Category

2005

2005, جريدة النهار, مقالات

فردوس دير إيطالي / السبت 24 أيلول 2009

هل في الأرض فراديس تكشف الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه؟ من هذه الاطلالات الملكوتية عند الجانب الايطالي من الألب وانت ذاهب من تورينو ينبسط دير بوزه Bose على الخضراء والثمار والغاب ويقوم ناسه في منازل من حجر وخشب وقرميد وكل بناء ينسق بين هذه ويأكلون من تعبهم فقط رافضين كل هدية ليكون لله وحده فضل عليهم وعلى ايديهم. وما أنزل عليهم من حب وكرم وبركات صلاة وتلاوات الهية ينحت شخصيتهم على طراوة وبساطة ومباشرة صلة وهم مسكوبون بلطف يأتي خدمة ودقة انتباه لأن الضيف عندهم هو الملك بلا مساءلة لفكره أو تحرش بهواجسه.

هذا يعني انهم لا يحشرونك في قالب فلا تحس انك ضيف خاضع لقواعد فتمشي الأمور كلها ليمحى الفرق بين الضيف والمضيف.

هم رجال ونساء يرتدون ثياباً مدنية عادية بسيطة الا في الكنيسة حيث لهم لباس خاص أبيض. يصلون صفين مختلفين ويقيمون صلاة هم وضعوها تقوم على مزامير وأناشيد وتلاوات من الكتاب أو أدب روحي وما ألفوه في الإنشاد عميق المعاني مجرد من الانفعال العاطفي وملحن على مقام واحد اذا ساغت الاستعارة بحيث يتمكن الضيوف من مشاركتهم في الأداء.

بعد الصلاة فكر وعمل. لست أعلم ان كانوا يحصلون اللاهوت في كلية لاهوت أم لا ولكن المؤكد ان معرفتهم عظيمة لأن مكتبتهم تحتوي حوالي خمسين ألف كتاب في مختلف اللغات بما فيها موسوعات عدة. والثابت أيضاً انهم ينقلون كتبا لاهوتية الى الايطالية بما فيها مؤلفات لغير الكاثوليك كما يقرأون في الكنيسة أدباً روحيا لغير الكاثوليك.

ذلك ان هذه الأخوية الرهبانية تضم عدداً قليلاً من الإنجيليين واسقفاْ أرثوذكسياً متقاعداً لهم ما للكاثوليك وعليهم ما على الكاثوليك. انت تلحظ في الواقع ان هؤلاء يتعايشون بمحبة ويحفظون معتقداتهم واذا قرأت نصوص العبادات تلحظ انها “مسكونية” بحيث لا يفرض النص عليك مذهباً. قد تقبل ذلك وقد لا تقبل ولكن الفتح المبين تعايش سلمي لاخوة متباينين في العقيدة. ما رأيناه خلال أسبوع كامل استهل في 10 ايلول ان اساقفة وكهنة واساتذة لاهوت كباراً من الارثوذكسيين وقسساً من كنائس الإصلاح البروتستنتي اشتركوا في هذه العبادات ولكنهم لم يشتركوا في القرابين وكان للارثوذكسيين قداسان خلال هذا اللقاء الذي تم بين العاشر والثامن عشر من ايلول.

هذا هو الجانب اللاهوتي في حياة هذا الدير. أما الأعمال اليدوية فالزراعة على أنواعها ومشاغل نجارة وخزف فني ورسم ايقونات على الطراز البيزنطي. تقديري ان هذه الانحصارية تأتي من قناعتهم ان الشرق الارثوذكسي حافظ وحده للفن الكنسي وان سواه لوحات تأتي من قوانين الاستاطيقي أي من هذه الدنيا. فقد صار المشهد المعروف في الكنائس الكاثوليكية بعامة هو مشهد الانتقال من الصورة الى الايقونة بما يصحب ذلك من تفسير لاهوتي لهذه بعدما كان الغرب غير حساس للايقونة منذ ان حدد المجمع السابع المسكوني أي النيقاوي الثاني في السنة الـ787 عقيدة اكرام الايقونات.

لقد احتضن دير بوزه منذ احدى عشرة سنة اللاهوت الشرقي في مؤتمرين له كل سنة أولهما يتركز على الآباء الشرقيين وثانيهما على اللاهوت الروسي أو احداث الكنيسة الروسية. هذا الصيف كان موضوع اللاهوت الشرقي القديس يوحنا الدمشقي والموضوع الروسي راسم الايقونات القديس اندره روبليوف. واللافت ان المبحث فيهما قام على لاهوتيين أومؤرخين من الكنائس الشرقية ومن الكنائس الغربية ذلك لأن العلم علم لا أثر فيه لقراءة مذهبية. اليوم ومنذ سنين طولى يقوم الجميع ببحث أكاديمي ولا يختلفون في تحليل الاشخاص وآثارهم وتأثيرهم وبيئتهم.

ففي اللقاء الاول المخصص ليوحنا الدمشقي عند فجر الإسلام تناول لاهوت الرجل وكتابته العقدي والنقاش حول تاثيره في الفلسفة الإسلامية الناشئة كذلك حول مدى معرفته للإسلام ولا سيما انه لم يكتب في العربية. كان يعرف شيئاً من الإسلام وقد ساجل فيه وذلك في كتاب صغير في اليونانية. أما المساهمة الكبرى التي قدمها الى جانب كتابه الأساسي “الينبوع” بما فيه “الإيمان الارثوذكسي” فكان الدفاع عن الايقونة وقد تبنى دفاعه هذا المجمع المسكوني السابع.

وقد سيطر على البحث علم واسع لا تمييز فيه بين العلماء على الصعيد المذهبي. علم مدهش جداً تمنينا لو كان مثله في شرقنا وكله قائم على معرفة دقيقة للبيئة الأموية وللغة الإغريقية. وبين العلماء فرادة الرجل وعبقريته.

أما البحث في فَن روبليوف في القسم الروسي من المؤتمر فقام به في الدرجة الاولى علماء روس ولا سيما النساء وكان السعي الى معرفة كل أعماله وما سبقها وما رافقها مع التركيز على ايقونة الثالوث الشهيرة التي قد تكون من أجمل ما عرف الفن التصويري الارثوذكسي في كل أطواره. وفيها تتبين الإبداع في الزمن ذاك أي فترة أواخر القرن الابع عشر والخامس عشر.

طبعا تدرك الحياة الروحية عند روبليوف الذي لم يترك على وجه الدقة أكثر من 12 صورة الى جانب بعض الجدرانيات. هذه الروحانية المذهلة في كل ما وضعه جعل الكنيسة الروسية أخيراً تعلن قداسته وقدتوارت حياته الشخصية خلف ما تركه من آثار.

لم تكن الكنيسة الأنطاكية الارثوذكسية غريبة عن العطاء العلمي اذ أوكل الى احدنا ان يتكلم على “الخلاص في المادة” حيث كان التركيز على التجسد الإلهي واستعمال المواد في العبادات (الماء والزيت والقرابين الإلهية والايقونات) وحيث دار الحديث ضد ثنائية النفس والجسد وعن وحدة الكيان البشري وعن تجلي الانسان والكون.

هذه الأبحاث سوف تنشر باللغة الايطالية وكذلك أبحاث المؤتمرات السابقة نشرت في هذه اللغة ليتاح للجمهور الايطالي التعرف الى التراث الشرقي القديم من جهة والى التراث الروسي من جهة.

انفتاح الدير على كنيسة أخرى بهذه الصورة أمر نادر في العالم كله. هذا رجوع الى ينابيع المسيحية الاولى ولقاء في العمق بين الكنيستين.

الى هذا كانت غير مناسبة لتواصل العلماء والمطلعين في ما بينهم. لعل الأحاديث الشخصية لم تكن أقل نفعاً من التواصل الأكاديمي. لم يكن أحد منا يحس ان الآخر غريب. وما من شك في ان مشاركتنا في حياة الرهبان اعطتنا حيوية وفهما ما كنا عليهما قبل زيارة هذا الدير وقبل جلوسنا عند اقدام العلماء. كانت هذه خبرة عمق وانسكاب بركات جعلتنا نتبين اننا أدركنا وحدة في المسيح فيها تأجج كبير.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

لعب مع الله؟ / السبت 8 نيسان 2006

فيما ينصرم الصوم عندنا نخشى ان يغيب النسك عن القلب. وما النسك في مصطلحنا سوى رياضات نبتغي منها وحدة النفس مع الله من حيث انه يكون وحده الحبيب لا شريك لنا في حبه. العاشق يفهم هذه اللغة ولو احب اشياء في العالم كثيرة ولكنه يحبها في رتبتها او على صعيدها وهي مؤذية ان حجبت وجه الله عنه. القضية كلها ان يكون وجهه وحده اليك لئلا تفني في الزائلات وعلى رأسها المجد الباطل.

ان تشغلك اناقة ملبس او سكن او اية اداة من ادوات الترف او وجاهة سياسة او معرفة فيعني ذلك انك عابد لنفسك وملتمس عبادة الآخرين لك. عظمة الفكر والبطولات. ارتسام الجمالات عليك هذا ما كانت تطلبه الامم قبل المسيح. فمن المألوف كثيرا ان تفتخر الحسناء بحسنها. هذا حافز لتكاثر البشر. ولكن هذا الافتخار بحد نفسه باطل اذ لا بد ان تتروض الحسناء على انها تراب ولا بد ان تحجب جمالها الشيخوخة حيث لا بد ان تموت ذاكرة الافتخار.

والشأن الاعلى رتبة من الجمال هو رشد العقل وان يعظم ويتلألأ. قلما عرفت ذكيا خارقا تواضع امام الله ويهم الذكي ان يغريك حينا كما تفعل الجميلة ولكل منهما وسائله. ولكن غاية الاغراء في كل حقل اخضاعك للقوة اي جعلك عبدا لإله جديد.

