Monthly Archives

July 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

نحن عاملون مع الله/ الأحد 29 تموز 2007 / العدد 30

هكذا تبدأ رسالة اليوم. وهذا هو أساس التعليم الأرثوذكسي عن الخلاص. فالله هو المخلّص ولكنه لا يعمل ما لم تشاركه إرادتَه اي ما لم تُرِدْ ما يريد. وانت تريد. نحن لا نعلم كيف تلتقي الإرادتان. ولكنا نعلم ان ما ما يعطيه الرب نعمة من لدنه. واذا أنت قبلت النعمة تكون مطيعا لمشيئته التي هي تقديسك.

ثم يأتي بولس بصورة عن هذا اللقاء بين الله والإنسان اذ يقول: «انتم حَرْثُ الله» اي زرعه، وهذا موافق لمَثَل الزارع الذي أتى على لسان المخلّص. والصورة الثانية «انكم ابناء الله». وهذا فيه كلام كثير عند بولس الذي يقول اننا هيكل الله. ومن الواضح ان المسيح هو حجر الزاوية في البناء اي انه هو الذي يمسك بالبناء ويجعله لا ينهار. وفي وصف آخر يقول الرسول بعد ذلك انه هو البنّاء الحكيم اي انا كشفت لكم ان يسوع هو الحجر الأساس ولا يضع أحد أساسا آخر.

بعد هذا يعطي أكثر من تشبيه، فهذا المؤمن يكون ذهبا او فضة او حجارة ثمينة او خشبا او حشيشا او تبنا، وذلك حسب الأعمال التي يقوم بها كل واحد، وعندما يجيء يوم الرب في القيامة ستظهر قيمة كل واحد منا حسب أعماله لأنه «يعلن بالنار» ويريد بذلك الفحص الإلهي، فكما تبين النار ما في كل سكيبة معدنيّة وتفرّق الذهب عن المعادن الأخرى سيبيّن الله أعمالك بالدينونة.

فاذا بنى ايّ منا على الأساس اي على المسيح الأساس فهذا ينال أجرة، وأما مَن كان عمله تبنا او حشيشا فسيخسر و«سيخلص ولكن كمن يمرّ في النار» اي انه لا يَخلُص لأن احدا لا يخلص اذا مرّ بنار الدينونة. هذه صور استعملها الرسول ليقول ان هناك من بنى نفسه على المسيح وهناك مَن لم يبنها. لا مجال هنا اذًا لقول من قال ان الجميع في الأخير سيخلصون. فالإنجيل يتكلمّ على «النار الأبديّة» ولا يقول انها مؤقتة.

اخيرا يلخّص بولس تعليمه عن الخلاص هنا بقوله: «أمَا تعلمون انكم هيكل الله وان روح الله ساكن فيكم» وفي التعليم الأرثوذكسي انه ساكن فيكم وانتم احياء، وساكن فيكم وانتم اموات. ايماننا واضح ان الروح القدس ساكن في النفس بعد فراقها الجسد، وساكن في الأجساد التي في القبور، وان هذا الروح القدس هو الذي سيُحْيي العظام. فبعد الموت تبقى وحدة بين الجسد والروح، والوحدة الموحّدة اياهما هي الروح القدس. الجسد الراقد في القبر ليس جسدًا جامدا الا حسب الظاهر لأنه حامل الروح القدس. فجسد الرب ودمه اللذان نتناولهما لا يفنيان اذا الجسد فَني. في الأجساد المائتة قوة كامنة تُحرّك الأجساد في اليوم الأخير. ليس هناك انفكاك كامل بين جسد الميت وروحه.

ويستنتج بولس من كوننا هيكل الله امرا سلوكيا لنا اذ يقول: «مَن يُفسد هيكل الله (بالخطايا) يفسده الله» لا يشير الرسول الى خطيئة معينة، ولكن كل خطيئة تفسد الهيكل الإلهي الذي هو نحن. ويختم بولس هذا المقطع بقوله: «لأن هيكل الله مقدّس وهو أنتم». وهو لا يقصد ان هيكل الله هو جسدنا ولكنا -روحا وبدنا- هيكل الله. ومن أفسده بأي خطيئة لا يكون قد بنى كيانه على المسيح. فاذا أَفسدتَ كيانك تكون قد تعدّيت على حجر الزاوية الذي هو المسيح.

انت عليك ان تقضي على كل فساد فيك لتبدو لله طاهرا، ليتعرّف عليك المسيح أنك من لحمه ومن عظامه فتدخل لكونك من خاصة الملكوت.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الحشمة / السبت 28 تموز 2007

اكتب على بعض من يأس في هذا الموضوع لان الحشمة زالت عن الكنائس او معظمها بمعنى ان الاكثرية الساحقة من النسوة بتن غير حساسات لوجود مشكلة في ما يلبسنه. هل هذا تغيير في القيم؟ أميل الى هذا الاعتقاد. احد اصدقائي الواعي روحيا لما شكوت له الامر قال لي: انسان اليوم له علاقة اخرى بجسده. لم افهم هذا الكلام ولا اريد ان اعتقد ان نساءنا اللواتي اعرف عفّتهن العميقة يتصرفن كعارضات ازياء ويحولن تاليا بيت الرب الى مشهد لعرض الازياء.

لا اود هنا ان احصر المسألة بقدسية المعابد كأن الناس يقولون العري ان منعناه في الكنيسة نبيحه في المجتمع. ليست الكنيسة شيئا آخر عن المجتمع وليست اقدس من اعين الرجال الذين ادركوا ان استعفافهم امر الهي يجب على المرأة ان تساعدهم عليه لان الانسان رجل وامرأة ولان احدا منا ليس مستقلا عن الآخر ويتكون به. هذا هو منطوق الحياة منذ ظهر سفر التكوين.

سوف اعرض اذا عن انحصاري في باب الاكاليل لاستعراض الموضوع في عمقه. فالمرأة ليست وحدها في الوجود. انها مع الرجل ولكنها مع الرجل القيم او المفروض انه قيم اي الذي لا يستبيحها ولكنه يودّها او يحترمها والمودة عازل كما هو الاحترام وكلاهما يظهر المرأة على انها كائن كامل من حيث انها روح وعقل وجسد معا وهذه الثلاثة قوى متكاملة التعبير وكل تجزئة بينها وقوع في الشيئية. ان تكشف المرأة على انها، بخاصة، جسد يعني انها استغنت عن تكامله بالعقل والروح. لا شيء يقنعني اذا ما لبست المرأة العري او نصف العري هي ليست واعية على ان هذا ما يهمها وانها لا تسعى الى التوازن بين كل عناصر كيانها ولكنها ساعية الى تسلط جسدها على ذاتها اولا وعلى الناظرين اليه منهم.
لا تحل هذه المشكلة الا اذا فهمنا ان الجسد لغة. عندما كنت ارى الى اندره مالرو وزير الثقافة عند ديغول كنت الحظ ان يديه تتكلمان كلسانه او اكثر. بالمقابل ليس ثمة من يستعمل يديه بل نقاوة عينيه وهما تتكلمان بما يفصح عن اعماقه. جسد المرأة ماذا يخاطب في الرجال؟ الجواب الشفاف انها هي التي تقرر صورة الخطاب. في الكشف او التستر تبيان بأسلوبين مختلفين. المرأة لغة وليست تقنعني انها لا تقول شيئا بالتعري او شبه التعري. السؤال هو ما هذا الشيء الذي يتكلم فيها. لماذا تستعمل هذا الجزء من بدنها او ذاك لتقول.

