Monthly Archives

February 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

أحد مرفع اللحم/ الأحد 26 شباط 2006 / العدد 9

العبارة تعني أننا، في اليوم الذي يلي هذا الأحد، نمسك عن أكل اللحم في أسبوع استعداد للصيام المبارك، والقراءة فيه هي إنجيل الدينونة كما ورد عند متى، والمقول فيه أن المسيح يدين كل الأمم على قياس واحد وهو قياس المحبة، والناس خراف وجداء أي ناس عاشوا المحبّة وناس لم يعيشوها. في الحقيقة لا تقتصر الدينونة على هذا اذ يسألنا الرب عن الوزنات التي استثمرناها أو أهملناها.

ماذا يقول يسوع لمن أجلسهم عن يمينه أي الذين كانوا يحبونه وبسبب من هذا أعدّ لهم الملك؟ يقول: إني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني الى آخر الأقوال المشابهة. يقول: هؤلاء المعوزون الى طعام وشراب وإيواء وافتقاد، اذا أعطيتموهم ما كانوا في حاجة إليه، فإنكم فعليا قدمتم هذا لي. السيد يتماهى معهم أي يوحّد نفسه بهم. فأنت فعليّا تقدّم لهم ليس فقط شيئا من هذا العالم ولكن تقدّم لهم نفسك. واذا أنت أعطيتهم أو سألت عن أحوالهم تكون قد قدمت هذا للمخلّص نفسه.

أجل اذا تصاعدت نفسك الى المسيح بالصلاة والتوبة وانشددت اليه بكلمته تكون قد صرت ذبيحة له. ولكن كي تمتحن صدق صلاتك، وعمقها وتوبة نفسك لا بد من أن تذهب منها جميعا الى الانسان. لا يعني هذا أن السيّد المبارك لا يسألك عن صلاتك ولكن هذا يعني أنك لم ترتفع بها حقيقة الا اذا ذهبت الى القريب وأعنته، فبلا صلاة وتوبة لا تخرج أنت الى الفقير والمريض وهما الفئتان المحتاجتان بنوع خاص في الانسانية. واذا ذهبت الى هؤلاء يكونون هم سبب تقديسك ويرفعونك ذبيحة الى المخلّص وتندمج هكذا بآلامه وعند ذاك لك القيامة.

ثم اذا التفت الديّان العادل الى الذين هم عن يساره يقول لهم: “اذهبوا عنّي يا ملاعين الى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته”. وكأنّه يقول لهم: إنكم في الجحيم لأنكم لم تحبوا لأني جعت فلم تطعموني وكنت عريانا فلم تكسوني الى آخر أعمال الرحمة التي لم يقوموا بها للمعوزين والمنفيين من الوجود والمتعطّشين الى الحب. ويسألون كالخراف: متى رأيناك جائعا أو عطشانا أو غريبا… اذ ذاك يجيبهم: “الحق أقول لكم بما أنكم لم تفعلوا هذا بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه”.

أمام الخراف والجداء يسمّي المحتاجين الى خبز وافتقاد وعطف وحنان إخوته الصغار وهذه عنده تسمية دلال. ثم ينتهي الفصل بقول الانجيلي: “فيذهب هؤلاء (أي الذين لم يكن عندهم رحمة) الى العذاب الأبدي والصديقون الى الحياة الأبدية”. هذا قول قاطع فالذي لم يصنعها الرحمة مع البشر لا ينتظرها من الرب. لم يكن له مع الرب علاقة هنا فلن تكون له في اليوم الأخير.

السيد لا يعطي الرحمة اعتباطا ولا يمسكها اعتباطا. هذا الانجيل يبيّن أنّ الرب يسوع يحب الذين يريدون حبّه. ليس هو لطيفا بميوعة، إنه أيضا ديّان. الايقونات منها أيقونة الضابط الكل أي المسيح في وسط قبّة الكنيسة كما في دير “دفني” في ضواحي أثينا. هي تظهر ملامح وجهه قاسيا لأنه لا يحتمل الخطايا. نحن لا حق لنا أن نتكل على رحمته دون أن نصنع رحمة، أو على غفران إن لم نتشدّد بالتوبة. فلا مغفرة بلا استغفار.

لماذا وضعت الكنيسة هذا الإنجيل قبل الصوم؟ ذلك أن بعضا من الصائمين يظنّون أنّهم “يشترون” المسيح. الصيام ليس استعطافا لله الا اذا دعوته ليملأ قلبك. وتريد الكنيسة منّا الصوم كجهاد نتروّض فيه على محبّة القريب، فإذا أمسكنا فلنعطي ما لنا للجائع ونعود المريض ونؤوي الغريب وما الى ذلك. ليس الصوم رياضة جسديّة. ماهذه الا وسيلة لترويض القلب على المحبّة. واذا عشناها صادقين يضمّنا السيّد الى صدره كما ضمّ التلميذ الحبيب في العشاء السري.

وما يقربنا بعضنا الى بعض في زمن الصيام هو الاحسان فإننا في قصد الصدقة اساسا نمتنع عن طعام فنعطي الفقراء ثمنه، هكذا بدأ الصيام في الكنيسة الأولى. وهذا يبقى واجبا حتى اليوم لنستحق الجلوس على مائدة الرب في السماويّات.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

كنت جائعًا فأطعمتموني / السبت 25 شباط 2006

العبارة تعني – والكلام للمسيح – اننا يوم الاثنين المقبل يمسك المسيحيّون الأرثوذكسيون عن أكل اللحم في استعداد للصيام الكامل، والقراءة الانجيليّة غدًا هي إنجيل الدينونة كما ورد عند متى. والمقول فيه إن المسيح يدين كل الأمم، التي تدين له والتي لا تدين له على قياس واحد وهو قياس المحبّة. الناس خراف وجداء، أي ناس عاشوا المحبّة (وفق قوله: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم) وناس أحبّوا أنفسهم ولم يحبّوا أحدًا آخر.

وهذا يذهل الأتقياء اذ لن يسأل يسوع أحدًا – في الظاهر – عن صلاته وعن صومه وقد نادى بهما. ليس لأن أعمال الرحمة أهم من الصلاة وهذه لا أقوى منها ولكن لكون المحبة هي كل الشريعة ولا تؤتاك ما لم تكن مع ربّك في تواصل دائم. وقد يذهل الأتقياء كون السيّد يسمّي نفسه ديّانا ونراه في أقدم الفسيفساء ذا نظرات حادّة ولا نراه على الوجه الليّن كما يبرزه الفن الايطالي اذ يقول الكتاب عن الآب إنّه «أعطاه سلطانًا أن يدين لأنّه ابن الانسان» (يوحنا 5: 27). إن من أحب كما هو أحبّ له الحق أن يدين.

ماذا يقول لمن أجلسهم على يمينه أي الذين كانوا يحبّونه وبسبب من هذا أعد لهم الملك؟ يقول: «إني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني» الى آخر الأقوال المتشابهة. يقول: هؤلاء المعوزون الى طعام وشراب وإيواء وافتقاد اذا أعطيتموهم ما كانوا في حاجة إليه، فإنّكم قدّمتم هذا لي. السيد يتماهى والذين نهملهم على ضعف عاطفتنا. فأنت فعليّا تقدّم لهم ليس شيئًا من هذا العالم ولكن تقدّم لهم نفسك. واذا أنت أعطيتهم وسألت عن أحوالهم حافظًا لهم كرامتهم تكون قد قدمت هذا للمخلص نفسه اذ ليس عندك معيار لمحبتك الله الا اذا أحببتهم هم. الفضيلة التي ترى أنك جعلت نفسك بها أعني حفظك الوصايا هي سعي الى طهارتك وقد يكون هذا خشية على صيتك وقد يكون إطاعة منك لله. لا أحد يستطيع أن يكشف لك أن ما يبدو عندك فضيلة آت من قلب نقي. أما اذا أعطيت الفقير ولم تشهر عطاءك ولم تتفاخر به في نفسك وأصررت على أن تعطي الكثير الكثير حتى يسعد المحتاج أو يتعزّى أو ينتعش بمحبوبيّته عند الله الذي يراه دافعك الى العطاء فأنت لا تعرف نفسك شيئا ولكنّك تعرف أن كلمة الله هي كل شيء.

