Category

1995

1995, مقالات, نشرة رعيتي

التابعون/ الأحد 17 كانون الأول 1995 / العدد 51

    عندنا كلمة بالعامية وهي الأزلام وفي الفصحى هي التابعون. هؤلاء نجد امثالهم في اوساطنا لا يملكون شجاعة الرأي ولا شك ان انسياقهم وراء زعيم ناتج من حاجتهم الى حماية عندما لا تحمي الدولة احدا. وهذا ورثناه من العصر العثماني في مرحلته الأخيرة عندما كان الأعيان والوجهاء يمثلون ملة الروم. كان لهذا مبرراته لأن الوجهاء يحملون آلام الشعب ويدافعون عنه ويدفعون بدل العسكرية اذا كان من الضروري ان يعفى المواطن منها.

     مع عصر الانتداب صار لنا وجهاء بلا مسؤولية. يتمتعون بالجاه الذي يأتيهم من القبائل ولا يقدمون للناس خدمة. لهم على الناس حقوق وليس عليهم واجبات نحو الفقير والضعيف. في العصر التركي قام نوع من التكافل بين الوجيه وابن الشعب، لكل منهما دوره، واما الآن فأنت تابع ولا تأتيك منفعة. وان كان من حماية فهي للزعران لأنهم يستطيعون ان يخالفوا القانون وما من معاقب.

    الوجيه الجديد يريدك ان تصمت وانت تصمت لتشتري عدم الاعتداء عليك. شرط بقائك في الحياة الذل. ويذلونك حتى يوهموك ان علاقتك بهم مبدأ. كنت اسمع في الماضي القريب: “انا مع فلان، هذا مبدئي”. وفي قراآتي المبدأ هو معتقد تبدأ منه وتبني عليه حياتك واذا جمعتك مع الزعيم عقيدة فهي مبدأك ومبدؤه. واما ان تكون معه بسبب من مبدأ فهذا ما لم أدركه بعد. من امثال هذه: كان والدي مع والده او نحن بيت واحد وما الى ذلك من عواطف مائعة فهمت منها بعد طول تأمل ان هذا الضعيف ليس له كيان في ذاته وانه لا يرى نفسه إلا محسوبا على فلان. ومعنى كلمة “محسوب” عندنا عميق اذ يعني انه يقام حساب لعائلتين او بعض العائلات في القرية او المنطقة وانها تتوزع الرعايا. وفي المجال المدني عندنا كان يقال: رعايا السلطان، لكونه يملك الأرض ومن عليها. والمستضعَفون يحتمون وهذا يوفر عليهم عناء تكوين شخصية وتفكير في امور المدينة او ما كان دونها، وينتج ناس بارزون وناس “مزمومون” لأن البروز فيه ضرورة الموقف وضرورة الدفاع عنه وان تقول احيانا لا. البروز يعني ان توافق اذا أمرك ضميرك بذلك وان تخالف اذا امرك ضميرك بذلك، ولكن الصمت لا خطر فيه ويسمح لك ان تتكئ في متكأ وثير وان تحتسي فنجان قهوة مع المَرْضيّ عنهم وان ينال ابنك وظيفة يستحقها او لا يستحقها. ألا نموت، ألا نجوع، أن نوجد ظاهريا في عيني الزعيم، ان نقتات من الفتات المتساقط من موائده قد يكون خير ما يصبو اليه الأكثرون في هذا البلد.

    كيف نوفق هذا مع وقوفنا في الكنيسة في حضرة الرب الذي نقول له احيانا نعم ونقول له لا؟ المسيح يترك التسعة والتسعين الخروف ويفتش عن الخروف الضال في الجبال ليرعاه، المسيح القائل لآخر انسان: انت حبيبي. كيف نفهم ان يكون كل منا شيئا عظيما في الكنيسة ويرضى ان يكون تافها في الدنيا؟ لا احد يثق بأنه موجود هو ولو مات كل زعماء الأرض.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

المحبة لا تظن السوء/ الأحد 10 كانون الأول 1995 / العدد 50

    “المحبة لا تظن السوء” (1كورنثوس 13: 5). الانسان ظنون لأنه في حالة الخوف. لا يريد ان يرى عيوبه لئلا يضطر على التحرر منها. يظن الشر في غيره. هذا يريحه ويعذره. عيناه تخترقان قلب الآخر، هذا الذي لا يعرفه الا الله. الناس نحن نكوّن عنهم صورة فينا. اما الصورة الصحيحة فتقتضي منا رحمة، والانسان قلّما يرحم الانسان. والحركة التي يريدها الله في قلوبنا ان نثق اولاً بالآخرين. فالثقة ترفعهم وتزيدهم ثقة. كل امرئ يستحق الثقة. انها تقوّيه، تصلحه. نمتد بها اليه وهو يمتد الى الله.