ما حاولنا ان نكونه في الصوم هو ان نصير خلائق جديدة، في العمق، في عمق التوبة، ان نزيل العتاقة عن النفس. التوبة قناعة قبل اي شيء آخر، قناعة لو كنت اغنى انسان في الدنيا ان كل ما تملك لا قيمة له في عيني الرب اي لا قيمة له على الاطلاق. وان بدا لك ذلك فيما تكون نفسك قد هلكت. واذا بدا لك ذكاؤك شيئا عظيما تلتمع انت فيه وتتعاظم تكون نفسك قد هلكت. وان انت اوليت طعامك اللذيذ مكانة في معاشك اليومي تكون نفسك قد هلكت. فأنت تمسك في ما تبقى لنا من هذا الموسم لتتروض على ان الانسان لا يحيا من الخبز فقط وان كان لا بد له ان يقتات.

كل مسألة الصيام ان تنشئ القيمة الوحيدة في الوجود وهي ان ترى وجه الله وحده لك ساحرا.

رؤيتك الوجه الالهي في صميم نفسك اذا تألمت هي الاعجوبة التي تحل فيك في اوان الرضاء. ليس لك قبل ذلك الا ان تراقب نفسك وتعرف عيوبها وما من هذه العيوب في قعر النفس والكامن المؤذي هو ما نسميه الهوى. ومشيئة الله الاولى ان تقتلع الاهواء من جذورها بمعرفتك اولا انها دمارة واذا لم تشأ ان تضربها ضربا موجعا لتسلخها عنك سلخا قاسيا فلا توبة لك حقيقية ولكن تبقى رغبات مترددة وما تسميه توبة لن يكون الا تغنيا بجمالات روحية لست جادا في اقتنائها فيدغدغك البهاء الروحي من بعيد اذ بقيت مازجًا بين خير يحلو لك وشر لا عزم فيك حقا للمضي فيه الى النهاية.

تضع الكنيسة لمعرفتها ذلك امامك صورة القديسين الذين خلقوا مثل سائر البشر ونعرف ضعفات هذا وذاك منهم. جلّ ما امتازوا به انهم كانوا جديين في جهادهم وآمنوا ان مشيئة الله قداستهم. نعرف الذين جاؤوا من بيوت باذخة واعتبروا كل هذا تفاهة. ونعرف الثقافة المتينة التي كان عليها بعض وما اهتموا الا بوضعها في خدمة الانجيل فطوعوا له فلسفة عصرهم وما ولدوا كلهم في عائلات مسيحية ولكن لما عرفوا المسيح ساد نفوسهم وقلوبهم فماتت شهواتهم من ذاتها لأن سحره كان اعظم من سحرها.

والسؤال هو لماذا ما حققه بعض بهذه القوة لا استطيع انا تحقيقه. انه الخوف من اقتحام الوجود الصعب. الذات جذابة، مغرية والبر لا يبدو من هذا العالم. احساسي ان بعضا منا يزين له ان الله يلعب معنا بالكرة وانه غير جدي في التعامل وايانا. ونتوكل على كونه يعرفنا ضعفاء وكأنه يقول في نفسه هؤلاء الذين خلقتهم انما هم من طين وان معطوبية الخزف طبيعتهم وهم يعرفون ذلك ولا يريدون ان يعرفوا اكثر من ذلك وهو انهم قادرون على التروض على مواهبه وقادرون على توق القداسة ولكنهم في الحقيقة الحقيقية لا يريدون حتى لا يتعبوا كثيرا ويأخذهم هو برحمته كأن الرحمة رخيصة ولا تستوجب جهادًا حتى الدم.

جهاد حتى الدم قامت به امرأة تدعى مريم المصرية عاشت في دعارة مستفحلة في الاسكندرية وكاتب سيرتها صفرونيوس بطريرك اورشليم الذي استقبل الخليفة عمر عند فتح القدس. وما يقوله لنا البطريق ان مسلكها لم يكن مسلك النقيات اللواتي ترميهن ظروف الحياة كالفقر أو الاغتصاب في هذه الطريق ولكنها كانت ترغب في الشبق من أجل نفسه.

كانت بلا شك مسيحية في أولى مدن الاغريق في العمارة والفلسفة آنذاك فخطر في بالها الحج الى القدس ولم يخطر على بالها التوبة حتى اهتدت الى ربها عند عتبات كنيسة القيامة. وتقول السيرة إنها لفترة لم تستطع دخول الكنيسة لعلها أحست بالتنافر الكامل بينها وبين قدسية المكان فجاءها الهدى دفعة واحدة هز كيانها الداخلي وذهبت الى برية الاردن حيث عاشت حوالى خمسين سنة في نسك شديد كان ضروريًا عندها ليبيد الشبق الشديد.

تأتي سيرتها على تفاصيل في ممارستها الصلاة والصوم واشتياقها الى مناولة الكأس المقدسة التي كانت قد انقطعت عنها سنين طولى. هم كنيستي التي تعيد لها غدًا اذ تقيم لها الذكرى ان التائب يستطيع ان يطهر جسده وروحه وان كنا لا نزال في البشرة. والصوم اذًا في غاياته وليس فقط في رياضاته انما هو طلب النقاوة حتى النهاية وذلك حتى نقيم في الله أو يقيم هو فينا. الله وحده هو المشتهى وهذا ما يسألنا الرب ان نتابعه معه في كل يوم.

ان تنثني أنواره فيك في كل حين يقتضي انقطاعًا كليًا عن كل ما يحول دون إقامتك عنده أو إقامته عندك. واذا تراءى لك شيء من هذا تشتاق الرؤية كلها لا في الدهر الآتي فقط بل في الدهر الحاضر. اذ لا فرق بين الحاضر والمستقبل في خلوة الحب التي هي التوبة.

قد لا تبقى في كل أزمانك على الزخم نفسه أو الحرارة الواحدة. قد لا تكون ملتهبًا بالعشق الإلهي كل يوم. ذلك لان التراب ضاغط عليك. ولكن المطلوب الاول الا تعقد صلحًا مع الخطيئة. هذه أولى درجات الحب. ثم اذا قطعت الصلح مع الخطيئة المطلوب منك صلح مناقض ألا وهو الصلح مع الله. بحيث تكون ضربت الخطيئة كضربك رأس الأفعى فتعرف عند ذاك ان السم لن يدخل كيانك وان الرب مخلصك من كل إثم ومن كل خوف وآخذك في احضان حبيبه.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

كبير / السبت في 31 كانون الأول 2005

متعب ذكر الموت الذي متناه في السنة المنصرمة. ولكن لن ننظر الى الوراء كامرأة لوط لئلا نتحول أعمدة ملح بل نمتدالى الأمام راجين الخلاص. هل يعني هذا أن ينكفىء كل منا ليأسه من الأوضاع العامة، من افتقادالدولة مواطنيها بكمّ معقول من الخبز وما اليه. بمقدار معقول من الأمن بحيث تطمئن النخبة السياسيّة الصريحة، المتحدية الى سلامتها ولا يترشح أحد للقتل.

إذا كانت الأيام تتوالى كقطرات الماء وتتشابه الأزمنة لكون الحالة السياسية لا تزال مختنقة وخطانا فيها متعثرة ونفوسنا مصدومة. لا شيء يشير الى أن العوامل التي قتلت خيرة شبابنا زالت، بل كل شيء يدل على أن هذا البلد يستلم وجوده بمنة من الآخرين أو من شرائح فيه تعرف أنها تتكتل من منة الآخرين، وتأمن لهم لتسود في جزئيتها أو انفرادها أو انعزالها، تلك المفردات التي تقلقنا لأن لبنان لا يزال وطن الخوف. وأظن أن جميعنا خائف اليوم واننا لا نرى مخرجاً من هذا الخوف اذ نخشى كلنا التحجيم وأن نفقد الحرية من جديد لتعذر قيام اللحمة الداخلية. اذذاك نقع في بحر من التشتت والضياع وغياب اتفاق على صنع الوطن.

الذين يشتكون من وصاية جديدة ولم أسمعهم اشتكوا من وصاية قديمة، يترتب عليهم هم أن يقولوا لنا كيف نصل الى الحرية من الموت، وتقع عليهم مسؤولية تبيان كيف نصنع وحدتنا الوطنية بلا وصاية. هذا ليس كلاماً يدعو الى وصاية أخرى ولكنه دعوة الى أن يكشف لنا كل الأطراف ما يهيئون لإقامة لحمة حقيقية لا تقصى فيها شريحة ولا تسيطر شريحة بأي عامل من عوامل القوة.

واذا كانت قصصنا بضنا مع بعض ليست صراع عناوين أو مفردات (مثل أنت تريد وصاية وانا لا أريد وصاية) المطلوب أن يبين كل فريق كيف يلتقي وعلى أي موضوع يلتقي هو والآخر وذلك بصورة عملية في الإخلاص الكامل للبلد وحده. واذا تجلى هذا بصدق واقتنعنا بالإخلاص تزول تهمة الوصاية.

