Monthly Archives

March 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة التجسّد/ الأحد 25 آذار 2007 / العدد 12

عيد البشارة هو عيد التجسّد الإلهي وأُركّز فيه تأمّلي على رسالة اليوم يفتتحها كاتبها بقوله: «ان المقدِّس (اي المسيح) والمقدَّسين كلهم من واحد (اي من الآب)»، المسيح بالولادة الأزلية، ونحن جَعلَنا اللهُ ابناء بواسطة الابن اي بالمعمودية ومسحة الروح القدس (بالميرون).

لذلك سمانا بولس إخوة ليسوع بسبب هذا التبنّي. ودعم الرسول قوله بكلمة من المزامير: «ها أنذا والاولاد الذين أعطانيهم الله»، ثم صعد الى التأمّل بعمليّة الخلاص البادئة بسر التجسّد من والدة الإله بقوله: «اذ قد اشترك الاولاد باللحم والدم اشترك هو كذلك فيهما»، وكأنه أراد ان من مقتضيات الأخوّة بينه وبيننا ان يصبح مثلنا ذا جسد ليكلّمنا الله بابنه على الأرض وتكون غاية التجسد ان يموت، فيوضح بولس ان غاية مشاركة المسيح طبيعتنا هي هذه: «لكي يبطل بموته مَن كان له سلطان الموت اي إبليس»، اي كان لا بد للابن ان يدخل مملكة الموت ليزيله. فقد زال الموت لما دخل المسيح اليه بالحياة الإلهية التي كانت فيه.

ثم يكمل فكره، موضحًا الغاية من موته بأكثر وضوح، فيقول «ويعتق كل الذين كانوا مدة حياتهم كلها خاضعين للعبودية مخافة من الموت».

معنى القول ان كل من ارتكب الخطيئة هو عبد للخطيئة حسبما ورد في انجيل يوحنا. الامثال هنا كثيرة، فمن كذبَ مثلا خائف من العقاب اي انه عبد. ومَن سرقَ خائف من الفقر. هو اذًا عبد للفقر. والخوف الأقصى هو الخوف من الموت. فهذا يلغينا من الوجود المحسوس الذي نحن متعلّقون به. ولكن الموت لا يزول من نفسه ولكن من قدرة المسيح. واذا قمنا منه بالتوبة ثم في القيامة الأخيرة، عند ذاك نصير متحررين من الموت نهائيا وقائمين مع المسيح وجالسين معه في السموات. موت المخلّص كان من اجل إنقاذنا من الخطيئة اولا، وتاليا من الموت الذي الخطيئة سببه.

بعد هذا يقول كاتب الرسالة «ان المسيح بموته صار رئيس كهنة قرّب نفسه على مذبح الصليب للآب وبدا انه رحيم وأمين فيما لله»، حتى يختتم هذا الفصل من الرسالة الى العبرانيين بهذا: «لأنه إن كان قد تألّم مجرَبا (اي بالآلام) فهو قادر ان يغيث المُصابين بالتجارب».

كل إنسان تصلبه خطيئته، ولكن اذا آمن يعرف انها هي التي صَلبت السيد الذي عَبَر كل اوجاع الإنسان، وهذا معنى قوله «تألم مجرَبا». ثمرة حبه لك على الصليب جعلك تشعر انه معك لأنه ذاق كل التجارب التي تذوقها أنت ما خلا الخطيئة، تجربة اوجاع جسدك واوجاع نفسك في الأحزان، وقد عرف يسوع الحزن في الجسمانية لمّا واجه كأس الموت. فاذا ذقت اي ألم من آلام الجسد والنفس، اعلم انك لا تتألم وحدك وان الرب يسوع شريكك على سرير المرض وشريكك في احتضارك وانه قادر ان ينزع منك خوف الموت لتكون في العمق حيا امام كل بلية وغير مكسور امامها، فإنه كما نهض من بين الأموات تنهض ايضًا انت منه اذا قدرت ان تحب يسوع حبا كبيرا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

مريم المصرية / السبت ٢٤ اذار ٢٠٠٧

المسيحيون الأرثوذكس يلحّون كثيرا على التوبة الحقيقية اللابسها الكيان ولا يكتفون بالندم على ما تراكم فيهم من خطايا. في المبدأ كل المسيحيين واحد ويبتغون هذا الرجوع بالعمق الى الله غير ان الارثوذكسيين يملأون كل عبادات الصوم بهذه الفكرة وهذا  التصميم لكونهم يسعون الى مألوهية الانسان منذ الآن ويتوقون الى الا يقيموا فاصلا رهيبا بين هذه الدنيا والملكوت الأخير وتزعجهم – مع ان العلماء المدققين لا يرفضونها – عبارة مارتن لوتر ان الانسان دائما بار ودائما خاطئ. الأرثوذكسيون يشدون الخاطئ الى  البر بحدة ويهيكلون الصوم كله يوما بعد يوم ليرتفع الانسان الى اهتداء كيانه كاملا الى النور ولا تبقى ثنية من الظلام فيه.

                      لا يريدون حضورهم في الله مجرد توق. لا يحبون الرغبة. يريدون الاقامة في حضن. وتهيؤًا لمناولة القربان يطلبون ان يكون هذا القربان “لكمال ملكوت السموات” وكل من قرأ حرفا في اللاهوت يعرف ان هذا غير ممكن وان الكمال عند القيامة الأخيرة. ولكنهم هكذا في حالة اشتياق الى السيد يريدون ان يتحقق الملكوت الآن وان ينتصروا الآن على الخطيئة.

                      ويكويهم هذا الشوق فبعد أن تأملوا الصليب منذ أسبوعين يأتون الى ذكرى القديس يوحنا السلمي الكاتب الصارم على الخطيئة والفضائل  ثم يأتون الى هذه التائبة مريم المصرية التي لا نعرف احدا كسر الخطيئة كسرا وامتشق روحيا امتشاقا مذهلا مثلها وكانت اشد طهارة من نساك الأردن حيث عاشت وذهل بها صفرونيوس بطريرك اورشليم الذي كتب سيرتها ثلاثة قرون بعد انتقالها الى الرب.

                      لماذا حركت مريم المصرية كنيسة الشرق؟ ربما لأنها تعاطت الفسق وفي المسيحية العربية الكلمة تعني خطيئة الفتى العزب او الفتاة وتخصص كلمة الزنا للمتزوج او المتصل بمتزوجة. لماذا اتخذت الكنيسة نموذج فاسقة تابت مع ان آباءنا يعتبرون الكبرياء اشد هولا من الزنا. لست أظن ان استهوال الفسق دخل الينا من الرهبانية ولكنه دخل من استخفاف بالتراث اليوناني الراسب عندنا ولا سيما اهل الغنوصة او المعرفة. في التاريخ المسيحي بدءًا من بلغاريا (البوغوميل) وانتهاء بفرنسا (الكاتار) كان الفسق شائعا في هذه البدع لكونهم كانوا يحتقرون الجسد ويعتبرونه لا شيء. ثم ظهرت حركة فسقية في روسيا من ضمن المسيحية.

                      كانت المسيحية تخشى تدنيس الجسد ووضعه في مكانة دونية على رغم تقديسها للزواج بكلمات أخاذة عند بولس. ربما ان الاعتداء الفكري على العفة جعل الكنيسة تتخذ هذه الفتاة مريم المصرية التي انتهك عفافها صورة للخاطئ المهتدي.

