Monthly Archives

September 2006

2006, جريدة النهار, مقالات

خواطر أوكرانية / السبت 30 أيلول 2006

كانت كييف محجتي. بعد رؤية كييف وتبركي بمناسكها أحسست أن المؤتمر الفلسفي – اللاهوتي الذي انتهيت اليه لم يكن شيئاً ازاء قداسة المدينة وأديرتها المذهّبة القباب. تكلّمت على “الكنيسة والسياسة” من حيث المبدأ وفي التطبيق واستقلال الكنيسة عن شؤون الأرض مع إطلالتها عليها بآن. محاولة لقراءة ارثوذكسيّة لعلاقة المسيحيّة والمسيحيين بالنشاط الوطني مع فحص الصلة بين الاساقفة والكهنة بالعمل الحزبي. كان واضحاً عندي – كما هو في الفكر اللاهوتي الغربي – ان خادم المذبح هو لكل الناس لئلا تتعرض الكنيسة في داخلها للحزازات بين المؤمنين وذلك تأسيسا على ان مدينة الله التائقة الى الملكوت ليست مدينة الناس – وفق التمييز الذي اقامه اوغسطينوس بين المدينتين على رغم تشديدي على ان الكنيسة تدافع عن الوطن والفقراء والمعوقين. غير اني تأكدت – على الصعيد العملي – ان الكنيسة ليست دولة في الدولة وعلى انها ليست حكومة الظل تتدارس ملفات كل الوزارات. كذلك ركزت على أن رؤساء الكنيسة ليس عندهم ذلك العلم السياسي الذي يؤهلهم ليتأملوا بجدارة في أمور الحياة الدنيا.

ألقيت محاضرات كثيرة فيها تنظير مسؤول في موضوعات مختلفة تدور جميعا حول حالة الفكر الأرثوذكسي المعاصر في أوكرانيا واوروبا وذلك من مفكرين من مختلف أنحاء العالم المسيحي. ألقي معظمها باللغة الروسية التي يفهمها ستون في المئة من الشعب الأوكراني. وفي كل ما سمعت في المؤتمر وفي الشارع كانت الروسيّة سائدة مما يدل على أن في أوكرانيا أزمة هوية.

كنت في هذا المؤتمر الذي خصص وقتاً طويلاً لاستقبال كتاب لي موضوع في الفرنسيّة: “نداء الروح” منقولاً الى الروسيّة. تكلم بضعة من المعلّقين على هذا الكتاب قبل أن ننتقل الى حفلة توقيع. لا أخفي أني فرحت – مع محاولة تواضع – بأن الفكر المسيحي الصادر بالعربيّة ينتشر عند المتكلّمين الروسيّة وكنت قد نشرت بهذه اللغة كتابا آخر. أظن ان الحدث فريد لأننا بتنا نحن العرب المسيحيين نعطي الناس فكرنا ولا نكتفي باستهلاك اللاهوت الاوروبي.

• • •

كان مقرنا الدير الكبير (لافرا في اليونانية والسلافية) الذي هو، تاريخياً وجمالياً، قلب كييف. رهبان عديدون وطلاب لاهوت. كنائس على قبابها الكثيرة مكسوة بصفائح ذهب خالص. قباب كثيرة على كنائس صغيرة وكبيرة. كذلك في دير رئيس الملائكة ميخائيل الذي أُعيد بناؤه كاملاً بعد ان دمّره ستالين. لماذا الشرسون يكرهون الجمال؟ في دير نسائي قريب رأيت قوالب سبع قباب تنظر صفائح الذهب عليها فالروس يحبون بهاء الله ويترجمونه فنا. وفي كل معبد ترتيل على تلحينهم تؤديه جوقات متعددة الصوت.

وفي القداس الذي أقمناه بإمامة السيد فيلاريت مطران مينسك ورئيس كنيسة روسيا البيضاء ذات الحكم الداخلي كنا ثلاثة مطارنة مع عدد من الكهنة والشمامسة نرتل بالسلافيّة الكنسية والعربيّة. الأداء دقيق جداً، مدروس جداً. هذا مسرح الهي يخطفك الى حركات السماء التي تقوم بها الملائكة حول العرش الألهي يحيط به الشيوخ الذين يطرحون تيجانهم امام الله كما قيل في سفر الرؤيا.

النصوص عندهم هي اياها التي نستخدمها ولكنا نحذف بعضاً هنا لئلا يتعب المؤمنون. دام القداس ساعتين ونصف ساعة ولم يتعبوا. كلهم وقوف شيوخاً كانوا أم شباناً وأطفالاً ولا كرسي لأحد أو مقعد. شموع وقناديل زيت ولا كهرباء ثم اذا خرج الاسقف من الكنيسة يتجمّع امامه ووراءه وعلى جنباته المؤمنون ليتلمس كل منهم البركة فيضم كل منهم يديه يمناه الى يسراه ويرسم الأسقف أشارة الصليب عليه فيقبل المؤمن يد الأسقف. ولا تستطيع ان تهرب من الجماهير ولا تقبل الا ان تقبل يديك بعد تبركها.

والمدينة جميلة في كثير من احيائها قديمها وحديثها وكثيفة الشجر وليس من صحراء هناك ولا تباد الغابات عندهم. وهذا كله منشور على ضفتي النهر حيث عمد الأمير فلاديمير الشعب الروسي دفعة واحدة في نهاية القرن العاشر.

هم يقولون – ولست أنا أقول – إن روسيا ليس فيها من مضمون الا الإيمان الأرثوذكسي وعندهم انه بالدرجة الاولى صلاة محدودة الى اللانهاية متلوّة أو مرتّلة باللغة القديمة، صلاة إطارها الأيقونات التي يقبلونها كثيراً ويضيئون أمامها الشموع تدل على التهاب قلوبهم، ايقونات تدعوهم الى التوبة اذ يعتبرون أنفسهم خاطئين كثيراً مع انهم شعب يمتاز بالتواضع الجم ومقهوريّة تحملوها عبر أجيال.

لماذا يؤكدون ايمانهم بعد اضطهادات لم يسبق لها مثيل في أي بلد من بلدان المعمور؟ كيف بعد أن لقنوا الإلحاد في المدرسة؟ كنت أتحرّج من طرح السؤال ثم طرحته على صديق عالي الثقافة وفتي. سألته هل حفظتم الأيمان في البيت؟ قال: هذا وارد في بعض احوال. ولكننا اهتدينا الى المسيح بعد ان لمسنا اننا كنا في فراغ. لم نجد في فحصنا لحضارتنا غير هذا المسيح الذي سكن كل فكرنا وكل أدبنا وكل تقاليدنا. نحن عدنا الى الينبوع. ترى هذا الايمان عند مسنين ترعرعوا في ذاك النظام وعند فتيان وفتيات ترعرعوا هم ايضا في ظلّه.

في هذا المناخ زرت كنيسة عظيمة وجدرانياتها والفسيفساء من القرن الحادي عشر والموضع الرسمي كان يقضي على المسؤول ان يصافحني باليد فقط لإظهار الحياد. فالكنيسة الأرثوذكسية لا تتمتّع بشخصية معنويّة فلا تبيع ولا تشتري. غير ان موظفي الآثار دنوا منّي ليتبركوا جهاراً أي ليحنوا قاماتهم ورؤوسهم فأتلو عليهم بالسلافيّة الكنسيّة دعاء التبريك وينصرفوا وكان بعضهم يعلم اني وفدت اليهم من الأراضي المقدّسة ويحسبون أن بركتي مضاعفة لأن يدي أو ثيابي لامست تراب القدس.

وبعد ان باركت كثيراً أحسست أني بوركت وحملت معي مقدسات كييف ولا سيما ان الانجيل حمله منها الرهبان ليبشروا كل بلاد الروسيا المقدسة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

من الرسالة / الأحد 24 أيلول 2006 / العدد 39

ما نسميه الرسائل الرعائية اي التي بعث بها بولس الى تلميذيه تيموثاوس وتيطس مركزة، بخاصة، على أمور عمليّة. أقتطف من رسالة اليوم كلمتين: كلمة أولى حيث يقول الرسول: “جميع الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون”. والثانية: “انك منذ الطفوليّة تعرف الكتب المقدسة”.