ولكن هبوا أننا رفضنا جميعاً بشفافية كاملة وصاية الولايات المتحدة واكتفينا برعاية الدنمارك مثلاً، هل لنا اعتراض على رعاية ما للبنان تحول حقاً دون وصايات كابحة وخانقة أوقامعة أو لاغية. لم يبقَ لبناني يعتقد ان جامعة الدول العربية قادرة على أن تحميه. هل من مروق في استعمالي كلمة حماية لبلد صغير كهذا ليس فيه اكتمال اقتصادي ولا قوة عسكرية كافية تحفظه؟ السؤال هو حماية ممن. ولكل جوابه عن هذا السؤال. اذا استغنى هتلر عن اختراق خط ماجينو فاكتسح فرنسا من سهول بلجيكا ماذا نعمل نحن اذا جيء الينا من البحر والبر والجو؟ دائما السؤال المطروح واقعيا هو ماذا يعمل الضعيف؟

لقد علمتنا التجربة أن أحداً في هذا المشرق ليس قادراً على حمايتنا أو راغباً فيها. وهذا يتعبه ويتعبنا ويتعب العرب. نختار من يحمينا من المعتدي أو من مواطنين لنا اذا عرّضوا الوحدة لانكفاك؟ كان زمن الحمايات لفئة من المسيحيين منذ القرن السادس عشر. هذا انتهى بنظام المتصرفية الذي عبر فيه عدة دول على حماية جبل لبنان ككل. تُركنا لأنفسنا بعد الانتداب وحسبنا أن وحدتنا تتحقق لكوننا أقمنا مسافة من سوريا ومسافة من فرنسا. السؤال الحقيقي هو هل من توافق ممكن بين استقلال ناجز ورعاية خارجية لا استبداد فيها ولا استغلال ولا تبعية ولا تذييل. هل الخيار هو بين رعاية خارجية واستقلال هش يلازمه ضعف كياني يفرضه صغر الحجم والعدد والتنوع الطوائفي الذي نحتاج فيه الى قناعة الوجود المدني المشترك والتركز حول الدولة.

أنا أطرح تساؤلات فقط لأننا نسير الآن في نفق مظلم وترتطم وجوهنا بعضها ببعض أو بجدران النفق. ولا نفع الآن أن تتحد هذه الكتلة بتلك اتحاداً كلامياً تشوبه المصالح السياسية العابرة. في الراهن إننا منقسمون واننا في حاجة الى حلول حقيقية لأوضاعنا المتأزمّة.

على رغم كل ذلك تولد السنة الجديدة من الرجاء أي من الله الذي عصيناه كثيراً في الحرب الأهلية التي لم نتجاوزها. تغير اللاعبون أو تشكلت ملاعب مختلفة واللاعبون هم هم وليس من توبة.

في وكر الأفاعي المخبّأة في الملعب السياسي هل يحمي الله برقته وحنانه كل واحد منا كي لا يذوق موتاً روحياً بعد أن ذاق البلد ذبحاً كثيراً. فاذا لم نتب جماعياً ليرفع الرب غضبه عن لبنان يبقى لكل فرد أن يتوب من خطاياه لئلا يموت هو روحياً. فإذا لم تصبح السنة الـ2006 جديدة على لبنان بما تؤتيه من خير ونعمة ورضا فلتكن على الأقل جديدة على كل روح ليتمجد الله فيها وتنتصر بها المحبة. والمحبون قد يحولون البلد فردوساً.

سيبقى كثير من الفقر زمناً طويلاً ويتعذر حل العقد ردحاً من الزمن ويظل الليل مخيماً على نفوس كثيرة ولكن من أعطي ذرة من الرجاء فليباشر بتجميل نفسه فيشع حيث كان ويفرح به كثيرون والصلاح قد يشكل ضغطاً على الأشرار وتقوى جماهير الأبرار. لعل السؤال ليس هو: ماذا تعطيني أو تعطينا السنة الجديدة ولكن ماذا يعطيني قلبي لو تجدد وماذا يعطي الآخرين.

فاذا قلت لقريب أو صديق غداً: كل عام وانت بخير فلا تذهب أبعد من قلبه الى الوجود لأن ذهابك هذا ليس بيدك. إنه بيد الله. ما هو بيدك إذا آمنت أن تصلح باطنك فيأتي ظاهرك مثله وقد يأتي ظاهر الآخرين شبيهاً بما تكون قد صرت عليه من بهاء روحي.

سنة للعالم نرجوها له جميلة. سنة للبنان ندعو لتكون بهية مثل جباله. سنة لكل منا تكلّلها المحبة أو تؤسسها. في كل هذا نحن فقراء الى الله الذي نجيء من نعمته فقط.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

هذا الميلاد / السبت في 24 كانون الأول 2005

“لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غلاطية 4:4). ما تعني هذه العبارة؟ هل تعني ان نفسية الشعوب كانت مهيأة لاستقبال مخلص؟ فكرة الخلاص لم يكن لها في اسرائيل القديم المعنى الذي اتخذته في الانجيل. هل كل شيء في الحضارة نضج لاستقبال الانجيل؟ لست أظن ان الكتاب أراد ان العصور السابقة مباشرة للمسيح كانت حبلى بالوعد الذي قطعه الله قديما بالأنبياء على طريقة “الحفر والتنزيل” في النجارة الشامية. ان النص يوحي بان يسوع هو الملء بمعنى انه مقصد الوجود وتمامه وانه مبدئ الأزمنة الجديدة. كل شيء في الكتاب يوحي بأن الله ينقضّ على التاريخ انقضاضاً وان خلاص هذا التاريخ هو في مشيئته. الله يكتب التاريخ بحضوره وهنا كتبه بإرسال وحيده.

من هنا يبدأ كل شيء. يبدأ على صعيد الله – وهذا المولود العجيب الذي يتكون جسده منها فقط: “ها أنا أمة للرب”. ولأن الله كان في حاجة الى هذه المرأة لإتمام مقاصده جاءت مريم محطة لروح الله ومقراً للكلمة – الابن.

من هذا نقرأ ان الجسد البشري هيكل الله وان الإله الذي يعبده المسيحيون هو فوق وتحت معاً بحيث لا يأتي العلو الإلهي افتراقاً عن البشر ولا التنازل الإلهي ترك الله عرشه أو علوه. كل المسيحية قائمة على التضاد أي جمع الضدين في وحدة فاذا تحدثت عن يسوع تقول انه إله وانسان معاً في تلاحم لا ذوبان فيه. كل قصة الله منسوجة كيانياً في لقائه الانسان لا حكاية تحكى كما كان في العهد القديم ولكن عيشاً يعاش بحيث تقدر على ان تقول أنا في المسيح وتالياً في الله وان الله فيّ بروحه دون أن اهتك جوهر الله ودون ان يهتك الله جوهري. انا معه وهو معي ولكن في ازائية حتى أبد الآباد لأنك على هذا لست ناجياً ما لم يلتحم بك هذا الاله ولست انت اياه، لأن المخلوقية مفارقة للخالقية. تواجهه في الحياة الأبدية كما يواجهك ويدعوك ابناً بسبب أخوة الابن الوحيد لك.

قبل ذلك ظهر “ظهر غضب الله على كل كفر وظلم يأتي به الناس” (رومية 18:1). وباتوا أبناء الغضب “لا فهم لهم ولا وفاء ولا ود ولا رحمة”. فبعد هذا الامتهان وانقطاع النبوة تحركت ابوة الله “لننال التبني”. ثم يتابع بولس منطقه في الرسالة الى أهل غلاطية قائلاً: “والدليل على كونكم ابناء (اي على كوكم صرتم ابناء) ان الله ارسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: “هنا ينتقل بولس من اليونانية الى الآرامية) ينادي “أبّا” (تلفظ avva)، “يا ابت (هنا يفسر avva للقراء اليونانيين. في الحقيقة ان avva الآرامية تعني يا ابي واذا حذفنا الهمزة تصبح بيّ اللبنانية التي يقولها الطفل لابيه في صورة التصغير للدلالة على دالة الولد على ابيه). المسيحية كشفت عن طريق بولس هنا الحميمية القائمة بين الله والبشر على صورة العلاقة القائمة بين الوالد واطفاله.

ينتج من هذا قول الرسول: “فلست بعد عبداً بل ابن”. هل عرف بولس قول السيد في خطبة الوداع وانجيل يوحنا لم يكن قد دُوّن: “لا ادعوكم عبيداً بعد اليوم… فقد دعوتكم احبائي” (15:15). لقد ضرب يسوع عبودية الانسان للإنسان بعد ان ضرب عبودية الانسان لله. وادخل الانسان في علاقة البنوة. هي البنوة التي تجعلنا احراراً. والحرية بدورها تقيدنا بالمحبة.

كان هذا الموجز اللاهوتي اساسياً لنتلقى المسيح في سر مولده. نحن لسنا نقيم ذكرى مولد باليوم والشهر والسنة. ليس واحد من هذه الثلاثة نعرفه. ذلك لان كتبنا لا تضع المسيح في تاريخ البشر ولكن تضع البشر في سر المسيح. نحن ما ذكرنا الا الفصح. ان ظهور السيد منتصراً على الموت هو بدء فعله في ازمنة الناس وعقولهم. الصليب هو الذي كشف المسيح فعالاً في النسيج البشري. غير ان الايمان المسيحي قال ان اول ظهور للسيد كان عند اصطباغه في نهر الاردن حيث شهد له الآب بقوله: “هذا هو ابني الحبيب”. ولكن الى جانب التعييد لمعمودية السيد عيدت الكنيسة قديماً لميلاده في اليوم نفسه اي السادس من كانون الثاني. فجاء في التسمية الطقوسية هذا اليوم يوم الظهور الالهي حتى فصلت الكنيسة بين التذكارين فكان عيد للميلاد وبقي عيد الظهور المعروف عند العامة بالغطاس. نحن في الذكريين هاتين مع النور. فالميلاد يبقى عيداً فكرياً لا عيد حدث. من هنا انه لا يختلف جوهرياً عن الفصح الذي هو ايضاً عيد فكري او عيد عقيدة. لذلك قال الاقدمون بالعيد الصغير والعيد الكبير. والتسمية باقية عند العامة حتى يومنا هذا. ليس في المسيحية من مضمون روحي الا للقيامة. الاعياد الاخرى تسندها.