#            #

#

                      الاسكندرية موطنها. كانت في القرن الرابع اسبق مدن الإغريق في الحضارة . كان قد بقي فيها شيء من الفلسفة تعيش من أفلوطين وفيثاغوراس وفيلون الاسكندري (اليهودي) ولكنها كانت مبدعة في النحت والعمارة والفلك والأناقة المترفة وتدلنا على ذلك المنحوتات الصغيرة المحفوظة بمتحف الاسكندرية. أظن ان قديستنا عاشت في هذه البيئة المترفة لأن صفرونيوس يقول انها تعاطت الفسق طلبا للعشق وليس التماسا للمال. ما يعني انها لم تندفع الى الخطيئة بسبب الفقر.

                      في هذا الانجراف ما كانت واعية – على ما يبدو من تحليل دقيق للسيرة- انها كانت مصدومة بسبب من ايمانها. على الأغلب انها حجبته عن وعيها ولم تلغه ودليل ذلك انها أرادت ان تحج الى القدس بمعنى انها لم تطرد الله طردا كاملا من نفسها والسيرة تقول ان قوة سرية خارقة منعتها من دخول كنيسة القيامة. الأرثوذكسيون يفهمون هذا جيدا عندما لا يستطيعون ان يقبّلوا ايقونة اذا خطئوا ثم انحلت الصعوبة عندها.  

                      بعد هذا ذهبت وسكنت برية الأردن سبعا واربعين سنة. كيف عادت الى شفتيها آيات المزامير وكلمات الاستغفار؟ بالايمان نقول انها اعتمدت ببكائها بالعلم نقول ان هذا الاندفاع الرهيب الى الفسق صعقها صعقة قوية كما اخترقت الارض الاولى منذ ١٥ مليار سنة بشعاع من نور فجّرها وظهرت العوالم الاخرى. يُلمَس الانسان بلمسة علوية يعرفها المؤمن فيصير فورا انسانا جديدا. كيف يهدأ جسد فتاة دون العشرين. نحن نعرف ان الجنس يتحرك بقدرة من الدماغ وذلك بواسطة غدة وهرمونات. ان الخيالات المؤذية جمدت عند رؤيتها ايقونة مريم في كنيسة القيامة وصار هذا الجسد الى هدوء. هذا اقرب تفسير ممكن الى العلم ولا يناقض قول الأبرار عندنا الذين يقولون ان الله هداها. الله عندنا يستخدم قوى الطبيعة.

                      نصف قرن من النسك كان كافيا ليجعلها مجرّدة من كل شيء او في حالة الرث الكبير وتبدو هكذا تعيش من أعشاب الصحراء. القاص الكنسي كان همّه ان يقول ان الذين يلبسون الله ليسوا في حاجة الى ما هو من المادة. وقد اضافوا الى هذا في كتب النسك عندنا ان ما سموه “الأفكار” اي هذه الآتية من الدنيا انما تحولنا عن الرب. الفكرة المقولة في هذه الأدبيات ان النور الإلهي يغذّي المؤمن المجاهد. وهذا ليس من المخيلة اذ يعرف كل الصوامين ان الكلمة الإلهية تعوّض عن الطعام او تصير هي الطعام بمعنى ان الأتقياء لهم نواميس ليست من الطبيعة.

                      غير ان ثمة خبزا لا يُستغنى عنه وهو الخبز النازل من السماء ويريد به المسيحيون شيئين: الكلمة الإلهية التي تصير لهم طعاما وما يتخذونه كقرابين يعتقدون ان يسوع يجعلها بالروح القدس إلى جسده ودمه أي إلى كيانه.

                      مريم المصرية كانت في حاجة الى هذا الذي آمنت انه هو الذي يغفر لها خطاياها واختصارا لقصة زوسيما الذي تذكره السيرة اتى هذا الراهب اليها بعد ان اهتدى الى مكانها فتناولت بالقرابين المقدسة بعد انقطاع كبير فسميناها بفعل هذا التقديس العجيب امنا مريم المصرية التي استوطنت فلسطين ثم قلوب الصائمين اذا سعوا بجد الى الطهارة.

                      ثم عاد زوسيما ليناولها ثانية يوم الخميس العظيم في السنة اللاحقة فوجدها قد ماتت. وتجليّاتها لم تمت . لأن كلّا منّا كان مثلها بهذه الخطيئة المتحكّمة فيه او تلك وفي لحظة مباركة لامسته النعمة او انقضت عليه وحوّلت وجهة قلبه واتجاه فكره وتجرد من دنياه التي كانت فيه متحكمة الى الرب القدوس الحاكم وحده القلوب المرتدة اليه.

                      اظن ان الاعتبار الاساسي الذي وضعته الكنيسة نصب عينيها ان تقول للخطأة المتوغّلين جدا والمتوغّلين قليلا في الشر ان خطاياهم ليست نهائية او حاسمة او ان تكرارها حتمي. هذا هو بهاء الايمان ان له القوة على البقاء وان الشر لا قوة له الى الابد لأن الانسان مصنوع على صورة الله وحسب مثاله وانه قادر ان يتحرك الى الخير اذا انعطف الله عليه وهو عطوف واذا الانسان اراد ان يتخلّص من شره صادقا.

                      انا اعرف اناسا تابوا الى الله توبة طيّبة نصوحا وماتت ميولهم الى الشهوات المؤذية واعرف انه لم يبقَ لهم أدنى ميل الى سيئاتهم السابقة ولكن هؤلاء كان يجب ان يكتشفوا محبة الله لهم وان يستنتجوا من ذلك انه يمدهم بقدرته لتخطي ما كانوا عليه. ان الاستعفاف الكامل لفاسقة مثل مريم المصرية للدليل ليس فقط اننا قادرون على تجاوز هذا النوع من السقطات ولكن لكل سقطة.

                      الله سيد على المستحيل، لما احس به الانسان مستحيلا. والتوبة الحقيقيّة لا تقوم على ان الدنس يزعجنا ونؤثر عليه الصلاح لكونه يريحنا. التوبة ان تتوجه بكل قدرتك وكل عزمك وكل قلبك ونفسك الى الاله المحب لتقيم معه أُلفة كالألفة التي كانت لك مع معاصيك. لا يكفي ان يكون دافعك الاستراحة من المعصية ومن أذاها. فإن لم تستجب لحب الله إياك بحبك اياه اي بالطاعة يكون ما اعتبرته توبة حركة بشرية انت مركزها. التوبة العميقة هي التي كان الرب مبدئها ومرجعها.

                      التوبة في الأخير هي عبادة للرب اي خروج من أناك المنغلقة على ذاتها والتي كانت تسعى الى ملذات الدنيا لترتاح اليها. واذا اكتشفت ان سلامك هو العودة الى وجه الرب تبدأ بالإيمان بأن هذا ممكن والممكن برأفة الله يصبح فيك حقيقيا.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الولد المصروع/ الأحد 18 آذار 2007 /العدد 11

انسان يسجد للمسيح طالبا شفاء ابنه قائلا ان فيه روحا شريرا، ثم يصف اعراض المرض: يصرف بأسنانه وييبس ويلقي بنفسه في النار وفي المياه. عوارض جنون ناتجة من داء الصرع (بالعامية يقع في النقطة). ونعرف ان بعض المصابين بهذا الداء منهم من يعتريه جنون.