في الكلمة الأولى من الطبيعي أن نفهم ان المؤمنين بيسوع يضطهدهم الوثنيون او غير المسيحيين. بولس كان يكتب في بيئة وثنيّة كانت تكره المسيحيين لأنهم يعلّمون ضد ما تعلّمه الوثنيّة. ولكن لنا ان نلاحظ ان بعض المسيحيين لا يحبون المسيحيين الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى ويهزأون احيانا بهم. يقولون مثلا: لماذا تذهب الى الكنيسة كثيرا؟ هل تبغي ان تصير كاهنا؟ ثم ما نلاحظه كثيرا ان المتهتك المسيحي يهزأ من المسيحي العفيف احيانا. التقي له اعداء من الخارج ومن الداخل وتقواه تعزيته.

الكلمة الثانية لبولس تتضمّن تهنئة لتيموثاوس لأنه يعرف الكتـب المقدسة منذ طفولتـه ويريـد بها كتب العهد القديم لأن العهد الجديد ما عدا رسائل بولس لم يكن قد دُوِّن بعد. لاحظوا انه يقول له انك تعرف الكتب منذ طفولتك لما صرت متمكّنا من القراءة. الأمر الرئيسي عند بولس ان يمتلئ الولد من الكتاب الإلهي كما هو ولا يكتفي بالتعليم المسيحي المكتوب للأولاد. عندنا اليوم بعض الكتب المصوّرة متعلّقة بالكتاب المقدس في عهديه. هذا عندي لا يكفي اذا بلغ الولد القدرة على قراءة نصوص العدين كما هي لأنّ اي شرح او تبسيط لا يغني عن الكلمة الإلهيّة كما خرجت من فم الله وأوحاها الى الأنبياء قديما والى الرسل من بعد العنصرة.

القراءة المتكرّرة والدائمة تجعل الطفل يحفظ الآيات كما هي وتصقل العقل بالكلمات التي أراد الله أن تكون اساسا لإيماننا ولمعرفتنا العقيدة ولتطهيرنا من الخطايا. فإذا أخطأ الانسان وتذكر ما قرأ في طفولته وبعد طفولته فهذا ينقّيه من الأغلاط التي ارتكبها. طبعا في الكتاب المقدّس مواضع صعب فهمها في العهدين القديم والجديد وهناك حاجة الى تفسير والى مساعدة من الكهنة او المعلمين ولكن هناك مواضع سهل فهمها. فاتخاذ الكتاب مباشرة امر نبدأ به ثم نطلب التفسير.

وبعد ما ذكرناه في التوصية الثانية لبولس قوله عن الكتب المقدسة انها تُصيّر قارئها “حكيما للخلاص بالإيمان بالمسيح يسوع”.

تذكرون ان الشماس او الكاهن في الدورة الصغيرة عندما يكون حاملا الانجيل ويصل الى الباب الملوكي يرفع الانجيل ويقول: “الحكمة، لننتصب” اي اني حامل كتاب الحكمة فاستقوا انتم هذه الحكمة بقراءته. وفي القداس وغيره من الخِدَم تُقرأ مقاطع يوم الأحد، واذا قمنا بالقداس كل يوم نقرأ مقطعا آخر. ولكن الشيء العملي ان نطالع هذا الكتاب في بيوتنا كل يوم في وقت محدد ونصغي الى ما يقوله الله لنا لأنه يخاطب قلوبنا ويتلقّى القارئ ما يحرك قلبه. وقد يفوته المعنى احيانا ولكن في قراءة ثانية وثالثة ينكشف المعنى. الله يوحي المعنى متى شاء. المهم في هذا ان نفهم ان الله خيرُ مَن تكلّم عن نفسه. فإذا شئـت ان تعرفـه كما هو فاقـرأ ما قاله عـن نفسـه وعن علاقته معنا، وكلما قوي إيمانك بالمسيح يسوع يتعمّق فهمك. واذا ازداد فهمك يقوى إخلاصك ليسـوع اي تـنـحـت نفسـك كـما يـريـدها السيّد ان تـكـون ويتقولب قلبك كما يشاء الرب ان يكون. ولكن هذا يتطلّب مطالعة دائمة لئلا تقع في الكسل فتتعوّد على انك لست بحاجة الى الكلمة الإلهيّة. ابتلع هذا الكتاب كما أوصى الله حزقيال، فتصير انت كتابا جديدا وضع المسيح فيه فكره.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

التربية مشروعًا للسلام / السبت 23 أيلول 2006

أما وقد حل السلام على رجاء أن يبقى لن أتطرّق إلى كل مشروعاته وسبله وكل مكوّناته. أن تحاول ألا تُميت وألا يجذبك التذابح بين “شعوبنا” فهذا لعمري في بلدنا الذبيح أمر لا يعلوه أمر. وشدّني إلى هذا التأمّل كوننا دنونا من دخول المدارس التي طالما تخبطت في سعيها إلى الإنسان الكامل.  عرفت جانبا منه ولم تعرف كل الجوانب أو كانت تلقي دروسًا من البرنامج الرسمي غير متطلّعة إلى النور الذي يجب أن يسطع على وجه كل تلميذ. أي هو ذلك النور أو كيف تتضافر العلوم لتصبح تربية؟ ما معنى أو ما مقوّمات الإنسان اللبناني الذي طاقته المدرسة الرسميّة باعتبارها الجامعة لعناصر من كل الشرائح المجتمعيّة.

قبل فحص كل ذلك قلوبنا إلى أولادنا الذين يلتحقون بمدارسهم فيما ينتهي أيلول أو يقبل تشرين مجروحة نفوسهم بسمات الحرب ومرتجاهم بناء لبنان جديد. وصغارهم لم يتعلّموا السياسة ولكن يحلمون بأنّ يسهموا في إرساء بلد على قواعد الحق والحب ويشعرون بأنهم عاملون ذلك على قدر ما يستوعبون كتبهم وما يقول لهم المرشدون. يزيّن لهم أنّ منعة البلد تقوم على المعرفة وإن كبرنا يأتي من أصالة الفكر ومن الجدّة في العمل. تخطوا اذًا بسبب من الآلام مجرّد الدراسة للنجاح والحصول على الشهادة في المرحلة الأخيرة. لامسوا اذًا أفهومة التربية. كيف تتكوّن الشخصيّة؟ ما الأساسيّات؟ ما دور العقل وما دور القلب؟ ألا نبلغ النضج بهما كليهما. وإذا تكلمت على النضج أفلا يعني ذلك أن أحدا يقطفنا؟ ألعلّه هو الربّ الذي يستلطفنا فيعطينا بعضا مما عنده او بعضا مما فيه.

ما من شك أن كل من تحدّث عن تربية إنما يتحدّث عن نمو أي عن نمو إلى نقطة معيّنة نحن منشدون إليها بحكم التراث الذي جاء منه بلدنا وقد اخترنا ذلك التراث بعد أن أدركنا أن فضل الله علينا أنه خلقنا فيه لنستمتع بجماله ونزيده جمالا ونخدم الإنسان فيه.

***

المشكلة الكبرى أن أولادنا معظمهم يتعلّم في مدارس خاصة عائلاتهم على شيء من اليسر. أنا أعرف منها المدارس المسيحيّة من حيث إني تخرّجت من واحدة منها زمن الاستعمار. ولعل تكوينها الفرنسي شدّنا إلى لبنان الذي كان شبه مجهول في مواد الدراسة. غير أنّ من أجمل ما كنا نلحظه في هذه المدارس أن التلاميذ المسيحيين والمسلمين كانوا سواسية كليّا ولهم إنصاف واحد وليس من كلمة واحدة في أي كتاب من كتب التدريس تؤذي مشاعرهم ولا يتلقى المسلمون درسا في المسيحيْة.  وكان جهد المدرسين الأجانب – ربما لأنهم كانوا رهبانا- التوجيه الخلقي العام والتأكيد على أدب التعامل بين الطلبة أو بينهم وبين المعلّمين. وكذلك التأكيد على النظافة والرياضة والصدق ومكافحة الغش أي المبتغى كان إعداد إنسان على أحسن حال من الخلق.