    كذلك “المحبة تتأنى وتَرْفُق”. انها تفرض الصبر، والصبر يفترض ان نتعلم الإصغاء الى الآخرين، ان نفهمهم كما هم، ان نبصر الخير الذي فيهم ولو صرخوا او شتموا. لعلهم يصرخون لكونهم متألمين، لكونهم ظنوا السوء. هم ايضا يروننا على الصورة التي اصطنعوها عنا. لا احد يعرف احدا الا من خلال الصورة التي رسمها عنه، وفي هذا إجحاف في كثرة من الأحوال. ويقول الرسول ان المحبة تصبر على كل شيء، على كل أذى. فبعض الناس يريد ان يوجعنا ويريد ان يدوسنا وان يرانا تحت وطأة الدوس. مع ذلك نصبر لعلنا ننقذه من المرارة التي في نفسه. هو لا يعرف انه يظلم نفسه فيما هو يظلمنا. لا يعرف انه بذلك يكره نفسه. نعطيه حنانا هو وحده حظه في الخلاص. نرفق به لئلا يكسره قلبه. ولهذا لا نحتد، لا نثأر لأنفسنا. الآخر هو الموجود. ويزداد انوجاده إن نحن رفقنا به. بعد هذا يصير انسانا جديدا.

    الخوف من العزلة يجعلنا نمرمر الناس. نحسب اننا نتكون بهذه المرارة التي نذيقها للآخرين ولا نعرف ان العزلة لا نخرج منها الا اذا استدعينا الروح القدس ليسكن في النفس ويلطف بها. المنطلق الى كل ذلك ان الناس ضعفاء. والضعيف يحتاج الى قوي يعزيه فيدعمه. عند ذاك لا نسأله عما يفعل ضدنا او ضد نفسه. المهم ان يخرج من حزنه. لعل محبتنا تساعده ان يخرج من الأنا التي انغلق فيها. والمواجهة عسيرة، ولكن لا بد من ان يخلع عن ذاته الأطمار التي يظن انها تستره. وعيه هتك للستر الزائف. موجع ان يرى الانسان نفسه عاريا فقد يرى في نفسه عيوبا كثيرة ولكن هذا بدء البرء. أن يبرأ هذا هو همنا. ولكن لن نساعده بالقسوة، طراوتنا تجعله يدرك اننا نوشّحه بثوب من نور. يفرح اذا اكتشف انه قادر ان يتسربل حلة منيرة. نفرح نحن بدورنا بالحق الذي نزل عليه وغيّره.

    كل انسان قادر ان يصير عظيما في عيني الله. ولكنه لا يدرك هذه العظمة الا اذا جعله صبرنا والتأني ورفْقنا به يرى نفسه محبوبا، ليس من انسان محكوما الى الأبد ان يتسكع في الظلمة. ليس احد مضيئا ابدا او معتما ابدا. المضيء يجب ايضا تعزيته ودعمه لئلا يملّ فضيلته، لئلا يحس يوما ان فضيلته جفاف. والمظلم يجب ان نقول له انه يمكنه ان ينقذ نفسه من الغرق ان قَبِل خلاص الله له.

    هذه هي قصة العمر. الناس منقِذون للناس. الذين إلههم فيه وشعروا بحضرته قادرون ان يذيقوا الآخرين حلاوة الله واذ  بهم يطفرون كالأيائل ويتعجبون. الصبو الى الكمال ممكن والإصرار على الكمال مطلب للنفس التائقة الجمال. كل نفس جميلة في الأصل لأن الله الذي فيها جمالها وكل نفس قادرة أن تتحرك الى الرب لأنه هو محرّكها. ولكن هذا يقتضي ان تنفتح، ان تشتهي استقبال الخير والتلقّح بالنعمة. اذ ذاك، هي جديدة كالفجر.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

الرداء والقميص/ الأحد 26 تشرين الثاني 1995/ العدد 48

    “من انتَزع منك رداءك فلا تمنعْه قميصك” (لوقا 6: 29). كلام السيد هنا قاله “في مكان منبسط”، في سهل، وله ما يقابله في العظة على الجبل كما أوردها متى. نقف عند لوقا لنعرف فكر المسيح في عمقه. جاء هذا الكلام بعد قول الرب: “احبوا اعداءكم، وأحسنوا الى مبغضِكم”. ومِن بغْض عدوِّك لك ان ينتزع منك رداءك. والرداء هو الثوب الفوقاني المستعمل غطاء في الليل كالجبة الشرقية او العباءة. وفيه قالت الشريعة الموسوية: “اذا استرهنت رداء قريبك، فعند مغيب الشمس رده اليه، لأنه ستره الوحيد وكساء جلده، ففيم ينام” (خروج 22: 25). ويؤكد هذا سفر تثنية الاشتراع القائل انك ان رددت الى الإنسان رداءه يباركك. مع هذا ينوجد ناس اشرار لا يردونه. ونعرف اهمية الرداء عند العرب الذين ليس عندهم إحرام صوف ولكنهم يغطون انفسهم بالعباءة.