وقال هذا الرجل ان تلاميذك لم يقدروا ان يشفوا ابني، فوبّخهم يسوع على عدم ايمانهم. اذ ذاك قال المعلم: «ائتوني بهذا الصبي»، فلما أتوه به وقع في النوبة. فوصف الوالد الأعراض بعد ان كان مرقس الإنجيلي تحدث عنها جزئيا. عند هذا قال الرجل للسيد: «إن استطعت شيئا فتحنن علينا وأغثنا». كان يعلم ان يسوع يشفي عن حنان. فلما رأى المخلّص استرحام الرجل قال له: «ان استطعت أن تؤمن فكل شيء مستطاع للمؤمن». بكى الرجل وأجاب المعلّم: «اني أؤمن يا سيّد، فأَغِثْ عدم إيماني او ضعف ايماني». كان يثق ان الرب يسوع قادر ان يُلهم الإيمان. عندئذ أخرج يسوع «الروح الأبكم الأصم» فوقع الولد في نوبة أخرى «فصار كالميت، فأخذ يسوع بيده وأنهضه فقام». اذ ذاك سأله تلاميذه: «لماذا لم نستطع نحن ان نخرجه؟ فقال لهم: ان هذا الجنس لا يمكن ان يخرج الا بالصلاة والصوم». ولا بد ان الكنيسة اقتبست هذا الفصل الانجيلي لتعلّمنا عن أهمية الصلاة والصوم وعن اقترانهما في هذا الموسم الذي نصلّي فيه بكثافة ونصوم. وأكدت هكذا اننا بعد الأحد السابق الذي اقمنا فيه ذكرى الصليب ارادت الكنيسة ان تدفعنا الى الاستمرار في جهاد الصوم ولا ننقطع عنه.

وبعدما اجتازوا في الجليل لم يرد ان يدري احد بهذه الأعجوبة، وهذه ليست المرة الاولى التي يحجب اعماله عن الجماهير خوفا من ان تندفع وراءه وتعلنه ماسِيّا اي مَلِكا بالمعنى السياسي في اسرائيل.

بعد هذا قال لتلاميذه: «ان ابن البشر يُسلم الى ايدي الناس فيقتلونه، وبعد ان يُقتل يقوم في اليوم الثالث». هنا يتنبأ يسوع عن موته وقيامته، وفعل هذا في غير موضع في الانجيل. كان يريد ان يهيّئهم لأهم ما سيحصل له. وجاءت النبوة بصيغ مختلفة ولكن في المضمون ذاته. كان يجب ان يعرف التلاميذ ان كل عجائب المعلم وأقواله وخطبه انما كانت طريقه الى الموت والانتصار على الموت. هناك على الصليب يكون نصر المسيح كاملا. في الأعجوبة الانتصار جزئي، وفي الحادثة التي نحن في صددها يخرج الرب الشيطان من الشاب. على الجلجلة سيقضي على الشيطان وعلى مملكة الشيطان قضاءً نهائيا.

نحن عيوننا الى الصليب الذي هو حياتنا. انه مع القيامة الشيء المركزي في ايماننا. انه فعل المسيح الذي به ينهض كل منا من خطاياه وضعفاته ويصبح انسانا قياميًا. وأتت كل قوة الشهداء والقديسين من إيمانهم بالمصلوب الذي عاد حيا الينا ليجعلنا احياء بالايمان والمعمودية والمحبة.

ولكن ان نشترك في سر المسيح يتطلّب أعمالا تليق بالتوبة بحيث نصلب الشهوة والشك ونُسلم النفس ليسوع ليصبح هو سيدها فلا يبقى شيء لمنافعنا الخاصة ونجعل يسوع مصلحتنا الخاصة اذ ننهض به من كل كبوة ونحيا به وبكلماته فلا نبقى مصروعين كهذا الولد ولا نجن بخطايانا، ونفرح بيسوع وأحباء يسوع ونبني الكنيسة ليكون كل أعضائها فاهمين أهمية المسيح وقدرته ومطهرين به حتى آخر رمق في حياتنا الى ان نظهر امامه في اليوم الأخير.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

المجد الباطل / السبت ١٧ آذار ٢٠٠٧

 لبنان بلد المجد الباطل. ولست أتكلم بالضرورة على كبار القوم الجالسين على الآرائك. فمن عظماء الدنيا مَن تواضع امام الله والإخوة ومن أدنياء القوم مَن استكبر. وقد تكون شهوة السلطة – اي سلطة- في البيت، في الدكان والمكتب والعمل ذروة ما يشتهي امرؤ يوهم نفسه انه هام، ذلك انه يؤمن بـأهميّته اذا اعترف الناس به على ما يرى في نفسه من قيمة. فاذا لم تقرأه كما يقرأ نفسه تكون عاقا او خائنا او عدوا. وينتفخ بك ولو كنت من أتفه الناس اذٍ. يجب الا ينقص مادحوه. والناس  ناسان. ناس يؤمنون ان الله ناظرهم وناس يهمهم رأي الآخرين فيهم. والمعنى انك اذا كنت سائرا في المجد الباطل اي ذاك الذي ينبغي ان يكون مركز انتباه للآخرين يتضمّن هذا اعتقادك ان الله ليس مركز الحياة وان وجودك انت هو الوجود. وفي مسيرة إلغائك الله من المحبوبية تكون قد أقمت مقامك وتصبح مثل آدم لما أغرته الحية ليكون مثيل الله.

                      في إمارة مولدافيا في القرن الرابع عشر اي قبل ان تتوحد رومانيا كتب أمير إلى ولي عهده (المزمع ان يصير أميرا): « يا بني لا تشتهِ ان تصبح أميرا ولا أسقفًا ولا رئيس دير لأن هذا كله من مجد العالم».

                      لا تطمح بأن تكون مرئيا ولا ان تغدو مائدتك أسخى مائدة في البلد ولا ان تبني اجمل بيت في بلدك. وفي السياق نفسه لا تشتهِ ان تطمع بالمال واشتهه كثيرًا اذا كنت مزمعا ان توزعه على المساكين. في بلد كهذا قائم حتى الآن على قانون انتخابي سيء اذا طمعت بالنيابة لأنها تنمي قدرتك على الخدمة فهذا ممدوح ولكن ان طمعت بتعظيم نفسك فأنت مقيم في دنيا التفاهة.

                      ويتغذّى المجد الباطل بمديح الناس إياك، وهنا يوصينا باسيليوس الكبير ان نسكت فورا ما دحينا اذ قد نعجب بأنفسنا ويقودنا، اذ ذاك، المجد الفارغ الى الكبرياء. لذلك يقول النبي: «ادخل في الصخر وتوارَ في التراب … عيون البشر المتشامخة تُخفض وترفع الإنسان يوضع ويتعالى الرب وحده» (اشعياء 2: 10و11) فمنعًا للتشامخ يقول القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل: «ان ذوي الأخلاق السامية يتحمّلون الشتائم بنبل وفرح» ولهذا الراهب العظيم نعيد غدا في كنيستنا.