العلاقة تبدو أنها بينك وبين المحتاج ولكنك قد لا تعرف وجهه أو اسمه وأنت لا تنتظر منه جميلاً ولا شكورًا. تراه مشوهًا بالمرض وحط الدهر من قدره ومعذّبا بسبب من أولاد له لا يأكلون عند جوعهم ويجب ألا يحقدوا وألا يحسدوا الغني أو ابن الغني لتبقى نفوسهم سالمة. أنت جائع الى راحتهم وألا يروا أنفخسهم مهمّشين لأنّ الحرمان تهميش صارخ في الترتيب المجتمعي.

#   #

#

إننا كثيرًا ما نستعمل كلمة رحمة بلا فهم. أجل الرب رحيم ولكنّه لا يعطي الرحمة اعتباطًا ولا يمسكها عن قلوبهم اعتباطًا. نحن لا نستطيع أن نتكل على رحمة الله إن كنّا فارغين من الرحمة ولا نتكّل على غفرانه إن لم نتشدّد بالتوبة فلا مغفرة بلا استغفار.

لماذا وضعت الكنيسة هذا الإنجيل قبل الصوم؟ ذلك أن بعضًا من الصائمين يظنّون أنهم «يشترون» المسيح. ليس من رشوة فوق. كل ما تريده الكنيسة منا في الصوم أن نتروّض على محبّة القريب. ففي الكنيسة الأولى في روما كانوا يمسكون ليعطوا الجائعين. لقد تأسس الصوم ليس فقط للتقشّف أو الاستعفاف. هذا ركن من أركانه. لكن الركن الذي انطلقت منه الكنيسة هو الإحسان ونقول اليوم المشاركة. فأنت اذا أعطيت تبدّد مالاً وتعطي محبة من الله والإنسان. ما عدا ذلك يكون صومك حمية نافعة ولكن هذا لا يكون نزل عليك من قلب الله.

قال أحد القديسين في القرن الرابع: لم يبقَ في روما بسبب الإحسان فقير مسيحي أو وثني. والمحبّة لا تميّز بين الأديان. العقيدة شركة بينك وبين من يؤمن مثلك لكن المحبّة شركة بين جميع البشر. الرحمة من حيث أنها عطاء من جوهر المسيحيّة. ولو اهتممنا للعدالة الاجتماعية التي تقيمها الدولة أو تسعى وانشغلنا بتغيير البنى الاجتماعية وحسنّا أوضاع الفقراء الا أن الدولة ليس القلب من اختصاصها. نحن نعمل على خطّين. خط العدالة الاجتماعيّة وخط المحبّة الشخصيّة لأننا نريد بين الناس عاطفة بين شخص وشخص.

كذلك حال المريض: هو توّاق الى عضد روحي. هذا يذكّرني بأنّي كنت من سنوات مريضًا في احد مستشفيات باريس وعولجت. فجأة رأيت سيدة دخلت علي وقالت لي: «أنا عضو في إحدى الجمعيّات الخيريّة» وسألتني عن صحّتي وعن هويّتي الوطنيّة. شعرت أني لم أكن مرميّا في بلد بعيد وأن إنسانا يهمّه أمري وكان لي في هذا السرد الانجيلي يقول السيّد للذين كانوا بلا قلب: «كنت جائعًا فلم تطعموني وعاريًا فلم تكسوني وسجينًا فلم تأتوا إليّ فيقولون له متى رأيناك جائعًا فلم نطعمك وعاريا فما كسوناك» الى آخر الحاجات التي عدّدها. فيقولون له متى رأيناك هكذا. فقال لهم: ما لم تفعلوه بأحد إخوتي الصغار فلي لم تفعلوه. كان ينبغي أن يوحّدوا بينه وبين المحتاجين الى افتقاد.

طلب المسيح اذًا اليهم أن يروه في الناس فاذا هم لم يروا الناس لا يكونون قد التقوه. القصة هي هذا أن من الناس من له قلب ومنهم من ليس له قلب. على هذه القاعدة لا ينقسم البشر بين من اعترفوا بأن المسيح مخلّصهم ومن لم يعترفوا. القاعدة هي أن القلب يتحرّك الى المسيح المجسّد بالمحتاجين أو لا يتحرّك.

#   #

#

أجل «الفقراء معكم في كل حين». الرب يقرع على أبواب قلوبنا ويكتفي بأن نستضيفهم فيها حتى لا يحس نفسه مطرودًا منها اذا أقصينا عنها أحباءه. في الوطن تجنّدنا الأساسي هو رفع شأنهم. إنّهم الأولية الاولى. والسياسة التي لا تعنى بهم ثرثرة. يبقى أن الدولة قد لا تتغيّر. ولكن كل شخص منّا يستطيع أن يغيّر نفسه بالحنان. أنت لا تفتدي نفسك ما لم يصبح المحتاج فاديا إياك أي اذا جعلته أخا لك. أيّ معوز. مؤمنًا كان مثلك أم غير مؤمن. هو معك في ما نسمّيه نحن جسد المسيح.

لا يكفي أن تعطي اذ ينبغي عليك أن تعلي المحتاج على نفسك وأن تعتبره ملكا عليك. إنّه عند ذاك يقيمك في الملك على نفسك وربّك لن ينتزع عنك هذا الملك. فقد تصبح بالكرم العظيم مشرّدًا وعند ذاك يستقيم ملك الله عليك. واذا قبلت فقرك بسبب الحب المجنون يتحنّن الرب عليك بالطرق التي هو يعرفها وعندئذ لا تحتاج الى شيء من هذا العالم الذي لا يقدر على أن يغنيك وتصح فيك كلمة الانجيل كما يرويها لوقا: «طوباكم أيها الفقراء لأن لكم ملكوت الله».

اذا أنعم الله عليك بالغنى واحتفظت به لنفسك يصبح الغنى سجنًا. لا تتحرّر الا اذا انفتحت قبضتك وصار ما فيها في قبضة سواك. اذذاك توحّد بين القبضتين وتمسي يدك يدًا لآخر وتضحي أنت واحدًا مع الآخر وكل كيانك كيان الآخر فأنت لست فردًا منعزلاً. لا تضرب العزلة الا في المشاركة. تكون، اذذاك، قد اشتريت قلبك لأنه يصير مسكن الله.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الابن الشاطر/ الأحد 19 شباط 2006/ العدد 8

مَثله، سردًا طويلاً، قد يكون من أبلغ ما تفوّه به السيد عن التوبة. فتى يحب العيش الرغد، الواسع بما يتضمّن ذلك من تحرر، يطلب نصيبه في الإرث من أبيه. ليس لأنّه عزم على أن يضل وحسب، ولكن لأنّ الذهاب عن البيت رمز عنده لتفلّته من سلطة أبيه التي تبدو للكثيرين منا سلطة مستبدة، متعسفة.

“سافر إلى بلد بعيد” ليدل على أنه لا يطيق القربى من أبيه أو لا يحتمل أن يدفعه الشوق إلى الرجوع. ترجمتنا تقول إنّه عاش في الخلاعة. ترجمة آخرين تقول إنّه عاش في الإسراف. الخلاعة تتطلّب الإسراف. أخوه الأكبر يتّهمه أنه عاش مع الزواني. ما أراد الإنجيل أن يبيّنه أنه بدّد كل نصيبه من الثروة وانه لم يبقَ عنده ما يقدر به على أن يعيش. جاع الفتى. طلب عملا عند واحد فاستخدمه راعيا للخنازير. والخنزير حيوان نجس عند اليهود ولعل في ذكره إشارة إلى أن هذا الشاب كان يلامس الخطيئة أو يحيا فيها.

“رجع إلى نفسه”. هذا ما يسميه آباؤنا امتحان القلب وما يسميه بعضٌ فحصَ الضمير. إنه ساعة وعي، وعي الشاب إلى أن أباه عنده ما يكفي لإعاشة كل أهل بيته. وتصور أن أباه سيقبله. ولكنه أدرك قبل ذلك أنه أخطأ إلى السماء. الخطيئة هي جرحنا لله قبل أن تكون جرحًا للناس. ولكن الوعي مع الندم لا يكفي فقال هذا ما مفاده أني اذا عدتُ إلى البيت الأبوي سأقول صراحة لأبي: “لست مستحقًا أن أُدعى لك ابنًا، فاجعلني كأحد أجرائك”. الندم لا يكفي أن تعترف أمام الكاهن. مطلوب منك أن تعتذر من الذي أخطأتَ إليه وذلك بوضوح.