تعلّمنا أن يكون كلامنا دقيقا وغاية في الطهر وان نعف عن الصراخ والمشاجرة ونصرف قوى شبابنا بالرياضة وما كنا نسمّيه المحفل الأدبي عربي اللغة كان أو فرنسيها إذ كان التشديد آنذاك على الآداب. ولو كان معظم المواد يعطى بالفرنسيّة إلا  أن الإدارة لم تهمل العربية من حيث هي لغة  وشعر ومن ابتغى تعريب لسانه كان له هذا.

لم أرافق المعاهد الثانويّة بعد الاستقلال إذ دخلت كليّة الحقوق حيث كنا نتلقّن القانون الفرنسي فقط وتعلّمنا القانون اللبناني في سنوات التدرّج وأفدنا جدا من اقتباس العقل الحقوقي الفرنسي. من هذه الزاوية كان التعليم العالي أيضا بعض تربية.

ثم جاء جيل الحرب الذي عرفت منه بعض شبابنا وأدركت أن الكثيرين منهم أخذوا اللغات وغير اللغات وهم يتكلّمونها بطلاقة ما خلا العربيّة التي يبدو لي أن كثرة تلحن فيها ربما لأن شغف الرياضيات والعلوم الطبيعيّة طغى. وإذا صح أن نصف ما تمتاز به هذه الشريحة فاستمتاعها بالحاسوب والإنترنت وحضارة الصورة. ماذا سيبقى من اللغة والإنسانيات بعامة ومذاقة الفن الخالص سؤال مقلق؟

على تغير الأنماط النسبي بين مرحلة ما قبل الاستقلال والمرحلتين الأخريين وعلى تغير نقاط التركيز وبقاء المعارف والمستوى الجيّد بعامة قد تكون المشكلة البارزة هي هذه: ما محور التربية عندنا. أي إنسان نريد أن نربّي. لا شك عندي أني أريد إنسانا إلهيا يجتمع فيه اللاهوت والناسوت في وحدة متماسكة، في لحمة داخليّة. ولكن هذا روح أو مناخ وهذا قليله في الكتب. هذا في القدوة أولا وفي اختيار للمدرسين صالح لهم الحزم في الأخلاق مع اللين في المعاملة. نريد علوما صحيحة كاملة، قويّة، تماشي العصر ليحيا المتخرّج في البيئة الحديثة ولكنا نريد إلى ذلك إنسانا طيبا، لطيف المعشر، عظيم التهذيب لأن في هذه إنسانية الإنسان.

***

غير أن الجهد الذي لا بد للدولة أن تبذله هو أن تقرر إلزاميّة التعليم الابتدائي ومنع عمالة الأطفال والأولاد لإدراك حد أدنى من المستوى العقلي عند المواطنين والنضج في الحياة السياسيّة والقدرة غلى التمييز بين الكلمات التي تلقى في الشارع. فالعالم من شأنه أن يرفع عنا شقاء الانفعاليّة ونحن شعب انفعالي. والغضب آفة تجعلك لا تنسجم بالآخرين وغير قادر على قيادة سيارتك. والمثال الأعلى هو التحصيل الجامعي. أظن أننا مقصّرون جدًا عن بعض البلدان الراقية حيث يتجاوز الجامعيّون نصف السكان. هذا شرط بلوغنا النضج السياسي.

إلى هذا النموذج الإلهي – الإنساني في التربية دعونا نطلق بعد الحرب الرهيبة الأخيرة شعار “إنسان السلام”. نحن في حاجة إلى سلام. الشهادة الكبرى ليست في الحرب ولو كان علينا أن نعرف عدونا بدقة ونتهيأ لمنازلته ولكن الشهادة الكبرى هي سلام الداخل لأن الفتنة دائما تهددنا بسبب من التفسّخ الكامن في التعددية. هذا بلد يهدده التحيّز الكبير المرتبط بالطوائفية والمؤثرات الغريبة واختلاط كل هذه الأمور بمنافع الدنيا.

التاريخ العالمي المرتبط بالأديان أو بالإيديولوجيات السياسية مليء بالعنف. ولست الآن فاحصا العلاقة بين النصوص الدينية التأسيسيّة والحروب الداخليّة والخارجيّة. ليس احد منا مؤهّلا في الحقيقة للموضوعيّة في بحث كهذا وان كان الأمر ليس عصيا على الأكاديميين الطاهرين. ولكني لن أخوض في جدل كهذا في اسطر قليلة وفي سنواتنا العجاف. جل ما أوحي به هو أن نشد أنفسنا إلى قيم السلام القائمة في أدياننا. فالنحلة تقطف من النبات ما يساعدها على استخراج العسل.

ما الجميل في الآخر إذا عرفنا دائما سيئات التاريخ، ما اللطيف في مبادئ الآخر، ما قدرته على المحبّة حتى نتجاوز بالخلق الكريم عيوبا آذتنا منذ قرون. أنا واثق أن الآخر قادر على تجديد نفسه وأنا قادر على ذلك كذلك وهكذا نبني وطن السلام معا ونمنع العدو أن يبطل سلامنا الداخلي وان يفكّ بعضنا عن بعض آخر. دائمًا يجب أن نعلم – وهذا صعب- أن اللبناني الضعيف في بنيته الروحيّة والجاهل خير لنا من أي أجنبيّ لأنّ البلد الأجنبي ليس جمعيّة خيريّة ولو كنا دائما شاكرين للغريب المحبة التي يبديها لنا بالملمات.

أنا لا أشك بالقريب منهجيّا ولست أدعو إلى العنصريّة التي لا أساس لها في المسيحيّة ولا في الإسلام ولكنا في حاجة إلى المنفعة بتلازم كل شرائحنا الدينيّة. وقد أثبتنا غير مرّة أنّ الأجنبي لم يستطع دائما تفريقنا. غير أن هذه الثقة بأنفسنا في حاجة إلى تعزيز أي إلى تربية دائمة تبدأ على قواعد الدراسة وتقوى بالصداقات عبر أشخاص من جماعات دينيّة مختلفة.

إنسان السلام في كل مراحل العمر على هذا التعدد الطيّب الذي يرزقنا خيرًا ويأمننا من بزار التوتّر لنصبح وطنا إلهيًّا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

من أراد أن يتبعني…/ الاحد 17 أيلول 2006 / العدد 38

أنت تتبع المسيح أو لا تتبعه. ولو كنت معمدًا قد تكون من الخارجين عنه وربما صرت ضده. أن تتبعه يفترض موقفًا داخل النفس. يتحقق هذا في انك تكفر بنفسك أولاً. ذلك إن حب الأنا، أن تكون مركزًا على أشيائك ومصالحك وعبدًا لشهواتك يخرجك عن يسوع فهو القائل: “من أحبني يحفظ وصاياي”، وهو يريد أن تفضّل حبّه على حبّك لزوجتك وأولادك وكل إنسان آخر.

“من أحبني يحفظ وصاياي”. طاعتك له هو محك محبتك. وقد تتوهم أحيانًا ان ذهابك إلى الكنيسة يكفي. من الضروري ان تواظب على الكنيسة، ولكن محك محبتك ليسوع انك تحفظ وصاياه اي انك تسمع كلمات الإنجيل وتحققها.

بعد هذا قال: “ويحمل صليبه”. ان تكون منزها عن الخطايا، ان تميت الرغبات السيئة والأهواء، هذا هو حمل الصليب. ان تغفر لعدوك، ان تخدم الذين اساؤوا إليك حسب مقدورك، هذا هو الصليب الذي ذكرناه كثيرا قبل عيد رفع الصليب وبعده.

ان تكون مصلوبًا شرط قيامتك من الخطيئة. هذا هو الطريق الذي سلكه يسوع لأن صليبه كان دربه الى القيامة. الا يكون لك تعلق بشيء، الا تعتبر نفسك مالكا لشيء، بل ان تعتبر ان ما بين يديك هو للفقراء فتصبح امام عينيك كأنك لا شيء، هذا يجعلك على طرق القيامة.

