Monthly Archives

April 2010

2010, مقالات, نشرة رعيتي

المَوسمِيّون / الأحد 25 نيسان 2010 /العدد 17

الكنيسة تحزن على كثير من أولادها لكونهم يَغيبون عنها يوم الأحد ويدخُلونها في بعض المواسم هم يختارونها، مثلا في جنّاز المسيح والفصح وربما في عيد الميلاد. الكنيسة أُمّك وتنتظر عودتك الى أحضانها، وهذا الحضن لا يهمّ بعض أولادها ولا يتأثّرون بدفئه.

ليس المجال هنا لنستمع الى شكاوى الناس ليُبرّروا غيابهم. الكاهن أحيانا عليه شكوى او بعضٌ من أعضاء مجالس الرعية. ومع أن مستوى الكهنة ارتفع بصورة محسوسة من حيث التقوى او من حيث العلم، لم يزدد عدد المصلّين إلا قليلا. يُقال لي أحيانا إن بعض أحبّائنا يذهبون الى الكنيسة القريبة من بيوتهم مع أنها غير أُرثوذكسية. سؤالي الى هؤلاء هو هذا: أأنتم منتمون أَم غير منتمين؟ وأنا واثق أنك إنْ سُقت سيارتك الى كنيسةٍ من كنائسنا لا يستغرق ذلك أكثر من دقائق.

أنت تستيقظ صباح الأحد كما في كل صباح. هذا إيقاع الجسم. ولكنك تسترخي. لماذا لا تتكاسل في الذهاب الى عملك؟ أمّا عملك للرب فتتّكل فيه على الرب حتى لا يُحاسبك كأنّ لك حقا في غُنجه. إن لم تسمع الى ما يقوله في القداس الإلهي، كيف تريده أن يقتنع أنك تحبه؟ قد تظن أنه يُناجي ضميرك وأن هذا يكفيه. هو يريدك في «كل مواضع سيادته» كما نقول له في القداس. ضميرك موضع واحد لحضوره. وكنيسته موضع اختاره لحضوره. انت لا تنتقي بين موضع وموضع لأن ربك يريدك في كل مكان يحلّ فيه.

وإن أنت تنزّهت يوم الأحد، فكأنك قائل إن البحر او الجبل او استقبال صديق تُحرّك قلبك أكثر مما يُحرّكك كلامه. هل أجمل من المسيح او أقوى منه في قلبك؟ هل حديث الناس أحلى من العسل في فمك، والعسل كلمة الرب؟

كيف تحيا ولا تأكل هذه الكلمة؟ هل هناك أفضل منها ليُغذّيك؟ كيف تستغني عن الترتيل الإلهي؟ كيف تصل الى ذروة الحب وليس لك حديث مع الله؟ هل المشاوير والنزهات والتزلّج والمقاهي وكل تسليات هذا العالم أطيب عندك من الطعام الإلهيّ؟

جرّب المحبة الإلهية لك أحدًا او أحدَين او ثلاثة. اعملْ هذا ترَ أن هذه المحبة أقوى من كل رغباتك. بدّلْ حُبّ دنياك بحُبّ إلهك لا تخزَ، واذكُرْ أنك في الكنيسة تجد جسد الرب ودمه، واسمَعْ هذا: «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء… هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت، والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أَبذله من أجل حياة العالم».

في الكنيسة تجد هذا. في غيابك عنها، ألا تَظهر كأنك قائل: أنا أحيا دون القرابين المقدّسة، ويسوع قائل عكس ما تقول؟ تعال وانظُرْ.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

مجد لبنان / السبت 24 نيسان 2010

في أي إطار روحي نضع الوطن؟ هو ليس ارضًا ينزل عليها مجد الله ولا يدخل في نطاق المقدس وما موعود به الى الذي يسكنه كائنا ما كان منشأه. هو إمكانية تحولها الى قدرة بولاء انت تقرره. له علاقة بالتاريخ تقرأه حسب ايديولوجيا لك. فمنّا من قال مثلا عن لبنان انه سكن الوجود منذ ستة آلاف سنة ومنها من جعلها أقل من ذلك بقليل. وحكاية الزمان تجعلك اقرب الى الاستكبار او ادنى الى التواضع وهي تحدد قربك او بعدك من مواطنين لا يحسون زمانا انت تحسه.الوطن في الأخير وليد تصورات وأحاسيس وانفعالات. أقول هذا من حيث الرؤية التي تختلف بين ذاكرة وذاكرة اي انك، في الواقع، تنشئ الوطن لا من الماضي ولكن من الحاضر وهو ايضًا متصوّر. الوطن يأتي من موقف لا من موقع. انه التزام اي انك تريد الوطن او لا تريده او تريده بمقدار. ومن هنا أقول انه صنيعتك وصنيع من يرى رؤيتك او يحس بخيارك وكل خيار ذاتي.

لسنا اذًا مع مقولة الموروث او الدائم وأقلهه مقولة الأبدي. ان كل ما يقرب الوطن من المطلق تقربه من الرب الأزلي وحده وتقيمه في ما لا يناقَش. دائما كانت تصدمني هذه العبارة: «انا اؤمن بالله وبلبنان». هذا العطف في ذاته كفر. ان مقولة الإيمان لا تغطي بقعة أرض فتعريف الإيمان كما ورد في العهد الجديد هو هذا: «الإيمان هو الوثوق بما نرجوه وتصديق ما لا نراه» (عبرانيين 11: 1). بربكم كفوا عن وضع لبنان في نطاق الإيمان. لبنان من هذه الأرض فقط. ومن خلط الله وبلدنا وقع في الشرك.

#   #

#

ما كان ليس في الاعتقاد يقع في مجال المحبة. تأخذ البلد الى قلبك كما هو بلا اسطورة ولا حياكات زمان اذ لا قداسة للزمان. ربما شعر كلّ منا بضرورة انتمائه الى أبيه. انا شخصيًا لست حساسا لهذا الشعور. لست حساسا للجذور.