    فاذا انتزع منك رداءك يبقى لك قميصك وهو الثوب الذي يُلبس على اللحم وبدونه انت عارٍ. مع ذلك يقول السيد: “من انتزع منك رداءك فلا تمنعه قميصك” فتكون مجردا من كل شيء. يتبع هذا قول المخلّص: “كل من سألك فأعطه”.

    ان تكون بلا سلاح امام الآخرين سوى سلاح حبك لهم. هم يستضعفونك فيجردونك ويظنون انهم جعلوك حقا بلا مأمن. انت تقول لهم: انا لست متمسكا بأي شيء يعتبره كل الناس اساسيا ورمزه في الحضارة التي عاش فيها يسوع العباءة. تقول: لا اريد شيئا انتم تعتبرونه حماية لي من برد الليل وهو عندي ليس بشيء. تقول: تريدون القميص الذي اذا انتزعتموه تجعلونني بلا حماية إطلاقا، في العراء الكامل، سخرية للناس. اسخروا ما شئتم لا يزد ذلك على قامتكم شبرا واحدا. هذا يضعف طاقتكم على الحب. انا الله قميصي اذ اقول له مع صاحب المزامير: “انت ستر لي”. يسخر عدوك من مبادئك اي من عقلك. هذا لا يزيده كبرا ولا يجعل قناعاته صحيحة. انت حر من الناس لأنك تسكن في قلب الله.

    في بلادنا كلمة تُسْكر جميع الناس وهي كلمة كرامة. انت تثأر لكرامتك لأنك تظن انها للنفس مثل القميص للجسد. إنْ احد انتزعها لا يبقى لك شيء. الحق انك لابس كرامة الله. عدوك يظن انه يطعن في كرامتك. في الحقيقة انه يطعن نفسه. إنْ وضع الله كرامته عليك لا يقدر احد ان يجردك منها. فليسبّ ما شاء وينم قدر ما يشاء. يجعل نفسه في الأذى. لا يطالك. لا يصيبك.

    ان انت ثأرت لما حسبته كرامة لك ماذا تفعل؟ تشتمه. تصرخ في وجهه. تحاول ان تقنعه بكرامتك. هذا دفاع عما تظنه حقا لك. الحقيقة انك عارٍ. أقلّه ان احدا لا يستطيع ان ينتزع منك هذا الغنى العظيم الذي هو عراؤك. انت في الحقيقة لبست ثوب المحبة. سَتَرَك الله بنوره. انت مُضاء. انت اذاً مضِيء.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

احبوا اعداءكم /الأحد 15 تشرين الأول 1995 /العدد 42

الذي يكرهني حسدا او يؤذني يريد مني يسوع ان ارحمه لأن شقاءه الداخلي غلبه وجعله لا يطيقني. ان أرحمه هو ان أسعه لأني وعاء كبَّره المسيح وليس لهذا الذي يكرهني حظ في التحرر من عداوته الا اذا انا احببته وأشعرته اني غافر له وخادم.

    لا يكفي ان اقول: انا لا أبادله العداء. هذا عدم مبالاة به. يهمني ان أنقذه من الجرح الذي جرح به نفسه. هو لا يستطيع ان يجرحني اذا فتحتُ له قلبي أضمّد فيه جراحه. انا اخدمه اولا داخل نفسي، استقبله فيها لأنه في حاجة الى حنان. لذلك بعد ان قال السيد: “احبوا اعداءكم”، قال: “صلوا من اجل مضطهديكم” اي تمنوا لهم كل خير واعملوا ليصيروا الى هذا الخير. القضية ليست فقط ان نغفر ونبقى عند هذا الحد ولكن ان نبادر الى عمل صالح يجعل العدو يتوب ويهنأ في توبته.

    هذه المحبة للأعداء تجعلنا نصير بني الآب الذي في السموات. فإننا اذا اعتبرنا العدو أخا وخبرنا هذا في قلوبنا ندرك اننا ابناء الله. ولهذا يتابع المعلم قوله عن أبيه: “انه يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار، ويُنزل المطر على الأبرار والفجار”.

    معنى هذا ان الله يوحد في قلبه هؤلاء واولئك بالنعمة الواحدة التي يُنزلها عليهم، فاذا هو وحَّدهم فلماذا انتم تفرقون بين الصديق والعدو؟ الله أب وبالتالي انتم إخوة. هكذا تربحون هدوء نفوسكم ويربح من كان لكم خصما هدوء نفسه.

    هذا لا يعني انكم لا تحزنون اذا عاداكم احد من الناس. ولكن حزنكم يؤول الى فرح ان انتم غفرتم. يجوز ان تشفقوا على العدو وان تستغربوا ظلمه لكم. ولكن لا يكفي ان تبقوا عند الشفقة. انها ساكنة. يجب ان تنتقلوا الى فتح قلوبكم ثم ان تحاولوا الاتصال مرة ومرتين وثلاثا، واذا مكّنكم من الحديث اليه فتحدّثوا بكل تواضع. لا تدافعوا كثيرا عن انفسكم ولا تعاتبوا بغضب ولا تعتدُوا. واذا رفض عطاءكم والانفتاح فثابروا على الصلاة من أجله طويلا. اذكروا في الصلاة اسمه. اذكروا اسم يسوع عليه ليباركه تحْفظوا انفسكم من الضغينة. لا بد يوما ان تفتقده الرحمة.

