المسيحيون الأرثوذكس يلحّون كثيرا على التوبة الحقيقية اللابسها الكيان ولا يكتفون بالندم على ما تراكم فيهم من خطايا. في المبدأ كل المسيحيين واحد ويبتغون هذا الرجوع بالعمق الى الله غير ان الارثوذكسيين يملأون كل عبادات الصوم بهذه الفكرة وهذا التصميم لكونهم يسعون الى مألوهية الانسان منذ الآن ويتوقون الى الا يقيموا فاصلا رهيبا بين هذه الدنيا والملكوت الأخير وتزعجهم – مع ان العلماء المدققين لا يرفضونها – عبارة مارتن لوتر ان الانسان دائما بار ودائما خاطئ. الأرثوذكسيون يشدون الخاطئ الى البر بحدة ويهيكلون الصوم كله يوما بعد يوم ليرتفع الانسان الى اهتداء كيانه كاملا الى النور ولا تبقى ثنية من الظلام فيه.
لا يريدون حضورهم في الله مجرد توق. لا يحبون الرغبة. يريدون الاقامة في حضن. وتهيؤًا لمناولة القربان يطلبون ان يكون هذا القربان “لكمال ملكوت السموات” وكل من قرأ حرفا في اللاهوت يعرف ان هذا غير ممكن وان الكمال عند القيامة الأخيرة. ولكنهم هكذا في حالة اشتياق الى السيد يريدون ان يتحقق الملكوت الآن وان ينتصروا الآن على الخطيئة.
ويكويهم هذا الشوق فبعد أن تأملوا الصليب منذ أسبوعين يأتون الى ذكرى القديس يوحنا السلمي الكاتب الصارم على الخطيئة والفضائل ثم يأتون الى هذه التائبة مريم المصرية التي لا نعرف احدا كسر الخطيئة كسرا وامتشق روحيا امتشاقا مذهلا مثلها وكانت اشد طهارة من نساك الأردن حيث عاشت وذهل بها صفرونيوس بطريرك اورشليم الذي كتب سيرتها ثلاثة قرون بعد انتقالها الى الرب.
لماذا حركت مريم المصرية كنيسة الشرق؟ ربما لأنها تعاطت الفسق وفي المسيحية العربية الكلمة تعني خطيئة الفتى العزب او الفتاة وتخصص كلمة الزنا للمتزوج او المتصل بمتزوجة. لماذا اتخذت الكنيسة نموذج فاسقة تابت مع ان آباءنا يعتبرون الكبرياء اشد هولا من الزنا. لست أظن ان استهوال الفسق دخل الينا من الرهبانية ولكنه دخل من استخفاف بالتراث اليوناني الراسب عندنا ولا سيما اهل الغنوصة او المعرفة. في التاريخ المسيحي بدءًا من بلغاريا (البوغوميل) وانتهاء بفرنسا (الكاتار) كان الفسق شائعا في هذه البدع لكونهم كانوا يحتقرون الجسد ويعتبرونه لا شيء. ثم ظهرت حركة فسقية في روسيا من ضمن المسيحية.
كانت المسيحية تخشى تدنيس الجسد ووضعه في مكانة دونية على رغم تقديسها للزواج بكلمات أخاذة عند بولس. ربما ان الاعتداء الفكري على العفة جعل الكنيسة تتخذ هذه الفتاة مريم المصرية التي انتهك عفافها صورة للخاطئ المهتدي.
# #
#
الاسكندرية موطنها. كانت في القرن الرابع اسبق مدن الإغريق في الحضارة . كان قد بقي فيها شيء من الفلسفة تعيش من أفلوطين وفيثاغوراس وفيلون الاسكندري (اليهودي) ولكنها كانت مبدعة في النحت والعمارة والفلك والأناقة المترفة وتدلنا على ذلك المنحوتات الصغيرة المحفوظة بمتحف الاسكندرية. أظن ان قديستنا عاشت في هذه البيئة المترفة لأن صفرونيوس يقول انها تعاطت الفسق طلبا للعشق وليس التماسا للمال. ما يعني انها لم تندفع الى الخطيئة بسبب الفقر.
في هذا الانجراف ما كانت واعية – على ما يبدو من تحليل دقيق للسيرة- انها كانت مصدومة بسبب من ايمانها. على الأغلب انها حجبته عن وعيها ولم تلغه ودليل ذلك انها أرادت ان تحج الى القدس بمعنى انها لم تطرد الله طردا كاملا من نفسها والسيرة تقول ان قوة سرية خارقة منعتها من دخول كنيسة القيامة. الأرثوذكسيون يفهمون هذا جيدا عندما لا يستطيعون ان يقبّلوا ايقونة اذا خطئوا ثم انحلت الصعوبة عندها.