ثم يقول السيد “ويتبعني”. تتبعه الى اين؟ الى الجلجلة اذ لا يكفي ان تحمل صليبك بل يجب ان تسير به الى حيث كان يسوع ممجدا اي على تلة الجلجلة. نحن لا نستلذ الآلام ولا نفتش عنها ولا نعذب انفسنا. اذا سمعتم هذا في بعض الاوساط المسيحية فهذا ليس له اساس في الإنجيل. لقد جاء المخلص لينقذنا من العذاب وقد شفى مرضانا وقد بيّن الإنجيل ان الشفاء من علامات الملكوت. غير ان الصليب عندنا هو الآلام القائمة والتي نتحملها بقوة المسيح. هي هنا. لا نسعى اليها. وحتى نتحملها ينبغي ان نكون منضمين الى المسيح. وعندئذ ينقذنا منها جسديا ان كانت جسدية او يجعل فينا تعزيات الروح القدس التي تذهب عنا الخطيئة. بعد هذا الكلام يوضح المعلم فكره هذا بقوله: “لأن من أراد ان يخلّص نفسه يهلكها، ومن اهلك نفسه من اجلي ومن اجل الإنجيل يخلصها”. والمعنى ان من ظن انه ينعش نفسه بالخطايا التي تلذه انما يهلك نفسه لأنها تموت بالخطيئة. ثم بقوله: “من اهلك نفسه من اجلي ومن اجل الإنجيل يخلصها”. هو إهلاكها بالتعب، بالجهاد الدائم (صلاة، صوم، عفة…)، فهو ينقذها حقا. يقول: “من اجلي ومن اجل الإنجيل” اي يتعب نفسه في البشارة، في التعليم او يريد من اجل حقيقة الإنجيل وعمقه.

وأخيرًا ينهي هذا القسم من تلاوة الإنجيل بقوله: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. كل مجد العالم لو حصلت عليه لا يساوي مجد الله فيك بالصليب الذي تكون حملته وبقيامتك من موت الخطيئة. يجب ان تختار لئلا تموت. وعندئذ لا تستحيي بالمسيح. تعرف من انتصاراتك الروحية ان المسيح كل شيء وتنادي به.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

العطاء الواحد للوطن / السبت 16 أيلول 2006

ودّعنا أمس ما يسمّيه العامة عيد الصليب وفي حقيقته انه عيد المصلوب وفي احتسابي انه عيد المصلوبين جميعا إلى أية عقيدة انتموا. إنها مشكلة الألم على ألوانه وتخطي الألم. الإنسان موجوع وغريق أوجاعه او سالك طريق الرجاء. وليس عندنا من وضع غير هذين الوضعين. انا افهم الا يستعمل كل الناس هذا المصطلح المسيحي لكونه مرتبطا عندنا بسر الخلاص الذي لا يراه الناس كما نراه. كما يقول رضوان السيد ليس في الاسلام خلاص شامل يؤسس عليه ولكل امرئ خلاصه واتصوّر انه يعني بهذا السبيل الصبر والتوبة. ومن الواضح ان الخلاص الإلهي لموضوع يوزعه المسيح على من يؤمن به. وبهذا المعنى يتشخصن. والقبول الشخصي للخلاص الكامل هو الى الايمان بموت المسيح وقيامته الصبر والتوبة. كذلك هناك خلاص في الفكر البوذي بالتخلّص من الرغبات والهدوء الذي يتوخّاه البوذي انما هو اياه الذي يتوخّاه المسيحي ولكن هذا يطلبه من المخلّص وليس فقط من النسك كما يفعل البوذي.

مهما يكن من أمر فكلنا مصلوب غير ان بعضا يرجو وبعضا لا يرجو. اي ان ثمة قياميين – اذا استسغتم هذا المصطلح – وهناك غير قيامين. لذلك اخطأ صديق كبير لي لما قال لي: المسيحيّة مأساويّة. قلت له ان اليونان القديم مأساوي لأنه لا يخرج من وضع ينغلق فيه اما نحن فخارجون ابدا بالقيامة. جان بول سارتر محبوس ايضا انسانه لأنه غير مؤمن. وعندما نقول نحن اننا نخرج بالقيامة لا نريد قيامة لاحقة في اليوم الأخير ولكنا نريد خلاصا حاليا لإيماننا بكلمة المسيح: “انا القيامة والحياة”.

تأسيسا على هذا ينال من مات من أجل الايمان حضرة المسيح توا بلا إرجاء. بعد الشوق الذي تعطيه الشهادة يقيم الشهيد في الحق. يُستشهد ( بالياء مضمومة) فيشهد بمجرد قبول الموت على الإيمان وفي الحب وكأن الموت قولته الأخيرة. وفي هذا جاء في مطلع رسالة يوحنا الاولى الجامعة: “ذاك الذي كان منذ البدء/ ذاك الذي سمعناه/ ذاك الذي رأيناه بعينينا/ ذاك الذي تأملناه/ ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة/ لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد” (1:1-3).

وشهادة الدم في المسيحيّة واجب لأن المسيحيّة تأبى الفارق بين القلب واللسان ولأن الموت حبا أفصح تعبير عن اقتناعها بالقيامة. والشرط الأساسي لأداء الشهادة ان يرفض من ندعوه شهيدا مقاومة الا مقاومة الروح للظلم الذي يحل به. الشهيد المسيحي مظلوم مطلقا.

تبيانا لهذا من الشرع الروماني ان المسيحي كان يُجلب الى محكمة الجزاء في روما القديمة وشرعها قائم منذالامبراطور اوغسطس على عبادة الامبراطور. وكان القاضي يطرح عليه ان يقول: قيصر هو الرب فيجيب: المسيح هو الرب فيحكم عليه بالاعدام اذ كان يعتقد ان إعدامه استمرار بالحياة. من هنا، أن المسيحيّة ليس فيها ثقافة الموت ولا ثقافة العذاب ولكن ثقافة الحياة.

الذين يعيشون، حقيقة، القيامة لا يعذبون أنفسهم جسديا ولا معنويا. ليس في هذا مشاركة في آلام المسيح. لا يضيف أحد شيئا على هذه الآلام. المشاركة تعني ان تميت شهواتك لأنك في هذا تصبح انسان الدهر الآتي حيث “لا وجع ولا حزن ولا تنهّد”. المسيحيون ليسوا جماعة المعذّبين في الأرض ولكن جماعة الذين يتوقون الى النصر الأخير الذي فيه ينتهي كل ألم.

من الموجح طبعا ان يموت الأطفال ظلما لأنهم ورد الوجود. واذا قتلهم العدو فهم قيامة الوطن ونحن نتجدد بهم ولا تفنى طفولة العالم واذا نموا فالدهور تحيا بهم. واذا حافظنا عليهم يذهب العالم بهم الى الطراوة ولا يبقى الحزن الذي هو وحده شيخوخة الانسان. الفرح في الأرض قيامة دائما للنفس قبل ان تنبعث الانسانيّة في الملكوت الآتي. وفيه مكث الحياة الحق والأخيرة.

***

يحزنني كثيرا ان شعوبا مسيحية كثيرة لم تفهم هذا ومشت في الدنيا ذابحة شعوبا لتأكل وتشرب وتستغل ناسية وداعة يسوع ولطفه اللامتناهي. جيلا بعد جيل تسلطت واستبدت حتى ذاقت الشعوب المستضعفة الحرية. متى يأتي ذلك اليوم حتى يقوى الضعيف ويفهم القوي ان يعف عن ابادة الضعيف.

في روح القهر كانت الحملات التي دُعيت صليبيّة والصليب ان تموت حبا لا ان تميت سواك. ولقد فهم العرب ان هذه الحملات لا يجوز ان تدعى صليبيّة وقد دعوها حملات الإفرنج اذ لم يكن لها علاقة بالمسيحيّة الوديعة في جوهرها. ولذلك يؤلمنا نحن المسيحيّين ان نُسمّى اليوم صليبيين. وما من شك ان في هذا غباء. ونحن نؤمن ان عقلاء المسلمين يأبون هذه التسمية التي يطبقها الإرهابيون علينا. الصليبيون ما كانوا اهل الصليب. انهم كانوا صالبين وقاهرين لقوم ودعاء.