أبدأ الآن. كلّ هذه السجالات القومية (فينيقي او عربي او سوري) سجالات تتضمّن ان الذين تعاطوها انما اختاروا زمانا لهم وجاؤوا الى انفسهم من الأرحام التي استهوتهم والإنسان السوي من انقطع عن رحم امّه ليثبت حريته في هذه الدنيا. الإنسان توّاق ان يضع في ذاكرته هوية اي ان يعرف عن نفسه بالـ «هو». انا ليس عندي هوية الا كوني حبيب الله. انا أنوجد بمحبوبيتي. عندما تعرف الكنيسة نفسها انها شعب الله لا تقول انها مجموعة شعوب قائمة اجتماعيا وسياسيا وبعد قيامها اختارت الله. ان عبارة «شعب الله» في اللاهوت المسيحي تعني فقط ان الله -لا الأرض- مكونها وهي تصير بنعمته وانعطافه عليها وقبل ذلك لم تكن. هذا هو المعنى نفسه الذي نجده في القرآن اذ قال: «كنتم خير امة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المُنكر» (آل عمران، 110). اي اذا امرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر تصبحون خير امة. تتكون الأمة- بمعناها الديني- بشرط هو عمل الخير واجتناب المعصية.

في المفهومين الإنجيلي والقرآني ليس من هوية دنيوية او دهرية لأن الله وحده معطي الهوية. في الشأن الوطني لسنا اذًا في عالم المطلقات لأن الهوية مطلقة. نحن فقط في عالم العمل والتطبيق في المحبة. وضعتنا ظروف الحروب والاتفاقات الدولية وخبرة طويلة او قصيرة على بقعة من الأرض لها طقسها ومدنها وقراها وكتلها البشرية التي تعيش فعليا معا بكثير من الأمور المشتركة من مأكل وشراب ومنازل وهذه الشرائح منتصبة معا في الوجود اذ الوصية تقول: «لا تقتل». ولأن القتل حرام تفتش قلوبنا وعقولنا بما فيها من معرفة على وسائل السلام والنمو الدائم لأن كليهما تستبعدان القتل والإفقار والجهل وهذا كله يتطلب توقا من الحسن الى الأحسن فنصير بطريقة او اخرى امة إلهية.

#   #

#

نحن لن نختار التاريخ منذ آدم ولا نصطنع لأنفسنا امجادا ما لم نتق الى مجد الإنسان في ازدهار دائم. نحن يهمّنا الزمن الآتي والوطن جغرافية نرتضيها الآن لنطمئن الى السلام والحرية ولنا ابتغاء ديمومتنا ان ننفذ سياسة لا تحرمنا مبرر وجودنا على الأرض أعني السلام والحرية.

هنا يبدأ الجهد والدرس فنتكاثر ونعلم اولادنا ونعبد طرقنا وننقي مياهنا ونشجر جبالنا ونزرع سهولنا ونقيم بحيرات لنا من اجل تأمين زرعنا وفرح نفوسنا بالجمال. واذا لم يرد لبنان كل ذلك ولم يأتِ بدولة تفهم هذا يكون ضاحكا على نفسه. وما عدا ذلك سوق عكاظ.

وهذا يعني ان نسكن التفاصيل لأننا ان لم نفعل يسكنها الشيطان… وبدء البدايات للسيطرة على التفاصيل نزاهة الروح والفكر والمعاملة والكياسة والشجاعة معا في معاملتنا الشعوب. والطاهرون يفرضون أنفسهم مهما تعثرت أقدامهم في سيرهم الى الحقيقة والحب.

أعرف في كل شيء صعوبة التنفيذ. اعرف ان هذا يتطلّب وقتا غير يسير ولكن ما من خير ظهر في هذه المعمورة الا ان كان فيها خيّرون. لذلك بات لبنان مشروع قداسة وهي تملي شروط التنفيذ في كل مجال وهي تنير العقل اليه. واما ان تبقى هنا وهناك مجموعات لصوص او فاسدين وقلّة من الأطهار فالبلد لن يقوم.

قلما عقلنا ان القداسة تنشيء العمل وتنشىء السياسة وجعلناها حكرا على المتأملين بها. القداسة ام الإبداع في كل خير من الوجود. اجل نريد لبنان هيكلا وللهياكل امدادات. تسمو انت الهي القلب والقلب يطلق الأيدي الى العمل في الحداثة ووسائلها. اذا اهتدينا الى النقاوة فالمؤسسات ثمار والقوانين ثمار. يجب ان نعرف من اين نبدأ والى اين نريد ان نصير. انت تحصن النفس وبها يتحصّن البلد. والنفس اذا كبرت يكبر الوطن بها. هكذا يهبط المجد على هذه البقعة الصغيرة والجميلة التي تسمّى لبنان. واذ ذاك، يرث الأعلمون ونساك الفكر والنزهاء مجد لبنان.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

الأسبوع العظيم والفصح/ الأحد 18 نيسان 2010 / العدد 16

لفتني مؤخرًا أن الأرثوذكس يقولون «الأسبوع العظيم» ولا يستعملون كثيرا عبارة «أسبوع الآلام» الذي كابده السيد إنما كابده طوعا فجعل من هذه الأيام موسم فرح بحيث إن العيد كامن في كل أيام هذه الفترة وان كل كلمة فيها استعداد للقيامة فتأتي الخِدَم الإلهية كلها توبة وتأهبًا لتحرّر المسيح من الموت.