بعد هذا ذهبت وسكنت برية الأردن سبعا واربعين سنة. كيف عادت الى شفتيها آيات المزامير وكلمات الاستغفار؟ بالايمان نقول انها اعتمدت ببكائها بالعلم نقول ان هذا الاندفاع الرهيب الى الفسق صعقها صعقة قوية كما اخترقت الارض الاولى منذ ١٥ مليار سنة بشعاع من نور فجّرها وظهرت العوالم الاخرى. يُلمَس الانسان بلمسة علوية يعرفها المؤمن فيصير فورا انسانا جديدا. كيف يهدأ جسد فتاة دون العشرين. نحن نعرف ان الجنس يتحرك بقدرة من الدماغ وذلك بواسطة غدة وهرمونات. ان الخيالات المؤذية جمدت عند رؤيتها ايقونة مريم في كنيسة القيامة وصار هذا الجسد الى هدوء. هذا اقرب تفسير ممكن الى العلم ولا يناقض قول الأبرار عندنا الذين يقولون ان الله هداها. الله عندنا يستخدم قوى الطبيعة.
نصف قرن من النسك كان كافيا ليجعلها مجرّدة من كل شيء او في حالة الرث الكبير وتبدو هكذا تعيش من أعشاب الصحراء. القاص الكنسي كان همّه ان يقول ان الذين يلبسون الله ليسوا في حاجة الى ما هو من المادة. وقد اضافوا الى هذا في كتب النسك عندنا ان ما سموه “الأفكار” اي هذه الآتية من الدنيا انما تحولنا عن الرب. الفكرة المقولة في هذه الأدبيات ان النور الإلهي يغذّي المؤمن المجاهد. وهذا ليس من المخيلة اذ يعرف كل الصوامين ان الكلمة الإلهية تعوّض عن الطعام او تصير هي الطعام بمعنى ان الأتقياء لهم نواميس ليست من الطبيعة.
غير ان ثمة خبزا لا يُستغنى عنه وهو الخبز النازل من السماء ويريد به المسيحيون شيئين: الكلمة الإلهية التي تصير لهم طعاما وما يتخذونه كقرابين يعتقدون ان يسوع يجعلها بالروح القدس إلى جسده ودمه أي إلى كيانه.
مريم المصرية كانت في حاجة الى هذا الذي آمنت انه هو الذي يغفر لها خطاياها واختصارا لقصة زوسيما الذي تذكره السيرة اتى هذا الراهب اليها بعد ان اهتدى الى مكانها فتناولت بالقرابين المقدسة بعد انقطاع كبير فسميناها بفعل هذا التقديس العجيب امنا مريم المصرية التي استوطنت فلسطين ثم قلوب الصائمين اذا سعوا بجد الى الطهارة.
ثم عاد زوسيما ليناولها ثانية يوم الخميس العظيم في السنة اللاحقة فوجدها قد ماتت. وتجليّاتها لم تمت . لأن كلّا منّا كان مثلها بهذه الخطيئة المتحكّمة فيه او تلك وفي لحظة مباركة لامسته النعمة او انقضت عليه وحوّلت وجهة قلبه واتجاه فكره وتجرد من دنياه التي كانت فيه متحكمة الى الرب القدوس الحاكم وحده القلوب المرتدة اليه.
اظن ان الاعتبار الاساسي الذي وضعته الكنيسة نصب عينيها ان تقول للخطأة المتوغّلين جدا والمتوغّلين قليلا في الشر ان خطاياهم ليست نهائية او حاسمة او ان تكرارها حتمي. هذا هو بهاء الايمان ان له القوة على البقاء وان الشر لا قوة له الى الابد لأن الانسان مصنوع على صورة الله وحسب مثاله وانه قادر ان يتحرك الى الخير اذا انعطف الله عليه وهو عطوف واذا الانسان اراد ان يتخلّص من شره صادقا.
انا اعرف اناسا تابوا الى الله توبة طيّبة نصوحا وماتت ميولهم الى الشهوات المؤذية واعرف انه لم يبقَ لهم أدنى ميل الى سيئاتهم السابقة ولكن هؤلاء كان يجب ان يكتشفوا محبة الله لهم وان يستنتجوا من ذلك انه يمدهم بقدرته لتخطي ما كانوا عليه. ان الاستعفاف الكامل لفاسقة مثل مريم المصرية للدليل ليس فقط اننا قادرون على تجاوز هذا النوع من السقطات ولكن لكل سقطة.
الله سيد على المستحيل، لما احس به الانسان مستحيلا. والتوبة الحقيقيّة لا تقوم على ان الدنس يزعجنا ونؤثر عليه الصلاح لكونه يريحنا. التوبة ان تتوجه بكل قدرتك وكل عزمك وكل قلبك ونفسك الى الاله المحب لتقيم معه أُلفة كالألفة التي كانت لك مع معاصيك. لا يكفي ان يكون دافعك الاستراحة من المعصية ومن أذاها. فإن لم تستجب لحب الله إياك بحبك اياه اي بالطاعة يكون ما اعتبرته توبة حركة بشرية انت مركزها. التوبة العميقة هي التي كان الرب مبدئها ومرجعها.
التوبة في الأخير هي عبادة للرب اي خروج من أناك المنغلقة على ذاتها والتي كانت تسعى الى ملذات الدنيا لترتاح اليها. واذا اكتشفت ان سلامك هو العودة الى وجه الرب تبدأ بالإيمان بأن هذا ممكن والممكن برأفة الله يصبح فيك حقيقيا.
Continue reading