                      إن الخفاء افضل من الظهور ما لم يفرض عليك واجب الهداية ان يعرفك الناس. وان لم يكن عندك ما تقوله اصمت لأن الصمت اقل أذى من الثرثرة وهي دائما لا مضمون لها. فإن عرفت نعمة الخفاء تدرك ان الله يراك وحسبك هذا عزاء. واذا اضطررت الى الاختلاط فلا تتوخَ ان تبدي ذكاءك او معرفتك للغات او انجازاتك الدنيوية والروحية. لأن ما كسبته في هذه الدنيا من مال ونفوذ وقوة فهو من الدنيا. اما المواهب الروحية فليست ملكا لك. انها ودائع الله فيك لتقول كلمته وتشهد له.

#             #

#

                      فليأتِ كل ما تقوله او تفعله من التواضع الذي هو معرفتك انك لا شيء فلا تجعل نفسك شيئا لأن هذا روح شر ويهدم الآخرين. لا تعمل شيئا حسنا ليكافئك الرب فالمكافأة في السماء ولا تطمع بها بل اطمع بالرضاء الإلهي وغفران خطاياك ومعنى ذلك الا تشهر فضائلك لينمو بها الآخرون. هم يلمسونها ان كانت حقا فيك. وان كنت من المثقفين وكتبت مقالا او كتابا فلا تسل أحدا اذا قرأك اذ تكون آنذاك، في كثرة أحيان، ساعيا الى المديح وهذا قد يدمّرك. واذكر قول الكتاب: «الويل لكم ان قال فيكم جميع الناس حسنا» (لوقا 6: 24).

                      ان تطرب بهذا الإطراء يعني انك لا تزال من اهل الأرض. ابتغِ بالحري بساطة القول وبساطة السيرة وفتش عن اقتباس الفضائل عند الآخرين لتتشبّه بهم. وعند ذاك تعرف انك تجيء من الأبرار وانك لست آتيا من جهودك اذ يقول القديسون عندنا: لا تدخلك جهودك الروحية العظيمة الى السماء بل رحمة الذي يرحم من يرحم ويرأف بمن يرأف. انت لست ثمرة اعمالك مهما عظمت. انك زرع القديسين فقط فاذا عاشروك لا تفخر بما استمددت منهم بل افخر بأن المخلص تنازل اليك ليهبك شيئا من التواضع.

                      واذا تعلّمت ذلك فلا تأخذ زائرك الى قصرك ان كنت ذا قصر لتتباهى امامه بما بنيته لأن المال الذي بين يديك وديعة من اجل الفقراء وان عشت في الترف فمن المؤكد انك تصاب بالعُجب (مع ضم العين) فالثري الكبير مهدد به والقلة لا تقع.

                      لا تتبختر بالسيارات التي عندك ولا تدع زوجتك تقتني الأثواب الفخمة الكثيرة محتشمة كانت ام غير محتشمة فلا شيء يقنعني ان خزانة المرأة بالثياب الكثيرة الفاخرة لا تعرضها الى التباهي. فلتتعلم المرأة أيا كان بهاؤها وأية كانت مقتنياتها الخاصة انها من تراب والى التراب عائدة. هذا لا يعني ان النساء معرضات الى الزخرف اكثر من الرجال. وعلى كل منكم ان يراقب شريك حياته بتواضع ولكن بالحزم الذي توحي به التقوى لأن الأناقة المغالية والاقتناء المفرط يعرضان الى التنافس والآخرين والى تفاهة الكلام والسلوك واذكر كلام بولس: «يا جميع الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم» (غلاطية ٢٧:٣). فاذا لبست المسيح لا تستطيع ان تزيد عليه فخرا. هذا يملي عليك البساطة في كل شيء.

                      انا لست بقائل: لا تحب جمال الفن في منزلك والكثير من الاشياء الضرورية في عالم اليوم ولست موحيا ان ترتدي الرث من الثياب او المتصدع من الأثاث ولكني قائل لك فقط «ان مَن افتخر فليفتخر في الرب» (1كورنثوس 1: 31).

                      هذا ما قاله بولس بعد ان قال: «من كان في العالم من غير حسب ونسب وكان محتقَرًا فذاك ما اختاره الله؛ اختار غير الموجود ليزيل الموجود، حتى لا يفتخر بشر أمامه».

                      هذا يقودنا الى انتفاخ بعض بعائلاتهم وما يغذي عصبياتهم الأسرية كأنك تستمد من ذويك مجدًا وليس عند انسان مجد. فلا تحتقر ان كان اسم عائلتك مشهورا عند الناس الذين لا شهرة لهم لأنك لست بالضرورة مثل اسلافك الصالحين فالفضيلة لا تورث واسم البشر زائل بزوال هذه الأرض وتبدل الأزمنة. واعلم ان عائلتك ان خسرت اموالها فغالبا ما يتعرض مجدها الى الزوال. لذلك من جعله الرب كاهنا في كنيستنا اذا خاطبناه لا نذكر اسم  عائلته بل نقول ان فلانا خادم للرعية الفلانية. وعلى غرار هذا كلما تقدست تزول ذاكرة عائلتك من ذهنك ويبقى ذكر القديسين الذين بفضلهم نلبس المجد.

                      اجل هناك زهد بكل ما تقتنيه ومن هذا زهد بجمالك و بثقافتك. فهذه كلها ملك للرب ونحن ليس عندنا ملك ولكوننا مؤتمنين على ملك الله ونديره لمجده وعزة الفقراء. وملكاتنا العقلية ليست لنا وهي فينا للخدمة فقط وهذا كله إذكاء للبهاء الإلهي في الناس.

                      كل ما قلته في هذه الأسطر هو لتحفظ الله في قلبك واذكر قول يسوع: «مجدًا من الناس لست أقبل» (يوحنا 5: 41) وفي هذا الإنجيل نفسه قال السيد ايضا لليهود: «كيف لكم ان تؤمنوا وانتم تتلقون المجد بعضكم من بعض واما المجد الذي يأتي من الله وحده فلا تطلبون» (يوحنا 5: 44).

                      ان ترفض المجد الذي ظننت انك ورثته او ذاك الذي يأتيك مما تملك او مما تقول وذاك الذي انت عليه جسديا كذلك الذي تؤتاه من حسناتك هذا شرط لتتقبل المجد الذي يكللك به الرب. فعند ذاك يضيء الله عليك بنوره وتمشي امامه لكون الدنيا غير قادرة ان تزينك. فإن اخليت نفسك من كل عجرفة وادعاء ووعيت انك فراغ يغدق الله عليك غناه ويجعلك من المقربين ويرى نفسه فيك وانت تعي نعمته فقط ويحل الملكوت فيك في أزمنة الدنيا حتى تنتقل الى الملكوت ههنا ينزل عليك فاذا اختطفك تسير في الله وتكتمل فيك صبغة الروح ويقول الله فيك منذ الآن كل شيء ويرى هو انك اصبحت كلمة من عنده.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد السجود للصليب /الأحد 11 آذار 2007 / العدد 10

ما قاله آباؤننا في هذا اليوم انه فيه يقترب انتصاف الصوم وقد راقبوا ان بعضا من المؤمنين يملّون هذا الجهاد ويتعبون. وحتى لا يتركوا هذه الرياضة، ولئلا يقعوا في التجربة، رفعت الكنيسة-الأم الصليب أمام أعينهم في طواف، فيتقدمون للسجود له ويعانقونه ليوحوا لأنفسهم أنهم مصلوبون مع المسيح ويشتاقون الى قيامته.