    اذا عاداك انسان افطن انه هو المهم، انه يجب ان ينجو هو. لا تثأر من اجل ما تسميه الكرامة لأن كرامتك الوحيدة هي التي الله معطيك اياها. الانسان يحصل على كرامته ان هو احب.

    لماذا تستطيع ان تغفر؟ لأنك طبيب لكل الناس. والرب جعلك بخاصة طبيبا لمن يعاديك اذ تنشأ بينك وبينه صلة. انت صرت طبيبا له لأنك انت وحدك تعرفه مريضا. يكشف نفسك له اذا ابغضك. وانت لا تهمك نفسك التي حاول جرحها ولم تسقط ولكن همك نفسه المجروحة بالبغض. عداؤه لك فرصة لكي ترد له شره بالخير الذي اودعه المسيح فيك. ليس عندك وعنده -اذا تقبلك- فرح اعظم من هذا.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

الأنا المصلوبة/ الأحد 1 تشرين الأول 1995 / العدد 40

كل روحيتنا تأتي من هذا الصليب الذي تم عليه خلاصنا. هو ليس فقط ايقونة نتبرك بها ولكنه مكان المعاني تتوهج فينا. والواضح ان ربنا تطوع للآلام  ولهذا نختم صلوات اسبوع الآلام بقولنا: “ايها المسيح الهنا الحقيقي يا من أتى الى الآلام الطوعية من اجل خلاصنا”. لا احد ينتزع منه حياته. هو يبذلها عن الخراف. على مثاله المؤمن يبذل حياته. ولهذا قال السيد: “من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. اي ان السير وراء المسيح يفترض انك لا تسير وراء شهوتك ولا تسعى الى مصالح لك غير شرعية وتتجرد من عشق الدنيا ومغرياتها ليكون وجهك الى المسيح.

    بهذا المعنى قال بولس: “قد صُلبتُ مع المسيح، فما انا احيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ” (غلاطية 2: 19). يريد بذلك اني كنت مع السيد وفي قلب السيد عندما صُلب ولذلك نلت الحياة منه. ويقيني قائم على اني “احيا في الايمان بابن الله الذي احبني واسلم نفسه عني”. لكون المسيح معطى لأجلي فأنا بدوري اعطي نفسي له وللآخرين.

    ويتابع الرسول فكره في آخر الرسالة الى اهل غلاطية قائلا: “اما انا فحاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح، وفيه اصبح العالم مصلوبا عندي، واصبحت انا مصلوبا عند العالم” (6: 14). العالم يريد به عالم الخطيئة. فإن كنت انا حيا في المسيح فلا علاقة لي بالخطيئة، انها ميتة بالنسبة الي. وبالمقابل ان كان عالم الخطيئة ذا حقيقة فأنا ليس عندي حقيقة. انفصالي الكامل عن الخطيئة يجعلني مصلوبا مع المسيح وبالتالي كما انتصر المسيح على الشر وهو على الصليب ثم قام فأنا ايضا منتصر على الشر وحر منه.

    الصليب اذًا طريقنا الى الحياة الحقيقية التي هي متعتنا بالمسيح وحصولنا على جمالاته والفضائل. نحن لا نفتخر بالتعذيب وبأداة تعذيب. نعتز بالنصر الذي يعطيه السيد لأحبائه. وعند ذاك ينتقل كل منا من كونه يفرح بخطاياه وعاداته السيئة وتسلطه ومجده الباطل الى ان يكون مسرورا بالمسيح.

    ينتج من هذا اعتقادنا مع بولس انني لا احيا انا بل المسيح يحيا فيّ. كان كياني -قبل معانقتي المصلوب- شهواتي وعزتي وكبريائي. صار كياني فارغا من كل هذا وممتلئا من حضرة المسيح بالروح القدس الذي ينقيني.