وكانت هذه الحروب الشرسة حربا على مسيحيّة الشرق التي ظن الفاتحون على انها منشقة. منشقة ممن؟ لذلك عندما وصل الصليبيون الى مدينة القدس ذبحوا الأرثوذكسيين والارمن وبهذا بينوا انهم اعداء اهل بلادنا جميعا والدليل القاطع على ذلك ان الحملة الصليبية الرابعة شُنت في السنة الـ 1204 على القسطنطنيّة التي لم يكن قد دخلها الاسلام بعد ودنست فيها كنيسة الحكمة المقدسة. ولذلك باتت ذاكرتنا التاريخيّة تعرف ان ثمة قتلة ولو كانوا على ديانتك او مقتولين الى ايّة عقيدة انتموا.

***

من هنا انه يجب ان نكون حذرين من كل إثارة أجنبيّة للمسيحيين على المسلمين او المسلمين بعضهم على بعض فهناك دائما إمكان التفاهم بين اهل الديانات اذا عرفوا الا يصغوا الى الأجنبي الذي يرعى مصالحه فقط.

اعرف ان العقلاء من المسيحيين قد فهموا ان احدا من الخارج لا يرعاهم ولا يرعى بقاءهم وان القضيّة هي فقط قضيّة مال وقضية سلطة.

في هذا السياق ينبغي ان نفهم دقة وضعنا في لبنان وان مشاكلنا بنبغي ان تحل في الحسنى خارج كل المحاور وان نقتنع ان كل محور ضلال أإلى الشرق ذهب او الى الغرب كما ينبغي ان نفهم بطلان لغة الأكثريّة ولغة الأقليّة لأن في ذلك خدمة للغريب الذي لا يحب فريقا على فريق بل دأبه أن يفرق. ليس من مشكلة تستعصي على الحل ان كنا حقا عارفين ان تراب لبنان هو لجميع الذين يعيشون عليه وان ادركنا ان القليل عديده فيه من الجدارة والإبداع ما يجعل التوازن الوطني قائما في ابناء لبنان مجتمعين.

ما هي الصيغة لهذا العيش الواحد؟ هذا ما ينبغي ان نفتش عنه بحيث تبقى لكل شريحة كرامتها وتبقى فيها قدرتها على النمو. ويخطئ من ظن انه يستطيع ان يستغني عن اية شريحة او ان يسودها او ان يقتنع ان الله سلطه على الآخرين بسبب من موهبة فيه او من مشيئة إلهيّة.

مشيئة الله ان نحيا معا والى الابد على هذه الارض متحدين لا نتذابح ولا تتأجج علاقاتنا ولا يلغي أحدنا الآخر معنويا ولا يستغني عن إسهامه. التعدد يمكن ان يوحّد والتهميش قتال اليوم او غدا لأن احدا لا يرضى ان يموت سياسيا لأن هذا رمز لإلغاء هويته ومساهمته.

ان اكون موجودا هو ان احيا مع الآخر وبالآخر. الفردية المنغلقة موت للجميع. اما اذا كان الآخر “ضروريا حتى التنفس” فأكون انا موجودا. الآخر يوجدني بسبب من المعيّة ويتكوّن بي كما أتكوّن انا به. واذا كانت المعيّة هي مطلق الكيان في عمقه فيكون مسعاي ان اوطدها لصالحي ولصالح الآخر. صالح الجميع مجتمعين تلك هي مشيئة الله لأننا بذلك نكون له ونكون بعضنا لبعض آخر.

الوطن يتكوّن بالصبر الذي هو ثمرة المحبة ويتكوّن بالاصلاح الداخلي لكل فئة. ولا غنى عن النصيحة اذا كانت أخوية. والنصيحة فيها نقد احيانا. ويُتقبل (بضم الياء) اذا كان اخويا فتصلح كل جماعة نفسها بنقد من داخلها ونقد من خارجها مهما كان النقد شديدا لأن المحبة تفترض الشدة احيانا لأننا لسنا جماعات متراكمة ولكنا جماعات متداخلة على اساس الله المغذي الكل والمثبت الكل في عنايته.

هذا هو التطهر المتبادل وليس فقط تبادل المنافع في الأرض. وهذا يفترض توبة كل واحد منا الى الله.ومن التائبين في كل شريحة تأتي طهارتها.وهذا يعني في الدولة زوال الفساد وزوال المحاصصة وتعاون الجميع بالفكر والعمل السياسي القائم على الحرية وتداخل الطوائف في التعاون الحق والإخلاص الكامل للوطن اذ ليس من أرضيّة أخرى ولا من ولاء آخر ولا قيام لدولة إلا بحبه.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الصليب / الأحد 10 أيلول 2006 / العدد 37

استعدادًا لعيد رفع الصليب تركّزت الرسالة والإنجيل حول الحدث. في القراءة الإنجيليّة ينكشف حبّ الله للبشر على صليب المخلّص اذ يقول: “هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد”. هذا كلام مركزي على الخلاص. أما في الرسالة وهي إلى أهل غلاطية فبعد قوله إن الختان (أي النظام اليهودي) باطل، يصل إلى القول: “حاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا صُلبت للعالم”. والمعنى أنّي لكوني ثمرة الصلب أو نتيجة الصلب فقد صُلب العالم لي أي مات عالم الشرّ أمام عيني وأمسى لا شيء. هذه صورة. وأما إذا أنا صُلبت (معنويا بإماتة الخطيئة) فالعالم الشرير لا يعتبرني شيئا. اي ليس من شركة ممكنة بين النور والظلمة.

واذا كان الصليب صار كل شيء بسبب سر المحبة، فلا الختان (اليهود) بشيء ولا القلف (الوثنيّون) بل الخليقة الجديدة اي المسيحي بتجاوزه التضاد القائم بين اليهودية والمسيحيّة. فقد دخلنا العالم الجديد الذي هو المسيح ولا نجيء من ناموس موسى ولا من الفلسفة الكامنة عبادة الأصنام بل نجيء من الله الحي وإنجيله شريعتنا وفكرنا.

هذا هو قانون الحياة الجديد، والذين يتبعونه “عليهم سلام ورحمة وعلى اسرائيلِ اللهِ” ويعني بذلك اسرائيل الجديد، شعب الله الجديد اي الكنيسة.

ثم يكمل بولس كلامه بقوله: “اني حامل في جسدي سمات الرب يسوع” التي يمكن فهمها على انها الآلام الجسديّة التي تحمّلها من أجل السيّد المبارك او التعذيبات التي كان يقاسيها لمّا كتب الرسالة الى أهل غلاطية اذ كتبها في السجن في رومية.

في كل هذه الكتابة البولسيّة نفحة فرح: “بالصليب قد أتى الفرح في كل العالم” كما نتلو توا بعد قراءة انجيل السَحَر في الآحاد. مرة قال لي عالم من غير ديانتنا على سبيل الانتقاد: “المسيحيّة ديانة مأساة”. قلت له: “اذا اردت بها الكلمة اليونانيّة تراجيديا (اي حالة المأزق الذي لا خروج منه فهذا غير صحيح لأننا نحن نخرج من الألم بالقيامة. وبهذا يقول الرسول الإلهي بولس: “فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، واما عندنا نحن المخَلّصين فهي قوّة الله” (1كورنثوس 23:1)”.

مرة، من سنوات طويلة، التقيت فريقا من شهود يهوه قالوا لي: إذا كنتم تكرّمون الصليب فتشبهون أُمًا تُكرم حبل المشنقة الذي شُنق به ابنها. قلت لهم: هذا يصح لو كان ابنها مجرما. اما اذا كان شهيدا للوطن وقتلته دولة معادية للوطن، فالمشنقة هذه تصبح أداة مكرّمة.

إن الصليب الذي كان يُعلّق عليه المجرمون وكان أداة ذلّ أصبح بالمسيح مكانًا للخلاص اي مكان الحريّة.

لذلك نكثر من الأفكار المتعلّقة بالصليب: رفع الصليب، ذكره يومي الأربعاء والجمعة كل أسبوع، الأحد الثالث من الصوم، الأسبوع العظيم المقدّس. ثم نحمل الصليب في أعناقنا، ويجب ألا نضيّع التقليد القديم حيث يعلّق دائما في عنق الولد المعمّد.