“فقام ورجع إلى أبيه”! لم يقل لوقا فقط الى أبيه ولكنّه قال قبل ذلك قام. قام من أعماله القذرة. تخلص منها بالتوبة أي بنكران هذه الأعمال أوّلا، ثم تحرك نحو والده. إذن، التوبة أولا ثم ما تُلزمنا به من أعمال.

“وفيما هو غير بعيد رآه أبوه”. كيف رآه إن لم لم يقف على مطل من البيت، على شرفة أو وراء نافذة. أي أنّه سمّر نفسه في مكان لأمله بأن ابنه عائد لا محال. بعد ذلك يقول: “فتحنّنن عليه وأسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله”. ما قال لوقا: انتظره لكي يدخل. الشوق دفعه، وربما كان شيخًا، الى أن يخرج هو لأنه لم يحتمل أن يؤخّر وقت القبلة. وقبل ذلك قال: “ألقى بنفسه على عنقه”.

كان ينتظر هذا الضم. كان يعيش بأمل هذا الالتصاق. وأخذ الوالد مع الخدم يفرح برجوع الخاطئ. لم يعاتبه. لم يوبّخه على أنّه أنفق المال. لم يذكر له أنه عاش مع الزواني. الولد هنا. يكفي أنّه حيّ يرزق وأنّه سيتمتّع بكل غنى الوالد وبحنانه. وهذا الحنان هو الذي سيحس به الفتى ويحس أنّه دواء لقلبه المجروح ولم تكن الملذّات دواء.

“لأنّ ابني كان ميتا فعاش وضالا فوُجد”. هذا القارئ لكلمة الله كان قد تعلّم منها أن الخطيئة موت وأنّ الوجود عودة عن الضلال.

ثم كانت الفرحة مع الغناء والرقص وذبح العجل المسمّن. وهذا فرح في السماء وعند الملائكة.

لن أتكلّم عن الابن البار الذي حسد أخاه. هذا تذكير من السيد أننا مدعوون الى محبّة الخطأة وأن يعودوا وقد يصيرون أفضل من الأبرار.

هذا المثل الذي سُمّي مثل الابن الشاطر عند شارحيه مع أن هناك ابنين هو في الحقيقة مثل الأب الشفوق الذي يغفر دائما للعائدين اليه لأنّه يحبّهم مجانا.

هذه القراءة وهي الثانية من موسم التريودي الذي يهيئنا للصيام المبارك تدفعنا الى أن نعي حسنات الصيام وجمال التوبة فيه.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الكتلة الطاهرة / السبت 18 تشرين الثاني 2006

في خضم المجهول الكبير سأحاول أن أتأمّل في جديدنا وفي ما يرجى أن يكون إن سلّمنا بوحدة بلدنا كما تفهم البلدان الراقية نفسها. قلنا غير مرّة في هذه الزاوية إنّ البلد لا يقوم الا اذا جعل المرء صلته بالدولة فقط غير قافز حدود طائفته أو غير عابر واقع طائفته. هذه نظرة حقوقيّة لم يخطىء الذين قالوا إن العقدة في أمر كهذا هي في النفوس وليست في النصوص. الحقيقة ان العلاقة بينهما علاقة جدليّة هي غاية في التعقيد ولست في معرض نقاشها.

السؤال المطروح أمامي الآن ليس فقط كيف ننمو معًا لأن النمو الواحد الذي لا يلغي الكيانات يعني اننا نتجاوز ان نكون بعضنا ازاء بعض بحيث نبقى على كل مواصفاتنا الخاصة ونحاول أن نتشارك بلا اختراق أي يبقى التعدد وهو في جدليّة مع الوحدة. فليس صحيحًا ان التعدد هو وحده الغنى ولكن الوحدة يجب أن تنال منه. أي ان التعدد القائم انثروبولوجيّا قانونًا وقضاء وسياسة يجب أن يخسر كثرته أو كثافته من طريق التوحّد.

هذا عمل إبداع وانصهار بلا خسارة التمايز. أنت أنت إن آمنت بصليب المسيح وهو إياه إن لم يؤمن. ومن هذا القبيل عندكما مضمونان في العقيدة وتتجاوزان تباين العقيدة بالحب. أتكلّم هنا في العلاقة الإناسيّة بينكما وهذا هو التحدي اللبناني ان تظهر والآخر بشرًا واحدًا على رغم اختلافكما العقدي والقادر على ان ينشىء نموذجًا انسانيًا واحدًا أو يكاد يكون واحدًا. هذا غير العلمانيّة الفرنسيّة التي تريد تفريغ الانسان من محتواه العقدي. لنا أن نتبنى نظامًا قائمًا على فصل صفة الانسان الدينيّة عن وظيفته الإداريّة في الدولة أو المصرف أو الشركة أو كرة القدم ولكن لا يعني هذا اننا جردناه مما هو ملتصق به أي الايمان.

لذلك لست أقبل بما يسمّى عندنا تعدد الثقافات. هذه خرافة الخرافات لما أصر الاستعمار على القول إن للمسيحيين ثقافة وللمسلمين ثقافة ليفرّقهم بعضهم عن بعض. كيف يصل صلاح ستيتية المسلم والعارف بالإسلام الى ثقافة أوروبيّة دونها مئات من المسيحيين. وكيف يعرف اللاهوتي المسيحي الإسلام كما يعرف نفسه ويمكن ان يطلق عليه –على مستوى العقل– انه مثقّف إسلامي.

أنطلق من هذا لأقول إننا قادرون على بناء ثقافة واحدة في هذه البلاد ومع ايماني ان العقيدة الدينيّة جزء كبير من تكوين الانسان الا انها ليست حاجزًا دون ان يمتلىء عقله من غير دين وان يتأثّر به في الكلام وفي الطبائع ويبقى على ايمان غير متزعزع.

#  #

#

ما يسمّى أحيانًا فيديراليّة طوائف مؤسس على انّ دعاة هذا التنظيم لا يريدون التناضح بين المسلم والمسيحي ويريدون انفصال المناطق بعضها عن بعض لإيمانهم ان التداخل بيننا «طبخة بحص». لست أدخل في تفاصيل المسألية الناتجة من الأحوال الشخصيّة فهذه معضلة تبقى ولو جعلت مناطق اكثريتها من هذا اللون أو ذاك. لا يمكن ان تهرب من الزواج الديني في هذا البلد ولو دعوت الى زواج مدني اختياري. انا أصّر على أن يتزوّج المسيحيون في الكنيسة ولست اعتقد بقدسيّة الزواج المدني ولو اعتقدت بقانونيّته. ولكن هذا قيد وليس سرًا إلهيّا. إستمرار الأحوال الشخصيّة يقيم فاصلاً بين المسلمين والمسيحيين على مستوى القانون أي على المستوى الداخلي لحكم كل منطقة.

روحيا الدعوة الى الفيديراليّة دعوة ناتجة من التعب، من تعب التلاقي واحتساب ان الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والأرمن في طوائفهم الثلاث والسريان في طائفتيهم والكلدان واللاتين والأقباط والأشوريين لا ينقلون الى منطقتهم الموحدة الخلاف الذي كان قائمًا في البلد الموحد بين مسلمين ومسيحيين. ليس من شيء يدلّ على أنّ هذه الأقوام متحابة الآن أو انها على عهد الحب الى الأبد.

الخلاص هو في هذا أنك ان كنت متفوقًا ان تشرك الناس من خارج طائفتك في هذا التفوّق. الخلاص ان ترى انّ طائفتك تخلّفت لو تخلفتَ أو انها عظمتَ أن عظمتَ وأن توزّع هذا إرثًا للجميع هذا يتطلّب ان تذيق الآخرين بهاء مجدك. وهذا لا ينحصر على تماس بين المثقفين. غير انّ هذا يفترض أن أحدًا منا لا يشعر بأنّ الآخر مسّه في كرامة دينه ولو مسّ في هذا الدين تافهَّا. هذا هو التحرر من التعصّب.