نحن لا نجيء من طفل المغارة اذ نجيء من المصلوب لكوننا نجيء من المجد. ولكنا نذهب الى طفل المغارة كما ذهب اليه الرعاة. أي نذهب في بساطة القلب وشفافية الروح. عندما تواجه أنت الأساسيات تجرد نفسك من كل شيء وتدخل في فقر المسيح. المستغنون بأنفسهم لا يقبلون المسيح في تواضعه ملكاً عليهم. لا أحد منا يصير شيئاً قبل ان يتسربل فقر المسيح.

ربما يتوق الى البراءة أولئك الذين جعلوا الميلاد عيداً للأطفال. اليوم يتلقى الاولاد من ذويهم هدايا. في طفولتي ما عرف جيلي هذا. نحن كنا نعرف ان الهدية الكبرى تأتي من الله وهي العيد نفسه في فرح الصلاة والانشاد. غير ان هناك طفلاً واحداً ينتظر منك هدية وهو المسيح. لقد قدم له المجوس ذهباً ولباناً (بخوراً) ومراً. هو يريد الذهب لاخوته الفقراء وان تفتقدهم في هذاالموسم لكونهم أحباءه. وعند تبخير المسيح في الكنيسة يحيل اليك البخور الذي يرتفع من المبخرة الى وجهك اذ ترتسم ملامح وجهه على وجهك ان كنت من التائبين. تعلم في العيد، ان أكلت أو شربت أو زينت بيتك أو فرحت بالأطفال، انه هو صاحب العيد.

لا تقبل ان يحجبه شيء أو ان يعوضه شيء في دنيويات الموسم. لعل هذا هو خطر الأعياد عن الساهين. أما أنت فاسجد لمن ينبغي ان تسجد له وهو يقيمك بعد ركوعك في المجد ويبدأ ميلادك بتمتمات التوبة التي هي أصعب مشروع في العالم وقد لا ينجز فيك حتى عند عتبات الملكوت. ولكن لا تهمل الشوق اليه لأن كل شوق ليس هو حاضراً فيه يصبح بدء استعبادك بعد ان حررك هو وجعلك ابناً لأبيه في طراوة لا يعرفها إلا المقربون. واذا تقت الى حيث وليد بيت لحم يسقط عنك التصحر وتمشي معه مشياً فصحياً في كل يوم وتفرح في طريقك الى الملكوت المكمل في اليوم الاخير والكامن فيك بعد ارتشاف الكأس المقدسة.

ولا ينتهي العيد الا اذا فرح صعاليك الأرض بهذا الذي جاء يغنيهم بحبه وبتحويل دنياهم بالسلام والعدالة. وفي انتظار حرية العالم من الجوع والجهل نقول سلاماً على فلسطين والعراق ولبنان المدعوة الى ان تصبح جميعاً أوطاناً للمحبة.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

قوة الله / السبت في 17 كانون الأول 2005

لا شك في ان الخوف خلق الآلهة القديمة اذ كانت – كالشمس – تملك قدرة لم يمتلكها البشر. لذلك أيضا ما كان بمقدور جيش ان ينتصر في الحروب الا لأن ربه في العلاء هو القائد الحقيقي للحرب. وهذا هو نفسه الذي ينعم على الأغنياء بثروتهم لأن المال هو القدرة. وانه هو الذي ينصر من ينصر في مباريات الرياضة وربما في مسابقات ملكات الجمال. وهو الذي يميت الاحياء لان الموت هو القدرة العظيمة. ولست أعلم ان أهل الذين غرقوا في التسونامي قالوا انه أمر من الله. كما لم أعلم ان قال لهم أحد: ما هذا الاله الذي يسترد من يسترد ويستبقي من يستبقي.

اسرائيل القديم كان أيضا يخاف. ففي جانب من جوانب فكره كان وريث الحضارات القديمة الخائفة كلها. وكان أيضا يؤمن ان حروبه حروب الله. ولكن كيف كان الله ينهزم أحيانا؟ ولكونك على هذا الفكر تسمي هزيمتك نكسة وفي هذا قال إشعياء قديما: «معنا هو الله فاعلموا أيها الأمم وانهزموا». وإذا ألْحَد حكم سياسي يقول ان الايديولوجيا – والايديولوجيا نوع من أنواع الآلهة – هي التي انتصرت.

أجل في العهد الجديد لفظة القوة أو القدرة مستعملة إذا قيل مثلا قوة القيامة أو قوة الإنسان الباطن، لكن هذا لا علاقة له بالبطش والقهر المنسوبين إلى الله قديما ولا علاقة له بإله الحروب والواهب الأغنياء. أما الأقوياء فيقول عنهم على لسان لوقا: «انزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين ملأ الجياع خيرات والأغنياء أرسلهم فارغين». وأما عن الأغنياء فكل من قرأ الإنجيل يعرف عسر دخولهم ملكوت السماوات. وأما عن القوة العسكرية فيقول لبطرس: «أردد سيفك إلى غمده لان من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ».

***

القوة في العهد الجديد إذًا غير القوة التي جاء الحديث عنها قديما. جانب الشدة في الإله لا يقرأه العهد الجديد. أنا لم أقل ان البطش كان الوجه الوحيد في إله العهد القديم اذ كان عنده رحمة ولطف وطراوة ومرافقة لشعبه وفي هذا أقوال كثيرة. لكن الفظاظة أقصيت عن العهد الجديد وبتنا في ملكوت الوداعة.

أيًّا كانت المفردات هنا وهناك عندنا نحن ان ثمة قراءة واحدة لله وهو كيف تقرأ يسوع المصلوب. ان مشهده على الخشبة هو قراءتنا لله. في هذا الوضع يسميه إشعياء عبد الله بسبب الموت الطوعي اذ يقول عنه: «هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرَت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يكسر». وتتخذ أناشيد عبد الله قوتها ومداها في الاصحاح الثالث والخمسين من السفر نفسه حيث يقول عن المخلص: «لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستّر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها… كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه». ثم تراك أم تضاد (أي تقابل) أو إزائية لا تناقض حيث يقول: «لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل انه سكب للموت نفسه».

كيف ينتمي إلى الأعزاء من كان كرسي عزه خشبة سمر عليها بحيث فقد – في الرؤية البشرية – كل عز؟ كيف يحصى مع العظماء ذلك الذي ديس حتى النهاية وصار أول الاذلة في الارض؟ نحن إذًا مع مقولتين مختلفتين من العز والعظمة، مقولة أهل الأرض ومقولة الله. القصة كلها هي كيف تقرأ الله فتكون على السلوك الذي تمليه عليك قراءتك.

***

بولس رأى هذا لما تكلم على حكمة بشرية تقابل حكمة الله وعلى قوة بشر تقابل قوة الله فعبر عن هذه المفارقة بقوله: «ان جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس» (1كورنثوس 1: 25). لعله أراد – وورد ذلك في ترجمات – مستضعف الله أقوى من الناس. لعل قوة الله انه يبدي نفسه ضعيفا كي لا يأخذنا بالقهر. هو يتنازل إلى وضعنا المعطوب لنحس انه يخالطنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وذلك بالحبيب الذبيح ففي الذبح فقط يتجلى الحب. وفي الموت فقط تنكشف محبة الله.

هكذا نفهم قول بولس: «الذي (أي المسيح) اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرًا في شبه الناس: (فيليبي 2: 6 و7). هنا يستعمل الرسول كلمة عبد التي وصف بها إشعياء المسيح وهي في المفارقة تتضمن العلو اذ يتابع بولس فكره بقوله: «لذلك رفعه الله (أي رفع المسيح) أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم. نتيجة لذلك سيعترف كل لسان ان يسوع المسيح رب. اعتناق المسيح العبودية كان الطريق لإعلان ربوبيته على الخليقة كلها.

لقد كشف الله قوته بضعف المسيح أو بما بدا كذلك. لذلك لم يبق من مكانة للقدرة بمعناها القديم (البدن، الجمال، المال، السلطة). على ضوء هذا يعزي بولس المؤمنين في كورنثوس بعد ان رأى ان الكثيرين منهم ليسوا حكماء (أو مثقفين) ولا أقوياء (غير نافذين) ولا شرفاء (اذا كانوا فقراء) وشجعهم على انهم هم الموجودون لكونهم باتوا بالمسيح «الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء».

لقد انقلبت المقاييس كلها. فالله في جانب الضعفاء إذا اعتبروه قوتهم وهو تاليا يبدو ضعيفا إذا رأى اليه المتسلطون من أهل الأرض وهو ضعيف عندهم اذ يستغنون عنه. وأنت لا تستطيع ان تعتبر الله غناك إذا افتخرت بمالك ولا ان تراه جميلا إذا اعتززت بجمالك ولا ان تحسبه ملكا عليك إذا سموت بملك.

سر المسيح هو الفقر، وأنت اليه إذا احسست ان ما عندك من مال أو حسن أو ذكاء أو سلطان ليس بشيء. أنت في السلطة والعقل وما يشبههما من قوة خادم للملك الوحيد ومصدر العقول كلها والبهاء الوحيد. هذا هو المعنى الحقيقي لذكرى الذي سيولد في بيت لحم في مذود البهائم ليكون نطقنا وفي الفقر الكامل ليصير غنانا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الكلمة الدائمة / السبت في 10 كانون الأول 2005

من الاشياء التي ترعبني ان الكلمة الالهية لم تنزل بقوة او بالكثافة نفسها على اهل المسيح في اجيالهم. سواهم يحيا في سر الله وهو يتدبرهم بحكمته ان كانوا من اهل التوحيد. اما اهل الديانات الآسيوية والافريقية فأنا لا اعرف شيئاً مكتوباً عن مصيرهم وادعهم الى حكمته. لكن معظم الناس الذين لهم كتب لم يقرأوها أو لم يستطيعوا لجهلهم قراءتها وظلوا عن حقيقتهم غافلين وفيها قبس او بعض قبس. والناس من ظلمة هذه الاعين لا يرتجفون وأنا في خوف كثير من ان يستمر هذا الظلام فيهم وفي اولادهم من بعدهم وهم لا يدرون.