نُطلّ على قيامة المخلّص منذ أن قام لعازر، أي بين قيامة تنتهي بموت لعازر في آخر أيامه وقيامة قائمة الى الأبد، ولكن في الحالتين اللغة لغة حياة ولغة استمرار. أما الحياة فكونه قال: «أنا الطريق والحق والحياة». أما الاستمرار فلكوننا نقول: «اليوم عُلّق على خشبة» مع أن الصلب قد تمّ منذ ألفي سنة أي كأننا هناك معه على الجلجلة ولم يجرِ الزمان من بعد ذلك. هناك أبديةُ عملية الصلب. وبهذا المعنى يقول الرسول: «لما حان ملء الزمان أرسل اللهُ ابنه مولودًا من امرأة». أبدية الله خطفت الى نفسها كل زمان. لذلك كانت الليتورجيا ومجموعة الخِدم كامنة في الأحداث الخلاصية التي فعلها يسوع.

ولكي نعطي مضمونا لعلاقة المسيح بنا رتّلْنا خلال ثلاثة أيام: «ها هوذا الختن يأتي في نصف الليل»، والخَتَن هو العريس. في مطلع ذاك الأسبوع عقدنا عرسا أبديا مع المعلّم. ومَن فهم هذه الترتيلة وقبلها معا تكون نفسه صارت عروسا للمسيح أي لا تقبل معه شريكا.

بعد هذا قرأنا أناجيل الآلام الإثني عشر كما وردت في الروايات الإنجيلية الأربع حتى لا يفوتنا تفصيل واحدا من آلام المعلّم. يا ليتنا نقرأ الكتاب كل يوم حتى لا تفوتنا كلمة حياة نطق بها الرب يسوع ونقلها إلينا الإنجيليون كما نقل بعضا منها بولس.

حبّنا للإنجيل جعلَنا نلتصق بيسوع في سر القرابين الإلهية. «خذوا كلوا هذا هو جسدي… اشربوا منه كلكم، هذا هو دمي». هذا مشروع الحب الذي أراده قائما بيننا وبينه. هذا جوابنا عن المحبة التي أبداها بإهراق دمه على الخشبة. ثم تبعنا المسيح الى القبر لنلازمه حيث أقام. ودُفنّا معه في التقاريظ التي كانت ذروة في الفرح لأنها خِدمة لسَحَرية السبت. تبعناه حيث يسير. وانتظرنا القيامة.

ولما بلغ فرحنا كثافته صرخنا: «المسيح قام». قام المسيح وليس -على الرجاء الذي أُعطيناه- ميت في القبور. ونحن قائمون -حسب وعده- من خطايانا. وإذا اجترأنا عليها عمدًا، نكون كمن لم يبصر القيامة او كأنها ليست له او كأنه لم تنفعه معموديته. ولكنّا نُصرّ على أننا قياميّون أي موهوبون نعمة النهوض بذاك الذي يستنهضنا ويُنهضنا بحنانه.

هذه المواسم أَحبّها المؤمنون فجاؤوا كثيرين ولم تَسَعْ بعضَهم الكنائس. منهم من رأى الخدمة، ومنهم من سمعها بالمكبّرات. ولكنهم جميعا أَخذهم بهاء الصلاة وانشدّ الكثيرون الى العريس الإلهي وأخذ العمق الروحي الكثيرين. أجمل شيء أنهم قضوا أسبوعا في الفردوس على رجاء ألا يتكروه اذا عادوا الى حياتهم اليومية.

والرجاء أن من تقبّل نعمة المتعة بمعاني هذه الصلوات أن يثابر عليها ليس فقط في الموسم الفصحيّ ولكن كل أسبوع لأننا نُعيّد كل أحد للقيامة. لا يستطيع أحد أن يكون إنسانا فصحيا في أسبوع وأن يُهمل قياميته في أحاد كل سنة. كل السنة موسم واحد نعيشه لمجد الله.

Continue reading
2010, جريدة النهار

الحرية الدينيّة / السبت 17 نيسان 2010

سرّ الحرية أن الله خلق الإنسان تختلف حركته عن آلية الحيوان وأدائه إذ شاء إبداعه على صورته، وصورة الله عند بعض من آبائنا حريته، وبهذا لم يأتِ الجنس البشريّ في ما فيه إرادة من طبائع الحيوان. الغرائزية المطلقة ليست من عالم الإنسان. هناك تحريك لها او ضبط لها او إشراف عليها. اذا قبلنا أن الإنسان فصيلة قائمة بنفسها تمتاز أولاً بحرية الاختيار، نجرؤ على القول إن هذا يستتبع اختيار الإنسان لدينه اي لقبوله او تركه، ويستتبع احترامنا لهذا الاختيار قبولا او تركا، وهذا ما نسمّيه الحرية الدينية التي تتضمّن التبشير او الدعوة.

حرية البقاء على دين والدك او رفضه ناتج عن حبك للحقيقة، ولا حق لإنسان أن يرغمك على رؤيته هو للحقيقة. لا يستطيع مخلوق عاقل أن يقول للناس أنا إفكّر عنكم. لم يعطِ الله احدًا تفويضًا في أن يتحكّم بضمائر الناس أي أن يدخل عقله عقولهم وكأن خيارهم ليس من عقولهم.

أنا أفهم أن يرى حاكم من حكام هذه الدنيا أن دينه صحيح، ولكني لست أفهم أن يُلزم الناس به اذ يكون، عند ذاك، مقتحمًا لعقولهم أي لاغيا قرار اعتناقهم لدين آخر. «لا إكراه في الدين» أقبلها قولا أبديا، نهائيا لا يُلغيه اعتبار آخر، قولا سباقا لكل قولة تشبهه في الكلام التشريعيّ الحديث من هيئة الأمم المتحدة صدر أَم من فلاسفة الأنوار وما تبعهم من ثورات.

الفلسفة السياسيّة التي انبثقت عن هذه الثورات او بثقتها هي التي أتتنا فعليا بالحرية الدينية حسبما يعلّمون اليوم مع أن أول من شرّع الحريّة الدينيّة هو الامبراطور قسطنطين الكبير، وهو بعد اهتدائه الى المسيحية لم يبطل حرية الوثنيات المتفشّية في الامبراطورية الرومانية، غير أن الموقف الذي أدافع عنه هنا ليس مؤسسا على الفلسفة السياسيّة.