•••
جسد المرأة وجسد زوجها خطابان من داخل كيانهما وعلى صلة مباشرة بين روحين وعقلين حتى يصيرا كيانا واحدا كما يرى بولس في رسالته الى اهل افسس. الجسد هو احد هذه الامكنة الثلاثة التي تتمّ فيها الحركة الانسانية القائمة على الحب الزوجي. واذا انقطعت الصلة بين العناصر الثلاثة نكون مع روح محض وعقل محض وجسد محض. ولكن اذا تم التواصل بصورة سليمة تكون الواحدة الزوجية في الرضاء الالهي وصحة الوحدة البشرية المبنية على علاقات متكاملة بحيث ينسكب الحب في الجنس والجنس في الحب. ان النظرة الى هذا التكامل تفرض التوحيد البشري ضمن العهد الزوجي. اما اذا انفصل الجسد بالتعرية او نصف التعرية يكون موهوبا لعيون غريبة عن هذه الوحدة فيتم اختلاط بلا اساس زوجي وتكون المرأة اذا ارتضت هذا الوضع قد اباحت نفسها وقامت بخطاب غير سليم. تكون معنويا وعاطفيا وصورة قد تزوجت بواحد غير زوجها او بواحد لن يكون زوجها وتكون قد خرجت على الخطاب المباح وكسرت وحدة شخصيتها.

قد لا تفكر هي بهذا ولذا وجب لفتها الى ان اقصى الحشمة مبتغاة منها لتحفظ الزوجية القائمة او الزوجية الآتية ان كانت عزباء.

وقد تختفي وراء اعذار مثل ان الزي هكذا وان لا اذى بكشف هذا الجزء من البدن لان الناس الفوا هذا الامر. موقف كهذا في الحقيقة موقف كاذب لان البشرية منذ مطلع التاريخ كان لها احساس بكل المواضع المثيرة وستبقى الى الابد هكذا. انت لا تستطيع ان تلعب بالطبيعة. نحن هكذا مركبون. هي تعرف انها تغري بطريقة او بأخرى وتعرف بالتأكيد انها تخالط عيون الرجال.

السلوك المخالف لهذا التحرر كما يروق بعضا ان يسموه هو الحشمة. في لسان العرب جاء تحديدها الحياء والانقباض. الحياء يقود الى الانقباض الذي هو ان تلملم المرأة نفسها ولست اشير هنا الى حجاب معين ولكن الى روحية الاحتشام الذي هو تطبيق للعفة التي هي في اللغة الكف عما لا يحل. ولكن في عمق المعنى هي نقاوة القلب واعتبار الانسان الآخر، امرأة كان ام رجلا، اخا او رفيقا او صديقا ولا علاقة به الا على مستوى المودة والتراحم. وانت تلتزم الصديق التزاما روحيا وليس الجسد عنصرا منه الا اذا سعيت الى الزوجية. في حال الاستعفاف لا ينقصك شيء من الفهم والاشتياق، وبذل النفس والجنس لا يزيد هنا شيئا ولكنه يعبر عنها في التعاهد الزوجي.

•••
ليست المرأة وحدها هي المكلفة الحشمة. الرجل يضا يخترقها في الحاظه وبعض من تعابير اهتمامه. القضية لا تنتهي عند الملابس ولا تبدأ بها. الاغراء الذي قصده الاستغراق بالآخر في غير موضع الحلال هو ايضا من باب كسر لقاعدة التعفف. يبقى الرجل مستورا في ظاهره في كل احوال الطقس. اما المبدأ فهو ان تفرق بين الزوج وغير الزوج وبين الرجل والمرأة، ذلك انها في الستر الالهي وفي الخطاب الانساني الشرعي حيث يكتمل اي منا بالآخر ولكن على قاعدة الانفصال الجنسي.

•••
ان المبادئ التي بنيت عليها ما سلف يجعلنا احرارا من “تبرج الجاهلية الاولى” (الاحزاب، 33) وتلك الدائمة في تاريخ الناس والتي تدفعهم الى عبودية الازياء وما هو اعمق من هذه العبودية رغبة الاغراء. وفي كلام بطرس: “لا تكن زينتكن زينة ظاهرة من ضفر الشعر والتحلي بالذهب والتأنق في الملابس، بل الخفي من قلب الانسان، اي زينة بريئة من الفساد لنفس وادعة ومطمئنة. ذلك هو الثمن عند الله”. (1بطرس3: 3 و4).

متى تنزل كلمة الله في القلوب لتتغلب على هذا التنزه في التبرج الشديد ومعرفة قداسة الانسان الآخر الذي يحتاج الى الوقار يحيا به فيكتمل الفرح بالآخر في عفافه والرزانة. هل نكون جميعا في رؤية الله ايانا انقياء ولنا في هذه النقاوة مكوث وسلام.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

بولس يكتب الى أهل كورنثوس/ الأحد 22 تموز 2007 / العدد 29

كان بولس يشدّد الكنائس التي أسسها ومنها كنيسة كورنثوس التي أنشأها بعد أن فشلت بشارته في أثينا. في المقطع الذي نقرأه اليوم نلحظ أن كنيسة كورنثوس كانت منقسمة وفيها مشاكل أخرى.

هنا يطلب الرسول الى مؤمني هذه الكنيسة ان يقولوا قولا واحدا وألا يكون بينهم شقاقات وأن يكونوا على رأي واحد هو رأي المسيح. ويقول لهم ان أخبار انقساماتهم وصلت اليه من اهل خلوي، وهؤلاء هم على الأرجح عبيد لامرأة تدعى بهذا الاسم. الانقسامات كانت اساسا قائمة على عواطف شخصية. فمن الناس من كانوا لصفا اي بطرس، فلا بد ان يكون بطرس الرسول قد زار هذه الجماعة كما زارها بولس وأبلّوس، وتحزّب المؤمنون لهذا او ذاك من الثلاثة.

هل كان من الناس مَن تحزّب للمسيح كما يبدو من النص؟ غالبا هؤلاء لم يريدوا ان يتحزّبوا لأحد من الرسل ولكن للرب وحده. فلا يكون، اذ ذاك، عندنا في الحقيقة حزب رابع. الناس اختلقوا هذه الأحزاب بسبب من توتّرات بينهم لأن بولس وبطرس وأبلّوس لم يكونوا هم على خلاف.

الحجّة الأساسيّة التي قدّمها الرسول للمؤمنين أن المسيح جامعهم وهو لم يتجزّأ فليس من رسول يمكن ان يأخذ مكانه. ويشدّد على أنهم لا ينبغي ان يكونوا له (اي لبولس). فهم لم يعتمدوا باسمه.

وعند ذكره للمعمودية انه لم يعمّد الاّ كرسبس الذي هو غالبا رئيس المجمع اليهودي الذي ذكره في سفر الأعمال (18: 8). وغايوس لا بد ان يكون هو المذكور في الرسالة الى اهل رومية، واستفانوس هو من اوائل الذين عمّدهم بولس في اخائية.

لا يوحي الرسول لنا ان العِماد كان قليل الأهمية، ولكن يوحي ان هناك توزيعا للوظائف وان مساعدي بولس هم الذين كانوا يعمّدون.

كان بولس يرى ان وظيفته الأساسيّة كانت في التبشير، وفي النظام الكنسي يُعمَّد هذا وذاك من المؤمنين. ويؤكّد «ان المسيح لم يُرسلني لأُعمّد بل لأُبشّر لا بحكمة كلام لئلا يبطل صليب المسيح».

هنا يشير الرسول إلى انه لم يكن بليغا في الكلام مع انه كان لاهوتيا كبيرا، فإنه لم يُرِدْ ان يأتي الإيمان من فصاحة الكلام او وسائل الخطابة ولكن من القوة الروحية التي في كلمات المبشّر.

هذا المقطع من الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس يحذّرنا من الانشقاق في الكنيسة ولا سيّما من الافتخار بهذا الكاهن او ذاك، او الافتخار بهذا الأسقف او ذاك، وبخاصة يحذّرنا من الانفعالات الشخصيّة والغضب.

لقد عَرفَت الكنيسة الأنطاكيّة في القرن العشرين انقسامات كثيرة وتحزّبات لبطريرك او آخر، لمطران او آخر، وتشكّلت فئات لا تصلّي بعضها مع بعض وذلك منذ بدء الثلاثينات من القرن العشرين، وحلَّ الموت انقساما من هذه الانقسامات، واتُّخذت تدابير مصالحة لإنهاء انشقاق آخر. وجعل هذا في نفوس المؤمنين حزنا شديدا وتشنّجات بين العائلات. وكثيرا ما تهددت وحدة الكنيسة بمناسبة انتخاب لبطريرك او رئيس كهنة.