ما يقلقني في غيرتي وفي حبي ان هؤلاء الكثير منهم سينجون بفضل رحمة الله من حيث انهم يعاينون الله بسبب من نقاوتهم وهذه في كل حال من امر ربك وليست من باب تأملي الان اذ ينجو الطاهرون من كل جنس مهما قال المتزمتون ولاهوتيو الكتب. ليس هذا ما اعاني منه وعذابي عنهم لا يتعلق بالآخرة ولكنه يتعلق بالاولى كما يقول الاسلام او بالدهر الحاضر كما تقول المسيحية. عذابي في ان معظم الناس لا يفهمون وان بعض المتكلمين هم على لاهوت خاطىء اذ يقولون في الله اشياء مغلوطة. واذا كانت الآخرة امتدادا للأولى فليس فيها كشف الهي يضيف الى ما نعرفه في دنيانا لأن “ما كُتب قد كتب” وانت لا تعرف اشياء جديدة الا اذا قلت ان محبوبيتك عند الله – وهذه نعرفها – كافية للفهم واننا لا نعرف عند ذاك الصلة بين القلب والعقل وقد يكون القلب طاغيا فيفهم ما لم يكن هنا فاهمه دون ان تعبر الكلمة العقل. ما اتأمله في هذه الاقوال يتم عن اني اقيم فرقا بين العقل والقلب في اليوم الاخير ولكن اللعبة قد تكون مختلفة تماما. لعل هذه تحفزات عقلية لي لا تهم بسطاء القوم وقد يقول الله في ذاته ان كلماته انما ينزلها علينا في هذه الدنيا وان له معنا فوق لقاءات ليست من طبيعة اللقاءات التي كانت له هنا على وجود لحمة بين ما هو هنا وما سيكون.

ولعل بعضاً من قرائي يقول لماذا تعنيك هذه الامور ولم يكشف عنها في ما الهمه ربكم. جوابي انك لا تقدر على ان تهمل ما هو لربك أجاء فيه كلام أم لم يجئ لأن هذا يدفعنا الحب اليه. ولعل اهتمامك بالمدعوين الى الخلاص في ما سيكونون عليه أهم ما يكون عليه الفكر الالهي هنا لأن الذين أنت اليهم هنا ستكون اليهم هناك بسبب من وحدة المعشر وهذه المشاركة العظمى التي ستجمع بينكم عند حميمية الله.

لعل ما ليس دون ذلك ايلاماً في ما أسمعه من ارشاد في المعابد ان الخطيب يتحدث باللغة الفصحى وبصورة بليغة أحياناً وأنا أرى الوجوه وهي مقصرة في ادراك العامية فكيف بالفصحى ولعل الواعظ لم ينتبه الى ان القليل قد بلغ سامعيه وان كلمة الله اذاً راوحت مكانها وان شيئاً قدسياً لم يحصل.

يجب ان يتروض الفصحاء على ان قلب سامعيهم هو الذي يتقبل كلام الرب أو لا يتقبله واننا لسنا في مباراة بلاغية ولكنا في تبليغ الحق. ويفرح الواعظ ان الحاضرين كثر وهو يستلذ كلامه الذي لم يصل.

ما من شك في ان الله يريدنا ان نفرح بكلامه وان نغتذي منه بصبرنا ونصيره كي نبلغ القامة الروحية التي من أجل صنعها تكلم وجعل ناساً يتكلمون. أنا لا أستطيع ان أتصور ان الله اكتفى بان يفوض الى ناس أمر ارسال الكلمة ولم يفوض اليهم أمر تبليغها أي ان تشق دربها الى العقول والقلوب كي يصبح كل منا كتاباً الهياً يفتح بدوره بايضاح ما سجل فيه تبشيراً ودعوة.

أجل كان هذا مسعى اذ يصل من الزرع ما يصل ومن استنار من بعد توبة وعلم يبغي ربه منه ان يهيئ النفوس الى السمع وتناول الحق بتوبة وعمق أيضاً حتى لا تعود الكلمة الى مقرئها فارغة في تكامل يبني كل جماعة بالحب والغيرة عسى تصل الى كل منا حبات من الزرع ولا نبقى جياعاً.

أنت، عارفاً، ليس شأنك ان تهمل التعليم وتقول ان الله يرحم من يرحم ويرأف بمن يرأف. انت مسؤول على أعلى درجة كي يفلح الرب كرمه ويفهم من يفهم ويخلص من يخلص. هذا من أمر ربك واما التبليغ فتكليف وأخشى ان اهملته ألا يرحمك ربك ويعدك من الكسالى.

وما يؤذيني ان قلة من العابدين ترغب في المعرفة اذ تتكل على الصلاة وحدها والله يريدنا من العارفين لان المعرفة تقوي فهمنا للصلاة وتجعلنا نستطيبها. أنا أخشى كسل الاتقياء الذين يتكلون على المثابرة ولا يريدون ازدياد الفهم. كما أخشى الذين هم على صلاتهم ساهون. والصلاة تقام في الملكوت على طريقة ما. غير ان المعرفة تبدو في الملكوت أيضاً على كثافة ما والأكمل أفضل من الكامل.

ما يعزيني عن هذا التقصير ان هناك مسجداً غير منظور يجتمع فيه محبو الرب من كل دين يقيمون فيه الصلاة ويتبلغ منهم الكل بقدر حتى يجمعنا الله في المسجد السماوي غير المصنوع بيد ويمدنا الله فيه بالرحمات وربما يزيدنا فهماً لأن الله عقل أيضاً.

ما يحزنني من سنوات عديدة هو ما يبدو لي من ان الهيكليات الدينية على اختلافها تدفعها عوامل كثيرة في أزمنة الناس الى ان تنهمك بنفسها وأنظمتها ورجالها وتهمل الكلمة وادخالها الى ثنايا القلوب. أجل كل الديانات عندها حلقات دراسة لكتبها المقدسة والمذاهب تتسابق في النشاط. غير ان إقبال المؤمنين المسيحيين على العبادات العظيمة والضخمة جعل درس النصوص الالهية يتضاءل جداً. غير ان شيئاً لا يقنعني ان أي نص طقوسي أو نص للآباء مهما سما له في النفس الوقع الذي لكلمة الله. مرة قال لي عالم ليبي في الاسلاميات: لا شيء في الاسلام يؤثر في الانسان مثل النص القرآني. شهادتي المماثلة ان لا شيء أعرفه في كل التراث المسيحي يفعل في النفس المسيحية مثل الانجيل. أضيف الى هذا ان النفوس التي تأصل فيها الانجيل قادرة على ان تواجه تحديات كبيرة من الحضارة الحديثة بما هو اعظم من الايجابات الفلسفية أو اللاهوتية الحاضرة.

“الكلام الذي اكلمكم به نور وحياة”. هذا الكلام الذي نطق به السيد لا يعني فقط معرفة ولكنه يعني تنقية للنفوس وارتفاعها الى الدرجات العلى من القداسة والفهم في آن. طبعاً ليس الملكوت مجمع لاهوتيين والحمد لله ولكن اذا كانت السماء تكمل ما كان في الأرض جميلاً فلا بد من ان تستمر الكلمة الالهية في السماء اذا ما تمجد حاملوها.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

العثرات / السبت في 3 كانون الأول 2005

“ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة (متى 13: 7). في المصطلح الإنجيلي العثرة هي تلك السقطة التي اذا ارتكبتها وعرف بها آخر يعثر على طريقه الى الخير. هي صدمة تهز كيانه لأنه نزهك عن الكبائر كما يقول المسلمون أو الخطايا الجسام كما نسميها نحن. لكونه جعلك في مصف الأبرار أو الطاهرين حتى الكمال لا يتوقع منك سقوطاً كبيراً أو صغيراً اذ تخيل انك لست مصنوعاً من تراب أو أنك تخطيته الى نور كبير عمّ كيانك فأنى لك ان تعود الى هذا التراب المقيت. كأن الانسان الذي يشتاق الى الله لا يستطيع ان يحيا الا باشعاع بعض الوجوه عليه ولا يقدر على ان يتصور دنيا بلا قطع من الجنة فيها هي قامات تضيء وتبدو لنا قادرة على ان تقيمنا من هبوط اذ لا نطيق الهبوط فنطل على النهوض ولا نبقى ناهضين ولكنا نتعزى بأن قوماً منا لا يذنبون بشكل مريع وانهم قد يكونون رجاء تجدد لنا اذا حان أوان الرضاء.

ما من شك في اننا في المسيحية نعيش بسبب من كل هذه الدعوات المتكررة في العهد الجديد الى ان نتعاضد روحياً ونبني بعضنا بعضاً ونحب بعضنا بعضاً لكوننا أعضاء متماسكين في جسد المسيح. وهذا مفهوم الحياة الروحية الجماعية لكون الكنيسة كالصليب فيها بعد عمودي يصلك بالله وبعد أفقي يقيم صلة بينك وبين الإخوة. فكل منا ينمو بالآخر، يتكل على دعاء الآخر من أجله. كل منا يقول لأخيه بالايمان: صلّ لأجلي. في هذا العمق الروحي يحتاج المؤمن الى نماذج، الى ايقونات حية حوله يقتدي بها أو يتكىء عليها تعلمه بضعفه من جهة وبالتكامل من جهة وبأن المخلص ترك لنا من البشر من ينقل الينا هذا الخلاص بصورة محسوسة. من هنا قول بولس لبعض من مؤمني عصره: “تشبهوا بي كما أتشبه أنا أيضا بالمسيح”.