واذا ما قبّلوا الصليب مرفوعًا على صينية ومحاطًا بالرياحين او الزهور، يعطي الكاهن كل واحد منهم زهرة ليذكروا بأنه بالصليب قد أتى الفرح كل العالم، وهكذا يتشدّدون.

وبسبب هذه الذكرى نقرأ الفصل الإنجيلي حيث يقول الرب: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». انها دعوة ان نتبع يسوع في حياتنا اليوميّة وان نستوحيه في كل ما نعمله وان نطيع تعاليمه وألّا نتبع سواه او شهواتنا.

ان نتبعه شرطها ان يكفر الانسان بنفسه بحيث يتخلّى عن أنانيته ولا يفتش عن ملذاته، ان يتحرر من رغباته الدنيئة، ان يُميت الأنا الطامعة فيه ليحل محلها حضرة المسيح فيصير هو عمق كيانه.

ثم بعد هذا يتابع يسوع: «من أراد ان يخلّص نفسه يُهلكها، ومن أَهلكَ نفسه من أجلي ومن اجل الانجيل يخلّصها». المعنى ان خلاص النفس مع المسيح شرطه ان يُهلك الانسان شهواته المؤذية اذ لا تجتمع هذه مع السيد. فإذا لم يملأ السيّد كله كل نفسك يكون للشيطان محل فيها.

هذه إماتة الأهواء اي القوى التي تنبع منها الخطيئة. لا يكفي ان تندم على الخطيئة. يجب ان تقتلعها من شروشها حتى لا تعود لتؤذيك. وهذا يتطلّب ان تتبع المسيح الى حيث ذهب اي الى الجلجلة. واقتلاع الخطيئة من داخلك يشبه سفك دم المخلّص. ولما وصل كلام المعلّم الى الذروة قال: «ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه».

الانسان يغرى بربح العالم وهو الغنى والنفوذ والسلطة ومسرّات الجسد والكبرياء وما الى ذلك. هذه المجموعة من الضعفات التي ينتفخ بها الانسان تجعله يظن أنه شيء كبير وهي بنظر الله لا شيء لأنها لا تعطي الانسان حقيقة ولا غذاء روحيا ولا تجعله كبيرا في عيني الله. هذه فقاعات صابون يغرى بها الانسان موقتا. تسكره موقتا اذ ليس من لذّة تدوم. امّا الفرح الإلهي فيدوم، وعطاء قلبك يدوم في قلبك ويرى الله انك ملآن منه. فعليك ان تختار بين ان تربح خلاص نفسك او ان تربح مغريات العالم، وليس من جامع بينهما. لذلك يكمل السيّد فكره بقوله: «ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه؟». القصة كلها ان المسيح يريحك في العمق، وان الأشياء الزائلة توهمك بالراحة، ولكنها لا تعطيك الفرح الداخلي العميق. يمكن ان تربح هذه الاشياء الفانية وتكون هزيلا امام الله.

من بعد هذا يقول يسوع: «مَن يستحيي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الشرير يستحيي به ابن البشر متى أتى في مجد أبيه» في اليوم الأخير. مَن استحيى بالفضيلة يكون مستحييا بالمسيح نفسه. الفضيلة ثمرة المسيح. هناك ناس بلا شك يستحييون امام بعض الخطأة بأنهم دائمًا حاضرون في الكنيسة.

في بعض المجتمعات الفاسقة هناك رجال ونساء يعتبرون أنفسهم عصريين اذا دنّسوا الحياة العائلية. هناك مَن يفتخر بأنه يقبض كومسيون عن بضاعة هو مؤتمن على بيعها. كل هؤلاء يستحييون بالمسيح حقيقة.

المسيح انت تشهد له ليس فقط اذا أعلنت ايمانك به، ولكن إن سلكت بموجب إنجيله بحيث أن من رآك يرى نور المسيح مرتسمًا على وجهك.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

سلام المصلوب / السبت ١٠ آذار ٢٠٠٧

لبنان مصلوب كلّه. اصحاب المنافع في الدنيا يصلبونه. يصلبوننا نحن الذين لا مصلحة لنا أنانية في هذا الوطن. ان الذين يعتبرون انفسهم كبارا يميتون الصغار الذين لا يفيدون من هذا البلد شيئا. قلبي على الأطفال الذين لا يفهمون لماذا عند البالغين شحنة بغضاء، لماذا ليس عندهم طراوة الطفولة فيتكاذبون، لماذا لا فرح فيهم، لماذا يصممون الموت بعد ان خُلقوا للحياة، لماذا يصنعون صلبانا لبعضهم البعض، لماذا لا ينشدون صادقين: كلنا للوطن، للعلى الذي لا يتكوّن الا بالتواضع. هذا البلد يبدو مملكة شيوخ عجز فقدوا حسهم بالورود. يريدون ان يحيوا بلا اشتمام للجقيقة ولا تذوّق للخير واذا تصالحوا فلكي يقتسموا الغنائم ولا يوزّعون المغانم للمحتاجين الى النور.

                      يريدنا الأكابر طعاما لهم ولا يريدون انفسهم غذاء للجميع. قال المسيح: «خذوا كلوا هذا هو جسدي». الوطن يقدّم نفسه طعاما لمن أراد الحياة وهؤلاء الأكابر يعطوننا حجرا بدل الخبز وانقساما عوض عن الوحدة. لماذا جفاف القلوب العطشى الى الماء الحي؟

                      لكوننا نعرف ان البشر الضعفاء محكوم عليهم بالمصلوبيّة وضعت كنيستنا يوم غد ذكرى ترفع بها على الرجاء مصلوبيّة الناس. في بلد يتباغض الناس فيه بلا سلاح اردنا ان نرفع البغضاء بالحب. لذلك تجيء غدًا، الأحد ذكرى الصليب الذي يقول للبشر ان واحدا منهم رُفع على هذه الخشبة لكي ينال كل واحد منهم حياة عوض الموت العميم ورجاء بدل اليأس. وهذا يجري في طقس اذ يوضع صليب وسط صينيّة فيها رياحين او زهور ويُطاف به ونجثو امامه ذاكرين الصلب والقيامة معا. ويعطي الكاهن المؤمن زهرة ليقول له رمزيا: ان المسيح فرح العالم وان الانسان لن يبقى مقهورًا الى الأبد اذا عانق المصلوب فاتخذ هذا مصلوبيّة الانسان ليجعله قياميا.

                      نحن فصحيون ولا نميت احدا لأن يسوع مات ليخلّص العالم وليس فقط الذين ينتسبون اليه بالمعمودية. انت، ايا كنت، تطلب الحياة وهي تبدأ بالحياة الجسدية. «لم يظهر الروحي اولا، بل البشري، وظهر الروحي بعده» (١كورنثوس 15: 26). وانتظام الدولة قائم اولا لخدمة الانسان الطبيعي ثم نداء الله اياه يجعله ممتلئا حياة روحية. في البدء يكون المجتمع المدني ثم يصعد من داخله ناس يتروحنون بالعطاء الإلهي الذي ينسكب عليهم فيكونون على الأرض اهل سماء وفي عصر الأزمات لا تتوارى عن اهل الحب السماء التي يحجبها الكثيرون عن انفسهم وهي تخترق نفس من احب اختراقها لكي تجعله منذ الآن انسانا ملكوتيا.