    اذا كان المسيح حبيبي فهو يصير شخصيتي. فلست املك شيئا فيما بعد. اتفرغ من كل شيء لأصير مملوك المسيح. اكون قد كفرت بنفسي وتبعت السيد مهما كلفني ذلك من مشقة. هذه المشقة تتحول بدورها الى فرح. استطيع، عند هذا، ان امشي وراء يسوع الى الجلجلة او اكون قد اتخذت الصليب منهجًا لي وسرت -وهو على كتفي- الى القيامة.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

الاقتصاد/ الأحد 17 أيلول 1995 /العدد 38

ان نقتصد من الإنفاق امر يدعو اليه آباؤنا لنتمكن من الإنفاق على الفقراء الآن. الادّخار للقيام بعمل خيري فيما بعد ليس الادخار الذي ينهي عنه الإنجيل. الادخار السليم فيه نسك وفيه محبة. على هذه الصورة يدعونا الله ان نقتصد في كل شيء. في زمان تجتاحنا فيه الصحف لا يسعنا ان نقرأ الكثير منها او ان نصرف وقتا عليها طويلا لأن هذا يمنعنا من مطالعة الكتب وهي اجدى وأعمق لأن فيها ذاكرة الانسانية وفي افضلها تطهر كبير. كذلك ينبغي ان نقتصد من الإعلام المسموع والمرئي لا ان نلغيه كليا ففيه منفعة وفيه خسارة وتبديد وقت طويل. والإعلام كله مبني على توجيه سياسي يأتي من القوى الكبرى ولها فيه منافع، وهي تسعى الى تسخيرنا لهذه المنافع فنكون لها بعد وقت يسير او مديد، ويتسرب هذا الينا ببطء مدروس.

    والقليل من الطعام تقشفا اساسي في المسعى الإنساني وفي تحررنا من وطأة اللذات علينا، وغاية ذلك ان ننصرف الى الله وفقرائه.

    وفي الخط نفسه الاقتصاد من السهرات التي يبدأ فيها العشاء في ساعة من الليل متأخرة. فالمآدب السخية وهي كثيرة في بعض المجتمعات تستغرق بين ثلاث واربع ساعات وليس فيها تواصل حقيقي بين الناس، وتبسط فيها الأزياء للتفاهة والإغراء، وفيها تبديد لوقت ثمين. اجل لا بد من معاشرة الأصدقاء. ولكن في المجتمعات الكبيرة انت لا تلقى اصدقاءك لقاء وجدانيا، وان اردت تبادل الشعور معهم فلا تحتاج الى كل هذا الوقت. ومن الناس من يقضي عدة سهرات في الأسبوع مما لا يفسح في المجال للتبادل الشعوري الحقيقي. لا شك ان في هذه الاجتماعات المتكررة الطويلة هروبا من الحياة الحق وفيها ثرثرة كثيرة وتعرض للنميمة وألوان من الاشتهاء لا يجعل القلب ململما او مركّزا على الصالحات الباقيات.

    هذه السهرات الشاردة تخالف قول الرب: “اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة”. السيد يطلب منا اليقظة واليقظة في اقتصاد وسائل العيش والتعفف عن الانفلاش.

    ومن اهم جوانب التقشف عفة اللسان وهو اقتصاد الكلام والمحافظة على صيت الناس وان نبتعد عن كل ما يؤذي الناس.

    هذا كله يقودنا الى حياة بعيدة عن الترف وعن روحية المجتمع الاستهلاكي. نقتصد في كل شيء لكي نبذل ما عندنا وما في قلوبنا للآخرين. نفتح قلوبنا للرب حتى اذا سكنها يعصمنا من الثرثرة ومن الإسراف ويسودنا الصمت والكلام الحلال والانتباه الى الناس لكي نعطيهم الكلمة الحلوة ومعها الخدمة. واذا هيمن الله علينا ومحبة لا جعجعة فيها يرى الآخرون “اعمالنا الصالحة ويمجدون ابانا الذي في السماوات”.

    مجتمع من المقلّلي الكلام والعظماء في الخدمة هذا هو المجتمع الكنسي الفاضل الذي يُشعر الناس ان المسيح ساكن في وسطنا، حي في ما نقول وحي في ما نعمل.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

النميمة/ الأحد 10 أيلول 1995/ العدد 37

النميمة هي التحدث عن الغير على وجه إشاعة خطيئاتهم والإفساد. هي تزيين الكلام بالكذب وهي خطيئة شائعة تؤذي الانسان الآخر في صيته، والناس يصدقون، وتتشوه عندهم صورة الآخر، وييأسون من الفضيلة اذ يحسبون انها نادرة فلا يتعاملون مع الشخص الذي صارت صورته قبيحة.

هذه خطيئة اللسان التي كتب عنها يعقوب الرسول بقوله: «اذا كان احد لا يزل في كلامه، فهو رجل كامل قادر على إلجام جميع جسده… اللسان عضو صغير ومن شأنه ان يفاخر بالأشياء العظيمة. انظروا ما اصغر النار التي تحرق غابة كبيرة! واللسان نار ايضا وعالم الإثم». ثم يضيف يعقوب ان اللسان يحرق العالم كله ويحترق هو بنار جهنم.

قد يموت احدنا اذا عرف ان الناس باتوا ضده وانهم يثرثرون في مجالسهم في شأن ضعفاته. والثرثار يؤذي نفسه اولا اذ يحيد عن رؤية عيوبه ليقوّمها وينظر الى عيوب الناس ولا يقومها اذا أفشاها. ومن اهم مظاهر العفة عفة اللسان. فاذا نظرت اخاك يخطئ فصلِّ من اجله ولمه بلطف عله يرتدع واحذر ان تسقط انت بالخطيئة التي تنسبها اليه.