غير ان الانسان الذي تتكل أنت عليه ليقوم مقام الايقونة يتصدع كالايقونة، يشيخ كالايقونة. ولعلك في شاعريتك الروحية استعظمته أكثر مما يستحق واذ بك تكتشف انه بشر ولعلك تكتشف ان فيه بعض هشاشة ما كنت انت مستعداً لرؤيتها بلا اهتزاز فيك.

ثم هناك من كانت عيوبه بادية لبعض وما هي ببادية لك لان خيطاً ذهبياً من العشق يربط برؤية نزلت عليك وعشت بها. كنت ترى بلوراً واذا بالبلور ينكسر أمامك فجأة فينشىء هذا فيك صداماً مرعباً. ليس أحد منا لا يرى في هذا أو ذاك أخطاء مريعة تحدث فيه خيبات موجعة. وتتراكم الخيبات أحياناً. ولكنك اعتدت الصداقة ولا تريد ان تبتعد لئلا تجد نفسك في عزلة تامة. يكفيك، اذذاك، شيء من فضيلة الصديق بعد ان تساقطت جمالات كثيرة. تؤثر ان تتغذى من هذا النزر القليل على ان تعيش في صحراء الحب.

واذا انتاب اصدقاءك هشاشات تعيش انت عليها كما يعيش الفقير على الفتات.

في حصاد الهشاشات قد لا يؤذيك شيء مثل ما يؤذيك وضع كاهن (أو اسقف) رأيت في وجع ان قلبه ليس لله وانه تالياً اخطأ العنوان في اتخاذه هذا الطريق. ربما ما كان هذا الرجل يعرف نفسه جيداً لما انخرط في هذا السلك دراسة ثم التزاماً. بالتأكيد ان اساتذته لم يعرفوه اذ ليس مثل الدراسة ما يحجب التفحص الحقيقي. هذا الشاب مغطى بمظاهر التقوى وما كانت بتقوى أو ان الرجل سقط في ما بعد بما تعرض له في مهمات الرعاية. نحن نعرف على وجه الدقة كيف يجرح الطهر ثم نعرف ان التوبة عسيرة وان معظم الناس يموتون في خطاياهم.

ما كنت مخطئاً في المبدأ ان تعلق آمالاً على راعيك أو راع آخر لأنك تعرف من الكتاب والتراث شروط الانتماء الى هذا المصف. غير ان الداخل اخطأ الخيار أو من اقتبله اخطأ الخيار أو كنت تظن ان أمثال راعيك محصنون لأنهم باتوا أشباه ملائكة وما كان لك النضج لتفهم ان ليس في العالم الروحي حصون وان البشر ركامات تراب مرمية هنا وهناك حتى يرضى ربك ويبني منازل قليلة من هذا التراب.

كثيرون تركوا رعاياهم أو مذهبهم في هذا الشرق لأنهم رأوا ما رأوا في مسؤوليهم. الخطأ كان في اعتقادهم ان الانسان قادر على ان يصنع من المسيح نسخاً وتالياً في اعتقادهم ان التراب له ان يصبح ضياء. هذا غير ممكن وغير مكتوب. ان تعطش انت روحياً لا يعني ان قربك ماء. كنت على حق لما سعيت الى أنوار وجه السيد ترتسم هنا وهناك. لكن هذا حققه قلة ويحققه بعض منا فترات ولكن لا نحققه كلنا وفي كل حين لأن السماء لم تهبط بعد على الأرض ولأن الملكوت لا يزال وعداً.

جميل ان تقفز في أشواقك تواً الى الفردوس وان تحس ان من انت مسحور بهم روحياً فردوسيون ولكن ليس من فردوسي. يبقى سؤال يحز في صدري بشرياً ولا يزعزع إيماني مطلقا وهو لماذا سمح الله بكل هذا التلف وسيسمح به الى الأبد. الجواب الذي أعرفه عقلياً هو ان الرب ارادنا احراراً وان نقبل اليه بحريتنا ولم يسخرنا لمشيئته كما تسخر انت الآلة. وثمن الحرية الارتفاع والسقوط وانت لا تسمو الى الألوهة إلا طوعاً وفي كل لحظة ينبض فيها قلبك وعليك ان تدفع ثمن تقلبه حزناً وان تبكي بين خطيئة واخرى نتتراءى لك صور من الفردوس حقيقية لتحقق الكلمة: “اننا بالرجاء خلصنا” (رومية 8: 24). وفي موضع آخر يؤكد بولس: “انكم بالنعمة مخلصون” (أفسس 2: 8).

واذا عرفت ذلك تفهم قول الله على لسان داود: “لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر اذ ليس عندهم خلاص”. أنت مثل المعلم مشلوح على الصليب وأنت وحدك كماكان وحده وليس معه الا الآب. في الأخير الكنيسة هي المسيح المصلوب وليس أحد من البشر مهما علا شأنه يستطيع ان يفعل عمله أو ان يحجبه عنك والكنيسة هي انت والمسيح والذين يحبونه بحق. كافح حتى يسترد المخلص التائهين عن دربه واذذاك تكون معهم ولو لم تر وجوههم. اعلم انت انك حي بمحبة يسوع التي تنزل عليك.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

موجوع أبدًا بحب السماء / السبت في 26 تشرين الثاني 2005

أرى نفسي على جهل كثير. ما تعلمت الرياضيات في صباي حسناً وما اقبلت على الحاسوب. خفت. اجيء من حضارة اخرى فيها كلمات. كلمات – رموز تحكمنا اليوم. تعرفها الشبيبة. لا اعرفها. ربما تعود هي ايضا الى الكلمات التي اجيء منها.

يلحنون اذا قرأوا اي انهم يجهلون قواعد اللغة. عقلك انت يجيء من اللغة بعد ان جاءت اللغة منه قديماً. اذا ألحن عندي قارئ في الكنيسة او ألحن مذيع شعوري الاول ان خللاً عقلياً اصابه وسرعان ما ادرك ان عقله لا يحتاج الى نظام اللغة. كانت عندي خادمة اسمها ليلى اخبرتني اول استخدامها انها امية مع انها كانت تفهم اخبار الاذاعة (الفهم له سراديبه). كانت ترتب مكتبي كل يوم وكان يصعب علي ان اصل الى الاوراق التي كانت متراكمة قبل تدخل ليلى بلا ترتيب. فكنت ألحّ عليها باهمال مكتبي لئلا يحجب ترتيبها عدم ترتيبي الذي كنت اعرف ان استدل منه على ما احتاج اليه.

صرت افهم ان حضارة الحاسوب وما يستتبعه من آليات وتالياً من معارف صندوق مقفل لم يبق لدي وقت ولا قوة ولا فضول لالج اسراره. وفي مطلع شبابي لم يكن يزعجني اني لا افهم الرياضيات التي كان يقال في اوساطنا المدرسية انها تروّض العقل حتى ان المتعصبين لها كانوا يذهبون الى انك ان كنت خالياً من عقل رياضي لا بد ان فيك نقصاناً ما. وانا كنت اذهب الى انك قادر على ان تروض عقلك باللغة فقط وان تصقل احساسك بالشعر ثم ان تتربى على الفلسفة حتى التقيت ناساً لا يتحسسون الشعر اطلاقاً ولا تجذبهم الموسيقى الاوروبية ويعيشون مع ذلك عيشاً معقولاً في التجارة والمال والعائلة. ولاح لي من خبرات متنوعة ان الانسان يستطيع ان يحب زوجه واولاده بلا شعر مسبوك وان يكتفي بالطرب الشرقي الذي يصل الى كل الآذان عندنا والى كل القلوب.

غير ان ما هالني من زمان طويل اني لست فقط مقصراً في العلوم الدقيقة الطبيعية واني مقصر في كل علم. ربما بسبب ازدياد اتعابي وتنوّع امراضي بت منجذباً الى الطب كثيراً ويعجب طبيبي الخاص بوصفي الدقيق لاعراض المرض عندي. ولما قوي انشدادي الى الطب تعمق فهمي للانسان ولوحدته وادركت ان العلوم التي تلقيتها وكلها من نطاق اللغة غير كافية. الحقوق لغة واللاهوت لغة. ذلك انك تعالج نصوصاً تعربها فتفهم وتصير من عندك نصاً آخر فيفهمك الآخر.

كل شيء خطاب. واذا عدنا الى البدايات نقول: “في البدء كان الكلمة”. فإذا كان في البدء فهو قبل البدء اي انه خطاب الله. المسيحي يحمل حديث الله اي يحمل الله لان الله لم يكن يوماً بلا خطاب. فإذا ابتغيت الله تذهب الى فكره وفكره في ما قال او في من قال. الله مقول وبمعنى، ابنه نصه والانجيل نص النص.

هنا تواجه مسألة كبرى انك تصل الى الله من خلال نصه. هذا لا يعني انك تصل بعقلك فقط لان النص ليس فقط عقلياً. انه ينزل الى القلب. يقرأ القلب ايضاً بلا لغة. ومن هنا يقيني ان الله ينقلك الى جوفه بلا كتاب الهمه او اوحاه. هذا شأنه مع عباده. ولكني انا العارف بكتبه مقيد بمعرفتها ولست حراً ان اطلع عليها او لا اطلع. انا لا استطيع فقط ان اتصل بالله من طريق الروح او القداسة – واتصالها اعظم اتصال – اني مضطر الى ان اتصل من طريق الفكر الذي ليس مجرد فكر على طريقة “انا افكر، اذاً انا موجود”. انا اعرف اناساً لا يعقلون امراً الا وهم في قلوبهم. هناك كتّاب تأمليون هم بالدرجة الاولى مفكرون اي يسطعون فكراً مبنياً، مترابطاً، عاقلاً ومعقولاً ولكنه مع القلب دائماً في تماس بحيث لا تعرف اذا كان منطلقهم شعوراً بحتاً او فكراً محضاً ولكنك تشهد مزاجاً عجيباً بين مشاعرهم والعقل.

