خواطر أوكرانية / السبت 30 أيلول 2006
كانت كييف محجتي. بعد رؤية كييف وتبركي بمناسكها أحسست أن المؤتمر الفلسفي – اللاهوتي الذي انتهيت اليه لم يكن شيئاً ازاء قداسة المدينة وأديرتها المذهّبة القباب. تكلّمت على “الكنيسة والسياسة” من حيث المبدأ وفي التطبيق واستقلال الكنيسة عن شؤون الأرض مع إطلالتها عليها بآن. محاولة لقراءة ارثوذكسيّة لعلاقة المسيحيّة والمسيحيين بالنشاط الوطني مع فحص الصلة بين الاساقفة والكهنة بالعمل الحزبي. كان واضحاً عندي – كما هو في الفكر اللاهوتي الغربي – ان خادم المذبح هو لكل الناس لئلا تتعرض الكنيسة في داخلها للحزازات بين المؤمنين وذلك تأسيسا على ان مدينة الله التائقة الى الملكوت ليست مدينة الناس – وفق التمييز الذي اقامه اوغسطينوس بين المدينتين على رغم تشديدي على ان الكنيسة تدافع عن الوطن والفقراء والمعوقين. غير اني تأكدت – على الصعيد العملي – ان الكنيسة ليست دولة في الدولة وعلى انها ليست حكومة الظل تتدارس ملفات كل الوزارات. كذلك ركزت على أن رؤساء الكنيسة ليس عندهم ذلك العلم السياسي الذي يؤهلهم ليتأملوا بجدارة في أمور الحياة الدنيا.
ألقيت محاضرات كثيرة فيها تنظير مسؤول في موضوعات مختلفة تدور جميعا حول حالة الفكر الأرثوذكسي المعاصر في أوكرانيا واوروبا وذلك من مفكرين من مختلف أنحاء العالم المسيحي. ألقي معظمها باللغة الروسية التي يفهمها ستون في المئة من الشعب الأوكراني. وفي كل ما سمعت في المؤتمر وفي الشارع كانت الروسيّة سائدة مما يدل على أن في أوكرانيا أزمة هوية.
كنت في هذا المؤتمر الذي خصص وقتاً طويلاً لاستقبال كتاب لي موضوع في الفرنسيّة: “نداء الروح” منقولاً الى الروسيّة. تكلم بضعة من المعلّقين على هذا الكتاب قبل أن ننتقل الى حفلة توقيع. لا أخفي أني فرحت – مع محاولة تواضع – بأن الفكر المسيحي الصادر بالعربيّة ينتشر عند المتكلّمين الروسيّة وكنت قد نشرت بهذه اللغة كتابا آخر. أظن ان الحدث فريد لأننا بتنا نحن العرب المسيحيين نعطي الناس فكرنا ولا نكتفي باستهلاك اللاهوت الاوروبي.
• • •
كان مقرنا الدير الكبير (لافرا في اليونانية والسلافية) الذي هو، تاريخياً وجمالياً، قلب كييف. رهبان عديدون وطلاب لاهوت. كنائس على قبابها الكثيرة مكسوة بصفائح ذهب خالص. قباب كثيرة على كنائس صغيرة وكبيرة. كذلك في دير رئيس الملائكة ميخائيل الذي أُعيد بناؤه كاملاً بعد ان دمّره ستالين. لماذا الشرسون يكرهون الجمال؟ في دير نسائي قريب رأيت قوالب سبع قباب تنظر صفائح الذهب عليها فالروس يحبون بهاء الله ويترجمونه فنا. وفي كل معبد ترتيل على تلحينهم تؤديه جوقات متعددة الصوت.
