Category

2000

2000, جريدة النهار, مقالات

شهوة المال / السبت 11 تشرين الثاني 2000

كل الشهوات متماسة، متداخلة لأن النفس بناية واحدة في الرذائل والفضائل. فحب التملك يخامره اعتداد او استكبار او استعلاء. غير اني سأعزل اشتهاء الغني حرصاً على دراسته وهو على تلك الجسامة التي تستدعي مني ومن القارئ انتباهاً كبيراً.

ما لفتني في لغتنا انها تتفرد بالمقابلة مع لغات الغرب بأن المفردة الاكثر استعمالاً عندنا اي الغني تعني من استغنى عن سواه. تدل على موقف وليس فقط على كثرة المال. الثري عندنا تقابل بالفرنسية Riche او مثيلتها بالانكليزية. والمفردة الجديدة في عالم المصارف هي المليء. الكلمة عندنا اعمق دلالة واعظم فتكاً. تدل على اعتزالنا الناس بسبب من ركوننا الى ما جنيناه او بسبب من طمعنا به. والغنى فيه طبعاً حركية الطمع.

ما من مجال هنا لنتدارس روحية الفقر في الحضارات القديمة، في الهند مثلاً حيث تنكر ملوك لما يملكون واعتنقوا التسول منهجاً يتروضون به. الاقرب الينا والامضى في الدعوة يسوع الناصري معلم العراء الكبير. هنا اسارع الى القول ان الكثرة لم تفهم تعليمه في هذا الباب فهو ليس داعية الفقر ولكنه داعية لتحرر القلب من شهوة التملك. هو معلم الحرية من وطأة الملك ابتغاء الحرية الداخلية بالله. هو ليس ضد الاشياء الكائنة بما فيها المال ولكنه ضد ان يستعبدك المال وان تدع نفسك عبداً له. فالتضاد عنده ليس بين الاغنياء والفقراء ولكنه بين الاحرار والعبيد. فقد تكون حراً مما تملك وقد تكون عبداً لما لا تملك. واذا كان الغني من استغنى عن الناس واستتباعاً عن الله فالفقير هو الفقير الى الله واستتباعاً الفقير الى محبة الناس له. في الرذيلة او الفضيلة القضية كلها قضية علاقة. وبسبب من العلاقة نتحرك بالموجودات.

ما اراد الكتاب تأكيده ان “ما حياة الانسان بكثرة امواله”. في لوقا يلام الغني الغبي ليس لانه هدم الاهراء ليبني اكبر منها ولكنه ليم لكونه صار مستريحا في هذا ومتنعماً بطعامه والشراب. يشبع فتفرح نفسه من ثرائها. نفسه تستلذ ذاتها ولا تغنى بالله. المال يعفيك من السعي الى طمأنينات غير طمأنينته. والطمأنينة هي في التحديد اللغوي الايمان. خطر الغنى ان يستبدل صاحبه ايماناً بإيمان.

وان يستبدل حباً بحب. فهذا مثل الغني ولعازر في انجيل لوقا. رجل غني يلبس الحرير والارجوان ويقيم الولائم كل يوم (كأنه كان من البورجوازية اللبنانية) ورجل فقير اسمه لعازر (ومعناها “الرب عوني” ما يؤكد ان تعريف الفقر هو الفقر الى الله)، تغطي جسمه القروح. وكان ينطرح عند باب الغني وهذا لا يراه. اظن ان هذا هو عمق المأساة ان الاغنياء الذين تحدث عنهم الكتاب هم الذين لا يحسون بألم المحتاجين. والآباء في ذروة تعليمهم عن الخطيئة قالوا انها عدم الحس.

لست ارى حتى عند لوقا تعظيماً للفقر كحالة اجتماعية. لا يهتم الناصري لاي وضع مجتمعي غير مقرون بموقف روحي. فحتى في قوله: “طوبى لكم ايها المساكين، لأن لكم ملكوت الله” يرى الكتاب ان وضعهم ممزوج بحاجتهم الى الله وتقربهم منه. ودليل ذلك ما جاء عنده بالمقابل: “ويل لكم ايها الاغنياء، لانكم نلتم عزاءكم” اي لانكم لاكتفائكم بأموالكم ما التمستم تعزية الله.

السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذه اللمحة الانجيلية الخاطفة هو ما الشر الذي يراه الروحانيون في هذه الشهوة. هذه الشهوة هي استلذاذ الملك. التلذذ بالبقاء عليه والحزن لحرمانه وخسارته والتوجع لعطائه. قضيتنا ليست وحده. انه الكم بقدر ما يوسوس فينا التعلق به والانهزام امامه وتصاعد تشهيه اي الطمع به الى ما لا نهاية. وقد تكون الرغبة في الازدياد اسوأ ما في هذه الرذيلة كما ان قانص الطير يهمه القنص لا الطير والمقامر همه المقامرة لا الكسب. سوء الطمع او البخل انه “حب ظافر بكل حب آخر يطرد من النفس كل رغبة اخرى”. كذا يقول يوحنا الذهبي الفم. اذى هذه الشهوة ككل شهوة اخرى انها تستغرق طاقة فينا عظيمة. انها عبادة لسيد آخر اي انها تدخلنا في مقدسات اخرى. المال هو ما نبذل له كل النفس فلا مكان فيها لآخر. لا، يبقى فيها شيء آخر ولكنه يداخلها وهو المجد الباطل.

الرؤية الانجيلية للاغنياء والفقراء اخذت حدة كبيرة في تعليم الآباء في القرن الرابع الميلادي حيث اشتدت الضائقة الاقتصادية وكثر المحتاجون وكان على الاساقفة ان يتدبروا امر الرعية بما يجمع المؤمنين بعضهم الى بعض فظهر تعليم عن المال على انه وكالة الهية وليس حقاً فردياً مقدساً. فعظمت الدعوة الى التعاضد. الدعوة قائمة في العهد الجديد واضحة. الا انها ترسخت واقيم التنظير لها حتى ذهب باسيليوس الكبير المتوفى السنة ال379 الى ان الناس جميعاً متساوون لكونهم على طبيعة واحدة ومخلوقون على صورة الله ولهم مخلص واحد. فالملك اذاً مشترك بين الناس جميعاً بلا استثناء حتى يتمتعوا به جميعاً بالتساوي. فإذا اختل هذا التوازن بالتوزيع فهذا مخالف للطبيعة والوضع البشري الاساسي. وبقى الخلل ونما بسبب شهوة المال وشهوة الطمع. فبوضوح كامل عند باسيليوس متعة المال للجميع اصلاً وليس المال ملكاً. هذا ما اباح للقديس باسيليوس ان يقرر ان الانسان يستعمل المال “كوكيل لا كمستمتع”.

يلاحظ آباؤنا ان الاغنياء من حيث الواقع لا يحبون الآخرين. مع ذلك يبقى سؤال رجائنا. كيف يدخل الجمل من ثقب الابرة، كيف له ان يطلب الملكوت. كيف يصبح المستحيل عند الناس غير مستحيل عند الله؟ فالأثرياء هاجسنا لانهم اخوة. لقد قال الله لهم كيف يكسرون اصنامهم. لقد قال لكل منا كيف يخرج من وثنيته.

من يعطي الاغنياء ان يفهموا ان ما يملكون ليس بشيء وانهم هم شيء لكون الله أباً لهم وان عليهم شيئاً واحداً ان يفهموا محبوبيتهم هذه ثم ان يدركوا انهم اخوة للمحتاجين. كيف يعبرون عن هذه الاخوة هذا شأنهم. وقد يصل بهم الحب الى التحرر من كل ما يملكون وفق كلمة الكتاب: “بدد، اعطى المساكين فيدوم بره الى الابد”. متى ادركوا ان الحرية في العطاء، ان الحياة كلها كلها في القلب المنكسر في ان يصيروا “مساكين بالروح”. عند ذاك يفهمون ان ربهم لم ينعم عليهم لما كثر مالهم ولكنه انعم لما بددوه فوجدوا انفسهم من ضياع.

اذ ذاك الله يشتهيهم احباء له.

Continue reading