في تصوري انه ليس من فيلسوف محض على لباس الجفاف الذي تراه عليه احياناً، لا شيء يصدر عن الانسان غير مرتبط بالقلب. انا لا اقول ان المفكرين هم الطبقة العليا من الناس البسطاء قد يكونون اعظم اذا كانوا على كثافة رهيبة من المحبة.

قلت لكم كل ذلك لاقول اني لست نادماً على اني لم اقرأ كل شيء. سأموت جاهلاً ليس فقط للعلوم التي ذكرت لكم اني اجهلها ولكني سأموت وانا لا اعرف في بلدي او في غير بلدي من وددت ان أعرفهم اذ كنت أحس بأن عندهم الكثير مما أردت أن أتزوده، ما لم أعرفه أو من لم أتعرف عليهم فراغات في نفسي او فراغات في قلبي. ولكن ما العمل؟

ما المصير انك لم تقرأ كل شكسبير وكل المتنبي او كل دوستويفسكي اذا أخذت الجمال الادبي. قد تهزك جماليا سورة يوسف أكثر من نصوص كثيرة. انا لم أقرأ متصوفين كثيرين وعددا من آبائنا القديسين. ولكني قرأت اشعيا وايوب وانجيل يوحنا. وهذا يسد جوعي الى الحق. صبغتك بالحق هو النور الذي يصل اليك وهو دليلك الى النور الذي لم يصل. ليس من بشر يعرف كل شيء وفي هذا أحد مفاتيح التواضع والتواضع أعظم من المعرفة.

قد تصل الى الكثير من علم التفسير اذا كنت عاشقا لتداول النصوص اي أنك قادر على ان تصل الى دقائق كلمات إلهية، الى ما تكشف والى ما تخفي وقد تصل الى العلاقات بين سفر وسفر من الكتاب الالهي وتفهم تعاقب الاسفار والقصد الالهي من هذه السطور مركبة، متراصة، ساطعة، راقصة ولكن لا تكون بالضرورة واصلا الى عتبات الله لان الله أعظم من الكلمات التي قالها وهو ان كان فيها الا أنه ألهم واحدا ليقول: “ان الله أعظم من قلوبنا”. أي انه يسكنها ولكنها لا تستوعبه واذا أنت انتقلت اليه في اليوم الاخير تسقط عليك أنوار منه فتحيا بها. ذلك انه دائما يتعالى وانت اليه كالمرأة النازفة الدم التي لمست هدب المسيح فشفيت.

لماذا كل هذه العلوم، لماذا كل هذه الآداب وهذه الحضارة؟ الله خبئ في كل هذه وعليك ان تسعى اليه في مخابئه. وان أخطأت هذا القصد يكون تعاطيك هذه الامور مفيدا لمعيشتك هنا وتكون قد ظننت ان الله مكشوف فقط في الكتب المقدسة، لا تكون قد قرأت كل تجليات الله. أما اذا فاتك شيء من المعارف – كما فاتني أنا – فالله يعرفك بلمساته وبحضوره فيك والمهم ان عرفت أشياء ألا تستكبر. ان جهلت أشياء لا تبرر كسلك اذ يخشى ان تفوتك جمالات الهية خفية في العلوم او الشعر والفنون بعامة. تكون قد أهملت الله، ومع ذلك يغفر الله لك جهلك كما غفر لي جهلي على ما أحسب. انه يعوضك بملاطفات لا يسوغ النطق بها. وفي كل حال الله يغنيك ان كنت من العارفين او من الجهلاء.

إذهب عن هذه الحياة مطمئنا الى الرحمة التي هي تكملك. ذلك ان الجهل جهل الفضائل والمتع السموية. بعد كل هذه النواقص والتحولات في دنياك المهم ان تحس أنك “موجوع أبدا بحب السماء” كما تقول حنان عاد في “لؤلؤ الروح على صهوة القيمة”. اذا بقيت على هذا الوجع تبدأ رحلتك الى القيامة.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

تحب قريبك كنفسك / السبت 19 تشرين الثاني 2005

هذه الوصية التي يرجع بها الى يسوع الناصري هي في الحقيقة من العهد القديم ولكنها جاءت في سفر اللاويين هكذا «لا تنتقم ولا تحقد على ابناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك» (18: 19) ما يشير الى انك تحب فقط بني قومك. وسع العهد الجديد الوصية بجعل كل الناس محبوبين. غير ان الصيغة التي وردت فيها الوصية «تحب» أو «أحبب» توضح ان المحبة امر الهي وانها ليست فقط مجرد تحرك عاطفي فقد يحس قلبك او لا يحس. فالمحبة اذا شريعة معناها هو هذا:يجب ان تحب قريبك كنفسك.

الفكرة الظاهرة في العهد العتيق هي ان هناك ما يربطك بالمحافظين على الشريعة وهم من امة الابرار. هذا هو رباط المقدسين. انت ان احببت تدعم الكيان الالهي-الاجتماعي القائم في امة اليهود.

مع المسيح انت لا تنتمي الى امة. تشكل انت بالحب امة المحبوبين. لذلك عندما سأل احد اللاهوتيين يسوع من هو قريبي حكى له حكاية معروفة بمثل السامري الشفوق الذي تحنن على جريح يهودي كان ملقى على الطريق فأقبل عليه وآواه وطببه. فعن هذا السؤال من هو قريبي اجاب السيد بسؤال: من ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص. قال الذي صنع معه الرحمة فقال له يسوع اذهب واعمل كذلك. والمعنى ان كل انسان غريب عنك حتى تطل على اوجاعه وعزلته. لا يسأل اذا عمن ترحم. انت ترحم ببساطة. ومن ساعدته يصبح من الاحبة. وتتشكل هكذا امتهم بالمحبوبية.

لماذا قالت الشريعة يجب ان تحب؟ لا تترك الشريعة احدا على مزاجه. الشريعة لا تعرف حب الهوى فقد تهوى وقد لا تهوى. والذي تخاصمه قد يموت او انت تموت. واذا مات الانسان على الخصام فهو مفصول عن الآخر وتكون عرى الوحدة قد تفككت في الامة المقدسة. واذا اخرجت احدا عن المحبوبية تكون انت ايضا خرجت عليها وما بقي الله مشرقا على وحدة الوجود بينك وبين عدوك والكلمة هي «احبوا اعداءكم». فاذا احببته تزيل العداوة عن نفسك وقد تزيلها عن نفسه وفي كل حال لا تبقيه على غربته.

#  #

#

واذا كانت محبة الانسان للانسان شرعة لهما ومنهاج عيش فهذا يعني انها غير نابعة من صفات من كان عليك ان تحب. فقد يكون قبيحا بكل المعاني ومن كل الزوايا اذ لم يزين كل انسان بالبهاء الالهي ولا بالتهذيب البشري ولم يلحظ عليه احد لمسة من لمسات الحضارة. مع ذلك يجب ان تحبه لتنشئه نشأة جديدة. انت لا تحب احدا لكونه يستحق ذلك او لكونك تتوقع ان يبادلك العطاء فقد تكون نفسه بخيلة، جافة ولم تلطف بأحد. انت لا تنظر الى شيء من هذا لانك تحيا بالنعمة تنزل عليك وحسبك هي وهي وحدها تحول صحراءك الى جنات. فاذا كفاك الرب تحيا بملىء كيانك تدغدغك مودات او تحييك بدفء او تعكس عليك انوار الله ولكنك قد تحيا في صحراءالحب كما يقول مورياك وتحيا مليئا اذا عرفت نفسك حبيب الله.

انت تنجو بمحبة الله اذا قرأتها نازلة عليك وحسبك اياها. احيانا تحس ان احساس احد بك انعكاس لاحساس الله بك ولعل كل قيمة الحب العاطفي ان يجعلنا نشعر بابوة الله لنا. كل ما في الدنيا يمكن ان يصبح قراءة من الله فكل هذه الدنيا كتاب. طوبى لذاك الذي يعرف ان يهجىء اسم الله على سطور.

#  #

#

اذا ما توسعنا بالوصية على ما اراده المسيح فقلنا ان القريب هو من نبادر الى رحمته وخدمته حتى النهاية فاحبب قريبك كنفسك ينبغي ان تعني احبب قريبك على نفسك. اذ نقع في التفاهة لو قلنا انك تغذي القريب بالطعام مثلا كما تغذي جسدك اذ يفترض الوضع احيانا ان تنزع اللقمة من فمك لتطعم الآخر وان تعري جسدك لتكسو جسد الآخر. فالتوازن الحسابي بين طعامك وطعامه او كسائك وكسائه يعني انك لا تحب بالحقيقة حتى النهاية. يعني انك تريد ان تعيش بكل الوسائل وتعطي مما لا يمنع عنك العيش. التوازن يعني لك انك موجود وقد تعني المحبة احيانا انك تنكر وجودك ليحيا الآخر.

ان الوصية لم تأخذ كل مداها الا مع ذاك الذي احب البشر جميعا على نفسه فبذلها حتى الموت موت الصليب ولكونه اعتبر الناس بموته افضل من نفسه يؤهلنا هو ان نصوغ الوصية التي ابتدأت بتوازن اليهودي هكذا: أحبب قريبك على نفسك. فأنت لادراكك محبة الله اياك في المسيح متّ ام امت العالم فيك فلا تشعر انك قائم بذاتك وان فيك شيئا حسنا ولكنك تؤمن ان المسيح يوجدك لانه مات فتحول هذا الوجود المجدد فيك الى كيان الآخر فينوجد بعد ان كان في هزالة الوجود. انك تحب الشخص بغض النظر عن خصاله او عيوبه. فقد يكون قبيحا كما كان وجه المسيح على الخشبة. ليس المهم ان ترى جمال احد لتحبه. انت لا تضمه اليك انت تضمه الى صدر المسيح. انت لا علاقة لك بمن تحبه في المسيح. فقد يحتاج اليك اليوم ولن يكون في حاجة اليك غدا. تحول وجهك عنه لتذهب الى وجه آخر لترحمه. قد تساعده كثيرا وقد تساعده طويلا. ان وجهه صار وجه المسيح. «كنت جائعا فأطعمتوني» وطبعا كان يتكلم عن جوع الجياع لا عن جوع نفسه. فلكونك صرت خادما بالانتباه تلازم من تخدم. توآسي. تعزي. تطعم. تكسو. ترشد  كل هذا تعمله بسبب ظرف جعلك تعرف الحاجة فتقترب وتنسكب.