ضد هذه الخطيئة قول الله في المزامير: «طوبى لمن سترت خطاياه وغفرت ذنوبه». فاذا كان الرب يستر خطايا الناس ليطلقهم الى التوبة فعلى مثاله انت تمنع لسانك عن ذكر ما ارتكبوه.

قد تظن اذا أفشيت خطأ الآخرين انك غيور على الفضيلة. تكلم انت بفضائل الناس لأن هذا يعزّي. والنميمة تكون كبيرة جدا اذا كانت افتراء. فاذا كان نقل الاخبار الصحيحة الجارحة مؤذيا فبالحري يكون الافتراء قتالا. الافتراء قد يحدر نفس الآخر الى الجحيم. ويحدر نفس المفتري الى الجحيم ما في ذلك ريب.

الموقف الذي لا بد منه هو ألا نصدّق اي شيء يقال عن الآخرين. لا حاجة الى التدقيق. الأفضل ان نتجاهل ما نسمع لئلا يجذبنا هذا الى الفساد. ولكن اذا اضطررنا الى معرفة الواقع فلا بد من التدقيق الشديد. من مثل هذه الحالات انه لا بد ان نعرف كل شيء عمن نوظفه او نعامله. فاذا عرفنا انه مرتكب الشر فنصمت ونتخذ موقفا ولكنا لا ننقل الخبر الرديء. واذا سئلنا عن خطيئة نعرف ان احدا ارتكبها فلا نجيب بشيء الا اذا كان للسائل حق في ان يعرف الحقيقة.

عفة اللسان طريق الى طهارة كبيرة.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

أمنا البارة مريم المصرية/ الأحد 9 نيسان 1995 / العدد 15

في سيرتها التي كتبها القديس صفرونيوس بطريرك اورشليم كانت هذه الفتاة تتعاطى الرذيلة في الاسكندرية في القرن الرابع ثم حجت الى القدس ولكنها تابعت هناك الفجور. فلما ارادت دخول كنيسة القيامة منعتها قوة الهية من ذلك فتأثرت وعمدت الى تغيير حياتها. ولما تابت استطاعت الولوج الى الكنيسة وفي النهار ذاته عبرت الأردن وتوغلت في البرية هناك وعاشت عيشة قاسية لا يحتملها انسان وكانت تصلي وحدها للإله وحده. وفي اواخر عمرها حضر اليها راهب دله الله عليها اسمه زوسيما فاخبرته بحياتها وطلبت اليه ان يحضر اليها جسد الرب وناولها يوم الخميس العظيم في السنة التالية وماتت في اليوم نفسه.

انها قدوة للتائبين المحاربين الهوى بالنسك. نار الخطيئة التي كانت تتأجج فيها صارت نار الحب الإلهي. هدأت العاصفة بالتوبة الصادقة. هذه التي سقطت الى اسفل دركات المعصية ارتفعت الى ذروة القداسة، ولما رأى زوسيما القداسة تطفح منها احنى رأسه حتى الأرض مع كونه كاهنا. لقد محت من نفسها بالجهاد الكبير كل تخيل شرير كان يهاجمها واخذت ترى صورة العفة ولم تشك ان اتكالها على يسوع كان من شأنه ان يحررها من كل طيف للخطيئة لو هاجمها من جديد في برية الأردن حيث عاش جمهور من النساك الكبار.

هذه التي ظهر ضعفها في انها ارادت شيئين متناقضين: الزيارة المقدسة واتباع الشهوة أقامها الله في حضرة المصلوب. كانت قصدت رؤية الصليب الكريم فصلبها حبها ليسوع على صليب غير منظور صار لها مصدر قيامة لها من كل ما علق في ذهنها وقلبها من ذكرى الجسد الجامح. هذه التي انطفأ قلبها بالشرور استعادت الى قلبها ضياء المسيح فاستحقت ان تسمى امنا البارة بمعنى ان سيرتها تلهمنا البر لنصير فيه سكان المجد الإلهي. هذه التي اهملت تفعيل معموديتها بالفضائل جددت عمادها بالدموع. “ومن لا يعتمد بدموعه يكون قد اعتمد فقط بماء” (سمعان اللاهوتي الحديث).

هكذا صارت ايقونة للمسيح حية كما كان في الأحد الماضي القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل ايقونة للسيد. فقبل ان نشاهد المسيح مصلوبا في الأسبوع العظيم المقدس نرى في اواخر الصيام اصحابه مصلوبين هم ايضا من حيث انهم “صلبوا اجسادهم مع الأهواء والشهوات”. كل الصيام صلب روحي للمجاهد الحقيقي والجهاد الأكبر عندنا التوبة اذا كانت تغييرا كليا للحياة التي نقضيها في هذا الدهر.