# #
#

قد تكون الحرية الدينيّة ظهرت في العصر الحديث يدافع بها الإنجيليون (البروتستانت) عن كيانهم في الدول الكاثوليكية وتلقّفها الفلاسفة وواضعو الدساتير في الدول المتحضّرة. ليس دفاعي عن الدساتير. إنه طاعة لله. ربما استعرت صورا من الفكر المسيحيّ لأنقل تعبيريا قرآنيا: «لا إكراه في الدين». الفكر المسيحي في هذا الصدد قائم على الوحدة الكاملة بين ما تؤمن به بالقلب وما تعترف به باللسان ولا يشرف أحد على قلبك ولا يسود عليه لأن الله وحده مالكه، واذا لم يكن من ثنائية بين القلب واللسان، واعتقدت من عمق كيانك أن الله ينطق في قلبك، لا تستطيع أن تُلغي قلبك ليقول لسانك كاذبا ما يقوله القويّ الذي يمنع عنك الصلة بين الباطن والظاهر.

انت لا تستطيع أن تُصمت الألسنة اذا قالت لك انا معبرة فقط عمّا نقلته اليّ القلوب. وانت لا تقدر أن تُخضع القلوب لقلبك اذ ليس عندك دليل حاسم على أن كلمة الله في قلبك وليست في قلب آخر. فلأن القلوب يبصرها ربك ولا تبصرها عليك أن تقبل قرارها.

هذا يحتّم التعدّد الدينيّ. هناك تاليا مواقف في الدين مغلوطة الله وحده يصحّحها والدعوة تصحّحها او تؤذيها، ولكن الغلط مع القناعة أفضل من الإكراه لأن الغلط بشريّ والإكراه ليس إنسانيا.

أين الحكم من كل هذا؟ جوابي أن المجال الديني لا يدخل في الحكم الذي هو بطبيعته قسريّ، والقسرية هي الاستبداد. ليس للحكم حكم على القلوب. له أن يتدخّل اذا آذى دين من الأديان بسبب من تسيّسه الأمن او الاستقرار او كان كان سببا للاصطدام بين أتباع الأديان. وسيلة الحكم ليست الاصطفاف في دين ولكن حفظ الأمن. يكون قد بقي، اذ ذاك، في مجال السياسة.

الدولة لا تستطيع أن تكون دينيّة. الدين هو الأشخاص او في الأشخاص، والدولة متفرّجة عليهم. أنا لست أناقش الأديان التي تقول إنها تبتّ ايضًا أمور الدنيا. هذا من باب الرأي ورأي هذا وذاك آخر. قد يتناقش علماء الأديان. هذا لهم، وليس في هذا ضرر إن عصمنا القلم واللسان عن الشتم والتقبيح. هناك أسلوب أكاديمي في النقاش وهذا يوسّع المعارف، ويعطي إطلالات من لاهوت على لاهوت، ويمكّن من الحوار، والحوار يجعلك تقتبس ما شئت من القول الآخر كما يجعلك أن تردّه بتهذيب.

الحوار فيه نقاش، ولكنه ليس بالضرورة سجالا حادّا، ولا هو بالضرورة منافٍ للسلام. أعرف أن ليس بين الأديان انصهار، ولكن المجتمعات لا يُطلب منها أن تكون منصهرة على كل صعيد. يوحّدها الماء والخبز والكهرباء والطبابة ووسائل العيش كلها، وهذه في العقل العصريّ مقبولة معاييرها ومتّفق على الكثير منها. اذا كانت هذه مؤمّنة، يكفي الدولة هذا التأمين، وتصلّي على طريقتك وآخر على طريقته. وقد يأتي يوم يرى فيه الإنسان أن طريقته لا تذهله كما كانت تذهله في الماضي. هذا أمره مع ربه أي هذا تحرّك ضميره، وانت لا تقدر أن تعطّل ضمير آخر فإنك إن أرغمته فكأنك تقول إن ضميرك وحده هو حق، وتكون بذا قد ألغيت الآخر وصرت مستبدّا، وهذا يعرّضك الى استعمال العنف.

عليك أن تختار بين العنف والحرية الكاملة. بحيث إذا اخترت العنف لا تُسكت فقط الألسنة والأقلام ولكنك تمنع القلوب من أن تُحسّ كما شاء لها ربّها أن تُحسّ. الله يسمح (ولا يأمر) أن تُحسّ خطأ لتكتمل كرامة الإنسان.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

توما / الأحد 11 نيسان 2010 / العدد 15

في مساء الفصح، في اليوم الذي قام فيه السيد، دخل يسوع على تلاميذه وأبواب العلية التي كانوا مجتمعين فيها مغلقة وقال لهم: السلام لكم. هذه تحية الكاهن للمؤمنين اليوم في الخدمة الإلهية. ثم أراهم يديه اللتين سُمرتا على الصليب وجنبه المطعون.

لسنا نعلم لماذا أراد المعلّم أن يحتفظ بهذه العلامات مع أن جسده صار في القيامة جسدًا روحانيا. ولكن استبقائه هذه السمات تدلّنا على أن الذي ظهر لتلاميذه هو نفسه الذي صُلب، وأن الرب تاليا احتفظ في القيامة بهذا الجسد ولو تغيّر من جسد ترابي الى جسد نوراني. هذا الجسد النوراني عرفته المجدلية والتلاميذ والإخوة الذين ظهر لهم أنه هو إيّاه الذي كانوا يعرفونه في وضعه الأرضي.

كان توما غائبًا عن هذا الاجتماع وشَكّ في ان هذه القامة التي قال عنها الرسل انها ظهرت هي إيّاها قامة المعلم: «إنْ لم أعاين أثر المسامير… لا أؤمن».