                      لماذا نقيم هذه الذكرى في منتصف زمن الصوم؟ اننا قد لاحظنا ان بعضا من الصائمين يملّون جهادهم وينحون الى الاسترخاء فلئلا تضيع صورة المخلّص عنهم نضع لهم هذه الصورة التي اذا انطبعت في قلوبهم تمكّنهم من الاستمرار بالجهاد اذ ليس يجوز في الحب الملل ولا يسوغ التراجع بعد ان نزلت عليك الرؤية. وينتج عن قبلة الصليب ان المؤمنين يتعانقون وقد عرفوا ان السيّد نفسه بموته قد عانقهم ونقّاهم ورفعهم بالروح الى الآب.

#         #

#

                      ينتج عن هذا ان قتل النفس لا يجوز طلبا للسلام. فالرب لا يميت ولكنّه يؤدّب. وانت تدع خصمك او من ظننته كذلك للرب الذي يحييه بتهذيب من عنده فإنك ان قتلت احدا تخرجه من إمكان التوبة وتتحجّر نفسك او تنصدع بحيث يستحيل عليك ان تضمن لك توبة في اي يوم من ايام حياتك. وامام حرمة الحياة يستوي الخاطئ والصالح. كلاهما الله ضامنه وواعد بتنقيته وهو الذي جعل في يديه وحده سلطان الحياة والموت. ونحن نعيش بعضنا مع بعض على رجاء كسب كل منا الطهارة الذي تنزل علينا من فوق.

                      لم يفوّض الرب أحدًا بأن ينفّذ عنه موت الآخر وهو القائل لكل قاتل: «قايين، قايين اين أخوك؟» اي كان عليك ان تعايش أخاك الذي لم يكتب عليه الفناء بيد أخيه. وتعميم المعنى ان كل انسان اخوك لأنكما اتخذتما عطاء الحياة الواحدة ووعدا إلهيا بأن تنموا معا. واذا خفت نشوز اخيك فعليك بالموعظة الحسنة وان تصالحه بالرأفة التي فيك عسى الا تنبت بذور الخطيئة ويرد لك الصالح بالصالح وتلتقي نفسك بالبهاء الذي في نفسه اذ ليس من احد خاليا من البهاء.

                      كان عندي قبل الحرب في لبنان موظّف نسمّيه قواسا وهو حارس للأساقفة في بلدنا وللقناصل والسفراء في استانبول وهذا من باب رعاية السلطنة العثمانية لهذه الفئات من الناس وكان لهؤلاء الحق ان يحملوا سيفا وفي العصور الحديثة مسدسا. وفيما كان هذا الشاب يتمشّى في بيتي امامي احسست ان تحت سترته مسدسا. سألته: ما هذا؟ قال هذا سلاح رخصته الدولة. اجبته انا لا اريد ان تحميني لأني اؤثر ان أموت من ان يُحكم على شخص آخر – ولو قتلني ـ بالاعدام او السجن المؤبّد وغالبا ما كان رب عائلة وانا ليس عندي عائلة وجرّدت الرجل من السلاح.

                      الرب أعزل ونحن على مثاله وليس لنا شأن بالسلاح. لذلك كنت دائما اكره كلمة صليبيين التي اتخذها الفرنجة في القرن العاشر لما هاجموا بلادنا. كانت صدمتي بأنهم يقتلون باسم من قال: «يا بطرس رد سيفك الى غمده لأن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ». وهذا الكلام جعل الملايين من المسيحيين يشهدون اذا استشهدوا. وهذا الكلام ادخل الى القانون الكنسي ان الكاهن او الراهب لا يسوغ له الدفاع عن نفسه لأن في ذلك احتمال قتل لآخر. والقانون عندنا يقول ان الكاهن لو قتل شخصًا  عن غير عمد اي بحركة خاطئة ينبغي ان يوقف عن اقامة القداس الإلهي كل ما تبقى له من حياة.

                      لما حل المسمّون بلغّتهم صليبيين في بلادنا وأمعنوا فيها الفساد كان عند المسلمين لياقة اخّاذة انهم سموهم فرنجة ولم يسمّوهم صليبيين لعلمهم ان المسيحيين لا يقتلون.

                      المسيحيون باقون بقوة المسيح فقط ولا يسعون الى طريقة اخرى وهم يغفرون للقاتل. ليس لديهم سلاح آخر وما لهم شهوة النفوذ ولا الحكم ويعرفون ان الغلبة لكلمة الله ومشيئته. لذلك لا يقتنون سلاحا وقد قيل لهم: »لا تخافوا ممن يقتل الجسد خافوا بالحري ممن يقدر ان يلقي النفس في جهنّم« وجهنّم، طبعا قائمة للمعتدين.

                      ليست الدنيا تقاسم غنائم. انها إنفاق مغانمك على المحتاجين والمحتاج اذا شاركته ما عندك يرفعك الى السماء لأنك لا تقدر ان ترفع نفسك وحدك الى السماء ولكن يرفعك الإخوة ان احببتهم والإخوة هم كل الناس الى اية عقيدة انتموا. وانت قادر بالرحمة ان تجعلهم من اهل السماء في اليوم الذي يديننا الله فيه اجمعين. «يأتون من المشارق والمغارب ويجلسون في احضان ابراهيم وابناء الملكوت يلقَون خارجًا». ضمانتك الوحيدة لتصبح من ابناء الله ان ترى ان لله أب لجميع البشر.

                      انا ما دعوتك الا تنادي بالمساواة بين ابناء الوطن الواحد. ولكن اعلم ان ليس لك كرامة مستقلة عن كرامة الآخرين. وعليك ان تطلب حريتك لأنها هي الكرامة. ولكن قد تداس. عند ذاك تسعى الى الآخر بالكلمة ونضال الكلمة ولا تكون من زبائن الاجنبي لأن ذاك لا يصون الا نفسه ولو قال غير ذلك. والكلمة فعالة ان كنت انت عظيمًا في الحب. قد يكون لسواك لغة غير هذه اللغة. هذا شأنه وله من يدينه. اما انت فلك فقط جهاد النفس. ولا احد يقدر ان يكون على قلبك طاغية وانت انسان القلب ولا سيما ان المسيحية لا تعرف نفسها كتلة بشرية او حزبية. لذلك لا تناصر الا المظلومين ولكن دائما بالكلمة الحلال والبروز الطاهر للنفس. واذا كنت من القارئين فالوحي عند المسلمين يقول: «من قتل نفسًا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (المائدة ٣٢). فعلى صعيد التعامل الشخصي نحن مع المسلمين واحد.

                      لذلك كانت الميليشيات كلها باطلة في عيني الرب وكان القتال الداخلي باطلا ايضا في عينيه. واعلم ان الفتنة مدخل الى القتل.

                      نحن جميعا مدعوون الى الجدية كاملة اذا اردنا الا يموت احد بيدي انسان فنكون من الظالمين فكل منا وكيل الآخر على حياته ونموه وازدهاره والحفاظ عليه في كل ظرف من ظروف البلد وفي كل ازمة من التاريخ حتى يعلو حق الله ولا نمحق وجودا جعله الله لمجده وصانه مع عياله وفوّضنا امر حياته مهما اشتدّت علينا المحنة اذ الرب قادر ان ينجينا من وطأة التجارب بسلام ينزله علينا نعمة من عنده.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

شفاء مفلوج /الأحد 4 آذار 2007 / العدد 9

سُمع أن يسوع في بيت والناس يلتمسون من فمه كلمة او من قوته معجزة. واصطف الناس كثيرين. «وكان يخاطبهم بالكلمة»، بكلمات الملكوت، بكلمات التوبة الآتية من الأنبياء وليس لنا كلمة اخرى اذا قمنا واعظين.