وما هو دائم الاستعمال إشارة الصليب حيث يبارك الكاهن الشعب بها في القداس الإلهي او تلك التي نرسمها نحن على وجوهنا عند ورود عبارات في صلاة الجماعة فيها ذكر للثالوث المقدس او عبارات التمجيد لله او السجود له. الأرثوذكسيون يكثرون من استعمال هذه الإشارة التي بها يعانقون صليب المخلص. بهذه الإشارة نبيّن إخلاصنا ليسوع ولأبيه وروحه، ونبارك ماء المعمودية والزيت وموادًا أخرى في المواسم. الصليب هو قلب حياتنا ومعناها، وإذا رُسم عليه المصلوب (وهذا شرط عندنا) يكون الأيقونة المثلى.

طبعا نحن لا نفرق بين الصليب والمصلوب. نكرّم الأول بسبب الذي مات عليه وتغلّب وهو عليه على الخطيئة وأعطانا به فرصة لنغلب الخطيئة والموت.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

المسلمون والمسيحيّون في لبنان / النهار السبت 9 أيلول 2006

إن لم تقم العلاقة بينهم على التقوى فهي ليست بشيء. وأهل التقوى واحد في كل الأمم لأن الله يستقطبهم ويوحّدهم فيه على اختلاف ما يقولون فيه وفي أشيائه والسياسة تأتي بعد ذلك على قول المعلّم الناصري: “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه والباقي يزاد لكم”. ذلك أن الذين يطلبون الآخرة يتوافر لهم ما يفيدهم في معاشهم هنا.

كتبت مرة ما مفاده أني لما كنت أرى في طفولتي من نوافذ أحد المساجد في طرابلس المسلمين يصلون كنت أتخشّع إذ كنت أفهم أن قومًا آخرين يعبدون الله. كذلك أحسب أنهم يتخشعون إذا تلوا شيئًا من الإنجيل أو حضروا قداسًا بيزنطيًا. فالقبة هي كقباب المساجد والألحان شرقية والربوبيّة واحدة في ذاتها وفي نفوسنا كلينا. وأنا أحبّ منذ طفولتي إيقاع الآذان منذ الفجر حتى صلاة العشاء وهو يُغنيني عن إيقاع الساعة. هناك انسجام لا داعي إلى تعريفه عقليًا ونعيشه في هذا البلد الذي ارتضيناه موقعًا لنا في الأرض.

وأظن أننا مجموعة واحدة فيما نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر. يراها الله واحدة في مقاييس لم يكشفها لنا وإذا صح الحديث الشريف: “خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام”.فمن باب أولى القول: “إن خياركم في الإسلام مثل خياركم في المسيحيّة” لأن التخلّق بالله هو الوجود والانتساب الشكلي أو الاسمي ليس بشيء. فالصالحون في كل صقع هم خير أمّة أخرجت للناس وإذا فهمنا ذلك تأتي سياسة الأرض، هذه التي تفرّق عادة بين الناس بسبب من تباين المصالح وبسبب غلبة المصالح على الأهداف الروحيّة التي نبتغي.

عند هذا يصبح المسيحيون أمة أرضية وربما كان كذلك المسلمون. “مملكتي ليست من هذا العالم” لا تختلف كثيرا عن أن الإسلام ليس فيه أصول حكم ولم يرد في التنزيل القرآني كلام عن الدولة وشكلها أو كلام واحد عن أن الدولة يسودها المسلمون. وعند تأسيس دولة الراشدين صار الكلام على أن غير المسلم من لا يسعه أن يكون خليفة أو قائد جيش أو قاضيًا يقضى بالشرع ولكنّه استوزر في العصر الأموي وكان عند بدئه يتولّى بيت المال الذي هو مال المسلمين.

***

فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ما علاقة الفقه وهو علم بشري بما أنزله الله على نبيّه. هل كل الحديث في هذه الأمور سوى تاريخ بشري له قوة التاريخ وهشاشته. والسؤال الأعم هو أن القرآن إذا كان لا يخضع تفسيره للتاريخ أفلا يخضع التاريخ الإسلامي نفسه للتحليل التاريخي وتاليًا لنسبيّة الزمان وهو من متقلّبات الزمن. كلّ انغلاق في حدود الزمان هو اعتراف بأن ما جرى بعد الوحي له قيمة الوحي.

في هذا الصدد لا تستطيع أن تتكلّم على المسيحيين إذ لا قيمة للتاريخ عندهم إلا ما له صلة بالكلمة الإلهي وقيمته إذًا غير مطلقة وليس عندهم صورة حكم وهم يتشكّلون روحيًا في كلّ أمة وُجدوا فيها ولا يبتغون مناصب إلاَّ في لبنان وقد عاشوا عبيدًا في نظام الرق وأحرارًا حيث منحهم الحاكم الحريّة مع أنهم صبوا إلى الحرية في الإمبراطوريّة الرومانيّة التي كانت تضطهدهم وفهموا قول المعلّم: “وتعرفون الحق والحق يحرّركم”. وعلى ذلك ما من شك أنهم لم يضعوا هم “حقوق الإنسان والمواطن” وقد كُتبت هذه أولاً في الثورة الفرنسيّة التي قامت ضد الكنيسة السائدة سياسيًا. غير أن الذي لا شك فيه أن الثوَّار الفرنسيين تأصلوا في الإنجيل ولو أرادوا أن يكسبوا معانيه لباسًا علمانيًا. البشريّة العلمانيّة صقلها روح المسيح في الحضارة الأوربيّة وهذا كان خيرًا لسائر الناس. ولا ينكر إنسان حقوق الإنسان لمجرّد أن الذين صاغوها كانوا مسيحيين إذ كان فيها نفع للناس. وإذا أيّد القرآن الإنجيل والتوراة في غير موضع ففي المنطق نفسه يؤيّد المسلمون حقوق الإنسان ولو كانت لغتها آتية من قريب أو من بعيد من الوحي المسيحي.

وعلى هذا اقترب مفكرون مسلمون كثر من الحكم المدني في كثير من البلدان الإسلامية وقد لا يكون شكله بالضرورة العلمانية الفرنسية وهناك علمانية بريطانية تختلف. وقال به أئمة مسلمون في لبنان. هذا ما أرجو أن نعود إليه بعد هذه الحرب الشرسة التي شُنت علينا.

وإذا أردنا وحدة هذا الوطن لا تستطيع فئة حكم الشرائح كلها أو لا تستطيع أن تخرج على روح حقوق الإنسان لئلا تخرج من الحداثة التي هي المصطلح الوحيد الذي يجمعنا. ولا يفهمنّ أحد إني بالضرورة داعية لشكلٍ قاسٍ من حكم يتنكّر لخصوصيّة الطوائف ولنكهتها ولكني أدعو إلى رؤية الوطن اللبناني جماعة واحدة.

هذا لا يعني أني أنا الأرثوذكسي لا أرى نفسي واحدًا في المسيح مع الشعوب الأرثوذكسيّة وبمعنى أوسع مع كل الشعوب المسيحية ولكن هذا ليس له ترجمة سياسية إطلاقـًا. فقد تكون روسيا مثلا ضد مواقف بلدي وأكون، إذ ذاك، ضدها. على هذا المنوال كان الرئيس جمال عبد الناصر نصيرًا للقبارصة اليونانيين ضد الاحتلال التركي للجزيرة وكان رئيس الأساقفة مكاريوس قريبًا من العرب. هناك إذًا رؤية مدنيّة لسياستك الخارجيّة. وفي بلدنا قد يكون المسيحي المنفتح، الحرّ، قريبًا من موقف إسلامي جامع أو المسلم “المدنيّ” قريبًا من المسيحيين. في موقف وطني داخلي.

في الوضع الحاضر كان المخلصون من المسيحيين ضد أميركا في تحالفها مع إسرائيل. ولا معنى سياسيًا على الإطلاق لكون الأميركيين مسيحيين. أنا المسيحي مع إيران في تخصيب الأورانيوم لتكون محاذية أو مساوية لإسرائيل الحاصلة على السلاح النووي. السياسة مصلحة شعبك ككل. وهذا يقتضي أن تتخذ الموقف الذي يدعمك في السياسة الخارجية.