بعد ثمانية أيام أي في الأحد التالي للقيامة، ظهر الرب بوجود توما في العلية وقال التحية ذاتها. «ثم قال لتوما: هات يدك وضعها في جنبي». لم يقل الإنجيل إن كان الرسول فتش جنبَه فعليًا أَم اكتفى برؤية الآثار التي التمس ان يراها. قال ليسوع: «ربي وإلهي». هذا الكلام يدلّ صراحة ان توما آمن بربوبية يسوع وألوهته. وباطل ادعاء شهود يهوه على ان توما ربما عنى ربًّا من الأرباب. اولًا تعددية الأرباب لا يعرفها اليهود. ولكن في الأصل اليوناني «ربي» أتت بالمعرفة وكذلك إلهي. وكل من الكلمتين مسبوقة بما يوافق أل التعريف عندنا. فيكون المعنى: أنت الرب الذي أنا أعبده، وكذلك أنت الإله الذي به أدين وله أخلص. واما قول شهود يهوه ان توما لم يخاطب المسيح فهذا يناقض كل سياق النص لأن الجدل بين توما وسائر الرسل هو: هل الذي ظهر هو المسيح أم أحد آخر. توما أراد أن يؤكد ان هذا الرجل هو المسيح ولا يؤكد ان الله هو الله. انه يؤكد ان هذا الإنسان هو الإله. وهكذا فهم يوحنا الإنجيلي المعنى الذي نؤكده إذ يختم المشهد بقوله: «لتؤمنوا بأن يسوع هو المسيح ابن الله».

أما قول السيد: «طوبى للذين لم يروا وآمنوا» فليس تفضيلا للمؤمنين في المستقبل على توما. رضاء يسوع عنهم هو مثل رضائه عن توما. في الحقيقة انهم آمنوا بفضل الرسل الذين بشّروهم اذا كانوا من الجيل الأول. آمنوا عن طريق الذين شاهدوا المعلّم وعاشروه. وفي الجيل اللاحق وما بعده آمنوا عن طريق معرفتهم للإنجيل.

إن شهادة الكنيسة هي التي أرشدتنا الى المسيح. نحن نؤمن بالمسيح بسبب ما أخذناه من الكنيسة الأولى التي عرفت السيد. لا نؤمن بناء على تخيّل ولكن على قناعة تضْمنُها وثائق الإنجيليين والكنيسة الأولى والأجيال المسيحية المتلاحقة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

تاريخ واحد للفصح؟ / السبت 10 نيسان 2010

منذ سنوات عديدة أسمع مسيحيين من كنائس مختلفة يتمنّون اتّفاقا على تاريخ واحد للعيد ويضيفون الى هذا أن هذا التفاهم يوحِّد. خشيتي أن يكون الكثيرون مقتنعين أن ليس بيننا خلاف غير هذا. والأخطر من هذا أن الكثيرين يذهبون الى أن العقائد التي تُفرّقنا صناعة اللاهوتيين وأن الأساقفة أو بعضهم مهدّدون بخسارة ما تسمّيه العامة مراكزهم مع أن الكنائس مقتنعة أن الكنيسة في حال توحّدها لن تطلب الى أسقف أن يستقيل والأساقفة قلّة في العالم عزيزة.

من هنا إحساسي أن الإلحاح على وحدة التاريخ عند بعضٍ تُخفي موقفًا من العقائد خافضا لأهميتها وهي تفوق موضوع العيد الذي هو على مستوى أدنى من مستوى العقيدة ما في ذلك ريب.

وحدة الوجدانات المسيحية تبدو لي مقاربة لمشكلة الوحدة المسيحية من أضيق زاوية او من زاوية مَن يجهل أن هناك سلّة من الخلافات الأفضل التصدّي لها معا.

الخلاف على يوم الفصح كان معروفًا في القرن الثاني لمّا كانت الكنيسة واحدة. في آسيا الصغرى كانوا يقيمونه في 14 نيسان وفي الاسكندرية وروما يوم أحدٍ فحاولوا ضمن الوحدة أن يُثبّتوا تاريخا واحدا فأتى هذا يوم أحدٍ. رأوا أن التوحيد أفضل ولكن اختلاف اليومين ما شكّل بينهم خلافا.

ماذا أفادت وحدة التاريخ للعيد بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية وبقيت الخلافات على أشدها خلال أربعة قرون ونيّف. عندما اختار الأرمن الأرثوذكس في العشرينات من القرن الماضي التاريخ الغربي هل اندمجوا بالغرب على صعيد العقيدة؟ طبعا لا. وصعوبة انتقائهم لتاريخ واحد معنا تأتي من وحدتهم الكاملة مع كنيسة أرمينيا في الوطن الأمّ. أرمن لبنان والمشرق العربي لن يتبنّوا يوما دون التشاور مع كنيستهم الأمّ، ولذلك لن يشمل توحيد التاريخ في لبنان الإخوة الأرمن.

# #

#

الفصح له قاعدة وضعها المجمع النيقاويّ (المسكونيّ) المنعقد السنة الـ 325 والقاضي بأن نبدأ حساب العيد من الاعتدال الربيعي الواقع في 21 من آذار، ثم ننتظر البدر اللاحق له، والأحد بعد البدر يكون العيد، وثبّت الاجتماع المسكونيّ المنعقد في حلب السنة الـ 1997 هذا المبدأ القديم.

بعد إصلاح البابا غريغوريوس الثالث عشر للتقويم اليوليانيّ في السنة الـ 1582، ذلك الإصلاح الذي لم تقبله الكنيسة الأرثوذكسية، صار الـ 21 من آذار اليوليانيّ (الأرثوذكسيّ تطبيقًا) غير الـ 21 من آذار الغريغوريّ الذي تبعته الدول. وتاليا صار الكاثوليك يتبعون آذارهم وينتظرون البدر ليعيّنوا العيد بعد «بدرهم»، وصار الـ 21 من آذار الأرثوذكسي يقع في هذا القرن 14 يوما بعد ذاك وينتظرون هم «بدرهم» ثم الأحد الذي يليه وهو فصحهم.