الوحدة لا يُحافَظ عليها الاّ بالتقوى والإيمان أن المسيح واحد. والهزء بالكنيسة كان واضحا عند الأرثوذكسيين وغير الأرثوذكسيين، وبدا الفتور منذ تلك السنوات المحزنة كلما ظهر تصدّع، ونرجو الله ان يزيل عنّا الانقسام لنبقى أشدّاء بالروح.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الطفل / السبت 21 تموز 2007

الطفل شعر، اذ الشعر كلمات خصوصية لا تقال بشكل آخر، حسب تعبير بول فاليري. وللطفل تصورات من عالم يختلف عن العالم الذي نظن نحن البالغين اننا نعرفه، اذ الوليد الصغير فيه اشياء كثيرة تتكون من داخله ونحن نأتي من الخارج كما علّمنا ارسطو الى ان يلتحم في الصغير الداخل والخارج في سر ليس لنا اشراف على كنهه.

بسبب من ذلك نعيش مع الطفل في غربة الى ان يجعلنا نتدرج الى فهمه ويتدرج الى فهمنا ولا يتم لقاؤنا متى شئنا ذلك.

هو يصور عالمه لانه لا يأخذه فقط مثلنا من الحواس. وكثيرا ما كان لنا في اللقاء حدس بحيث اننا نحيد عن العقل الصرف لنصل الى نفس الوليد. والأم في موقع افضل لان الحدس في ما يتعلق بابنها اقوى مما هو فينا وهي معه في مخاطبة لا نقدر عليها ولكننا نتوق الى هذا اللامفهوم لنكمل به عقولنا تواصلا للاجيال لكن الوصل يبقى مقطوعا زمنا يطول او يقصر حسب مواهبنا ومواهب الصغير.

مع ذلك هناك اطفال يرشدون قبل الوقت المتوقع ونسميهم فائقي المواهب. هذا لا يعني ان هذا الموهوب صغير بالغ مع ان هذا يبدو مرات كذلك. مرة قال لي احد الناس اريد ان تعرف ابنتي التي لها من العمر ثماني سنوات. جاءت وجالستها وحدها فطرحت عليها اسئلة بالعلوم الطبيعية واسئلة بالفلك والفكر المجرد (سموها فلسفة اذا شئتم) واجابت عنها جميعا ولم افهم حتى اليوم كيف جمعت هذه العلوم بتلك الثقافة.

واذهلني غير مرة مكرم غسان تويني وبصورة واضحة لمّا كان في الحادية عشرة من عمره ودار حديثنا على شكسبير وكنت قد نسيت الكثير منه اذ كنت قد قرأته في آخر الثانوية وغابت عن فكري تفاصيل منه. كيف تكون هذه الاشياء؟ كيف ننمو؟ لماذا يعطى هذا ما لا لا يعطى ذاك؟ هل من اشياء مودعة عند هذا وغير مودعة عند ذاك؟ نحن امام هذه الظواهر في دهشة واذا كان الطفل شعرا فمن الطبيعي ان تكون امامه في دهشة كما انت مع الشعر.

أنا أفهم الا يقول قولي او كل قولي ذوو الاولاد الصغار لكونهم منهمكين بامور اطعامهم والباسهم ونظافتهم الى ما ذلك. والمعاشرة اليومية، الرتيبة تبطل الدهشة. الخطر في غيابها الكامل الا نلمس عطايا الله في الكائن البشري في كل احواله. الخوف اذا غاب الانسان عنك في طور من اطوار نموه ان تغيب تجليات الله في خلقه. وكل مرحلة من مراحل الوجود البشري كتاب مستقل عن الكتاب الذي يليه وما سبقه. لذلك كانت رؤية الطفولة التماسا لجانب من جوانب الحضرة الالهية. سر التلاقي بين الله والانسان لا يكتمل عند قراءتنا نحن البالغين لله. ولهذا نحتاج الى الصحوة الدائمة في تأمل المخلوق العاقل صغيرا كان ام كبيرا. هذا هو الكتاب الحي الذي عليك ان تتروض على مطالعته.

هناك توازن دقيق بين قوة العقل وقوة الحدس، بين الفكر والشعور. هذه كلها تلتقي بموازين في هذه السن او تلك او في ملكاتنا تطغى الواحدة على الاخرى في الاشخاص المختلفين. وما قلته عن الطفل اقوله عن الراشد. فلماذا الذكاء لامع عند هذا ومتوسط عند ذاك؟ ولماذا القلب كبير هنا وجاف هناك؟ ليس عندي من جواب عن هذه الاسئلة في نطاق المنطق. كل ما عندي ان اشكر لله الالتماع او عدمه لان الرب اب لجميع الناس اكانوا اغنياء ام فقراء في اي جانب من جوانب شخصيتهم اذ الفرق كان في المحبة فقط والبسيط العقل او هزيله قد يكون اعظم حبا من كبار المثقفين.

الاطفال ايضا قادرون على الحب الكبير ولك انت ان تنميه بما امكنك ولعل هذا باب المحبة الواسع. هو باب الانفتاح على كل شيء ومنه الانفتاح على العقل. في الطفل يمكنك معرفة التماس بين العقل والقلب. كل هذا مرتبط بسر الهي غير قابل للاختراق.

والاهم م كل ذلك ان نرى علاقة الطفل بالله. هو ككل انسان في عناية الله ورأفته ومحبته. والله يعمده اذا اتخذنا المصطلح المسيحي اي يضمه اليه والى كلمته وروحه. وكائنة ما كانت ديانة الاهل فالطفل محضون الله ككل ابن آدم. وهناك انضمام الى الخالق عبر عنه المسيح بقوله: “دعوا الاولاد يأتون الي ولا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (متى 19: 14). المعنى الواضح ان ثمة حركة من الاولاد الى الله. كيان الولد مشدود الى الكيان الالهي. ذلك ان الانسان مخلوق على صورة الله واذا كان الله هو المثال يفترض هذا الكلام ان ثمة رباطا بين الصورة والمثال، وان الانسان كبيرا كان ام صغيرا، هو في حركة الى الله ولو لم يفهم الولد هذه الحركة التي فيه.

ما من شك في ان المؤمنين يربون اولادهم على وجود الرب وعلى انعطافه عليهم ويلقنونهم معلومات من الكتب الموحاة ويقصون عليهم القصص الديني الذي تحتويه هذه الكتب ويربونهم على العبادات وتلاوة الصلوات، وقلب الطفل وعقله يلتقطان شيئا من هذه المعرفة فينمو الولد بحكمة ويستوعب على قدر ما يستطيع وينشد ما يمكنه ان ينشده ويتطبع بما يقدر ان يتطبع به في صلاة الجماعة ويدنو من الخالق ضمن ملكاته البشرية فلا يبقى مجرد كائن طبيعي بل يتدرج الى ان يصبح كائنا روحانيا على عمق ما نعرفه نحن.

ولهذا يعطى ما نسميه في المسيحية اسرار المدخل الثلاثة وهي العماد والميرون (المسحة المقدسة) ومناولة جسد المسيح وهذه كانت عند البالغين المتنصرين قديما درجات الانضمام الى الكنيسة اذ لا يولد الانسان مسيحيا بل يصير مسيحيا. وفي ما ينمو يفهم ما حل به في الطفولة ويتقبل الايمان فيكمل.

وعندما يقول السيد: “لمثل هؤلاء ملكوت السموات” فكأنه يقول: “ان لم تصبحوا كالاطفال بالطهارة لا ترثون ملكوت الله. يتخذ الطفل نموذجا هو نموذج من حيث قلبه لا من حيث عقله. فالعقل يستوعب القلب كما العقل يتقبل نقاوة القلب فيكمل ولو لم يكتمل الانسان الهيا في هذه الارض.

المسيرة طويلة وفيما انت تعيش تعظم الالوهة فيك ولو لم تفهم كل شيء منها ولكنك تسير اليها واذا حن الله عليك تسير فيها. ليست القضية قضية نضج عقلي ولكنها قضية قلب. واللاهوتي المتفقه بالعلوم الدينية ليس بالضرورة اعظم من غير المتفقه لكن المتنقي اكبر من الذي يتعلق بخطاياه. هذا لا يرى الله هنا او يراه بمقدار ما تحل عليه النعمة وتطهره.