وفي القداس الذي أقمناه بإمامة السيد فيلاريت مطران مينسك ورئيس كنيسة روسيا البيضاء ذات الحكم الداخلي كنا ثلاثة مطارنة مع عدد من الكهنة والشمامسة نرتل بالسلافيّة الكنسية والعربيّة. الأداء دقيق جداً، مدروس جداً. هذا مسرح الهي يخطفك الى حركات السماء التي تقوم بها الملائكة حول العرش الألهي يحيط به الشيوخ الذين يطرحون تيجانهم امام الله كما قيل في سفر الرؤيا.
النصوص عندهم هي اياها التي نستخدمها ولكنا نحذف بعضاً هنا لئلا يتعب المؤمنون. دام القداس ساعتين ونصف ساعة ولم يتعبوا. كلهم وقوف شيوخاً كانوا أم شباناً وأطفالاً ولا كرسي لأحد أو مقعد. شموع وقناديل زيت ولا كهرباء ثم اذا خرج الاسقف من الكنيسة يتجمّع امامه ووراءه وعلى جنباته المؤمنون ليتلمس كل منهم البركة فيضم كل منهم يديه يمناه الى يسراه ويرسم الأسقف أشارة الصليب عليه فيقبل المؤمن يد الأسقف. ولا تستطيع ان تهرب من الجماهير ولا تقبل الا ان تقبل يديك بعد تبركها.
والمدينة جميلة في كثير من احيائها قديمها وحديثها وكثيفة الشجر وليس من صحراء هناك ولا تباد الغابات عندهم. وهذا كله منشور على ضفتي النهر حيث عمد الأمير فلاديمير الشعب الروسي دفعة واحدة في نهاية القرن العاشر.
هم يقولون – ولست أنا أقول – إن روسيا ليس فيها من مضمون الا الإيمان الأرثوذكسي وعندهم انه بالدرجة الاولى صلاة محدودة الى اللانهاية متلوّة أو مرتّلة باللغة القديمة، صلاة إطارها الأيقونات التي يقبلونها كثيراً ويضيئون أمامها الشموع تدل على التهاب قلوبهم، ايقونات تدعوهم الى التوبة اذ يعتبرون أنفسهم خاطئين كثيراً مع انهم شعب يمتاز بالتواضع الجم ومقهوريّة تحملوها عبر أجيال.
لماذا يؤكدون ايمانهم بعد اضطهادات لم يسبق لها مثيل في أي بلد من بلدان المعمور؟ كيف بعد أن لقنوا الإلحاد في المدرسة؟ كنت أتحرّج من طرح السؤال ثم طرحته على صديق عالي الثقافة وفتي. سألته هل حفظتم الأيمان في البيت؟ قال: هذا وارد في بعض احوال. ولكننا اهتدينا الى المسيح بعد ان لمسنا اننا كنا في فراغ. لم نجد في فحصنا لحضارتنا غير هذا المسيح الذي سكن كل فكرنا وكل أدبنا وكل تقاليدنا. نحن عدنا الى الينبوع. ترى هذا الايمان عند مسنين ترعرعوا في ذاك النظام وعند فتيان وفتيات ترعرعوا هم ايضا في ظلّه.
في هذا المناخ زرت كنيسة عظيمة وجدرانياتها والفسيفساء من القرن الحادي عشر والموضع الرسمي كان يقضي على المسؤول ان يصافحني باليد فقط لإظهار الحياد. فالكنيسة الأرثوذكسية لا تتمتّع بشخصية معنويّة فلا تبيع ولا تشتري. غير ان موظفي الآثار دنوا منّي ليتبركوا جهاراً أي ليحنوا قاماتهم ورؤوسهم فأتلو عليهم بالسلافيّة الكنسيّة دعاء التبريك وينصرفوا وكان بعضهم يعلم اني وفدت اليهم من الأراضي المقدّسة ويحسبون أن بركتي مضاعفة لأن يدي أو ثيابي لامست تراب القدس.
وبعد ان باركت كثيراً أحسست أني بوركت وحملت معي مقدسات كييف ولا سيما ان الانجيل حمله منها الرهبان ليبشروا كل بلاد الروسيا المقدسة.
Continue reading