أنا لا يصدمني إطلاقًا لو حلل مفكّر صادق صارم أخلاق الروم الأرثوذكس كما يراها وطبائعهم وتخلّفهم ومستوى تديّنهم أو قوّة بعدهم عن الممارسة أو جهلاً عميمًا لديانتهم في طبقات واسعة منهم. لا يجرحني ان يقول عن أخلاق الروس واليونان والصرب والبلغار ما يشاء اذ قد يكون على حق وغير متعصّب لأهله. ليس عند العقلاء من حماسة لتاريخ أحد أو لوضعه المجتمعي. ليس عندنا ما يشبه القانون الفرنسي الجزائي الذي يعاقب من شك في مجزرة اليهود في المانيا أو حجمها. كل شيء يجب ان يكون خاضعًا للنقد بما في ذلك المقدسات. ان المقدسات تحمي نفسها في القلوب.

والتاريخ يتقلّب ونلاحظ ان العظمة كانت لطائفة في حقبة من الزمن وان هذا الزمان ولّى وأنّ طائفة أخرى صارت أبهى. هذا البهاء الذي حلّ بنعمة الله على بشر وبفضل جهودهم هو ملك للجميع. والطائفة التي ترى أنها أنجزت على الصعيد الحضاري شيئًا عظيمًا يجب ان تورثه الآخرين. وهذا غالبًا ما يحصل بالتلاقي الفكري بين الجماعات المختلفة. وهذا حاصل في العيش بالتأكيد. فالمدن والقرى المختلطة المجموعات الدينيّة مفتوحة مبدئيًا بعضها على بعض.

هذا يذكّرني بأنّ الاكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة طلبت إليّ بعد حرب الـ1975 أن ألقي درسًا في عمارة المساجد. وأحسست بعد إلقاء محاضرتي أن المستمعين أتوا جميعًا مما كنا نسمّيه الشرقيّة فسألتهم هل رأى أحد منكم مسلمًا؟ قالوا جميعًا لا فكلّفت الإدارة ان تنقل في اليوم التالي كل هؤلاء الشبان الى طرابلس ليروا أن المسلم بشر مثلهم وأنه لا يخيف.

اذا شاء الرب ان تنمو طائفة نموًا فكريًا عظيمًا أو ان تزداد ثروتها أو ان يكثر فيها الشعراء والأدباء أو الذريّة فهذا يكون لمجد الله ويفرحنا جميعًا ونتقبّله مائدة أنزلها الله من السماء تكون لفرح اللبنانيين جميعًا. هذا لا يوليها حقًا على مستوى الحكم لأن الحكم للفاهمين من حيث أتوا.

نحن نتكتّل مع الذائقين الجمالات من ايّ صوب ظهروا. أعرف ان الكثيرين من المواطنين يحزنون ان خسرت طائفتهم موقعًا في الدولة وأرى قلّة تغتبط لو وصل الى هذا المكان إنسان رائع من طائفة أخرى. أما اذا أتي بالتافهين فأفهم الحزن. بتعبير آخر نحن مجتمع واحد مدني لا صفة دينيّة له الا في قلوب الناس.

أن نكون وطنًا واحدًا يعني أن نفتّش عن الإنسان المتخلّق بأخلاق الله وإن كان من العالمين ونحسّ إحساسًا داخليًا صادقًا انه يؤلّف معنا طائفة الطيّبين. انت تنتمي الى الحق والخير ولا تنتمي الى من استولدك أمّك. هذا يبقى من باب المشاعر الإنسانيّة الحلوة. أمّا الوطن فينشأ من الكتل الفاهمة الطاهرة.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الابن الشاطر / السبت 18 شباط 2006

هذا فصل من لوقا نقرأه غدًا في كنيستي. وهو مثل من الامثلة التي كان يعلّم المسيح الانجيل بها. حكاية يؤلفها ويأخذها من حياة الناس. روايتها تقرب البسطاء والانقياء من الملكوت ولكنها ترسخ الفريسيين في رفض يسوع. هي كشف لاسرار الملكوت الذي دعا السيد الشعب اليه وليست تيسيرًا لتعليم لاهوتي دقيق عسير.

عندما يدق هذا الفصل الانجيلي باب مسامعنا نتذكّر ان الصوم آت ونفهم ان النص اريد له ان يضعنا على طريق نباهة النفس والاستغفار بغية استقبال المسيح من خلال كل النسك الذي يتطلبه اقترابنا من الرب. الكيان لا يستريح الا بعد ضجة فيه. وحكاية الابن الشاطر تحدثها في مستمع متقبل هذا اطول سرد في ادب الامثال ومن ابلغ صور التوبة التي جاءت على لسان المعلّم. ليس العنوان واردًا في الكتاب. وضعه المفسرون هكذا او قالوا الابن الضال وفي بعض اللغات الابن المسرف. الفتى هذا يحب العيش الواسع بما يتضمن ذلك من تحرر. طلب نصيبه من الارث من ابيه وهو على حياته الثلث. ولكن ماذا وراء هذا الطلب لو احببنا الدخول في علم النفس. قد لا يكون اصل هذا الالتماس ان يضل الصبي لكنه اشتهى الذهاب من البيت والبيت رمز لسلطة ابيه وهي في كثرة الاحوال سلطة متعسفة، مستبدة لا تقبل استقلال الشاب الذي يقبل على الحياة نهمًا.

هذا سافر الى بلد بعيد ليدل على انه لا يطيق القربى من ابيه او لا يحتمل ان يدفعه الشوق الى الرجوع. الأنا اشتهت ان تؤكد نفسها. الترجمة المعتمدة في الكنيسة الارثوذكسية تقول انه في الغربة عاش في الخلاعة. الترجمة الاميركية «انه بذّر ماله بعيش مسرف». وفي اليسوعية ايضًا التأكيد على الاسراف. اخوه الاكبر اتهمه بأنه «اكل معيشته مع الزواني». ما اراد الانجيل التركيز عليه انه بدد كل نصيبه من الثروة. وانه لم يبق عنده ما يقتات به. طلب عملاً عند واحد فاستخدمه راعيًا للخنازير. والخنزير حيوان نجس عند اليهود وحرمت الشريعة اكله. لعل لوقا استعار كلمة خنزير ليوحي ان الولد كان موغلاً في الخطيئة.

ثم «رجع الى نفسه»، الى ذاته العميقة الى حيث يسكن الله صوتًا خفيًا او ضميرًا او نباهة. اخذ يمتحن قلبه كما يقول آباؤنا. هذا يعني ان الأنا المستلذّة لم تبق طاغية. ثمرة هذا الفحص ان وعى الشاب ان اباه عنده ما يكفي لاعاشته. وتصوّر ان اباه سيقبله. اهتزت قناعته الاولى بأن اباه مستبد. لكنه ادرك ما هو اعمق وهو انه اخطأ الى السماء. الخطيئة هي جرحنا لله قبل ان تكون جرحًا للناس. لكن الوعي مع الندم لا يكفي. الندم حسرة حسب الانسان ان ينطلق منها لا ان يبقى عندها لانها من الماضي. اما الآتي فهو التوبة اي الحركة الى امام والى فوق. فالنور اذا هبط عليك لا يبقيك في حدود الندم ولكنه يغيّّر كل كيانك وينزل الى عقلك رؤية جديدة فتتغير قناعتك ويصحح عقلك المتجدد بالنعمة المواقف التي اخذته الى الخطيئة.

#     #

#

«لك ابنًا فاجعلني كأحد أجرائك». التوبة وضوح فاعتراف في النفس فإقرار اللسان بالاذى لدى الذي آذيناه. اذا كانت التوبة صادقة نبعت من اعماق وجودنا.

«فقام ورجع الى ابيه». لم يقل لوقا قط عاد الى ابيه ولكنه قال قبل ذلك قام. قام من قذارته. تخلّص منها بنكرانها، بقرار الانسلاخ عنها. بعد هذا الانسلاخ تحرك نحو والده. التوبة فرضت التزام ابيه كما فرض التمرد الذهاب عنه.