نحن مدعوون من هذه الوجهة الى ان نصير كالاطفال وهذا سر عظيم يكشفه الله لنا بحكمته وعلى قدر طاعتنا لهذه الحكمة. الطفل صورة لما يجب ان نصيره حتى نلقى وجه الله يوما بعد يوم قبل ان نشاهد وجهه في الاخير.

Continue reading
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة, صلاة من أجل الحركة

صلاة من أجل الحركة / نشرت في كتاب “نجاوى”-21 تموز 2007

سيّدي، من أجلك، من أجلك وحدك كانت الحركة

وما سوّدت عليها آخر. لم تُشرِك بك آخر

جاءت إليك لمّا عزلوك وسعوا إلى آلهة أخرى

وزَنَوا معها ونسوا أنّهم شعبك

ولكنهم أنكروك ينبوعًا، جفّوا ثمّ ماتوا في الصحراء

وما نسينا كلّنا أنّك ماء الحياة فأقبلنا ونهلنا واغتسلنا فانسكب علينا بهاؤك فاهتاجت علينا التنانين وفرّقت بعضًا ولم تبتلع أحدًا وبقينا على العهد، عهد دمك المراق.

هؤلاء الذين نزلت عليهم كلمتك وأحيتهم احفظهم باسمك لئلاّ تخور قواهم في الطريق ويموتوا عطشا. لا تصرف وجهك عنهم. انّه هو الذي يجعل لهم وجوهًا لتراك وتجيء من رؤيتها.

اغفر للذين تواروا لكونهم تعبوا. والوصول إلى ملكوتك فيه مشقّات كثيرة. هم أيضًا ناموا لمّا تساقط عن جبينك عرق وقطرات دم. وبقيت أيضًا وحدك.

من أجلهم جميعًا أصلّي كي لا ينقطعوا عن الإنجيل و يملّوا صلاتهم، كي لا يلهوا بهذا العالم الذي يبدو لهم برّاقًا وليس فيه شيء.

هبهم منك فيما بينهم تراحمًا وتعاطفا علّهم يحسّون ان هذا كلّه مرآة للمحبّة التي نزلت منك عليهم وإذا قرأوها يقرأونكَ.

هذه الحركة نزلت جنّةً علينا لمّا كنّا نعيش في الصحارى فآمنّا أنّك تحيي وأنّك تفتقد الكنيسة بجماعات حيّة فلا تدع الأزاهير التي أنت أنبتّها تذبل. وكثيرًا ما يثمر الزهر فيؤول الجمال غذاء.

ليست الكنيسة الاّ المطارح التي أنت تسكنها والكنيسة هي المنائر، فأضئ مصابيحَنا بزيت الابتهاج عسى لا تنتشر العتمات.

الذين لا يحبون الكلمة الصادقة، الحرّة، الدسمة، الحادّة يريدوننا أن نسكت ونحن نتلو قبل أن نتناول جسدك ودمك: «آمنتُ، لذلك تكلّمتُ» وسوف نتكلّم حتى لا يبقى الأموات أمواتًا وحتى لا تتبدّد كنيسة الأرض وتضمر من الجوع. لن نتكلّم فقط. سوف نصرخ حتى تبحّ حناجرنا أن اخلعوا عنكم الأطمار والبسوا الحلّة البيضاء وتعالوا تمتّعوا بالفصح الدائم الذي يعيشه محبّوك.

أعطنا أن نطرد تجّار الهيكل. إنّهم لقد عبثوا. يستخلفون بعضهم بعضًا محتسبين انه لن يبقى لك شاهد. غير أنّ المنائر التي أضأتها لن تنطفئ. أنت قلت «لا تضطرب قلوبكم». دعْ لها هدأتك لئلا يلحق بها وجل .

سلّمنا أنت إليك. اعضد وخلّص وارحم واحفظنا يا الله بنعمتك لأنّ الذي يتشبّه بك لا يُكسر له عظم.

أنت أنهضتنا وجدّدتنا لعلمك بأنّنا لا نرضى بكنيسة باهتة. حسدونا بسبب الوهج، ذلك لأنّهم لم يكونوا هم النّور.

شكرًا لك يا ربّ لأنّ الحركة كانت لنا عِمادًا جديدًا. لبسناك فيه ولعلّك برحمتك لبستنا. لا تُعدنا إلى الأرض قبل أن تعيدنا إليك يا قيامة الكلّ.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

من عظة الجبل/ الأحد 15 تموز 2007/ العدد 28

إنجيل اليوم مأخوذ مما يُعرف بالعظة على الجبل وهي مقطع مؤلّف من الإصحاحات الخامس والسادس والسابع من متى. الجزء الذي نقرأه اليوم نستهلّه بكلام المعلّم لتلاميذه: «أنتم نور العالم». لما سمعوه صاروا نورا بكلامه، ولم يكتمل نوره فيهم الا بعد ان انبلج ضياء قيامته وحل عليهم الروح القدس. وهذا كلام موجّه إلينا اذ لا يقبل المسيح ان يبقى فينا أثر للظلام. ماذا يعمل سائر الناس ان اظلمتكم خطاياكم؟

وعندما يؤكّد السيّد ان يضيء نوركم قدام الناس، طبعا لا يريد ان يتباهى احد بنوره، ولكنه يؤكّد أمرا طبيعيا ان النور بالضرورة يظهر.

ثم ينتقل المعلّم الإلهي الى القول: «لا تظنّوا اني أتيت لأحل الناموس والأنبياء. اني لم آت لأحل (او لأنقض) بل لأكمّل» . ليس المعنى ان يسوع جاء ليحافظ على فرائض السبت والختانة ولا ان يحافظ على الهيكل. يريد انه يحافظ على روح الأحكام الموسوية، ولكنه لا يبقيها حرفيا في الكنيسة. فالكنيسة منذ رسائل القديس إغناطيوس الأنطاكي حرّمت بوضوح المحافظة على السبت، فبعد ان سَبَتَ يسوع في القبر حقق الوصية في ذاته ولم يبقَ لها نفع. كذلك قال: «انقضوا هذا الهيكل وانا أبنيه في ثلاثة أيام»، اي انه قال لنا ان جسدي هو بات هيكل الله. كذلك أُلغيت الفرائض التي تفرّق بين اللحوم التي يجوز أكلها وتلك التي لا يجور أكلها.

ثم ماذا عنى السيد بقوله: «اني لم آت لأحل بل لأكمّل»؟ المعنى انه جاء ليقوّي الوصايا بعمقها، ان يملأها من المعنى. «لا تقتل» الوصية القديمة صارت تعني ايضا لا تبغض، لا تكره، لا تغضب على أخيك. لم يزد يسوع وصايا جديدة بل جمعها كلها في وصية المحبة التي قال عنها بولس انها تُكمل الناموس.

«لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل» لا تعني انه لا يريد حل شريعة من الشرائع، فقد حل الكثير منها، ولكنها تعني حافظوا على المعنى الذي قصده الله من هذه الشرائع ولا تحافظوا على شكلها او قالبها الخارجي. فمن خالف القصد الإلهي يكون صغيرا في ملكوت السموات.

المهم ان تعمل وتعلّم. العمل وحده بلا ايمان ميت هو. والايمان بلا عمل ميت هو. فليس هناك ناس للفكر للاهوتي وناس آخرون للعمل. الانسان الكامل مَن جمع النشاطَين في كيان واحد. وهذا ممكن في المسيحية لأن العمل عندنا يأتي من المحبة والمحبة تأتي من الايمان ويرصفها بولس بعد الإيمان. انت تحب الناس لأن الله أَحبك اولا وأعطاك القدرة لأن تحب، وإن أحببت ربك تريد ان تعرف عنه الشيء الكثير، وهذا هو اللاهوت، فاذا احببت الرب تذهب الى خدمة الأصغرين في الكنيسة. فاذا كنت لا تبالي بالفقراء مثلا فكل ما تعرفه في اللاهوت لا ينفعك شيئا.

وبسبب الجمع بين التعليم والعمل أتت هذه الآية الأخيرة تبيّن لنا ان آباء المجمع الرابع الذين نقيم تذكارهم اليوم قاموا بالنشاط التعليمي والنشاط الخيري. ان ما حدّدوه لنا ان المسيح ذو طبيعتين إلهية وإنسانية معا. جمع العنصرين في أقنوم واحد.

