كفاك أن تشاهد التفجير والاغتيال لتدرك ان الموت جزء من حياة الذين ذهبوا والذين استبقاهم ربهم. بادئ بدء ليس هذا الفراق كارثة. انه حادثة. ولو كان من يتوفاه ربه عظيما فعظمته نرثها جميعا وهو يتمتع بجمالات الله في ملكوته. السؤال الباقي هو لماذا نخشى الموت او نرده عنا بالعلاج والصبر او ندنيه الينا بمخافته. أمي كانت تقول: «رب الموت خاف من الموت» وهي في مسيحيّتها كانت تعني المسيح. وفي فهمي ان الناصري خاف لكونه شاركنا في كل بشريّتنا وليدل انه ليس جبارا اسطوريا.
كانوا يقولون لنا في المدرسة المسيحية التي نشأت فيها اننا نخشى المنية لأن الله خلقنا من أجل الخلود فحلت الخطيئة وكسرت الخلود. ما يدعم هذا التعليم قول بولس: «أجرة الخطيئة هي الموت» (رومية 6: 23) وكأن الرسول يوحي ان الموت طارئ. لست أظن ان العلماء يناقضون بولس اذا قالوا: ان ما نعرفه عن الحياة حتى الآن يدل على انها منتهية ولكن واحدا منهم لا يستطيع ان يرى علاقة بين السبب والمسبب. هم يلاحظون الموت ويتكلمون عن سبب مباشر (القلب، السرطان وما اليهما) ولكن واحدا لا يجرؤ ان يحدد زمن النهاية. لعل ما يعذبنا اننا نجهل زمن انحلالنا او إسلام الروح.
نبقى اذًا أمام سر ليس معطى لإنسان اختراقه او ان يواجهه بكامل المعرفة ولا بشيء من التهيؤ. المؤمن يتعزى اذا كان حقا يعايش الله بما يبدو له فضيلة عنده او توبة فيه ولكنه لا يكابر ان كان مؤمنا لكونه لا يعرف في انه يقيم في توبة عميقة. كلمة السيد في هذا الصدد: «كونوا مستعدين لأنكم لا تعرفون الساعة» دعوة وهي ليست شهادة على اننا في كامل الحضور النقي اذ الرب وحده يعلن لك عند الدينونة وضعك الحقيقي أمامه.
لا يستطيع احد ان يواجه قبيل فراقه سؤال اللماذا؟ لماذا اليوم وليس غدًا؟. يقدر ان يواجه الى حد محدود الكيف. انسداد عدة شرايين بلا انتباه او معالجة على سبيل المثال. انتشار السرطان الى عدة اعضاء. هذا اذا اخذنا المرضين الأفتك في إحصاءات أوربا. ولكن كيف تعيش امرأة انقطعت لفقرها خمسة أشهر عن أنابيب الاوكسيجين، كيف يعيش انسان ثلاثين سنة وتتمشى فيه الخلايا السرطانية. الكيف اذا نفسه لا نعرفه. الطب علم احتمالات والمخلصون فيه يقولون لك ان فيه قسطا من الفن كبيرا اي ان مقدار الاختبار فيه كبير ويضيفون ان ممارسته تتطلّب مستوى من الأخلاق. نحن اذًا في عالم المجهول الكامل للسبب والكيف. لعل ذلك يشكل عنصر الخوف الأساسي.
# #
#
اذا نظرنا الى الأمور نظرة طبيعية وطرحنا جانبا كل اعتبار إيماني يبدو لي ان الخطيئة الكبرى قول فرويد ان عندنا غريزة الموت. نحن ليس فينا الا غريزة الحياة. لذلك ينبئنا اقتراب الموت بانتهاء كل شيء ونحس على مستوى الطبيعة على انه العدم. الجانب النفسي فينا الذي هو رغبة البقاء الى الأبد يناقض الجانب البيولوجي الذي هو خراب هذا المختبر الكيميائي الذي اسمه الجسد كأن التصادم مسجل بين هذين الجانبين من كياننا الإنساني.
هناك كلام حديث عن تمديد الحياة. هل هو تمديد سيكولوجي على أساس الوعي يرافق التحديد الجسدي. الدراسات ليست متقدمة بالقدر الكافي. والدراسات الاقتصادية مخيفة اذ يترتب عليك ان تخدم معيشة ناس لا ينتجون الا اذا تقدمت المعطيات بصورة لا نترقبها بعد فيبقى الشيخ على عطائه كالكهل او الفتى. من المؤكد انه اذا عظم العجز وكثرت الأمراض قد يرغب المسن في خروجه من هذا الوجود ولكن قد تدخل عناصر علاج جديدة ولا يضعف الفهم وتتشدد عند الانسان غريزة الحياة.