التوبة هي قبل كل شيء ان نجعل فكرنا موافقا لفكر المسيح، ان نعقل الأشياء كما كان يعقلها. واذا بتنا نفكر مثل الإنجيل نتروض على ان نسلك السلوك الإنجيلي. التوبة ليست مجرد قرار نتخذه بقوة الإرادة. هي قبل كل شيء ان نقتنع بكل ما علمه السيد، ان نحب ما احبه وان نكره ما كرهه. فاذا سكن المسيح في الفكر ينزل بعد ذلك الى القلب فاذا بكل خاطرة عندنا خلجة من خلجات المسيح وهكذا نقدر بنعمته ان نعمل في كل حين ما يرضيه. التوبة هي استقرار الفصح فينا. انها تتطلب جهدا موصولا يكلفنا انفصالا كليا عن كل رأي مخالف لرأي يسوع. الخطيئة تغطي وجه السيد وتحول دون رؤيتنا له. طهارة القلب وبساطته وتواضعه هي حلول الفصح الدائم في كياننا العميق.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

شجرة الحياة /الأحد 26 آذار 1995 /العدد 13

هذا الأحد الثالث من الصوم يدشن اسبوعا نصل فيه بالصيام الى منتصفه. وهذه هي خبرة الصائمين اذا دنا هذا الأسبوع ان بعضا منهم يتعب من الجهاد. فالصوم صعب لأنه يحرم من طيبات الطعام وفيه جدية كبيرة للالتحاق بفضائل الإنجيل، فجاءت الكنيسة لتشدد عزائم الممسكين وتقول لهم -قبل اسبوع الآلام- ان المخلّص مات من اجلهم وانهم مدعوون الا يتهاونوا وان يتابعوا المسيرة بلا ملل ممتلئين من الفرح الذي يعطيه تأملنا سر المسيح في محبته. فجعلْنا في هذا الأحد عيدا نسجد فيه للصليب الكريم ويتم على هذه الصورة: عند الانتهاء من المجدلة الكبرى يطوف الكاهن بصليب موضوع على صينية وسط رياحين او زهور محاطا بثلاث شموع مضاءة ويكون السجود له بعد إقامته مائدة امام الباب الملوكي. ويتوافد المؤمنون ليقبّلوا الصليب المقدس وعندها يناولهم الكاهن زهرة.

    لماذا يوضع الصليب وسط الشموع الثلاث التي ترمز بوضوح الى الأقانيم الإلهية الثلاثة؟

ذلك ان برنامج الصلب وضعه الله منذ الأزل. لقد اراد الرب ان يظهر محبته للانسان بمجيء الابن متجسدًا اليه فالمسيح -كما يقول الكتاب- هو ذبيح قبل انشاء العالم في فكر الثالوث المقدس. واما الزهرة فلكي نشير الى ان من اقتبل اوجاع المسيح وعرفها خلاصا له فإنما تصير فيه مصدر فرح.

    ما نرتله فيما نحن ساجدون هو “لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدسة نمجد” ليتضح لنا ايماننا بأن الصليب طريقنا الى القيامة. فإلى آلامه اشار السيد بقوله: “الآن تمجد ابن الانسان وتمجد الله فيه”، اي ان قوة الله سطعت بآلام المخلص. ان انتصار المسيح على الموت تمّ عند اقتباله الموت، ونحن اذا شاركنا السيد آلامه بإماتة شهواتنا نكون بآن مشاركين اياه ظفره. وهنا نذكر كلام الرسول: “ان كلمة الصليب عند الهالكين جهالة واما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله” (1كورنثوس 1: 18).

    ضد ايماننا هذا موقفٌ لشهود يهوه هو الحماقة عينها عندما يقولون لنا لماذا تكرمون الصليب؟ هل تكرم الوالدة بندقية قُتل بها ابنها؟ جوابنا البسيط عن هذا التشبيه ان الوالدة تكره اداة كانت سببا لفقدها ابنها. نحن، الصليب كان اداة لذبح المسيح، لينتصر المسيح. ألم يقرأ شهود يهوه قول الكتاب: “حاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلاطية 6: 14)؟ هل من كلام اوضح من هذا؟

    ولكوننا نعرف ان محور حياتنا هو هذا الفداء الذي نلناه كاملا عند موت ربنا يسوع المسيح، مددنا تذكار الصليب على كل يوم من ايام الأسبوع الرابع الذي نبدأه اليوم، فتتجدد روحنا بمحبة المصلوب وتأخذنا النعمة الى الأسبوع العظيم، حتى اذا وقفنا امام المصلوب يوم الجمعة المقدس نكون مؤهلين لرؤية السيد الظافر.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

الأحد الثاني من الصوم /الأحد 19 آذار 1995 / العدد 12

أعلنت الكنيسة البيزنطية قداسة غريغوريوس بالاماس اسقف تسالونيكي السنة ال1368 وعيّنت عيده في الأحد الثاني من الصوم وجاء تقديس الرجل بناء على مجمعين عقدا في السنة ال 1341 و 1351 اللذين حددا ان الانسان قابل للتأليه او التأله بمعنى انه يشترك في النعمة الإلهية غير المخلوقة وإن كان لا يساهم في الجوهر الإلهي. الانسان يصير إلها بالنور الإلهي غير الحسي الذي ينسكب عليه اذا ادرك عدم الانفعال وتحرر كليا من الشهوة فبلغ الصفاء. وهذا ممكن في هذه الحياة.