فحسب حركة القمر يكون لنا تاريخان للعيد او تاريخ واحد بحيث اذا اقترب البدر من 21 آذار الغريغوري يكون على الأرثوذكسيين أن ينتظروا البدر الآخر ليجعلوا عيدهم في الأحد الذي يليه، ويتباعد هكذا الفصح الأرثوذكسي. وأما إذا تباعد القمر عن الاعتدال الربيعي الغريغوري يكون العيد في يوم واحد. المشكلة تكمن اذًا في أن الكثلكة تبنّت التقويم الغريغوري، والأرثوذكسية لا تزال على التقويم اليولياني الذي تركته روما في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر.

يبدو لي أننا اذا تمسّكنا بقاعدة المجمع المسكوني الأول أي الاعتدال الربيعي ثم البدر الذي يليه لا بد للأرثوذكس أن يتخلّوا عن التقويم اليولياني. هذا يتطلّب تفاهم كل الكنائس الأرثوذكسية في مجمع عام لها او تبادل الرسائل بين رؤسائها، وهذا يبدو عسيرا في الوقت الحاضر لأن القرار الأرثوذكسي وإن صدر قانونيا عن رؤساء الكنائس الا أن هؤلاء يراعون شعور شعوبهم، وفي اطّلاعي على مشاعرها لا يبدو لي أنها متحمسة للتغيير. انها مؤلّفة من رعايا وأبرشيات أدنى هي الى التمسّك بتراثها وتُحسّ أن تاريخ العيد هو جزء من تراثها. البطاركة ورؤساء الأساقفة عندنا ليسوا أسيادا على شعوبهم بصورة مطلقة بسبب من نظامها الذي ينسق بين الإكليروس والعوام.

ذلك أن الكنائس الأرثوذكسية في واقعها التاريخيّ منصهرة في الواقع مع إثنيات، وفي البلقان إثنيات كاثوليكية مثل كرواتيا جرت دماء بينها وبين الإثنيات الأرثوذكسية. هذه هي تركيبة أُمم مختلفة لا يبدو أنها مهيأة لتغيير تحسّ به أحيانا أنه مخالف للعقيدة. انت تتعامل مع شعوب ولا تتعامل فقط مع كنائس. انا لا أتوقّع اذًا انقلابًا سريعا في الشعوب الأرثوذكسية.

يبقى أن التغيير اذا تعذّر في الوقت الحاضر ممكن على الأصعدة الإقليمية.

# #

#

هذا ما رآه البابا بولس السادس في الستينات من القرن العشرين أثناء انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني فسمح للأقليّات الكاثوليكية في البلدان التي أكثرها أرثوذكسي أن تتبع الفصح الأرثوذكسيّ، وعلى هذا سار المسيحيون الكاثوليك في مصر والأردن وفلسطين المحتلّة. ودرس هذا الأمر موارنة لبنان وأوشكوا أن يعيّدوا مع الأرثوذكسيين في اجتماع عقدوه في قبرص. وأذكر أن بطريركيّتهم أعلنت انها ستطلق استفتاء لدى الشعب الماروني حول هذا الموضوع، ولكن يبدو أن هذا الاستفتاء لم تقم به هذه البطريركية او قامت به ولا نعلم نتيجته.

ثم قالت الأدبيات الصادرة عن بعض من علماء الكنيسة المارونية أن الموارنة في لبنان ليسوا بأقلية وأن سماح البابا بولس السادس لا ينطبق عليهم. لم تُجادل البطريركية الأرثوذكسية هذا الموقف. ولكن الكلام الذي سُمع من أفواه أرثوذكسية مختلفة أن لبنان ليس وحدة كنسية ولكن الوحدة هي المدى الأنطاكيّ، أي عليك أن تعتبر أن الكنائس قائمة كل منها في الحيّز الأنطاكي القائم في سوريا ولبنان معا. واذا اتّخذنا هذه القاعدة تنطبق أمنية البابا بولس السادس بأن يعيّد كاثوليك المنطقة السورية-اللبنانية وفق النظام الأرثوذكسي.

إقليميا حتى الآن نحن في مأزق. على الصعيد العالمي غير معقول أن الأرثوذكس المحليين (في سوريا ولبنان) ينفصلون في تعييدهم عن الروس واليونانيين على مختلف بلدانهم والبلغار والصرب وغيرهم ليختاروا يوما لبنانيا للعيد. دعاة توحيد تاريخ العيد في مناطقنا كثيرون. الأرثوذكسيون يقولون-في تصوري- لكاثوليك الشرق: الأُخوّة بيننا تقضي عليكم أن تعيدوا معنا ما دام أُعطي لكم السماح، ويضيفون افهمونا يا أحباء إذا قلنا إننا لا نستطيع أن ننفصل لهذه القضية عن إخواننا في العالم الأرثوذكسي. وانتم لا تتراجعون عن شيء اذ صدر الأمر من مرجعيّتكم الأولى. ليست ماهيّة أحد في الكنيسة مرتبطة بتاريخ عيد، والتوحّد في تاريخ واحد يعتبره الشعب المسيحي كله تعبير محبة أخوية. فلنعش هذه المحبة على الصعيد الإقليمي ان لم نستطع عيشها الآن على المستوى العالمي.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

القيامة/ الأحد 4 نيسان 2010 / العدد 14

عيد القيامة مستمرّ في الكنيسة إذ نُقيمه كل أحد، وهذه الخدمة الفصحية كل أسبوع سبقت إقامة الفصح السنوي. القيامة لا تهمّنا كحدثٍ ولكن كمعنى، وعلى صعيد المعنى تبدأ من الجمعة العظيمة لأن غلبة المسيح للموت بدت على الصليب. المجد في إنجيل يوحنا هو بالدرجة الأولى ذاك الذي ظهر من السيد وهو معلّق على الخشبة بحسب قوله: «مجّدْني يا أبتِ بالمجد الذي كان لي عندك قبل إنشاء العالم». ولا يختلف المفسّرون على أنّ المجد تعني الصلب.