هذه العقيدة تدفعنا الى ان نفهم ان الانسان ايضا على غرار المسيح يجب ان يكون إلهيا على صورة الطبيعة الإلهية في المسيح وان يكون بشريا بآن وألا يفصل هذين العنصرين في شخصيّته. فيه كل قوة الله وقوى الله، وفيه انسانية ينبغي ان تمتلئ من الله، فلا يفقد قوة الله فيه ولا القوة البشرية فيه، ولو كانت البشرة ذاهبة الى التراب تدفعه القوة الإلهية التي انسكبت فيه الى القيامة، ويقوم هذا الجسد الذي اخذ جسد المسيح ودمه.

العقائد انوجدت في الكنيسة لنحيا بها ونسلك بموجبها. وكلها لازمة لخلاصنا. وهكذا قال بولس: «تشبّهوا بي كما أتشبّه انا بالمسيح». انت يمكنك بفضائل الإنجيل ان تصير على صورة المسيح لا إلهيا فقط ولا بدنا فقط بل الاثنين معا.

المجامع السبعة حية فينا وتحيينا فلنتعلّمها وننفّذها لنصبح خلائق جديدة.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الأم / السبت 14 تموز 2007

لماذا تغنّى الشعراء بالأمّ ولم يتغنّوا بالأب إلاّ قليلاً؟ ربّما كان أحد الأسباب أنّ الرجال هم الشعراء الأكثرون، وهم قريبون من أمّهاتهم. ولكنّ القصّة لا تكون بهذه السعة إن كانت مجرّد شعور ذاتيّ. هناك ما يتعلّق بكينونة الإنسان، وربّما بالمقاصد الإلهيّة التي تنزل علينا وجدانا. الإنسان البالغ يعرف أنّ ثمّة مشاركة بين الرجل والمرأة ليتكوّن الجنين، ومع ذلك تولي الإنسانيّة كلّها الأهمّيّة القصوى للوالدة.

في مرحلة أولى من تأمّلي أقول إنّ لفظة الرحمة مشتقّة من الرحم. هكذا في العبريّة وهكذا في الآراميّة، ولا يعقل أن تختلف العربيّة عنهما، وقد لاحظ هذا المستشرق ماسينيون. وهذا لا يمنع أن يصوّر الله كأب باعتبار التنظيم الاجتماعيّ في العهد القديم. غير أنّ عبارة الأحشاء الإلهيّة واردة غير مرّة في الكتاب المقدّس. ففي هذا يقول الله: «ترنّ أحشائي كعود من أجل موآب» (أشعياء 14: 11). كذلك في لوقا يتحدّث عن «أحشاء رحمة إلهنا» (1: 78). تأنيث صورة الله واردة في الكتب المقدّسة. ويقول الدليل عند قراءتنا موضعًا آخر في أشعياء:«هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها. حتّى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساكِ» (49: 15). هنا يشبّه الله نفسه بالمرأة. لذلك القول بذكوريّة الكتاب المقدّس في الحديث عن الله، ليس قولا حصريًّا. وعلى غرار الحديث التأنيثيّ ذهب بعض من آبائنا.

إلى هذا، ليس من انقطاع نهائيّ لحبل السرّة رغم عمل الطبيب الجرّاح، لأنّ العلاقة بين الأمّ والطفل المولود ليست مجرّد علاقة فزيولوجيّة. هناك امتداد بينهما لا نفهمه كلّيًّا، متّصل ربّما بكون الجنين يسكن تسعة أشهر في بطن الأمّ، بعد أن يتكوّن بلحظة وكأنّ صورة الاتّحاد بين الزوجين، لا تبقى هي الصورة السيكولوجيّة، في نفس المرأة، بحيث إنّ الطفل يسكن فيها وحدها وهي وحدها تغذّيه، وهناك نوع من وحدة التعايش يبدو أنّ الأمّ لا تتخلّى عنها، ولو بلغ الإنسان الكهولة أو ما بعدها. لماذا أوّل ما يتمتمه الطفل المولود هو حرف الميم بالعربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة والروسيّة؟ لماذا أوّل صوت يصدر عن الطفل هو صوت الميم؟ من علّم الطفل هذا الحرف؟

لماذا يقول اللاهوت إنّنا عائدون إلى حضن إبراهيم وتمثّلنا الأيقونة هكذا؟ أليس لأنّنا نعتبره أبا الآباء وكأنّه ولدنا بإيمانه ما يجعلنا في حضنه؟ أجل الانتساب في القيود هو إلى الأب في كلّ الحضارات. هذا مجرّد تسلسل يتعلّق بالقيود أي أنّ هذا مصطلح مدنيّ لا فرق شعوريًّا في نظام القبائل بين أن تكون ابن حرّة أو ابن أمة. الفرق فقط ذكوريّ بحيث إنّ ابن الحرّة يرث وابن الجارية لا يرث، حتّى أحسّت فرنسا الحقوقيّة، في السنوات الأخيرة، أنّ ابن المرأة الشرعيّة له الحصّة الإرثيّة التي لغير الشرعيّة. هذا ليس في فهمهم تعزيز لمسّ قدسيّة الزواج. هذا في تفسيرهم يدلّ على أنّ كرامة الولد الطبيعيّ مثل كرامة الولد الشرعيّ في شقاء هذا الوجود.

الوالدة الناضجة بالحبّ الوالديّ تستطيع أن تقطع أدبيًّا حبل السرّة، غير أنّ مولودها لا يقدر على ذلك دومًا. هذه حالة مرضيّة قابلة للعلاج مبدئيًّا، ولكنّها استعداد لإفساد العلاقة بين الأمّ والولد. والتسلّط الذي تمارسه الحماة على كنّتها، حتّى التسبب بانفصال هذه عن الزوج، صورة عن هذا المرض الرهيب. والكنّة هي المكنونة في القبيلة، والسلطة البطريركيّة التي تحملها هنا الحماة ترفض حرّيّة الكنّة، أي حرّيّة تكوين عائلة جديدة، نوويّة كما يقول الأفرنج. تبقى إذًا هنا حتّى سلطة الرحم الممدودة التي تسع الأجيال كلّها ما أمكن استمرار الامتداد.

من الناس إذًا من لم يفهم قول الله: «ويترك الإنسان أباه وأمّه ويلزم امرأته، ويكونان كلاهما جسدًا واحدًا». حتّى يتمّ التصاق لا بدّ من انقطاع تعود بعده الرحمة للأهل المسنّين، وتكون هذه هي الصورة الصالحة للحبّ، الذي يعود من الجيل الفتيّ إلى ذلك الذي سبقه.

كيف تحبّ أمّك بعد فترة رفضها، ولا مهرب منها، إلى علاقة سليمة ولا سيّما إذا كنت ترى ما يسؤوك في طبائعها، هذا هو القبول الرحيم الغفور الذي لا تستطيع أن تطهّر نفسك بدونه. قال الربّ: «أكرم أباك وأمّك» ولم يقل أحببهما بالمعنى العاطفيّ الذي يذهب إلى امرأة أخرى، لأنّ الحبّ اختيار. هذا تغليب لشعور الاحترام والوقار والتقديس، وهو أساس لواجب الاستقلال في اختيار الزوجة. هناك لبس كبير أحيانًا عندما تسعى إلى فتاة تشبه أمّك، لتذكر أمّك في زوجتك، ولكن انتبه ألاّ تكون زوجتك كنّة مكنونة، وألا تكون أنت فتى مضمومًا مغناجًا.

الأمومة تبدأ بفرح الزوجيّة، أي بعهد التلقّي والعطاء بين كائنين متحابّين تعاهدا على البقاء معًا طوال الحياة، من أجل أن يكتملا بالروح القدس، ويكملا به بشريّتهما حتّى تطهر، ويصيرا إلى نورانيّة تقرب من نورانيّة الله حتّى يلقياها في اليوم الآخر. تلك هي الخطّة التي وضعها الله في الخلق، لمشيئته أن يمدّ البشر بالمحبّة التي في طبيعته ليمدّدها إلى آخر العالم، حتّى ينهي الله الزمان. يصاحب هذا ابتهاج في الروح والنفس والجسد، أي في كلّ الكيان البشريّ. وفي تواصل الرجل والمرأة يتمّ الاتّصال بالله وبهذا الطهارة.

