مِنْ أجلِ مَن؟ / الأحد 27 آب 1967
أرجو ألاَّ يكونَ مسيحيُّو بلادي بعيدِين عنِ المسيح. المسيحُ في طوافٍ دائم، خارجٌ للقاء الآخرين. لا يعتزل، لا يخاف، لا يتفرَّجُ. إنَّه مرميٌّ في العالم، مشلوحٌ على خشبة، يحيا عليها قصَّةَ حبّ. بالدمِ التزمَ الأرضَ ومَن عليها. بثَّ فيها روحًا يقيمُها منَ الموت، ولم يرتفع عنِ الدنيا إلاَّ ليكون، منْ أجل الدنيا، في دوامِ انعطافٍ ودوامِ رحمة.
وإذا خرجَ الإنسانُ، فإنَّما يخرجُ منْ نفسِه، منْ عزلتِها، منْ خوفها. يخرج بالحبّ «الحقّ الحقّ أقولُ لكم: إنْ لم تقعْ حبَّةُ الحنطة في الأرض وتمتْ، فهي تبقى وحدَها». هنا، يصرِّحُ الكتابُ أنَّ الفديةَ ممكنةٌ فقط بالموت، وأنَّ الذي يبقى وحدَه متلذِّذًا نفسه فإنَّما هو، بالنهاية، مهلكُها ومفصول عنِ الشراكةِ الكبرى التي تكوِّنُه. وهذه هي المفارقة أنَّ الإنسانَ يتكوَّن بالتغرُّب عن نفسِهِ، بنسيانِها. «مَنْ يُبغض نفسَه في هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبديَّة».
المسيحيُّون أيضًا، جماعةً، ممدودون. يعانقون الكون. ولكنّ الوهم في أنْ ينضمَّ الإنسانُ إلى الإنسانيَّة قبل أنْ ينضمَّ الى جارِهِ. ملازمةُ القريب مقياس الصدق والعمق في المحبَّة. وأقرب الناس إلينا الجريح، الطريح على الإهمال، المكبوب على طرقات التاريخ بغضًا مجانيًّا. قلقي على مسيحيِّي بلدي أنَّهم لا يقلقون. يضطربون إذا هم لم ينبطحوا في «حقوقِهم» وهُدِّدَ شعبهم، إنْ بدا في الأفق شبح انتقاص لما ورثوه من جاه. أرجو ألاَّ يكونوا في وادٍ ومسيحُهم في وادٍ، ألاَّ يكونوا ناسَ الأخذ والقبض والمطالبة والانطواء، والمخلّص يحمل كلَّ حقيقة العطاء. رجائي ألاَّ يكونَ هاجسُهم صيفًا طيّبًا واكتنازَ صحَّةٍ ودرهم مع توهُّم نور وإشعاع. إنَّ هذا لا يكون اقتفاءً لآثار السيّد، ذهابًا إلى الآخرِين.
أين هذا من كلامِ الله لإبراهيم: «انطلقْ منْ أرضكَ وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك»؟ وبعد هذا الكلام، يأتي الوعد: «وأنا أَجعلُكَ أُمَّةً كبيرة وأُبارك وأُعظِّمُ اسمَكَ». كلُّ ذلك لأنَّك انطلقت. لأنَّكَ، إنْ تربَّعتَ في مدينتِكَ أور حيث المتعةُ والجمال والمدنيَّة المترفة، فلن يفيد إيمانُكَ أحدًا. ولكنْ، إنْ نجوتَ ممَّا أنتَ عليه منْ أطايبِ الحياة وعبرتَ إلى حيث أُريدُكَ أنْ تكون، «فأنا ترسٌ لكَ، وأنا أَجركُ العظيم». وعلى هذا «أخرجه الله إلى خارج، وقال له أنظر إلى السماء…» تلك التي يأتي منها كلُّ عونٍ، ويفترض التطلّع إليها أنَّنا نلنا الحريَّة منَ العزلة والخوف.
إبراهيم لم يسألْ عن أخلاق الذين نُودي لينطلقَ إليهم. لم يبحث عن راحتِهِ. كان عالمـًا بأنَّ مَن سار أمام ربِّه، باستقامة وتواضع، إنَّما يبلغُ ربَّه. هذا المسلكُ لا نغامر فيه إلاَّ بالحياة، ولكنَّا لا نغامرُ فيه بالموت. عندنا ضمانة الحبَّة منَ الحنطة التي، إذا ماتتْ، لا تبقى، بتاتًا، وحدها. عندنا الوعدُ بأنَّها، إذا ماتت، تأتي بثمرٍ كثير.
منْ أجلِ مَن يجب أنْ يُهلكَ نصارى لبنان أنفسَهم؟ السؤال يعود بنا إلى سؤالٍ أسبق: مَن هو قريبي؟ عن هذا أجابَ يسوعُ، وقال: «كان إنسانٌ منحدرًا منْ أورشليم إلى أريحا فوقع بين لصوصٍ فعرَّوه وجرَّحوه وتركوه بين حيٍّ وميت». ما يزال الجريحُ هناك، ليس على كلّ طرقات الدنيا، لكنْ على الدروب التي داستْها، في جوارنا، أقدامٌ كافرة. ليس علينا أنْ نغادرَ لبنان، لنرى المأساة، المأساة تطوِّق لبنان. علينا فقط أنْ نتحرَّر منْ روحيَّة الصحّة الجيِّدة، من الوجل التاريخيّ، وقد أدركنا أيامًا وكأنّها ما بعد التاريخ. لقد هجمَ الوحشُ على فلسطين ومزَّقها إِرَبًا إِرَبًا كما مزَّق الناصريَّ قديمًا. والعالمُ سجدَ للوحش، ويقول: «مَن هو مثل الوحش. مَن يستطيعُ أنْ يحاربَه» (رؤيا 13: 4).
هذه هي تجربةُ العالم اليوم. المؤمنُ بالمسيح لا يستطيعُ أنْ يردّها ردًّا كلاميًّا. لقد شاء الله، بحكمتِه الأزليَّة، أنْ يجعلَ العربَ، وحدهم، أعداء الوحش الرؤياويّ. إنَّ مصارعتَهم ليست ضدَّ دمٍ ولحمٍ، بل ضدَّ المسيح الدجَّال. في هذه المرحلة المطلّة على ما بعد الزمن، تبدو اسرائيل وجهًا من وجوه المسيح الدجّال. ولذا، كانت نصرة العرب مناصرة للمسيح. وكان لقاؤهم إيمانًا وبرًّا وتأهُّبًا للسماء.
أجل، قضيَّةُ العرب قضيَّةٌ سياسيَّة، ولكنَّها ليست كذلك وحسب. هي أمرٌ إنسانيّ، أمرُ المظلومِين والمجرَّحِين منْ كلِّ صوب. غير أنَّها ليست كذلك فقط. شأنُ العرب، اليوم، هو شأنُ المسيح في محاربتِه وحشَ الرؤيا. العربُ، اليوم، هم تماسّ التاريخ لما بعد التاريخ. العرب، اليوم، بابُنا إلى المطلَق.
Continue reading