ثم يقول الكتاب: «وفيما هو غير بعيد عنه رآه ابوه». كيف رآه ان لم يقف على مطل من البيت، على شرفة او وراء نافذة ولعلّه كان يهمل الكثير من عمله ليرى هذا الشبح يعود. اي انه كان في اوقات كثيرة من النهار يحلم بأن يحل على قلب ابنه شوق. كان هذا الرجل تائقًا الى الشبح، على يقين يقوى حينًا ويضعف حينًا. فجأة اطل الوليد. «فتحنن عليه واسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله». ما قال لوقا انتظره كي يدخل. الشوق دفع الوالد الى الخروج. وربما كان شيخًا. لم ينتظر ان يقرع ابنه الباب او ان يفتح له الباب. لم يحتمل ان يؤخر وقت القبلة. وقبل ذلك قال الانجيلي: «ألقى بنفسه على عنقه».

كان ينتظر هذا الضم. كان يحيا بأمل هذا الالتصاق، وأخذ يفرح هو والخدم برجوع الخاطئ. لم يعاتبه. لم يوبخه على انه أنفق المال. لم يلمح له انه عاش مع البغايا. لم ينعته بالضال. انه هنا، نهائيا. يكفي انه حي يرزق وانه سيتمتع بكل غنى والده وبحنانه. وهذا الحنان سوف يحس به الفتى ويحس بأنه دواء لقلبه المجروح وما كانت اللذات بدواء.

ويتابع السرد: «لأن ابني كان ميتا فعاش وضالا فوجد». هذا القارئ لكلمات الله كان قد تعلم معها ان الخطيئة موت وان الوجود عودة من الضلال، ثم كانت الفرحة مع ا لغناء والرقص وذبح العجل المسمّن. شارك الرجل ابنه بما هو افضل ما عنده.

لم تنته الحكاية هنا. فهناك ابن أكبر. كان في الحقل. «فلما أتى وقرب من البيت سمع أصوات الغناء والرقص». فسأل أحد الغلمان ما الامر. كان الجواب ان قد قدم أخوك «فذبح أبوك العجل المسمّن لانه لقيه سالما». ما غاص الخادم على أعمق من هذا. كانت سلامة جسدية ظاهرة. في البدء عند مغادرة الصغير المنزل واستلامه نصيبه من الارث. ما حلا هذا للبكر، ربما كان يريد وحدة العائلة وكسرها الفتى الاصغر. فعند تلقيه الخبر «غضب ولم يرد ان يدخل». حاسب أباه على تصرفه المحب. لا يراد الحب للخاطئ، فخرج الاب وأخذ يتوسل الى البكر. فعاتب أباه قائلا: «كم من السنين أخدمك ولم أتعد لك وصية وانت لم تعطني قط جديا لأفرح مع اصدقائي». كان يريد مكافأة لبرّه. كان يريد ان يعترف له أبوه بهذا البر وان يؤثره بسببه على الصغير. ثم اردف يقول: «ولما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن». هو لم يسع الى البغايا. انه عفيف باستمرار. فهل يستوي الطاهر والفاسق؟ لم يطق الوالد استعلاء الطاهر على الفاسق فأجاب البكر والده: «يا ابني انت معي في كل حين وكل ما هو لي هو لك» فانك لم تقسم الثروة وعشت في طاعتي وهذا يسجل لك في كتاب الحياة عند الله. غير انه بار فتشدد على الساقط والله وحده في عمق محبته يعامل كل أبنائه بأبوته ويشرق بشمس واحدة على الصالحين والطالحين ويمطر عليهم بالسواء لأن الأب لا يستطيع الا ان يكون أبا وكل أولاده خرجوا منه وبقوا جميعا في صلبه وسيبقون فيه ما داموا أحياء. وأخيرا، ينتهي الفصل بقول الوالد لابنه السابق في السن: «ولكن كان ينبغي ان نفرح ونسرّ لان أخاك كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد».

هذا المثل عنون: مثل الابن الشاطر او الضال او المسرف ونسي الاقدمون ان الفريق الهام في هذا الثالوث العائلي ليس هذا الولد ولا ذاك ولكنه الوالد. هذا مثل الاب الحنون. هذه اذا حكاية الاب السماوي معنا جميعا. هذا حديث عن المحبة الالهية لنا. وعودتنا تتأسس على معرفة هذه المحبة وهي تجعلنا نذوق محبوبيّتنا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الوحدة المسيحية إلى أين؟/ الأحد 12 شباط 2006 / العدد 7

كانت اللجنة المشتركة للحوار بين كنائسنا والكنيسة الغربية قد انقطعت منذ بضع سنين، ثم عُقد مؤخرًا لقاءان بين الفريقين في استانبول وروما، وتقرّرت معاودة المحادثات وربما مواجهة المشكلة الكبرى وهي رئاسة بابا رومية وعصمته. ولا شك أن هذا يستغرق وقتا طويلا. ولا يبدو في الأفق أن الكنيستين منشغلتان اليوم بموضوع تعيين تاريخ موحّد للفصح.

ولنفترض أننا حللنا هذه المشكلة سريعًا. هذا لا يقدّم ولا يؤخّر في الصعوبات الأساسية. فالأرمن يعيّدون مع الغربيين، ولم يُحدث هذا اقترابا في العقيدة. كذلك التعييد في يوم واحد للكاثوليك والإنجيليين لم يقرِّب فئة إلى فئة. يحتاج الحلّ إلى شيء من الصبر.

أنا لست أشعر أن الوحدة آتية سريعًا. وصعوبة تكوين كنيسة موحّدة إدارتها أن الأرثوذكسيين لا يقبلون لاهوتيّا أن يخضعوا لبابا رومية، لأنّ هذا لم يكن يومًا عندهم. لم يتدخّل يوما بابا رومية في شؤون الشرق. فإذا قبِلوا برئاسة الأسقف الروماني على العالم أجمع يكونون قد خرجوا على تراثهم وثبّتوا شيئًا ما عرفوه في الماضي إطلاقا. الأرثوذكسيّون القائمة عقيدتهم على المجامع المسكونية السبعة ما رأى آباؤهم أنّ تقدّم بطرس على التلاميذ انتقل إلى باباوات رومية، ولا يفهمون أن أحدا غير المسيح يمكن اعتباره رأسًا للكنيسة بتفويض من المسيح. رعاية الرسل للكنيسة الأولى كانت رعاية جماعيّة برز فيها بطرس كأوّل. ولكن هذا البروز لم يتسلسل.

نحن نرى أن كل أسقف رئيس لكنيسته المحليّة، وأن مجموعة كنائس أو أبرشيّات يتقدّم فيها من نسمّيه بطريركا أو رئيس أساقفة، وهذا يكون أوّل بين متساوين. والعلاقة بين البطريرك والمطارنة تُعاش في المجمع المقدّس بصورة ظاهرة وفي الحياة المشتركة. ولكن البطريرك ليس رئيسا على أيّ مطران أو على المطارنة مجتمعين، ولكن له مبادرات وتدخّل إذا اختلّت الحياة الكنسيّة في أبرشيّة. والبطاركة كذلك إخوة، والمتقدّم بينهم بعد الانشقاق عندنا هو بطريرك القسطنطينيّة، وإذا تصالحنا يعود هذا التقدّم إلى بابا رومية.

هذه الرئاسة البابويّة إذا بقيت عقيدة، وقد أعلنها مجمع الفاتيكان كذلك سنة 1870، فالمصالحة ليست ممكنة لأن الشرقيين يكونون قد انحازوا عن إيمانهم القديم. فهل من مخرج؟

لقد فكّر في هذا الأمر علماء من عندنا ومن عندهم، ولاحظوا أن الغربيين يميّزون بين المجامع المسكونيّة وهي سبعة، والمجامع العامة وهي التي كانوا وحدهم فيها في الألفيّة الثانية، أي بعد انشقاق سنة 1054. فالمسكونيّة السبعة مُلزمة، وهذا قولنا الواحد. أمّا المجامع الغربيّة فلا تُلزم الشرقيين الذين كانوا غائبين عنها ولم يعترفوا بها، وقد نقبل عند المناقشة بعض ما جاء فيها ولا نقبل البعض الآخر.