غير أنّ كلّ هذا معطى من أجل مسؤوليّة هي مسؤوليّة الإنجاب، ليس أنّ الإنجاب غاية بحدّ ذاته للحياة الزوجيّة، ولكنّه الثمرة الطبيعيّة في إشراف النعمة التي تتنزّل على المحبّين، أي إلى المدعوّين إلى الحبّ البشريّ حتّى الموت، لئلاّ يتسرّب الموت الروحيّ إلى الحياة قبل انقطاعها. فإذا بدا الطفل في حياة الحبّ بين كائنين، تبدأ المسؤوليّة أمام الله لأنّ الولد هبة، أي هو له وليس ملكًا لأحد، ولو أطاع لأنّ طاعة الأولاد تدرّبهم على المحبّة، أي صعودهم إلى الربّ وإلى اكتمال شخصيّتهم به. تبقى التربية التي هي محاولة أخذ البنين إلى الربّ وهذا معنى كلمة تربية في لغتنا.

وهي عمل شاقّ جدًّا ولا سيّما في السنوات الأولى عند الولد. في هذه المرحلة دور الأمّ أساس لأنّها تسهر على طفلها سهرًا طويلاً، ليل نهار في الأشهر الأولى. هنا تتقبّل من الطفل الشيء الكثير، فهو يربّيها كما تربّيه، وتنتقل من الأمومة الجسديّة إلى الأمومة الروحيّة، إذ تتقدّس بالعطاء وتفرح بهذا العطاء. الأمومة نشأة للمرأة كما هي نشأة للطفل في سرّ لقاء عجيب. وهذا امتداد لـمّا يسمّيه المسيحيّون سرّ الزواج.

نموذج الأمّ هي مريم فإذا أعطت الوالدة نفسها لولدها عطاء كاملاً تصبح مريمًا جديدة. ألا تستطيع المرأة أن تصبح كمريم «ممتلئة نعمة»، لأنّها إن لم تصر كذلك كيف تمدّ وليدها بالنعمة، بالطراوة، بالبهاء الروحيّ الذي إذا لم ندركه لا نكون على شيء. فتّشت مرّة مريم مع يوسف عن ابنها الضائع، فلقيته في الهيكل يسائل العلماء. ما نفع الإنسان إن لم يسائل العلماء؟ قبل ذلك قدّمته إلى الهيكل فاقتبله سمعان الشيخ على ذراعية وسمّاه نورًا. ماذا ينفع الإنسان إن لم يتقبّله كبار الروحانيّين ليصير على مثالهم؟ هؤلاء أعظم من العلماء.

ثمّ نرى يسوع وأمّه في عرس قانا الجليل، وقالت له إنّ المدعوّين ليس عندهم خمر. فقال لها: «ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد». والمعنى الظاهر أنّه لم يهتمّ لإكمالهم فرحهم بالخمر، ولم يشأ أن تهتمّ أمّه للأمر. فقالت، إذ ذاك، للخدم: «مهما قال لكم فافعلوه»، وكأنّها كانت موقنة أنّه سيستجيب لحاجتهم. وهنا حوّل الماء إلى خمر. هذه أمومة مارستها. «هذه بداءة الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده». هذه الأمّ العظيمة آمنت بوليدها العظيم ولبّاها لحبّه.

آخر مشهد للقائهما كان عند الصليب ومعها «التلميذ الذي كان واقفًا. قال لأمّه: «يا امرأة هوذا ابنك». ثمّ قال للتلميذ الحبيب: «هوذا أمّك». هذا الشاب لا نعرف عن هويّته واسمه إلاّ كونه كان التلميذ الحبيب. ولكونه الحبيب جعله السيّد ابنًا لمريم. الأمومة أمومة للحبيب أي الذي صار تلميذًا كاملاً ليسوع. تكتمل أمومة كلّ امرأة إذا حاولت أن تجعل ابنها كاملاً في الحبّ، حسب قول السيّد: «كونوا كاملين كما أنّ أباكم الذي في السموات كامل هو». ماذا تنفع الأمومة إن لم تكن غايتها محاولة إقامة البنين في المحبّة؟ هذا هو الدور الذي أراده الله لكلّ والدة. هذه هي مساهمتها في الخليقة المتجدّدة بالربّ، وإذا حاولت ذلك هذا هو مجدها.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الكنيسة شركة مواهب/ الأحد 8 تموز 2007 / العدد 27

في رسالة اليوم، وهي رسالة الى اهل رومية، يبيّن الرسول ان الكنيسة كنيسة مواهب مختلفة، كلها معطاة من الروح القدس. يبدأ بولس بذكر موهبة النبوءة التي استمرّت في العهد الجديد وهي إعلان الموهوب مشيئة الله الى الكنيسة التي هو منها. وهي ككل المواهب الأخرى ليست محصورة بالإكليروس. ثم يذكر الموهوب الخدمة ويريد بها التحسس بحاجة الفقراء وتقديم الكنيسة كلها العون لهم. والمعلم يريد به من يعلم العقيدة وأساسها موت المسيح وقيامته ويبني كل تعليم عليها ويشتق كل معتقد في الكنيسة منها.

اما الواعظ فهذا الذي يعرف الحاجات الروحية في الرعية التي يعرفها وتتضمّن الدعوة الى فضائل الانجيل واللوم احيانا على الضعف في تطبيقها. طبعا الواعظ يعرف مضمون التعليم وينبه الى التعلق به اذ منه يجيء التنفيذ العملي.

ثم يدعو بولس الى موهبة التصدُّق او الإحسان لتكون الشركة كاملة فلا يعقل ان نتكلم على المحبة ونهمل الفقراء. اما من يسميه المدبر فهذا الذي ينظم عمل الاحسان. فالإدارة ليست مجرد تنظيم لتوزيع المال ولكنه قبل كل شيء محبة. فمن احبّ يدير حسنا.

بعد هذه المواهب المتنوعة والتي يسهر الأسقف على مراقبتها وتحسّن أدائها، يربطها بالرحمة التي هي العناية بالكل. وهذا يقود الرسول الى القول ان المحبة تكون بلا رياء وبلا تفريق بين الإخوة ولا تحيز، واخيرا يشدد -توضيحا- على ان نحب بعضنا بعضا حبا اخويا، وهذا ما يبعد التفريق بين الإخوة أحرارا من الحزبية العائلية لأننا جميعا عائلة الآب، وهذا يقود الى ان نبادر بعضنا بعضا بالاكرام فنعلي كل شخص على نفسنا. ثم ينتقل الى ان نكون غير متكاسلين في الاجتهاد اي مجتهدين كل منا باستغلال موهبته، وهذا كله يقتضي ان نكون حارين بالروح القدس الذي يعطينا وحده كل موهبة.