أتوا اليه بمفلوج ولم يقدروا ان يصلوا اليه بسبب الازدحام ففكّروا بأن ينقبوا السقف وكان كالسقف في جبل لبنان: بعض ألواح من الخشب يغطيها تراب ترصّه محدلة، وهذا تفتحه ايادٍ قوية. دلّوا السرير المضطجع عليه الرجل. السؤال الذي يواجهني اليوم: هل اذا كنت انا ذا قلب مفلوج او متحجّر ألتمس لينه من يسوع؟ هل أريد مع السيّد قربى ام أؤثر البقاء على تحجّري وقساوتي؟ هل لي مع المعلّم عشرة الصديق والصديق؟

عند رؤية المخلّص للمريض، كان حاملو هذا لا ينتظرون من السيّد سوى الشفاء. هم جاؤوا لهذا واذ به يقول شيئا غير منتَظر. يقول: «يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك»، كأنه كان يقول ان هذا هو الامر الأساسي في الحياة. لا شيء ذو قيمة ما لم يصالحنا الله مع نفسه وما لم نحس انه كل الوجود.

اعتبر الكتبة، اي علماء اللاهوت، الذين كانوا مع الجمع هناك ان يسوع ينطق بكلام التجديف لأن نبيا في اسرائيل او معلما لم يقل لأحد: «مغفورة لك خطاياك». هذا يعني ان هذا يأخذ مقام الله. كيف يقدر هذا ان يجعل نفسه في صف الله؟ جادلوه في هذا لأن في موقفه ادّعاء انه ابن الله، فأراد ان يثبت قوله بالفعل. لذلك اكد سلطانه لهم: «لكي تعلموا ان ابن البشر له سلطان على الأرض ان يغفر الخطايا»، قال للمخلّع: «لك أقول قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك».

كان السيّد يعرف ان له سلطانا على النفوس والأجساد، واغتنم هذه الفرصة ليؤكّد ذلك ويبيّن لهم انه يحمل قدرة الله كلّها. هذا اذًا ليس كالانبياء الذين سبقوا. كلماتهم كانت تنقل الفكر الإلهي. اما هو فشخصه ينقل قوة الله ذاتها.

ما العبرة الأساسيّة من أعجوبة المخلّع كما أوردها مرقس؟ هي تذكير كل واحد منا ان عافيته الحقيقيّة في توبته. كل مشاكلنا في هذا الوجود اننا نجعل التوبة موقفًا سطحيًا ونقارنها بالأشياء الأخرى ونعطي لكل شيء حقه. هذا هو الخطأ بالذات لأن الرجوع الى الله لا يُقارن بشيء. هذا المريض ذهب الى بيته. نحن اذا تبنا نذهب الى بيت يسوع. نسكن فيه ويسكن فينا وتُشفى نفوسنا ولو بقي الجسد متعبا او كل أمور معيشتنا متعرقلة او اشغالنا واقفة.

هذا كله لا يعطل عمق الحياة. اما اذا فرغت الذات من الله ومن ملاطفاته فكل أمور الدنيا لا تملأها، لا تزيدها بهاء. تبقى جافة، بلا حيويّة.

هذا المفلوج «قام للوقت» وعاد الى بيته. نحن يمكننا ان نتوب بلحظة اي في لحظة واحدة نحس ان الرب هو كل شيء. احيانا تتطلّب التوبة وقتا غير قصير وتروّضنا على معرفة الله. لذلك ارادتها الكنيسة ان تكون ممدودة على مدى الصيام وتجعلنا نتذوّقها يومًا فيومًا وأحدًا بعد أحد، ويبقى الهدف ان نعي اننا احباء الله وهذا هو منطق التوبة. واذا ادركنا اننا محبوبون وان الفرح هو في إدراكنا هذا، نذهب توا الى الله ونبقى في أحضانه.

وتتصاعد صلواتنا وتشتد اسبوعًا وراء اسبوع حتى لا يجدنا يسوع عند الفصح مفلوجين. كل القصة ان نمشي الى القيامة ونحن معافون حتى يجدنا المسيح من جنسه عند صباح الفصح.

ونزداد يقينا بهذا اذا عرفنا اننا نقيم اليوم عيد القديس غريغوريوس بالاماس الذي خصّص تعليمه كلّه للنور الإلهي وفهمنا منه ان النعمة التي تنزل علينا هي قوة الله بالذات اي ان شيئا منا لا يبقى خارج الله إن نحن سلّمنا اليه قلبنا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الحرية الكاملة / السبت ٣ آذار ٢٠٠٧

ان تكون على علاقة حميمية مع الرب يعني ان تكون حرا من كل انسان وفي البدء حرا من قلبك. انا افهم ان تجمعك مع قومك – اهل الضيعة او بني طائفتك ـ انسجام عاطفي، طبائع متقاربة، عصبية تاريخ، دفء. ولكنك لا تجيء منهم لأن عمقك لا صلة له باللحم والدم ويجب الا يكون اسير التاريخ  ولا أثر فيه للخوف اذ الخوف يحدث القوقعة والقوقعة تحتاج الى تلك الحرارة التي تجعلك من ذويك او بعض من ذويك.

                      اما اذا نزلت من فوق حيث انت جالس مع الله ولو سرت على هذه الأرض فالسماء مدخلك الى الناس وانت مرجعهم اليها اذ ينشدون بك الى رب السماء ويتصرّفون هنا كأهل سماء فاذا عادوا اليك لا تحركهم عصبية ولا يثيرهم سلطان شهواتهم اذ يعرفون انك لا تشاطرهم شهواتهم لأن ما يحركك انت سلطان لا يأتي من تراصهم ولا من غضبهم الجماعي الذي يأتيهم من انتفاخهم.

                      افهم ان تدفع لحمة العقيدة الى خدمة ذويك ولكن الخدمة ليست التناصر. انت تنصر اخاك على الظلم اي اذا بات مظلوما ولكنك لا تنصره اذا ظلم هو نفسه لمجرد ان بينك وبينه نسابة او وحدة دين. الدين ينزل من عند الله ولكنه لا يصل الى كل النفوس او يصل مكسورا او مجزأ او مشوهًا. هذا الإنسان لست كفيله في اعوجاجه. ما من شك انك راعيه ولكنك انت راعي الآخر وتضحي من اجل الراعي والمرعي.

                      انت من رعية اهل الله فقط ولك معهم عهد الطاعة للإله الجامع بينكم. وانت فيهم كفيل الفقراء والبسطاء لأن هؤلاء الله نصيبهم. واذا كنت من ذوي اليسر فاقترب اليهم ليعرفوا ان الخلاص في الدنيا يعطيه المحبون. اجعل المحتاجين مجتمع الحب اي الذين يعرفون ان الرب يملأهم من خيرات الأرض ويعزيهم بما يقوله لقلوبهم وبما ينفحهم من نفحات الروح.