من هذه المجامع الغربية العامة (غير المسكونيّة) مجمع الفاتيكان الأوّل الذي قال برئاسة البابا وعصمته، وتكون الكنيسة الغربيّة قد اجتمعت فيه بوصفها كنيسة محليّة أو إقليميّة.

فإذا قبِل الغربيّون إطلاق هذه الصفة على مجمع الفاتيكان، تكون رئاسة بابا رومية وعصمته غير ملزمتين للشرقيين، ويتواصل بابا رومية وبطاركة الشرق كالأخ البكر كما يتواصل اليوم البطريرك الأرثوذكسي والمطارنة الذين حوله، أي لا يأمر ولا ينهي ولكنهم يتشاورون.

هذا ما يبدو لي صورة الكنيسة الموحّدة في المستقبل، وهذا مؤسّس على الألفيّة الأولى، ونحن لم نغيّر فيها حرفا واحدا. ألا ألهم الله المسيحيين جميعًا على ألاّ يحيدوا عن هذا التراث المشترك.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

«نفسي حزينة حتى الموت» (المسيح) / السبت 11 شباط 2006

لم يقلقني كثيرا التحقيق الذي اجرته جنى نصرالله عن طائفية اللبنانيين المنشور في عدد 3 شباط على خطورته. ما يكشفه اننا نرى الآخر في طائفته ونحصره فيها لتكوين رؤيتنا ولا نراه في الحركية الوطنية. وهذا قد يدنينا من شعور فيديرالية الطوائف ولكن لم يكشف التحقيق ان ثمة عداء دينيا بين الناس.

غير ان عداء دينيا ظهر في هذه الصحيفة الدانماركية التي سخرت من النبي محمد بتصوير كاريكاتوري يرافق مقالا لم ينقل الى لغتنا لأقرأه. ما اقلقني اننا نحن العرب لا نتفاهم واهل الغرب على امور اساسية في الحياة. نحن لا نحتمل ان يهين ناس اتباع ديانة اخرى في مقدساتهم، نقبل ان تناقش تصرفات سياسية لاهل دين آخر ولكن لا نرتضي سب الانبياء وحزننا الا يفهم الغربيون ان انبياءنا هم من صميمنا واننا قد نؤثر الموت على ان نرى الآخر يشتم من كان عندنا اعلى من هذا العالم ومقدسا اكثر من اي شيء آخر.

كنت منذ ايام في عشاء جمع ارثوذكسيين فقط وأُتي على هذا الحديث. وسمعت القوم في الاجماع يقولون: هذا معيب. وقالت سيدة بصوت غاضب: “فلقنا” الاوروبيون بالكلام على حرية التعبير التي تسلحت به حكومات اوروبية مختلفة. ماذا تعني هذه الحرية عند هذا المقال السيئ؟

كتبت هذا قبل حوادث الاحد الماضي وكتبت غيره حتى شاهدت على الشاشة ما شاهدت. وقرأت في اليوم التالي تعليق هذا وتعليق ذاك. وقرأت عن غير اللبنانيين الذين قيل عنهم انهم اندسوا وفي يقيني انهم لم يندسوا ولا يهمني ان اعرف من بعث بهم. فالشغب كان مقصودا لان هذه العناصر كانت كثيرة وكان لهذا الجمهور قيادة مختصة باثارة النعرات الطائفية وقوى الامن كانت تتبختر وترافق المتظاهرين ويبدو ان اوامرها كانت ان تتصرف بالحسنى او بالرفق ظانة ان المتظاهرين سوف ينصاعون لمجرد الايماءة او مجرد الترجي والامن لا يقوم على التراضي بين المعتدي والسلطات المولجة بالقمع.

في هذا البلد لا يجوز إمرة السلطة التنفيذية للجيش فقد قيل السنة الـ1975 انه اذا أُرسل ينقسم البلد ويقال منذ سنوات انه إذا أُرسل فإنه يحمي العدو وقد قيل – يوم الاحد الفائت – بالتصرف لا بالكلام انه ارسل ليخشاه المتظاهرون وهم لم يخشوا احدا. اذا كانت السلطة لا تستعمل الجيش فما نفعه؟

بان العقل او التعقل من الفريق المعتدى عليه وما اعوزته شجاعة ولكنه من جهة غير مسلح ومن جهة اخرى كان يعرف ان الدولة لا تحمي احدا وان تصدي مدنيين لمدنيين يحرق البلد. نحن كنا قاب قوسين او ادنى من فتنة طائفية لم يتوقعها المحللون السياسيون الذين كانوا يرون ان المسيحيين لا يعيشون تشنجا ضد احد وانهم باتوا عائشين شعورا وطنيا حقيقيا بالمسلمين وان كانت من لعبة سياسية فيها توتر فهم خارجها. يبدو اذًا ان المخططين لحوادث الشغب ارادوا زج المسيحيين في اللعبة ولكنهم لم يفلحوا. هذا كان انتصارا للبنان كله وانتصارا للمسلمين قيادة روحية وقيادة زمنية وغدا نعمة من السماء لاهل لبنان جميعا.

ومع كوني استنكرت في مستهل هذا المقال الاساءة الى النبي العربي، السؤال الذي يطرح نفسه بصورة تراجيديا يونانية هو كيف ربطت هذه الجماهير حادثة الدانمارك وكنيسة مار مارون والمطرانية الارثوذكسية في بيروت ومدى كنيسة مار نقولا في الاشرفية. ما علاقة هذه المقامات الثلاثة بالامة الدانماركية! هل احس المتظاهرون انهم بمعاقبتهم اهل الاشرفية يعاقبون اهل كوبنهاغن لظن هؤلاء المتظاهرين ان المسيحيين امة واحدة. وهل احتسبوا ان مجد الاسلام يعظم بتحطيم اجزاء من بيوت ومعابد؟

هناك امور لن تكشف الا بعد التحقيق في هذا الحادث واذا اتى التحقيق مهنيا وصادقا تأتي معه التهدئة ويعذر من اعتقد ان معاقبة الدانمارك تتم بتكسير رموز دينية في مار نقولا وعلى باب مطرانية الروم. بانتظار ذلك لا بد من شكر سماحة مفتي الجمهورية والمشايخ الافاضل الذين عرضوا انفسهم لمنع الشبان من الاذى ولا بد من تحية اهل السياسة والقلم الذين استنكروا هذه الانحرافات. غير ان الرؤية الموضوعية تقضي بالقول ان الشبان اللبنانيين الذين ألفوا الاكثرية الساحقة من المتظاهرين يعرفون ان الاشرفية لا يسكنها دانماركي ولا نروجي وان اهلها لبنانيون مثلهم وانهم في الزمان الحاضر لا يبتغون سوى ان يستر الله ذنوبهم ويغفر خطاياهم وان يحيوا بسلام لاطعام اولادهم.

لقد اقتنع المسيحيون في لبنان ان مبادرة منهم لاصطدام مع المسلمين غير معقولة. لم يكن في مشاغبة يوم الاحد اذًا مروءة. كان المشتهى ان يرد المسيحيون على التحرش لترمى على اجسادهم القنابل المحرقة بانتظار اعمال اضخم لكن الله الهمهم حكمة حمتهم وحمت المشاغبين بآن.

قلوبنا على الذين قاموا بتدمير لأن عقولهم لم تكن تعلم. لكن قلوبهم كانت تحس بأن انتهاك المقدسات في بيروت يقدم لهم تعويضا للاساءة الى النبي. ما يقلقني ان الدولة اللبنانية ان لم تكشف المحرضين والمخططين بالغا ما بلغ حجمهم لن يطمئن الناس الى ان الفتنة وئدت. واذا كانت عارفة ان قوى الامن عندها عاجزة فمعنى ذلك انها تكون هي قررت ان هذا البلد في حاجة الى حماية وتكون السلطة قد ادخلتنا في عصر التدويل. الاستقلال ليس اهم من استمرارنا الجسدي لأن عطاءنا الروحي والثقافي اهم منه.