هذا كله يقودنا الى ان نكون عابدين للرب كأبناء له لا كعبيد، فلا عبادة دون شعورنا بالبنوة لله وبأننا عشراء يسوع. ثم يدعونا بولس الى ان نكون فرحين في الرجاء، ونحن عالمون ان الرجاء هو الفضيلة الثانية بعد الايمان. هذا رجاء الى عطية الله وليس الى الآمال الأرضية التي يهبنا الله اياها اذا كانت نافعة للخلاص وراسخة في طلبنا الملكوت. فاذا طلبناه كما قال السيد يعطى لنا كل شيء. يعطينا ما هو للأرض اذا كان نافعا لاقتنائنا الروح القدس. ومن الرجاء ان نكون صابرين في الضيق، وكل ما في العالم ضيق، ولكنا نتحرر منه باتكالنا على الله. ثم يطلب ان نكون مواظبين على الصلاة، ويعني بها الصلاة الدائمة أفي البيت كانت ام في الشارع ام في الكنيسة، والذي لا يصلي في كل وقت تكون صلاته في الكنيسة غير حارة او هو لا ينتبه اليها اذ القداس ينبغي ان يكون في نفسك بحيث تدخل كل جزء منه الى قلبك ليتم القداس فيك ولا يكون فقط عمل الكاهن. ثم يعود الى الإحسان فيقول: «موآسين القديسين (اي المؤمنين جميعا) في احتياجاتهم». انهم هم مذبح للرب كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم. ومن الموآساة ان نعكف على ضيافة الغرباء التي استقبل بها ابراهيمُ الملائكةَ. وهكذا تنفون صفة الغربة عمن تساعدونهم ويصبح كل منكم قريبا للآخر بالمسيح، أخا له وللمسيح. ثم يختم هذا المقطع من رسالته بقوله: «باركوا الذين يضطهدونكم» ان كانوا وثنيين او كانوا أعضاء في الكنيسة جعل الشيطان في قلوبهم بغضا. وأخيرا: «باركوا ولا تلعنوا». باركوا تعني ان تستنزلوا بركات الله على كل مخلوق وأن تشترطوا عليه ان يحبكم. المحبة مجانية تأتي من روح الرب الذي فيكم. أن تلعنوا يعني ان تبعدوا النفس الأخرى عن رضاء الله عنها. نجِّ من يلعنك بالبركة حتى يصير قريبا من الله فتجتمعوا في الرب. كل انسان ايا كان يستحق بركة منك لتسلم نفسه من الغضب ويتحول الى ربه بالمحبة التي تكون قد أعطيته اياها.

هذه هي كنيسة المواهب التي يكون فيها كل واحد منا سندا للآخر فيرتفع هيكل الله.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الموت والقيامة / السبت ٧ تموز ٢٠٠٧

كفاك أن تشاهد التفجير والاغتيال لتدرك ان الموت جزء من حياة الذين ذهبوا والذين استبقاهم ربهم. بادئ بدء ليس هذا الفراق كارثة. انه حادثة. ولو كان من يتوفاه ربه عظيما فعظمته نرثها جميعا وهو يتمتع بجمالات الله في ملكوته. السؤال الباقي هو لماذا نخشى الموت او نرده عنا بالعلاج والصبر او ندنيه الينا بمخافته. أمي كانت تقول: «رب الموت خاف من الموت» وهي في مسيحيّتها كانت تعني المسيح. وفي فهمي ان الناصري خاف لكونه شاركنا في كل بشريّتنا وليدل انه ليس جبارا اسطوريا.

                     كانوا يقولون لنا في المدرسة المسيحية التي نشأت فيها اننا نخشى المنية لأن الله خلقنا من أجل الخلود فحلت الخطيئة وكسرت الخلود. ما يدعم هذا التعليم قول بولس: «أجرة الخطيئة هي الموت» (رومية 6: 23) وكأن الرسول يوحي ان الموت طارئ. لست أظن ان العلماء يناقضون بولس اذا قالوا: ان ما نعرفه عن الحياة حتى الآن يدل على انها منتهية ولكن واحدا منهم لا يستطيع ان يرى علاقة بين السبب والمسبب. هم يلاحظون الموت ويتكلمون عن سبب مباشر (القلب، السرطان وما اليهما) ولكن واحدا لا يجرؤ ان يحدد زمن النهاية. لعل ما يعذبنا اننا نجهل زمن انحلالنا او إسلام الروح.

                     نبقى اذًا أمام سر ليس معطى لإنسان اختراقه او ان يواجهه بكامل المعرفة ولا بشيء من التهيؤ. المؤمن يتعزى اذا كان حقا يعايش الله بما يبدو له فضيلة عنده او توبة فيه ولكنه لا يكابر ان كان مؤمنا لكونه لا يعرف في انه يقيم في توبة عميقة. كلمة السيد في هذا الصدد: «كونوا مستعدين لأنكم لا تعرفون الساعة» دعوة وهي ليست شهادة على اننا في كامل الحضور النقي اذ الرب وحده يعلن لك عند الدينونة وضعك الحقيقي أمامه.

                     لا يستطيع احد ان يواجه قبيل فراقه سؤال اللماذا؟ لماذا اليوم وليس غدًا؟. يقدر ان يواجه الى حد محدود الكيف. انسداد عدة شرايين بلا انتباه او معالجة على سبيل المثال. انتشار السرطان الى عدة اعضاء. هذا اذا اخذنا المرضين الأفتك في إحصاءات أوربا. ولكن كيف تعيش امرأة انقطعت لفقرها خمسة أشهر عن أنابيب الاوكسيجين، كيف يعيش انسان ثلاثين سنة وتتمشى فيه الخلايا السرطانية. الكيف اذا نفسه لا نعرفه. الطب علم احتمالات والمخلصون فيه يقولون لك ان فيه قسطا من الفن كبيرا اي ان مقدار الاختبار فيه كبير ويضيفون ان ممارسته تتطلّب مستوى من الأخلاق. نحن اذًا في عالم المجهول الكامل للسبب والكيف. لعل ذلك يشكل عنصر الخوف الأساسي.

#               #

#

                     اذا نظرنا الى الأمور نظرة طبيعية وطرحنا جانبا كل اعتبار إيماني يبدو لي ان الخطيئة الكبرى قول فرويد ان عندنا غريزة الموت. نحن ليس فينا الا غريزة الحياة. لذلك ينبئنا اقتراب الموت بانتهاء كل شيء ونحس على مستوى الطبيعة على انه العدم. الجانب النفسي فينا الذي هو رغبة البقاء الى الأبد يناقض الجانب البيولوجي الذي هو خراب هذا المختبر الكيميائي الذي اسمه الجسد كأن التصادم مسجل بين هذين الجانبين من كياننا الإنساني.

                     هناك كلام حديث عن تمديد الحياة. هل هو تمديد سيكولوجي على أساس الوعي يرافق التحديد الجسدي. الدراسات ليست متقدمة بالقدر الكافي. والدراسات الاقتصادية مخيفة اذ يترتب عليك ان تخدم معيشة ناس لا ينتجون الا اذا تقدمت المعطيات بصورة لا نترقبها بعد فيبقى الشيخ على عطائه كالكهل او الفتى. من المؤكد انه اذا عظم العجز وكثرت الأمراض قد يرغب المسن في خروجه من هذا الوجود ولكن قد تدخل عناصر علاج جديدة ولا يضعف الفهم وتتشدد عند الانسان غريزة الحياة.

                     من الواضح في الأبحاث كلها وتأمل السلوكيات ان البشرية «المتطورة» لا تتكلم إطلاقا في الأمور الروحية. ليس عندها اي انتباه لمسألة لماذا يرغب في إطالة العمر. الفلسفة الوضعية تحكم كل الأبحاث السائرة في العالم. يحكى احيانا عن الصلاة لغايات بيولوجية ولكن الصلاة تؤخذ اداة لغاية أمور في الدنيا. ولكن على رغم هذه الفلسفة الوضعية لا يتصالح احد والموت. يبقى عند الكل، إحساسا، طريقا الى إلغاء الوجود.

#                 #

#

                     كيف يعود الشعور بحياة ما جديدة الى انسان متيقن غريزيا من عدم المنعة فيه. اذا لم ينزل عليك شيء فوق الغريزة يستحيل عليك ان تغلب الموت بتجاوزه. لا تتخطاه الا بشيء آخر ليس منه وليس في طبيعتك، ذلك ان كيانك كله مجروح بمخافة الموت والعنتريات لا تنفع هنا. كلنا ضحايا هذا العدو، والعدو الأخير كما يسميه بولس. لذلك لا تطلب المسيحية ان تصالحه. تطلب ان تميت الموت وان ينشأ فيك عند ذاك شيء جديد لا يأتي منك فتصير، على رغم كونك في القبر، كيانا جديدا. اما ان تصالح جثتك فهذا مستحيل او ان تصالح جثة نسيب او صديق فهذا ايضا مستحيل اذ يعني هذا انك صالحت اللاشيء.

                     اذا كانت خشية الموت سيفا مصلتًا عليك انّى لك الا تخاف خوف الموت. انّى لك ان تخرج من هذا الخوف؟ في اللغة المسيحية انت تخرج من الموت بما نسميه «رجاء القيامة والحياة الأبدية». الرجاء رجاء الى ذاك الذي وحده يغلب الموت اي الله بحيث انه يتعهّدك من موت وينقلك اليه في الرجاء بانتظار القيامة التي تجعلك انسانا ذا جسد نوراني حرا من الفساد وحيا الى الأبد.