من الواضح في الأبحاث كلها وتأمل السلوكيات ان البشرية «المتطورة» لا تتكلم إطلاقا في الأمور الروحية. ليس عندها اي انتباه لمسألة لماذا يرغب في إطالة العمر. الفلسفة الوضعية تحكم كل الأبحاث السائرة في العالم. يحكى احيانا عن الصلاة لغايات بيولوجية ولكن الصلاة تؤخذ اداة لغاية أمور في الدنيا. ولكن على رغم هذه الفلسفة الوضعية لا يتصالح احد والموت. يبقى عند الكل، إحساسا، طريقا الى إلغاء الوجود.
# #
#
كيف يعود الشعور بحياة ما جديدة الى انسان متيقن غريزيا من عدم المنعة فيه. اذا لم ينزل عليك شيء فوق الغريزة يستحيل عليك ان تغلب الموت بتجاوزه. لا تتخطاه الا بشيء آخر ليس منه وليس في طبيعتك، ذلك ان كيانك كله مجروح بمخافة الموت والعنتريات لا تنفع هنا. كلنا ضحايا هذا العدو، والعدو الأخير كما يسميه بولس. لذلك لا تطلب المسيحية ان تصالحه. تطلب ان تميت الموت وان ينشأ فيك عند ذاك شيء جديد لا يأتي منك فتصير، على رغم كونك في القبر، كيانا جديدا. اما ان تصالح جثتك فهذا مستحيل او ان تصالح جثة نسيب او صديق فهذا ايضا مستحيل اذ يعني هذا انك صالحت اللاشيء.
اذا كانت خشية الموت سيفا مصلتًا عليك انّى لك الا تخاف خوف الموت. انّى لك ان تخرج من هذا الخوف؟ في اللغة المسيحية انت تخرج من الموت بما نسميه «رجاء القيامة والحياة الأبدية». الرجاء رجاء الى ذاك الذي وحده يغلب الموت اي الله بحيث انه يتعهّدك من موت وينقلك اليه في الرجاء بانتظار القيامة التي تجعلك انسانا ذا جسد نوراني حرا من الفساد وحيا الى الأبد.
نحن لا نتحدث باستفاضة عن مآل الروح. نعرف انها في رعاية الله، في رحمته وهو يرحم من كان طالبا الرحمة، معتقا من وطأة الخطايا حسب قول بولس: «من مات تبرأ من الخطيئة»، له اتحاد بالله الذي يرفع عنه نير الموت والمعصية، ناقلا اياه من رتية الى رتبة في الرحمة لأن الإنسان لا يدخل الملكوت الا بها. لا نعرف في الكنيسة الارثوذكسية تحديدا لوضع النفس الا كونها في قبضة الله على انتظار القيامة. لذلك نصلي من اجل الذين ماتوا وهم في الحقيقة ضمن العطف الإلهي.
لهذا ينتقل لاهوتنا الى الكلام عن القيامة التي يوضحها بولس الرسول بهذه الكلمات عن نفسه: «هذا شأن قيامة الأموات: يكون زرع الجسم بفساد والقيامة بغير فساد. يكون الجسم بهوان والقيامة بمجد. يكون زرع الجسم بضعف والقيامة بقوة. يُزرع جسم بشري فيقوم جسما روحيا».
غير ان بولس يؤسس كل هذا على قيامة المسيح. فكما لبس جسم المسيح النور نلبس نحن ايضا النور. المادة كلها بما فيها مادة الكون تصبح نورا كاملا، حرا من الجسدانية التي كنا عليها من طعام وشراب وجنس لأن هذه من خصائص الأرض.
أنت حر من الموت بالنور، بالضياء الإلهي الذي يغمرك ويكونك الى الأبد فتسير في الله وتتجدد فيه الى الأبد. تذهب عنك الترابية وخصائصها ولكنك تبقى بشرا في هيكلية جديدة لا نعرف لها خاصة الا انها تشبه نورانية الله.
في هذا المنطق تبقى شخصيّتك هي إياها بما فيها روحك. لذلك كفّرنا في القرن الثالث من قال ان النفوس البشرية تذوب بعضها ببعض لتصبح روحا واحدا. روح الله يحيي روحك على الدوام كما يحفظ جسدك النوراني على وحدته ولا تختلط الأجسام بعضها ببعض. المهم عندنا ان شخصيّتك كلها هي التي تثاب ولا تذوب في الله اذ يكون هذا حلولية وكما رفضناها في الخلق الأول نرفضها في الخلق الثاني.
بغير هذه الرؤية نفهم التحرر من خوف الموت من حيث انك تغلبه بالرجاء وبتحقيق الرجاء عند القيامة. تستقبل، اذ ذاك، موتك لا بنكرانه ولكن بالايمان. انك تحيا توا بالرحمة وأخيرا اذا بعثك الله من القبر. غير هذا هو في حسنا العدمية. والله لم يخلق احدا ليزيله من الوجود ولكنه يمنحه وجودا من نوع آخر. يوصلك الله اذًا من خلقه الاول الى خلقه الجديد ويجعلك دائم الوجود اذ تتقبل في السماء دائما نعمته وتتحقق فيك صورته بشكل دائم. وهذا هو الفرح.
Continue reading