على هذا لا أفهم في منطق حداثتي عبارة “الأمة الإسلامية” إلاَّ بمعنى شعوري لا يلزمك بموقف سياسي. أنا أفهم جيدًا أن يحزن المسلم لكارثة في الباكستان كما أحزن لكارثة في اليونان . ولكني إن كنت أعظم إنسانية احزن لحزن البلدين في القوة نفسها. إلى الناحية الشعورية العقل وفي هذا المضمار متابعة شؤون الأبحاث الشرعيّة في بلدان المسلمين والمسائل الفكرية المتصلة بالدين لأن تقدّم الفكر واحد في العالم الإسلامي. وعلى هذه الصورة يتابع اللاهوتي الأرثوذكسي مثلاً ما يكتب على هذا الصعيد في موسكو وأثينا وبوخارست وما إليها. وفي الواقع نقرأ مجلاتهم ونتابع هواجسهم اللاهوتية لكوننا كنيسة واحدة.

***

العمل السياسي عمل المواطنين مجتمعين لأنه متعلّق بالأرض التي عليها يعيشون. السياسة تأتي من شعورك بأنك تحيا ليس فقط مع كل مواطنيك ولكن تحيا بهم. تعطيهم وتأخذ منهم فتقرأ مشاعرهم وتراثهم وأسباب تصرفاتهم فتتأثر بهم ويتأثرون بك. الوطن تاريخيًا وشعوريًا وأمام آفاقه واحد ولو كانت مصادر الشعور والسلوك متنوعة. والتنوّع ينشئ الاختلاف في السياسة وفي الاختلاف صحّة لأنه يدلّ على أن البشر أحياء ومستقلون أحدهم عن الآخر.

هم ليسوا نهرًا فكريًا واحدًا ولكنهم روافد في أوقيانس البلد. وأنا لست أقول أن هذه الألوان لا علاقة لها بالعقائد التي تستلهم دينية كانت أم غير دينيّة ولكني أقول انك بهذه الألوان المختلفة ترسم لوحة البلد ولا ترسم لوحة بلد آخر. فالكنيسة الجامعة كما نسمّيها ليس لها لون ثقافي واحد . لذلك ليس لها وجود سياسي في الدنيا ولا لها أرض واحدة. كذلك أمّة المسلمين ليس لها وجود سياسي أو كيان عالمي إلاَّ في ما يختصّ بالإيمان وأدبياته.

نتدارس إذًا أمور الدنيا في معيّتنا وهذا الدرس له صورة وهي مجلس النواب وننفّذ ما ندرسه في صورة وهي الحكومة كما نتدارس أمورنا في الصحافة والأحزاب وحلقات الفكر السياسي والأكاديميات وأنا واثق أن العالمين والأفضلين خلقيًا يستخرجون معًا أفكارًا متقاربة أو واحدة لتسيير البلد حتى تزول السياسة عندما يتجلّى الله في اليوم الأخير.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

المحبة للجميع/ الأحد 3 أيلول 2006/ العدد 36

هناك شيئان مختلفان من حيث الهدف: الإيمان والمحبة. بالإيمان هدفنا أن نحفظ كلمة الله كما بيّنتها لنا الكنيسة، وبالمحبة أن نعانق الناس جميعًا بقوّة النعمة أي بقوة الإيمان الذي يسكن في قلوبنا. غير أن من نحب حسب وصية المعلّم قد يكون له عقيدتنا وقد لا تكون. من هنا حزنت جدا لما قيل لي ان هذه الفئة أو تلك من المسيحيين كانوا يؤثرون أن يشاركوا بالحسنات النازحين من المسيحيين، أي إنهم أحبوا بعضًا من البشر وليس كلّهم: هذه هرطقة سلوكيّة.

فإذا ظنّ أحدهم أن الرب يسوع بقوله: «أحبوا بعضكم بعضًا» تعني انه قصد محبة المسيحيين للمسيحيين يتبدّد ظنه لو قرأ قول السيّد نفسه: «أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم… وإن سلّمتم على إخوتكم فقط فأي فضل تصنعون» (متى 5: 43-47). فإذا كان سلوكنا مع الأعداء سلوك محبة، فكم بالحري يكون سلوكنا مع المسلمين الذين يؤمنون بالله وكانوا في العوز الشديد أثناء الحرب الأخيرة؟ أما قال السيّد: «كنتُ جائعا فأطعمتموني»؟ أي أني أنا في قلب كل إنسان جائع وغير مكسوّ ولا مأوى له. المسيح وحّد نفسه بكل محتاج ولم يوحّد نفسه فقط بالمعمَّدين.

إن المحبّة التي استودعك إياها الرب تذهب منك إلى كل بشر علّهم يحسّون بأنّهم أحباء الله، ولست تحتاج أن تقول لهم انك تعطيهم كونك مسيحيّا. هم يرون ذلك ويعرفون انك آتٍ من المسيح. أنت لا تطلب منهم أَجرًا ولا شكورًا. لا تريد إلا أن يعيشوا فترة قصيرة ولا يُحرم أطفالهم من الحليب أو نساؤهم وشيوخهم من العناية.

يا إخوة، نحن لسنا كتلة سياسية وليس عندنا نزعة انفصال عن أي احد من الناس. شاءت ظروف القهر والعدوان على البلد أن يكون معظم النازحين من لون آخر. هذه كانت فرصة من الله كي تتجدد بها قلوبنا وتصبح أكثر صفاء واشد حرارة وبالتصاقنا بالآخرين نصير أكثر لصوقًا بالله.

قال بولس الرسول بوضوح: «أحسنوا إلى الجميع». وهكذا كان المسيحيون في رومية يفعلون في القرون الأولى. وعندنا في هذا شهادة من القديس يوحنا الذهبي الفم الراقد بالرب السنة الـ407 أن رومية لم يكن فيها جائع (أي من المسيحيين والوثنيين) لأن المسيحيين كانوا يعطون الجميع.

وقد علّمنا آباؤنا القديسون ألاّ نردّ من يسألنا طعامًا أو مالاً فإنك إن أعطيته تكون معطيًا هذا ليسوع الذي كان فقيرًا.

في الأيام العصيبة يقوى الواجب ويتضاعف. الكنيسة نفسها كمؤسسة قامت أثناء الحرب بإيواء الجميع مع أن هذا التنظيم المسيحي كان يتصرف بصورة أقل ما يقال فيها إنها كانت تحزبًا طائفيًا بحيث تحوّلت بعض الهيئات إلى تشكيلات قبليّة تقوم على حب بعض وكراهية بعض لأن الامتناع عن الإحسان كراهية بلا شك عند القادر عليه.

نرجو ألا نعرف بعد الآن سلوكًا كهذا السلوك السيء في حالة الحرب أو حالة السلم. هناك مسلمون يساهمون معنا في بناء كنائس أو مدارس ليستغفروا الله بالإحسان. اعرف أيضًا أن بعض المسيحيين يشاركون المسلمين في مشاريعهم الخيريّة. وهذا يجب أن يكون القاعدة.

لا تقعوا في هرطقة التفريق بين مسلم ومسيحي في مجال العطاء. أنت لك إيمانك وهو له إيمانه، ولكن المسلم يجب أن يسكن قلبك إن كنت راغبًا أن يسكنه الله.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

إلى المسيحيين في لبنان / السبت 2 أيلول 2006

“مملكتي ليست من هذا العالم”. كلام للمعلّم ينبغي ان يكون كلامكم. ليس هذا موقف اليهود لما كانوا على العهد القديم وما كان التلمود قد أدخل إليهم فكرة الحياة الأبدية ولم يكونوا يقولون بها ما خلا مذهب الفريسيّين. أمَّا المسلمون فيقولون بالقيامة ويؤثرون على دنياهم آخرتهم فقد جاء في كتابهم “وللآخرة خير لك من الأولى” (الضحى، 93).

ويؤكد المعلّم فكره بقوله: “لست اسأل أن تأخذهم من العالم… ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم” (يوحنا 15: 16 و17). مما يعنيه هذا القول إنكم ولو تعاطيتم السياسة إلا أنكم لستم من السياسة ووحدتكم ليست فيها وتاليا لا تؤلفون بعضكم إلى بعض كتلة منها. وليس لكم فيها موقف واحد. ولستم كتلة فيها لأن تكتلكم واحد وهي أنكم جسد المسيح بمعنى أنكم تجيئون من السماء التي هو جالس فيها وتكونون أعضاء فيه ومن حيث إنكم جسده فهو إياكم مجتمعين فيه وليس لكم اجتماع من نوع آخر.