عندنا إذًا منذ الجلجلة ذوق لنصر المسيح على الموت وعلى الخطيئة. كذلك المسيح الساكن القبر ليس تحت وطأة الموت ولكنه ساكن في الكون كلّه من حيث إنه منتصر.

ويسطع مجد المسيح لكون جسده لم يُنْتِنْ. وتلاحظون أن الكنيسة في الإنجيل والعبادات لا تستعمل عبارة «جثة المسيح» او «جثمان المسيح».

جسده دائما في النور ولم يذُق الفساد البتة.

ونسمّي جسده جسدًا نورانيّا حسب منطوق بولس لمّا تكلّم في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس عن قيامة الأموات في اليوم الأخير: «يُدفَن الجسم مائتا ويُقام خالدًا… يُدفن بضعف ويقوم بقوّة، يُدفن جسما بشريّا ويقوم جسما روحانيّا».

في الحقيقة ان بولس طَبّق على قيامة الأموات ما عرفه عن قيامة المخلّص الذي صار جسمه روحانيّا. روحانيّا لا يعني أثيريّا أو غازيّا كما يقول شهود يهوه. يعني أنه غير خاضع لمحدودية الإنسان الترابيّ الذي جسده كامد او مكثّف. فالجسد الروحانيّ الذي صار اليه السيد يخترق الحواجز. فقد دخل على التلاميذ والأبواب مغلقة.

والجسد الروحانيّ الذي صار المسيح إليه لم يعرفه التلاميذ لمّا ظهر لهم ولا مريم المجدلية في البستان، ولكنه عرّف هو عن نفسه أي أعطى عيونهم الترابيّة نعمةً مِن عنده ليعرفوه. ولما أكل معهم السمك والعسل جعل نفسه قادرا على ذلك ليُشاركهم إذ إن جسده النورانيّ لم يكن في حاجة الى طعام.

على هذه القاعدة، في السماء تنتهي الحاجة الى الغرائز السليمة. لذلك قال السيد: «لا يُزوّجون ولا يتزوّجون». هذه كانت نزعة متعلقة بحياتنا على الأرض. الى هذا كلّه يجب أن ندرك أن المسيح لن يموت ولن يتسلّط عليه الموت في ما بعد أي إنه وضع حدًا للموت ودخل في القيامة. وهذا ما سنحصل عليه نحن في اليوم الأخير.

لذلك نُعيّد للرب يوم الفصح لكونه حصل على هذه الأشياء التي هي مقدّمة لحصولنا نحن عليها. بهذا المعنى يقول الرسول: إنه بِكْرٌ من بين الأموات أي يُدشّن زوال مملكة الموت لنخرج نحن منها في اليوم الأخير.

هذا ما رآه بولس لما قال: «دُفنّا معه بالمعمودية وشاركناه في موته حتى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلُك نحن أيضًا في حياة جديدة» (رومية 6: 4)، وكأنه يقول إن المسيح وضع الأساس لحياة بارّة لنا نعيشها بفضله، فلو لم يكن قام نكون مائتين الى الأبد ولا رجاء لنا، ويكون العالم كلّه غريق فساد، فكأن الله خلقنا لنفنى، والله لم يخلق الدنيا لتنزول. هي أزالت نفسها بالخطيئة، والمسيح أحياها بقيامته.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

يا عشقي المصلوب / الجمعة 2 نيسان 2010

يا يسوع، «يا عشقي المصلوب». انت معلّق على خطايانا قبل أن رفعوك على خشبة. قتلتك خطايانا فيما كنا نلهو بها. نُبصرك الآن «لا منظر لك ولا جمال فنشتهيك» مُدمّى، مطعونا ولكن غير مكسور، موضع محبّة الله. تدين معاصينا بجسدك ولا تديننا لأن قلبك لا يحتمل أن يموت فيه انسان. نحن مشرّدون يا سيّد. لقد مددت ذراعيك كي تضمّنا فتُعيدنا الى أبيك إنسانية واحدة مطهّرة كي لا يلفظ حكمه فينا يوم الدينونة. انت تقول له: ما لهم وللموت. اغفر الزلات للكاذبين والسارقين والقتلة لأنك تحبّهم كما تحب الطاهرين. جميعهم أبناؤك وجميعهم إخوة لي. انت كلّهم تحضنهم بالرحمة وما من واحد يَخلُص الا بهذه الرحمة. انت أوحيت للتلميذ الحبيب: «الله محبة». هذا فهم أن المحبة هي انت ومن أحبّ تكون انت ساكنه. ومن كفر تكون ايضا ساكنه. تطلب اليه فقط أن يؤمن بغفرانك وإيمانه. هذا يُرجعه اليك. تغفر له لأنك تشتاقه في كل حين.

انك تشتاق اليه لكونه وليد محبّتك التي لا تريد أن يطرد منها احد. فإذا نسيها ماذا يبقى له في الذاكرة؟ كبارنا قالوا إنك أوجدتنا كي لا يبقى حبك أسير كيانك. يا أبتاه، انت إله يمتدّ، يضمّ وبعثت بي كي يعرف الإنسان ذلك فيحيا ويعرف انه نسيب الله. انا بتّ عشيره حتى موتي فلا يعرف كما كان الأوائل انك فوق وانه تحت. ليس من مدى بينك وبينه. كان يعرف القدامى انهم مقرّبون. لما عرفوني انا باتوا يعلمون أن نعمتك جعلتهم افضل من ذلك. عرفوا انهم بك لصيقون. وهذا اقتضى جرحي. لقد أمرت بجرحي حتى يُحبّوك فيُشفوا. واذا شُفوا غنّوك واستلموا الفرح. والفرح هو السماء.