                     نحن لا نتحدث باستفاضة عن مآل الروح. نعرف انها في رعاية الله، في رحمته وهو يرحم من كان طالبا الرحمة، معتقا من وطأة الخطايا حسب قول بولس: «من مات تبرأ من الخطيئة»، له اتحاد بالله الذي يرفع عنه نير الموت والمعصية، ناقلا اياه من رتية الى رتبة في الرحمة لأن الإنسان لا يدخل الملكوت الا بها. لا نعرف في الكنيسة الارثوذكسية تحديدا لوضع النفس الا كونها في قبضة الله على انتظار القيامة. لذلك نصلي من اجل الذين ماتوا وهم في الحقيقة ضمن العطف الإلهي.

                     لهذا ينتقل لاهوتنا الى الكلام عن القيامة التي يوضحها بولس الرسول بهذه الكلمات عن نفسه: «هذا شأن قيامة الأموات: يكون زرع الجسم بفساد والقيامة بغير فساد. يكون الجسم بهوان والقيامة بمجد. يكون زرع الجسم بضعف والقيامة بقوة. يُزرع جسم بشري فيقوم جسما روحيا».

                     غير ان بولس يؤسس كل هذا على قيامة المسيح. فكما لبس جسم المسيح النور نلبس نحن ايضا النور. المادة كلها بما فيها مادة الكون تصبح نورا كاملا، حرا من الجسدانية التي كنا عليها من طعام وشراب وجنس لأن هذه من خصائص الأرض.

                     أنت حر من الموت بالنور، بالضياء الإلهي الذي يغمرك ويكونك الى الأبد فتسير في الله وتتجدد فيه الى الأبد. تذهب عنك الترابية وخصائصها ولكنك تبقى بشرا في هيكلية جديدة لا نعرف لها خاصة الا انها تشبه نورانية الله.

                     في هذا المنطق تبقى شخصيّتك هي إياها بما فيها روحك. لذلك كفّرنا في القرن الثالث من قال ان النفوس البشرية تذوب بعضها ببعض لتصبح روحا واحدا. روح الله يحيي روحك على الدوام كما يحفظ جسدك النوراني على وحدته ولا تختلط الأجسام بعضها ببعض. المهم عندنا ان شخصيّتك كلها هي التي تثاب ولا تذوب في الله اذ يكون هذا حلولية وكما رفضناها في الخلق الأول نرفضها في الخلق الثاني.

                     بغير هذه الرؤية نفهم التحرر من خوف الموت من حيث انك تغلبه بالرجاء وبتحقيق الرجاء عند القيامة. تستقبل، اذ ذاك، موتك لا بنكرانه ولكن بالايمان. انك تحيا توا  بالرحمة وأخيرا اذا بعثك الله من القبر. غير هذا هو في حسنا العدمية. والله لم يخلق احدا ليزيله من الوجود ولكنه يمنحه وجودا من نوع آخر. يوصلك الله اذًا من خلقه الاول الى خلقه الجديد ويجعلك دائم الوجود اذ تتقبل في السماء دائما نعمته وتتحقق فيك صورته بشكل دائم. وهذا هو الفرح.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

شؤون كهنوتية ورعائية/ الأحد في أول تموز 2007 / العدد 26

نحن في حاجة، الخريف الآتي، إلى طَلَبة بلمنديين يتخرجون بعد أربع سنوات لأن بعض كنائسنا ليس لها كاهن متفرّغ لها ويخدمها كاهن يأتي من مكان آخر، والسبب الثاني ان الكاهن المسنّ قد تُقعده الشيخوخة عن الخدمة. ومشكلة معيشته عند ذاك ينبغي ان نتدارسها بصورة جدية. لا بد لنا من مشاورات كبيرة ندرس فيها أوضاع الكهنة العاجزين عن خدمة كاملة وسليمة. هنا أدعو شبابنا المتحمّسين للإنجيل والملتهبين غيرة للرب ان يجيئوا إليّ لإرسالهم الى معهد اللاهوت ليمتحنهم ثم يتقبّلهم.

الرغبة المُثلى أن يدرس شبابنا اللاهوت قبل رسامتهم لأن في هذا تأسيسا لوعظ مسؤول وتعليم المسيحية في المدارس الرسمية والخاصة وتنوير عقولهم للإجابة عن أسئلة المؤمنين ومواجهة أعداء الإيمان. أحيانا نضطر الى رسامة شاب غير متخرّج بعد أن نتحقّق ان لديه حدًّا أدنى من الفهم الروحي وغيرة على بيت الله.

لقد حاولنا كثيرا التعزيز المعيشي للكاهن، وارتفع المستوى بشكل واضح في معظم الأمكنة، ولكنا لم نصل الى بحبوحة مدهشة في معظم الأماكن. ربما اقتضى منا هذا مشاورات ذات طابع اقتصادي ولكنها مركّزة ايضا على حماسة المؤمنين.

الشيء الأخير أن هذه الأبرشية تستوعب الآن تقريبا نصف أرثوذكس لبنان بسبب الهجرة، وهذا ما يفرض علينا واجب البناء لكنائس جديدة، وقد قمنا بتشييد 31 كنيسة في الجبل المهجّر والمناطق غير المهجّرة ما خلا الترميم هنا وهناك. ولكنا لم نستطع في قريتين على الأقل إكمال الكنيسة، غير اننا نقيم الخدمة الإلهية في قاعات الكنائس.

في المبدأ، كل رعية يجب ان تكون لها كنيستها. أن نقسم بعض الرعايا القائمة لتكون لكل رعية كنيسة وكاهن فهذا امر متعذّر علينا الآن. ولكن نحاول ان نقيم الصلاة بطرق مختلفة، باستئجار بيت مثلا، وكان هذا في النقاش في ساحل بيروت والآن بعد أن توفرت لدينا الأرض سنبدأ قريبًا بمباشرة البناء فور انجاز الترخيص.

عندنا اذًا رعايا يجب تقسيمها ليكون على كل رعية كاهن. ولكن هذا الأمر متعذّر في الأحوال الاقتصادية الحالية. من اجل ذلك رأينا ان نعيّن كاهنا آخر في بعض الأماكن يخدم في كنيسةٍ واحدةٍ رعيةً اخرى، او ننتدب اكثر من كاهن لخدمة رعية كبيرة لاستحالة كاهن واحد ان يخدم مئات من العائلات بصورة كاملة ومرْضية. السبب الآخر لتعدد الكهنة في مكان واحد يعود الى تعدد الاختصاصات في العمل الرعائي. فهذا قد يكون متخصصا في رعاية الاولاد، وهذا أقوى في الوعظ، تتوزّع المهام بين الكهنة الخادمين في كنيسة واحدة.

الرعاية تسود كل اعتبار آخر. في الكنيسة الأولى كان لكل مذبح كاهن. هذا ممكن تطبيقه اذا كان عندنا عدد كافٍ من المعابد. غير ان هذا مستحيل في هذه المنطقة ما لم يرتفع المستوى الاقتصادي في البلد وينمو الأرثوذكسيون في الغيرة والحماسة.

هذا يفترض ان يكون كل كاهن مخْلصا لأخيه الكاهن الآخر، عائشا معه بالمحبة، عارفا أن خراف يسوع لا نقدر ان نتركها لئلا تحصل الخيانة.

واذا كان لا بد من ترتيب قانوني فهذا سهل، والحقيقة ان المحبة وحدها تكفي لحل كل المشاكل التي يمكن ان يواجهها المسؤول.

لا نستطيع ان نترك خروف المسيح مشردا بلا عناية. الكلمة الإلهية يجب ان تصل الى كل من نحن وكلاء المسيح بينهم لنغذيهم بالأسرار الإلهية ولا يموتوا جوعا.

لقد باركَنا اللهُ بكهنة جيدين ومخلصين. نرجو ان يزداد عددهم وان تعلو قيمتهم لنؤدي نحن الرعاة حسابا في الدينونة بلا خجل.

Continue reading