ان هؤلاء الفتية الذين اخترقوا شوارع بيروت لتخريبها لم يكونوا ادوات غبية في ايدي من تلاعب بهم. انهم عاشوا حقدا دفينا نرجو ان يطهرهم الله منه. لعلهم لم يقرأوا في رسالة الامام علي الى مالك الاشتر النخعي: «ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق».

انا لست معلمهم اصول دينهم. ان علماءهم كثر وافاضل وارجو ان يأخذوا جماعات الشباب ليعلموها المحبة او على الاقل الحكمة التي تقول بأن لا مصلحة لأحد في هذا البلد ان يكفر به شريحة من شرائحه. نحن الملمين بالاسلام نعرف ان فيه سموًا وجمالات كافية لتجعل المؤمنين به مسالمين وعلى خلق كريم. ولا يكفي ان يعتذر المفكرون بقولهم ان الاسلام براء من هذا التصرف. ليس في المصف المسيحي من يتهم الاسلام. المسألة هي مسألة بعض من المسلمين تحركهم اهواؤهم او ما كان اقوى منها من اعداء هذا البلد.

القضية تهذيب اجيال ولكن هذا لا يتم الا على الرجاء برحمة الله على كل الناس. واملي ان نفهم جميعا ان ما قمنا به في السنة الـ 1975 وما بعدها كان غباوة مطلقة وانتحارا جماعيا. نحن اهل البلد قد فهمنا ان ليس من استشهاد على هذه الطريقة وان قدرنا ان نعيش في معية صادقة في بلد نريده لجميع ابنائه. لقد اقتنع العقلاء من قبل الطائف ان فئة من الفئات لا تستطيع ان تعيش منعزلة، ومعنى ذلك ان نصغي بعضنا الى بعض وان نتخاطب باستمرار ونصلح امورنا معا فلا يبقى متبوئا او ممتازا الا على قدر اخلاقه واخلاصه للبلد.

كل فريق منا في عهدة الآخر ومفوضة اموره الى نفسه والى الآخر ومن كان لله يكون لجاره او اخيه في الخلق. العمل المشترك في كل مرافق الوجود الذي لا تفريق فيه ويديره اهل لبنان وحدهم هو الذي يقضي على الفتنة. لكن ذلك يقتضي سهرا طويلا وحقيقة حب.

انسانا «الاحد الاسود» حرق الكنائس في العراق. هذا مخز ومخجل. المسيحيون قلة لا تهدد احدا وتسير في العروبة. هناك غير بلد يُداس المسيحيون فيه. ماذا يُطلب منهم؟

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

قربى المسيحيين بعضهم لبعض/ الأحد 5 شباط 2006 / العدد 6

المهم في الزمن الرديء الذي نعيشه أن يقترب كلّ من الآخر بالمحبة. لأنّ أحدًا لا يزيد على المحبة شيئا. وهي تقضي بشيئين: أن نتمسك بالإيمان القويم ولا نحيد عنه إرضاءً للبشر، وأن نحبّ كل المؤمنين بيسوع أيّة كانت عقيدتهم، وذلك في الاحترام المتبادل، فلا يستعلي أحد على أحد، ولا يذم بعضنا بعضا، بل نتسابق في الإكرام. العارفون عقيدتنا بشكل صحيح، لهم أن يوضحوها لمن طلب التعرف اليها. التفسير واجب، ولكن واجب أيضا اجتناب الجدل وملازمة الهدوء.

هناك نوع من المشاركة في الأفراح والأتراح يعرفها اللبنانيون. ولكن أضيفوا عليها الإحسان اذا طلبه فقير من كنيسة أخرى. ليس لنا أن نردّ فقيرا الى طائفته اذا لم يتيسّر لها أن تساعده. هنا أتكلم ليس على العطاء الفردي الذي تمارسونه ولكن على عطاء من كنيستنا اذا توفر.

أما على صعيد العبادات فليس أسلوبنا نحن أن نختلط مع الآخرين في عباداتهم الا في ظروف استثنائية. المهم أن يتقدس كل منا وأن يحب طقوسه ويشترك في الخدمة الإلهية مع الذين يؤمنون مثله. التقارب ليس بالاختلاط ولكن في المحبة العملية. أن نقف معا هنا وهناك، أن نتبادل الزيارات في الكنائس ليست طريقتنا في التعارف بالعمق. والتلاقي هو في أعماق النفس وليس في ما يظهر. أما متى نظهر معا، فهذه تحتاج الى تنظيم يقوم به المسؤولون.

ما يؤسفني أن أرى بعضا من أبنائنا لا يصلّون في كنائسهم يوم الأحد اذ يكون عليهم أن يسيّروا سياراتهم خمس دقائق أكثر أو عشر ليصلوا الى كنيسة أرثوذكسية. هم مثلنا أو نحن مثلهم. هذا أرجو أن يصير بنعمة الله. ولكننا لسنا حتى الآن واحدا في ما نقول وفي ما يقولون. نحن أمام مشهد كنيستين منقسمتين نرجو اتحادهما بعد محادثات بين الكنائس وتذليل الصعوبات القائمة حتى اليوم. هذه أشياء فيها لاهوت وليس سهلا تذليلها.

القول اننا نريد أن نتحد اليوم مهما كلّف الأمر، قول مردود لأن أمور الكنيسة جديّة ولا تُحلّ المشكلات بلا رأي البطاركة والمطارنة والعلماء. ليس الجاهل كالعالِم. وفي هذا المجال ليس من أمر عسير التفاهُم عليه. التفاهم يشترط أن نكون جميعا على الإيمان الذي «سُلّم دفعة واحدة إلى القديسين».

المسيرة طويلة وشاقة، وتحتاج إلى صبر طويل. القول الذي أسمعه أحيانا: «نحن العلمانيين نريد الوحدة الآن» يتطلب جوابا أنْ أرشدوني إلى طريقة حل المشكلة.

تبقى قضية تاريخ واحد للفصح. الكنائس تسعى إلى هذا وألّفت لجنة عالمية لحل المعضلة. حسب تتبّعي للأمور، التأخر عن الحل ليس تلكؤًا عند الرئاسات الروحية. هناك شعوب لا تزال رافضة لهذا التفاهم وقد سبق في أحد البلدان الأرثوذكسية العريقة أن انقسم عدد رهيب من المؤمنين عن الكنيسة، عندما تبنّت بعض الكنائس التقويم الغربي للأعياد الثابتة (الميلاد، البشارة).

ثم توحيد الأعياد الثابتة لم يجعلنا نخطو خطوة واحدة في التقارب. الصعوبات اللاهوتية راوحت مكانها. ثم الإنجيليّون واللاتين يقيمون الفصح في يوم واحد ولم يتقاربا.

يمكن القيام بعمل واحد ليس على صعيد عالمي ولكن على صعيد إقليمي، وهو ان يتبنّى الجميع تاريخ الفصح الأرثوذكسي ما دام الحل العالمي لم يأتِ بعد ولا نستطيع أن ننفصل عن إخواننا الأرثوذكسيين في العالم، والكاثوليك الذين يعايشوننا في لبنان قد سمح لهم البابا أن يعيّدوا معنا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الوحدة المسيحية: هل من رجاء؟ / السبت 4 شباط 2006

انقضى أسبوع الصلاة من أجل الوحدة بين المسيحيين وبوركنا بالأدعية ورؤية أن الآخر الذي كان أمامنا هو الينا وأنه على رغم النصوص لم يكن آخر بالكليّة على كون كلّ منّا يتحسّس ما يتحسّس من تاريخ قاس واطلالات من السماء مختلفة من انتقادات لقوم آخرين والشوق عند كل فريق يدفع الى العناق لكن التفاسير المتباينة تجعل في العناق تحفظًا بعض الشيء.

سمعت تأفف من هم خارج الاحتراف اللاهوتي: بعضهم يريد الإنصهار اليوم بلا قاعدة ولا شروط. هكذا عندهم أنّه ينبغي أن نذهب معًا الى المائدة المقدّسة ومعناها أننا بهذا الإندماج نقول إننا واحد ولسنا بواحد والوحدة ينجزها الشعب، يقولون وبضغط الجماهير نذوب جميعًا بعضنا ببعض. طبعًا هذه قراءة لبنانية للانقسام القائم. يسوس أحدنا الآخر فتنتهي المشكلة لأن المشكلة كانت عند هؤلاء تسابقًا على الكراسي. إن أحدًا منهم لم يقرأ كتابًا أو مقالاً عن التباعد الذي تم بين الكنائس منذ تسعة قرون بين الشرق والغرب أو منذ خمسة عشر قرنا بين شرق وشرق وربما لم يحسب أحد أن هذه معضلات لا تحل باحتساء القهوة بالمعية.