                      ولكن هذه المجتمعات التي ينشئها الروح الإلهي والنفوس الملطفة به مولودة عند فجر الجودة وليست من المدى ولا الزمان ولا تتموضع فيهما. لذلك لا يسري عليها حكم التراص. من هنا انها تبدد بلاقوة فهي لا تتفاخر بما تملك اذ لا يعني لها ما تملك شيئا وتشعر بأنها كلما افتقرت الى الله تزداد هنا قوة وعزما واذا تعرت فالله ثوبها او جاعت فهو طعامها. لذلك ليس لها وجود بمقاييس اهل الدنيا، ولكنك تحس بغيابها اذا غابت.

#               #

#

                      لا يفهمنّ احد اني احزن اذا رأيت لصوق المسلم بالمسلم او المسيحي بالمسيحي على سبيل المثال. ففي كل مجموعة تراث واجبة رعايته وربما اتسمت كل طائفة بطبائع جميلة ولياقات تحمل السلام وسكائب روحية تشفي النفس المتعبة. المسألة كلها في حركتك الى من كان من مجموعتك الروحية ومن لم يكن منها على المستوى الجماعي كان هذا او على المستوى الفردي. هنا لفظة طائفة في لبنان ملتبسة. على صعيد القلب. انت معها لأنها وريثة الله بتعليمها وصلاتها ولست منها في حركتها الاجتماعية اذ يجب ان تتحرك وطنيا فليس من وطنيات صغيرة ضمن الوطنية الكبيرة. انت ليس عندك اصطفاف طائفي الا بسبب قيود الدولة واذا كنت مسيحيا لك مع إخوتك المؤمنين اصطفاف في جسد المسيح وهذا لا يعني شيئا على المستوى الأرضي الا ما نسميه اعمال الرحمة. ولكن ليس من تضامن ازاء تضامن وتنتفي هنا العصبيات.

                      من هنا اود ان اقول ان في الحياة الدينية شيئين مختلفين كليا وهما العقيدة والمحبة. فعلى مستوى العقيدة انت موحّد مع ابنائها وهذا يراه الله وله تعابيره في العبادات. اما المحبة فواحدة لجميع الناس إطلاقا فأنت محسن للمؤمن بديانتك ولغير المؤمن بها وتنصر اهل الحق وتقوم معهم بحركة واحدة نابعة من القلب.

                      من هنا اني لا افهم كلمة الأمة كما يستعملها المسلمون. لا انكر على المسلم ان يكون اخا المسلم في العقيدة ولكن هذا لا معنى له في الاصطفاف. اركان الاسلام شيء آخر وتوحد.  ولكن وحدة القلوب واحدة مع كل الناس بما فيهم المشركون والملحدون لأن الله وحّد نفسه بهم بما يسميه المسيحيون أبوة الله.

                      الأمة هي امة الله حسب الاستعمال القرآني واذا شنت استعمالها هكذا ولا تريد ان تتطوّر الدلالة لا مانع عندي. عند ذاك يجب ان تفتش عن مفردة اخرى للدلالة على المجموعة الوطنية حتى تحس انك واحد منها وواحد فيها. من الواضح ان المجموعة الوطنية كيان عضوي او جعلناه عضويا بسبب التوحّد الوطني الذي اصطلحنا عليه. كذلك الطائفة كيان عضوي قائم على المعتقد الديني. الكتلة الوطنية، مجموعة، لا دين لها ولذلك اذا تكلمت على دولة دينية – وهذا زال في الشعوب المسيحية – تعني استلهاما لقانونها الوضعي من شرع إلهي. وهذا ما هو حادث في الدول الاسلامية ولكن حيث لا شرع مسيحيا لا مجال لدولة مسيحية. من هنا انه لا مهرب من وجود كتلة وطنية موحّدة بالروح الوطنية والإخلاص لدولة ولكن ليس فيها إخلاص لمعتقد ديني كما انه ليس فيها من إمكان لنفي اي معتقد ديني اذ تبطل ان تكون دولة لتصير كنيسة او امة إلهية كما هي الحال في الاسلام. بكلام آخر، انت مضطر على العلمانية اذا اردت ان تقيم دولة بالمعنى الحديث، ذاك الذي يقوم فيه التمييز – ولم أقل التفريق – بين المعطى الإلهي والمعطى الدنيوية

                      نحن في لبنان لسنا مرتبطين كدولة بمعطى إلهي. لذلك ارتضينا الطوائف كما ترتضي هي نفسها دون ان نناقش اساسها الديني.

                      من هنا انه يسوغ ان تكون لمجموعة طوائف موقف وطني واحد لأن هذا الموقف مبني على المصالح الوطنية التي هي من هذه الدنيا.

#              #

#

                      هذا الفكر الحديث ما في ذلك ريب مصدره فلاسفة عصر الانوار في القرن الثامن عشر وقبل هذه الحقبة لم تكن من دولة حديثةولم تكن حرية دينية ولا شيء يقنعي  ان الدولة الدينية تعترف بحرية الاأديان بصورة كاملة. لها ان تعترف بشيوع الوظائف على كل المواطنين وحرية العبادة ولكنها لا تعترف بالامتداد غير المحدود للديانات الأخرى ولا بالحوار الديني اللانهائي او الدعوة او التبشير.

                      عندنا اليوم تكتلات حزبية من مختلف الطوائف وهذا بحد نفسه حسن وقد يكون هذا شبه ضمان لعدم الاحتراب الديني او المذهبي ولكن لا يعني هذا اننا استأصلنا اساس التوتر الطائفي اذا تغيرت الأحوال السياسية. اتمنى ان يعني هذا اننا فصلنا الدين عن القتال. واتمنى – اذا صدقنا جميعا – ان نزيل اسس التحارب في علمنة معيشة وان لم نقل بها جميعا من الناحية النظرية.

                      اذا حل السلام – وهو اسم من اسماء الله الحسنى- نفحص في جو من الأخوّة الشأن الديني المجتمعي وإمكان الحوارات الدينية والتلاقي بين الأديان في المجال المجتمعي وربما في المجال النظري بحيث نكافح الانغلاق النظري وتاليا الانغلاق الحياتي.

                      ويعزيني انا المسيحي الارثوذكسي اننا غدا نعيد لقديس عاش في القرن الرابع عشر يدعى غريغوريوس بالاماس اوضح المعتقد المسيحي القديم القائل بأن ثمة قوى إلهية أزلية نشترك فيها فنكون آتين روحيا من الله نفسه تقديسا كما أتينا منه خلقا دون ان نقتحم الجوهر الالهي لأن هذا يكون شركا. متى يصبح اللبنانيون مألوهين (والكلمة اسلامية) ؟ اي متى يتخلقون بالاخلاق الإلهية (والعبارة اسلامية ايضًا)؟

                      كل رؤية اخرى ترقيع. البلد لا يقوم فقط على القوانين والمؤسسات. هذه حسنة ولا بد منها. البلد يقوم على الطهارة وهذا ما يسمونه – باللغة السياسية مكافحة الفساد. غير ان طهارة الوزراء ومندوبي الأمة وموظفيها هي اعلى درجة من مكافحة الفساد. هي ان يدنو اهلنا من الله دنوا صادقا، شجاعا حتى يصبح الله – في عقولنا- ملك البلد كما هو في ذاته. متى نعترف بأن لنا في الطاعة له حياة فضلى بل افضل حياة؟ هذه هي حريتنا الحقيقية التي اذا اقترنت بالحريات العامة تقيمنا في تجليات عظيمة.

Continue reading