وأية كانت العلاقة بالسياسة في اجتهاد المجتهدين فاليهود (قبل الصهيونية) والمسيحيون والمسلمون كل منهم يقول عن نفسه انه اجتماع ديني. فكل من العبرانيين والمسيحيين يقول عن نفسه انه جنس مختار وكهنوت ملوكي وأمّة مقدسة (1 بطرس9:2) والشعب المختار لا دلالة عنصرية لها ولا امتياز. انه اختيار النعمة الإلهيّة وتحميل الكلمة بلا تفويض بالتبليغ او التبشير عند اليهود وبتفويض بالبشارة عند المسيحيين. وأهل الإسلام قال لهم ربهم: “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” (آل عمران1، 11). فالمعنى ليس أنكم جوهريًا خير أمَّة ومنكم من عصا ولكن إذا تمسكتم بالكلام الإلهي والسلوك الإلهي تستحقون أن تصيروا خير أمّة.

هذا المفهوم الواحد – اذا أخذنا النصوص التأسيسيّة وحدها – يجعل هذه الجماعات لا صفة قوميّة لها ويبقى كل فرد منتسبا الى قومه كما يشاء.

***

إلاَّ أنّ الصهيونيّة في كتاب تيودور هرتسل الصادر بالألمانيّة السنة الـ 1896 وكما توطدت سياسيًا في مؤتمر بال السنة اللاحقة صارت قوميّة وفي الجدالات التي قامت في دولة إسرائيل عن تحديد اليهودي وإجماعهم على أنّ من كانت أمّه يهوديّة لم يأتِ ذكر عن إيمانه. الذكر للدم وليس للعقيدة. أمَّا في المسيحيّة والإسلام فلا ذكر للدم. كل من هذين له عقيدة يعبّر عنها المسيحي بدستور الإيمان والمسلم بالشهادتين. فلسفة الانتماء واحدة إذًا عند المسلم والمسيحي. الصهيونيّة إذًا تكون نزعت عن اليهوديّة الطابع الروحي الذي كان لها. وقلّة ضئيلة من يهود العالم ليست صهيونيّة.

بموجب قانون العودة يحق لكلّ يهودي في العالم أن يتّخذ الجنسيّة الإسرائليّة. هذا ليس قائما في أية دولة إسلاميّة أو مسيحيّة. من هذه الزاوية كل يهودي إسرائيلي بالطاقة متى شاء يصبح إسرائيليًا بالفعل.

في هذا المناخ القائم في المنطقة لا بد أن أذكّر إخوتي المسيحيّين في بلدنا إنهم لبنانيون من جهة وطنيّتهم، مسيحيّون بسبب من معموديتهم وان النطاقين لا علاقة للواحد منهما بالآخر وأضيف إلى هذا – تذكيرًا – أن مسيحيّتهم لا تزيد شيئا على لبنانيّتهم التي يشاطرها آخرون بالعمق نفسه وبالقوّة نفسها واللبنانيّة تبدأ بنقطة من التاريخ عند هذا وتتخطى أخرى عند ذاك حتى وصلنا بعد عسر إلى اللبنانيّة. تبقى مشكلة المودّات الخارجيّة عند بعض ومشكلة الولاءات عند بعض وهي غاية في الدقّة. لن أخوض في هذا الآن لأني أتكلّم فقط على المسيحيين ولست أرى فاحصًا أنهم من حيث إنهم كتلة قد خرجوا على لبنانيّتهم والمودّات ترعى إن لم تكن خائنة وقد نحتاج إليها في الضيق شريطة أن نجعلها في خدمة الوطن كلّه وهي غنى في الثقافة وأمست ثقافاتنا – في الشريحة العليا من المتعلّمين- واحدة أو متقاربة.

على مستوى الولاء لست أشك بأحد في لبنانيّته ولا في شعوره العربي الأساسي ولا سيّما أن القيادات المسيحيّة تبدي قلقًا شديدًا عما وصلنا إليه من أوضاع. ولكن أحدًا منا لا يحق له أن يحاكم الآخر على نياته وان يحاسبه على ماضيه فالكثيرون في كل شريحة عرفوا النقص في لبنانيّتهم أو النقص في الانتماء الشعوري إلى العروبة.

وإذا كنا في حركيّة واحدة إلى المستقبلات أي بنيان لبنان الجديد كما عرفه الدستور فلا معنى ولا جدوى للتسابق إلاَّ على أن نتسابق الخيرات كما تدعونا إلى ذلك العبارة القرآنيّة (تنافسوا في الحسنى يقول بولس الرسول). ولست أظنّ أن أحدًا يهمّشه الآخرون ما لم يهمّش هو نفسه وإذا كان ثمّة من وقائع واضحة فنناجي كلّ منا الآخر ليقوم العدل وليجنِ الوطن المواهب التي كانت محجوبة.

إخوتي المسيحيين مع ذلك كلّه لا تكونوا مسمّرين على السياسة فليست هي كل شيء ولا هي أهمّ الأشياء في دنياكم نفسها. المسيح هو أعظم ما في دنياكم قبل أن يحل الملكوت. وعند كباركم في محبّته ليس هو فقط أعظم كل شيء ولكنّه كل شيء لكل واحد منكم. وعلى هذا اعملوا في حياتكم على كل ما هو حق وجميل وافهموا الإنجيل في بهائه وقوّته حتى تنحتوه في حياتكم الوطنيّة. ولا تتركوا السياسة للزعماء فقط بل تعاطوها بقوّة وإخلاص وصدق وطهارة. فهذه الفضائل يمكن أن تجتمع فيها. وكونوا قدوة وكونوا طاهرين فقد دعاكم ربّكم أن تكونوا الخميرة التي تخمّر العجينة كلّها والنور الذي يضيء في العالم ليستضيء كل إنسان. ولا كبرياء في ذلك لأنّ هذا النور تستمدّونه من النور الأزلي.

وإذا رأيتم عند قادتكم صداقات خارجية فلا يعني هذا أن ترتاحوا إلى هذا السفير أو ذاك ولكنّه يعني أن تسمعوا كل شيء وتتمسّكوا بالأفضل وان تصغوا بإذن لبنانيّة وتتكلّموا بلسان لبناني على ألا تذهبوا إلى أنكم فئة مغلقة. فإذا كان الزوج العفيف لا يكتم شيئا عن زوجته فالقيادات المسيحيّة مفتوحة على كل القيادات. لأنكم إذا منحتم الآخرين الثقة فهم يردونها إليكم. ففي الإسلام الأصيل مودّة لنا فإذا تكاشفتم انتم والمسلمون فهم أيضًا يتكاشفون حتى نصل معا إلى رؤية أن الإنسانية الطيِّبة والفهيمة بآن هي التي تبني البلد. ذلك لأننا معا – إذا أجيز لي تفسير التنزيل- نحن والمسلمون خير أّمة أخرجت للناس لأننا في الأقل ننوي على أن ندعو إلى المعروف وننهي عن المنكر.

وفيما أكتب هذا، أحسّ أن قلمي انجرّ على أن أتحدّث عن المسلمين والمسيحيين معًا بعد أن صمّمت إلى أن أتوجّه إلى المسيحيين وحدهم إذ الحقيقة في بلدنا أننا نحيا معًا وقد أثبتت الحرب الأخيرة التي شُنّت علينا أننا نموت معًا.

وإذا تذكّرتم يا إخوتي المعمّدين أن المسيح قد غلب الموت فأيّ شيء تخشون؟ أمَّا إذا علمتم بذلك فأنتم قياميّون إلى أيّ كنيسة انتميتم. ببهاء بيزنطي أو تواضع غير بيزنطي كلّكم يرتل في الفصح والآحاد: المسيح قام من بين الأموات. وإذا هاجمكم العدو مرّة ثانية سوف يرى من بطولتكم أو قناعاتكم أنكم أحياء مع الأحياء لعلمكم بصدق قولة يسوع: “لا تخافوا ممن يقتل الجسد”. لن يستطيع احد أن يمسّ خلاصكم وانتم قد ادركتموه بالحب. يا إخوتي المسيحيين انتم وطن الحب وكل شيء آخر هو من الشرير وسوف ينجينا الله في كل محنة من مملكة الشرّ ليقيمنا على آرائك المحبة.

Continue reading