    النفس والجسد معا يشتركان في المسيح في هذا العالم. ضد هذا النزعة الفلسفية اليونانية التي تفرق بين الروح والمادة. هذه الفلسفة قائمة على نظرة ثنائية الى الانسان، الأمر الذي يعطل وحدة الشخصية الانسانية. النظرة الارثوذكسية تقول ان خبرة التقشف او النسك اساسية لرؤية الله. عكسها الحركة العقلانية التي تجنح الى حكمة هذا العالم.

    يصرّ الارثوذكسيون على اننا اذا تطهرنا بالفضيلة نخرج من الأنا، نتجاوزها اذ يجب ان نتخطى المحسوس والمعقول ونغوص على الصلاة ونمتلئ من جمال الروح القدس. فما من معرفة ممكنة لله الا بالتطهر من الهوى. ان المعرفة الحقيقية لا تأتي من الدراسة ولكن الطهارة تميز بين ما هو صالح ونافع وما ليس كذلك.

    ان خطأ الذين حطموا الايقونات وخطأ الذين يؤمنون بالعقل وحده هو انهم جميعا يرون صداما بين الروح والمادة وما علموا ان الروح والمادة صارا معا من بعد تجسد الكلمة الإلهي.

    ان مكانة المادة في الحياة الروحية حملتنا الى تكريم الايقونة وكذلك مكانة الجسد في الحياة الروحية نلمسها في الصوم الذي يقيم النفس والجسد كليهما في المسيح. وهكذا يأتي النسك اعترافا عقائديا عندنا. فالصوم ليس فيه بتر للجسد ولا تعظيم رخيص له فاذا تفلتت رغبات الجسد لا يكون مشدودا الى الروح ولكن إن ضبطناه يصير مكانا للروح القدس. نحن نحافظ على كل وظائف الجسد. قد ننقطع بالإمساك جزئيا ومؤقتا عن الطعام لكي نفهم ان الجسد ليس للجوف ولكن للرب والرب سيبد الجوف ويبقى الجسد في النور. يعيد الينا في القيامة الجسد نفسه الذي كان منا ولكن بلا الوظائف الزائلة التي كانت له على هذه الارض. يجعله نورانيا بسبب النور الذي اقتبلناه بالمعمودية والقرابين الإلهية. ان القربان الذي نكون قد تناولناه هو الذي يبعثنا الى القيامة. “انا الخبز الحي الذي نزل من السماء. من يأكلْ من هذا الخبز يحيَ للأبد” (يوحنا 6: 51).

    هذا يبعدنا عما يقوله اعداؤنا من اننا ضد الجسد. نحن ضد الجسد الذي يعصى الله بالتفلت. كذلك نحن لسنا ضد العقل ولكنا مع العقل الخاضع لكلة الله، الناشئ من كلمة الله. بعدها تأتي كلمة الانسان. نحن لسنا ضد الغرائز ان انضطبت، فقد كفّرنا في القرن الرابع الذين حرّموا الزواج واللحم والخمر. هذه الثلاث الله باركها. نحن ضد الإسراف في كل شيء والإفراط. فاذا اقتبلنا الزواج نقدسه بالطهارة والصلاة والمحبة، بلا هذه كلها يتحول الى متعة والى انانية.

    هذه الرؤية نتربى عليها لأن كل رؤية صالحة تتربى بالاستمرار وتتغذى بقراءة الكلمة. كانت اهمية القديس غريغوريوس بالاماس ان رأى كل ذلك وقال لمثقفي عصره المكتفين بالفلسفة ان هذه لا تفهم شيئا بلا إله. ولذلك لا نخوض نحن جدلا فلسفيا الا من حيث انه قد يساعد على الايمان ولكننا لا نصل الى النور من خلال الفلسفة. المسيحية ليست ايديولوجية تصارع ايديولوجيات. انها حب لله وذوق له وطاعة. نحن المسيحيين لاهوتيون جميعا لا بمعنى اننا حملة شهادات من معاهد لاهوت بل من حيث اننا نتحدث عن الله من خبرتنا له بالرياضات الروحية ومحبتنا للقريب ومراقبة حركة الفكر وحركة الحواس. نحن لا نسلّط ذهنا مجردا على الأفكار التي تُفرض علينا ولكننا نسلّط النور الإلهي فنحكم في كل شيء ولا يحكم فينا احد.

    هذا هو معنى الأحد الثاني من الصوم.

Continue reading