يضع أسماء المرشحين على هذا الأساس؟ هناك حيتان سياسية – وأقولها بالمعنى المهذب والمحب – قد يتحكمون بهذه الدائرة الواحدة فيأتي معظم النواب من لون ديني واحد وينفرط البلد. وليس ما يضمن لي ان هذه الحماقة لا ترتكب. ليس المجال هنا لأدافع عن الدائرة الصغرى وأريد بذلك اصغر دائرة ممكنة لأن النائب المنبثق عن هذه الدائرة هو وحده الذي يمثل تمثيلا حقيقيا ناخبيه. يجب ان نخلص من هذا القول الهزلي القائل بأن هذا النظام يقوي الطائفية كأن الطائفية لا تنتهي عندنا الا يوم الانتخاب اذا وجد نواب من مختلف الطوائف على لائحة واحدة. النائب ينبثق من مكان راهن، محسوس يحمل شعور ناخبين يعرفون من ينتخبون. واذا اجتمع هؤلاء في الندوة البرلمانية يعرفون انهم يمثلون كل الشعب اللبناني ويعملون له دون إهمالهم المنطقة الصغيرة التي أتت بهم إلى المجلس. عكس ذلك إذا أحس سكان الدائرة الصغرى ان نائبهم يشعر بشعورهم ويهتم لمعضلاتهم المحلية يكونون اكثر اندفاعا نحو المجلس كله. اما ان يلحظ اللبنانيون بأن الشيعي يأتي بالمسيحي والماروني بالأرثوذكسي وان المسيحي يأتي بالدرزي على نظام المحافظة أو ما كان اكبر منها فهذا عينا ما يفرق.
***
بكلام بسيط ما من ضربة ممكنة للطائفية الا اذا درس معا مسألة مجلس الشيوخ وقانون الانتخاب الذي لا يشعر فيه احد انه مقصي. لن نهرب من هذا المشهد ان هناك عقدة في الطوائف مرتبطة بقانون الانتخاب وعقدة اخرى مرتبطة بالوظائف الحكومية. هنا اقولها صارما: الإدارة يجب فصلها الكامل عن الأديان ولكن هذا يتطلب إحياء المؤسسات التي تختار اهل الكفاءة بناء على مسابقات على ان تبتر يد النائب أو الوزير الذي يتدخل بالإدارة.
لو وصلنا إلى اعظم توازن ممكن بين الطوائف على صعيد الدولة لا يعني هذا اننا ادركنا وحدة وطنية لأن ما ينبغي ان نتوخاه هو ان نزيل الخوف بيننا اي ان نحب لغيرنا ما نحبه لأنفسنا وان نفرح لنمو الغير وقوته. هل يمكن ان ننقل الصراع على الحكم بين الطوائف الكبيرة النافذة ونجعله في فئات سياسية كالأحزاب والقوى الضاغطة؟ حتى الآن لم نستطع على مستوى العيش الحضاري الواحد بعد إقرار اللاطائفية. جميل ان نرى انفسنا جماعات دينية متقاربة ثقافيا حتى التوحد أو شبه التوحد ومنصهرة في العيش ولا سيما في الاقتصاد. ليس من التخلف ان نشعر اننا نتكامل عيشا من حيث اننا مجموعات دينية مختلفة، تتكامل مواهبها وتراثاتها وتتناضح وتتمايز. ما نسميه تعددا كلمة فارغة اذا عنينا بها التراكم أو التلامس المجتمعي. ما نبتغيه هو التداخل الصميمي بحيث يحافظ كا منا على خصوصيته المشروعة ويلقى الآخر من حيث انه آخر. الآخرية شرط التلاقي.
الإمبراطورية العثمانية شاءتنا مللا بمعنى انها اعترفت روحيا وقانونيا بذاتية كل ملة. هذا لم يكن خطأ من حيث المبدأ. وفي منتصف القرن التاسع عشر اعترفت بنا مواطنين متساوين. هي لم تكن على غرار أوربا دولة-امة Etat-nation ولم يكن للسلطنة قومية. وبعد ان اخترع مسيحيو لبنان فكرة العروبة صارت كل ملة دويلة ذات حلم عربي اي قوميتها منتشرة خارج الحدود التي وضعها الحلفاء بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. لم ننشئ إمبراطورية عربية ولا أنشأنا في الحقيقة الدولة-الأمة أو امة في حدود الدولة. كانت السلطنة تحتضن الطوائف وتغطيها. ثم نشأت دولة لبنان الكبير فلم تكن إمبراطورية ولم تصبح الدولة قوية بحيث تعمل كجسم إمبراطوري يحمي المجموعات الدينية حقا. أخذت كل ملة تحاول الحفاظ على نفسها ولم تستطع وظنت ان الدولة قادرة ان تحضن الجميع بالتساوي ولكنها لم تقدر ان تفعل. السؤال الآن هو هل ان دولة لبنان الكبير راغبة في ان تتكون من طوائف تتلامس وتتداخل ولكنها راغبة في تكوين دولة مضمونها الحقيقي علماني لتتمكن من عدم تسليط طائفة على أخرى؟ امة طوائف متعاونة في ظل كفاءة الأشخاص ضمن دولة يأتي بها المواطنون المؤلفون مجتمعا مدنيا لا يتنكر للخصوصيات الدينية.
هذا الجمع بين الطوائف لا تريد احداها ان تكون دويلة وبنية حكم عصري لا يبدو لي شيئا مصطنعا ويبدو قادرا على النفاذ. ولكن ذلك يقتضي منا حركة وجدانية عامة اسمها اهتداء احدنا إلى الآخر. اجل دولة مؤسسات ولكن المؤسسة بحد نفسها ليست الخلاص. نحن في حاجة إلى توبة تاريخية، توبة الواحد إلى وجه الآخر. مؤسسات يحميها القانون ولكن تنعشها المحبة بآن.
Continue reading