انت ما أصعدت احدا اليك الا لمّا أنزلتني اليهم. انهم سيصعدون معي بعد قليل ليتمّ فرحهم فينا فينكشف لهم ملكوتك. قلت لهم انه فيهم ثم ترجمت لهم ذلك بموتي.

يا يسوع خذني الى هذا الحب الذي تُكفر به ذنوبي كل يوم. لا تجعلني أرى غير وجهك لأن كل وجه آخر يلهي. احصرني في محبتك حتى لا تدغدغني أهوائي فيرى الناس نورك مرتسما على وجهي، ولكن عرّفه أن هذا النور ليس منه ولكنه مسكوب عليه بحنانك. انت اختلطت بنا لنذوقك والعلاقة بيننا وبينك بعد أن أتممت العشاء الأخير انك أعطيتنا ذاتك بشكل خبز وكأس حتى نجوع اليك دائما ونعطش اليك اي حتى تزول المسافة التي كانت بيننا وبين أبيك.

#   #

#

واذا دخلت الينا بهذه الصورة لا نظل حاسبين اننا اخوة باللحم والدم اللذين نحن بهما فبتنا اخوة بروحك نحن لا نأخذك الينا فقط. انت تخطفنا اليك. انت تظهر ان هذا الذي نتناوله على مائدة الخلاص هو اياك الجالس عن يمين الآب.

نحن نرى هذا بأن ذراعيك الممدودتين على الخشبة تضمّاننا اليك والى أبيك بقوة روحك. نعود الى ذراعيك حتى لا نتشتّت في دنيانا وقد أصبحت انت دنيانا حتى لا نتلهّى بسواها فنضجر ونموت.

لقد قلت مرة: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». نعرف أن هذا شاقّ على قوانا ولكنا نؤمن انك تحمل شقاءنا فنتعزى بكل كلمة خرجت من فمك. وكذلك قلت: «انتم أنقياء بسبب من الكلام الذي كلّمتكم به». أن نسمع فقط الى ما قلته ولا نستمع الى سواه هذا يجعلنا خلائق جديدة. من بعد هذا ننبسط في ملكوتك. سُد علينا يا يسوع لنطمئن الى أن سلامك فينا. هذا سلام تعطيه انت من جراحك فتشفى بها جراحنا فلا نرقد رقدة الموت.

الحياة الجديدة التي دعوتنا بها صارت فينا وتصير اذا حفظنا وصاياك. إن هربنا من وصاياك نسعى الى سراب فعدم. لا ترمنا يا رب في العدم الذي ليس فيه كلامك. انتشِلنا دائما من هوى السقطات التي تحوّلنا عن رؤية صليبك فتميل نفوسنا الى كلام الخديعة. والخديعة هي «شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الوجود». هذه كلها ميتات نعرفها تعطّل فاعلية صليبك فينا.

نريدك يا سيد، لا تُخزنا ولا تجرّبنا بذوق المعاصي. انت جعلت القديسين لا يردونها. ونحن نسلك كأن القداسة عبء او كأنها مستحيلة. حوّلنا الى ما تشتهيه لنا انت حتى لا يكون لنا مشيئة غير مشيئتك فنتّحد بك في الصميم. قوّم أفكارنا لكي لا نخطئ فكرك، نق نياتنا لنتقبّل بفرح ما تنويه لنا، وهكذا نصبح عشراءك حقا. لاصقنا في ضعفاتنا نفسها نلصق بك فنستمدّ قوّتك ولا نخشى الموت.

يا سيدي أبعد عنا كل شبح يأتي إلينا من مملكة الموت وأهلنا اذا ما اقترب أن يلقانا الآب بقوة قيامتك. لا تطرحنا من امام وجهك في ساعتنا الأخيرة حتى لا تُداهمنا الظلمات. أوضح لنا أن فراقنا هذه الأرض إنما باب احتضانك. روّضنا على ذلك كل حين فإذا ما عرفنا اقتراب هذا الفراق نُدرك أننا لسنا مقصيّين عن وجهك. وجهك يا رب، وجهك عزاؤنا في عالم التعب. لا تسمح بأن نيأس من إمكان دنوّنا اليك لأن هذا يكون الموت.

#   #

#

ادعُ كل من مات في ساعة موته اليك لأنه إن لم يسمع صوتك يبقى أصمّ. اكشف له وجهك لكي يقبل حضن أبيك. كل الذين يموتون يدخلون برحمته. هذا قاله كبارنا الذين تروّضوا في الجهاد. أمك لا تطيق أن يُقيم أحد في النار. وقد قلت انت عند نزاعك للتلميذ الحبيب إنها أمه ففهمنا أنك تريدها أمّا لكل تلميذ حبيب. هي لا ترضى بموت أحد الى الأبد. فاذا خلصوا جميعا يرتدون ثوب مريميّتهم. هذا هو عرس قانا الجليل، سيدي.

هذا العرس كان صورة عرسك مع الإنسانية البارّة بالدم. هذا إياه سيكون العرس الأبديّ اذا جمعت أحباءك من كل أصقاع الدنيا فتنتهي آلامهم ويطربوا بك. الذين خطفتهم اليك سيتبعونك فوق حيث تسير.

كل ما عندنا هنا من صلاحك تهجئة لهذا اليوم الأخير. القيامة التي حقّقتها من بدء آلامك وذقنا منها قيامات بحنوّك سنراها قيامة أخيرة لنا ايضا اي جمعًا للإنسانية المصطفاة الى حبك. بعد هذا نعزف مع الملائكة على قيثارات الظفر، وكل لحظة من السماويات تكون فينا ترتيلة جديدة.

وهذا كله سيكون في السماء صدى لبعد ما نقوله بعد يومين هنا: المسيح قام.

Continue reading