أنا لا أستخف بالأشواق من هذا الصوب أو من ذاك لكن الخصام ولو داخله توتر أعصاب بين روما والقسطنطنية الا أنه اشتد بسبب من نزاعات فكرية لها أصول هنا وهناك. ولا تنتهي بتوقيع بروتوكولات مصالحة كما بين الدول. نحن بتنا مفترقين جديًا وبعض افتراق تبيّنا سطحيّته كالافتراق بين السريان والأرمن والأقباط من جهة والأرثوذكسيين من جهة. هؤلاء عرفوا أنّ إيمانهم واحد لكن هذا استغرق عقدين من المناظرات العلمية ليظهر. من البديهي اذًا أن تكون عتبة الدخول الى الحل كلمة العلماء وأن يأتي الحل على لسان المجامع المقدسة.

#    #

#

كلّنا يسلّم أنّ ثمّة عوامل غير لاهوتية في الخلاف القائم. فعسير عليّ أن أتصوّر أن يرتضي بابا روما الرؤية الشرقية التي لا تلقي على الرجل وشاحًا إلهيّا أي لا تقول بأنّه مفوّض إلهيّا لرعاية العالم المسيحي بل تقول إن ما يعتبره هو سلطانًا إلهيّا ليس سوى ترتيب تاريخي لحسن تنظيم الكنيسة بحيث أن ما يراه الكاثوليك أولّيّة البابا وعصمته ليس في نظر الشرقيّين عقيدة ملزمة للخلاص. لنفرض أن الغرب اهتدى الى الرؤية الأرثوذكسيّة. يعني هذا أنّ بابا رومية يكون أسقف مدينة رومية ومتروبوليت ايطاليا وبطريرك الغرب. هذا التقلّص ليس سهلاً عليه.

هبوا أنّ البابا صار فقط أوّل البطاركة كما يريده الأرثوذكسيّون ينتج من هذا أنّه يتّصل بمطارنة الشرق مباشرة أي في الندية وأنّ مجمع الكنائس الشرقيّة القائم في الفاتيكان يزول واذًا تصير الكنيسة اذذاك، مؤلفة من كنائس محلية أو إقليميّة كما نادى بها نظريًا مجمع الفاتيكان الثاني وكما تفهمها الأرثوذكسية منذ الألفيّة الأولى فمعنى ذلك أن لا حاجة الى أي “مجمع” أو مكتب يدير أي نشاط على مستوى عالمي عند ذاك تحكم اللامركزية كل العمل الكنسي.

ربما ما كان هم عامة الناس هذا. همّهم الفصح وتعييده. يقولون يريدون أن يكونوا واحدًا. كان هذا هاجس الكنيسة في بدايات القرن الثاني. لكن الكنيسة كانت واحدة. سؤالي هو هل يحسّون أنهم واحد اذا أقاموا العيد في يوم واحد؟ أم يريدون على الطريقة اللبنانية أن يقول عنهم المسلمون ذلك؟ هذا آخر همّ عند المسلمين. فاذا كانوا ينكرون صلب المسيح وقيامته فلماذا يريدون أن يهتمّوا لذكرى حادثة يقولون إنّها لم تحدث؟

السؤال الثاني: هل هذا يقرّب بين الكنيستين؟ لقد اعتمد الأرثوذكسيّون في هذه المنطقة وفي اليونان ورومانيا وسواهما الحساب الغربي في الأعياد الثابتة (الميلاد، الغطاس وغيرها). هل اقتربنا بذلك من الوحدة؟ هل اقترب الإنجيليّون والكاثوليك بعضهم من بعض باقامتهم العيد منذ خمسة قرون في يوم واحد؟

ففي اليونان اليوم حوالي مليون مؤمن أرثوذكسي يرفضون الحساب الغربي للأعياد الثابتة. من يقنعهم باعتماد حساب آخر للفصح؟ من يقنع الصرب بأنهم باتوا واحدًا من الكروات بعد أن ذاق مئات ألوف من الصرب مع مطالع الأربعينات من القرن الماضي عذاب الشهادة.

#     #

#

غير أن عامة النّاس الطيّبين الذين يولون أهميّة قصوى لتاريخ للعيد واحد أن يزيدوا اطلاعهم على المصاعب الحقيقية وهي تتلخّص بأن كل تفسير كان رؤية عن طبيعة الكنيسة الجامعة وعن طبيعة وحدتها تختلف عن رؤية الكنيسة الأخرى. فالرؤية اللاتينية التي تجلّت في المجمع الفاتيكاني الأول (سنة 1870) تعود في جوهرها الى القرن الخامس وتركتها الكنيسة الشرقية تعبّر عن نفسها ولم تكن تكفّرها ربما لاعتقادها أن الوحدة الكنسية والمحبة كفيلتان بألا يتحول هذا الاعتقاد الغربي الى عقيدة ملزمة لكن ذلك تم سنة الـ1870 فهل تم بذا تكفير الارثوذكسيين؟ غير أن لاهوتيًا لاتينيًا كبيرًا أكد لي أن مجمع الفاتيكان الأول أراد تكفير أهل الغرب الرافضين للعصمة ولكن لم يرد حرم الارثوذكسيين الذين كانوا غائبين عن المجمع. ولذا كتب كونفار أن الارثوذكسيين هم من الكنيسة. وبهذا المعنى تكلم البطريرك مكسيموس الرابع (الصايغ) والمطران نيوفيطس أدلبي والمطران الياس الزغبي وهم أركان في كنيسة الروم الكاثوليك الملكيين.

المخرج الوحيد الذي يراه بعض من كبار اللاهوتيين الغربيين ولكن لم يكن يراه الكاردينال راتسنغر (البابا الحالي) أن ما حددته الكنيسة الكاثوليكية في الألفية الثانية أي لمّا كانت تجتمع منعزلة عن الكنيسة الشرقية لا نعتبره الاّ قول كنيسة الغرب المحليّة أو الاقليمية. وفي فهم بعض من كنيسة الغرب أن الغرب يفرق بين conciles generaux التي لم يحضرها سوى الغربيين. فقد أوضحت الأدبيّات الكاثوليكية على سبيل المثال أن مجمع ليون ومجمع فلورنسا كانا عامين. فاذا طبقنا معيار هذا التمييز على مجمع الفاتيكان الاول (رئاسة البابا على العالم وعصمته) يكون هذا المجمع عامًا وليس مسكونيًا ولا تكون الرئاسة والعصمة عقيدة بل رأي لاهوتي لا يلزم كل الناس.

وأما الرئاسة البابوية فيقول كل المؤرخين الكاثوليك الكبار (Duchesne Congar وسواهما) أن الآباء الشرقيين الكبار لم يفهموها يوما كما فهمها أهل الغرب وقد أجمع مؤرخو العالم المسيحي على أن أسقف روما لم يقم بأي عمل اداري في الشرق القديم وتاليا لم تعش الكنيسة الشرقية النظام الذي عاشته الكنيسة الغربية لتتمرد عليه في عملية الانشقاق ويجب أن تعود اليوم الى بيت الطاعة في تفسير لطبيعة الكنيسة وقوامها ونظامها لم تعرفه يومًا.

اذا ذهبنا هذا المذهب فلك أن تقول ما تشاء على ألا تكفرني. ويكون عندنا، اذ ذاك، مذهبان في المسيحية: مذهب غربي ومذهب شرقي مع تعديل النظام الاداري بحيث تبقى الكنيستان في وحدة ايمان ولكن ليس في وحدة تعبير لاهوتي وليس في وحدة تنظيم اداري.

هذا النوع من الوحدة كان قائمًا قبل الانشقاق وكان كل فريق حرًا مع وعي الاختلاف ولكن من دون وعي الخطر. يجوز الاختلاف في العشق والبيت واحد.

Continue reading