من اعطيته قد يتأثر بانتباهك وقد يرد لك عطاءك بعاطفة وقد يدخلك قلبه. انت لا شأن لك بذلك. خطر العاطفة هذه ان تجعلك تحس بأهمية العطاء عندك. انت لا تتخذ بالعطاء مقاما في نفسك. انت لست بشيء امام عينيك. انت تحب ليدرك الآخر محبوبيته لدى الله. فاذا رد اليك المحبة تكون قد نلت مكافأة. لا مانع من ذلك ولكن ليس هذا مهما. الاهمية الوحيدة في انسكاب الناس في الناس ان يجاوروا الله جميعا بانشدادهم الى فوق.

في الحقيقة انك تعطي المسيح، لان الآخر يقيم فيه المسيح، بسبب من العوز. المسيح هو الفقير الكامل، المطلق الذي لم يأخذ من الانسانية الا الرفض. فأنت اليه ومعه في المتألمين جميعا. المحب والمحبوب صارا واحدا بسبب وحدانية المسيح الذي بدد بدمه العطاء النابع على الدوام من قلب الله. المقيم في الله يقيم وحده الله في البشر. واما ان اقمت نفسك في الآخر فأنت لا تقيم فقط حلاوتها ولكنك تقيم ما فيها من قباحة ايضا. لك ان ترتضي القليل ولكن هذا لا يشبعك. طبعا العاطفة تغتذي من العاطفة وقد يكون فيها قبس الهي. ولكن الشعور الالهي المجرد من الانا يبذل الانا وعندئذ ينكشف الله للآخرين. المهم ان تنقل الله وايمانك بالله. انا لا انكر عليك شرعية تحركك العاطفي وسرورك بالتبادل بين قلب وقلب. هذا لك أجر فلا تتمسك بمن تعطيه لان مبتغاك ان يحول وجهه الى وجه ربه ليشكر ويحيا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الإناء وعطره / السبت في 12 تشرين الثاني 2005

يعاني المؤمن هشاشة نفسه كل حين اذ يرى جمال الله دوما فيحس انه لم يدرك هذا العلو الذي دعي اليه. فهذا العلو وعد ولن يحقق كله في هذه الدنيا اذ لا ينزل من الوجه الالهي الا انقشاعات تلطف بنا ما دامت ويعزينا رجاء عودة مثيلاتها في الايام المرجوة.

وما كشفته الخبرة الروحية من هذا اكده الوحي على لسان الرسول: “ولنا هذا الكنز في آنية خزفية” (2كورنثوس 7:4). فالذهب يضاد التراب. والتوّاقون الى التوبة يرون الاثنين معا، يرون الذهب في وجه الله والتراب في كل كيانهم ولكنهم يعرفون واجب وضع الذهب في الآنية الترابية التي هي هم حتى يطرح الرب عنا الطين في اليوم الاخير.

وعلى ترابيتنا نؤمن اننا خلقنا على صورة الله بحيث يكون لنا بهاؤه مرسوما فينا كما يكون الشمع مطبوعا بالختم. غير ان الختم يدلهم احيانا كثيرة ويكاد يختبئ. ان تركيبتنا الطبيعية على صورة الله لا تضمن بقاءنا احرارا من الخطيئة لان الكتاب نفسه يؤكد الشبه في المنطلق بيننا وبين الله كما يؤكد السقوط والسقوط قد يأخذ الانسان الى الدرجات الدنى منه. ومع ذلك يؤكد آباؤنا اننا في كل حال نلبث على صورة الله ونتوق الى ان نصير الى مثاله. ولكن حتى اذا احسسنا بالقربى وان النعمة تهبط علينا كثيرا ينبغي في آن واحد الا ننسى اننا نحمل هذا الجسد اناء خزفيا معرضا للكسر وان النعمة وحدها قادرة على جبره اذا انكسر.

وهنا لا بد ان نجتنب الخوف من الكسر اذ نحن مدعوون الى القيامة الاولى في هذا العالم المحققة بالتوبة. كذلك لا بد من اجتناب الاغتباط الذي يقع فيه بعض الاتقياء لكونهم يؤدون الصلاة في أوانها ويشعرون ان قلوبهم امست في حالة الطوبى. الخطأ ظنهم انهم لا يتزعزعون والويل لهم اذا وقعوا في الخطأ الاكبر اعني الاستكبار اذ يفنى عندهم، اذ ذاك، الفقر الى الله.

اما الخطأ الذي يتعرض له الضعفاء او الذين نستضعفهم هو ان يحسبوا انهم فقط آنية خزفية وان ينسوا الكنز الذي تحتويه. ذلك ان الخطيئة تسمرك ان انت حدقت بها كل حين وتجعلك احيانا تستصوبها فتنسى قدرة الله على ان ينيبك اليه ويضمك بحنانه.

واعلم ان الله عطر وانه يعطر الآنية التي انسكب فيها وانها اذا ما انكسرت فتذكر به والاصل العطر لا الإناء. غير ان بعض الناس شديدو الحس بوضعهم الخزفي كما ان بعضاً منهم شديدو الحس بالعطر الذي يحملون.
ليس الانسان قادرا على التشوه الكامل او البشاعة الكاملة. هناك دائما بصيص نور، حضور الهي في كبار المجرمين. لذلك هم قادرون على العودة. ولا يعلم إلا الله العائدين اليه. ان الشرق البيزنطي يقف بقوة ضد من يقول ان الخطيئة افسدتنا كليا. هناك دائما بذرة انبعاث وتجديد الخلق فقد اضحى الانسان بالمسيح خليقة جديدة وما سيكون في حالة البلورية الكاملة في اليوم الاخير انما باشر الله الآن وهنا عملية تبلوره وهذا هو الايمان العامل بالمحبة.

اجل الخلاص شيء جدي لا يتم الا بالعرق والدم ومكانه الصليب الذي منه تسير الى القيامة الكاملة بعدما ذقتها فيه. الخلاص غير مكتمل ههنا لتستريح فيه. لا، انت تكد وتكدح ولكن على الرجاء لأن الخطيئة شيء جدي لا بد من استئصاله. هناك خطأ اول ان تعيش في رعب الخطيئة كأنك بلا رجاء وهناك خطأ ثان ان تعتبرها امرا سهلا مرميا على نعمة الله ورأفته. ولا تعبأ بجسامتها. وقد راعني في حياتي الرعائية ان بعض المسترشدين لا يولون اهمية كبرى لمعاصيهم كما ان ناساً آخرين يستعظمون من ذنوبهم كأنها لا تفنى في طول الاناة الذي يحيطنا به الرب.

لماذا ترك الله الإناء خزفية على خزفيتها مع انه اجرى للانسانية الخلاص في يسوع المسيح؟ بكلام آخر لماذا لم ينه الله التاريخ عند الجلجلة حتى لا يبقى في بشري خزف؟ هذا سر لا يسبر غوره. لماذا لم ينقضّ الحب الالهي نهائيا ليحرق الخطيئة مع ان السيد ابطلها في جسده؟ يقول كولمن وهو احد اكابر المفسرين للكتاب ما مفاده ان الشيطان بعد موت المخلص يشبه عسكراً مهزوماً لا يزال يضرب سهامه مؤخر العسكر المنتصر.

لعل بقاء التاريخ مرده الى ان الله أراد ان نكون شركاءه في الخلاص بحيث نقوم نحن بدورنا فيه، بحيث نقبله. مثل على ذلك مائدة الطعام. هناك من يهيئه ويضعه على المائدة (هذا هو دور الله، هذا هو الخبز السماوي) ثم هناك من يأكل وهذا هو دور الانسان. انت لا تنشىء الخلاص وبهذا المعنى ليس لله شريك فيه ولكنك انت ترتضيه بالايمان ومكافحة الخطيئة. المعنى الاساسي للزمان ان تأتي البشرية كلها معاً الى الخلاص الذي تم. ربما كانت الأزمنة في تعاقبها ومكاشفتها وما قالته تؤتي الانسانية النضج. هذا لا شك فيه على مستوى الثقافة. ولكن على مستوى القداسة لا يعطي تقادم الزمان شيئاً. نحن في الجهل الكامل لحكمة الله في هذا الباب.

ولكن اذا اعتبرنا الانسان الفرد وليس الانسانية بأكملها فماذا يعني له زمانه؟ انت تفهم فائدة العمر للنضجح أعني فائدة الخبرة وعند بعض تكون التوبة اوضح أو أعمق ولكن ليس ذلك بالضرورة فقد ترى الحقد والبغض والتسلط وما اليها كبيرة عند الشيوخ. لماذا طال العمر ربك وحده يعلم. انت عليك ان تفيد من الوقت لتطلب لنفسك السلام.

عند الأسقام والضعفات والهبوط النفسي في سن متقدمة ترجو من ربك التواضع الذي لا يحل عليك الاّ من بعد انكسار. ربما كان من الضروري ان يرضّ هذا الجسم ليدخل الى النفس شيء من السلامة أو شيء من الطراوة اذ القسوة رهيبة في كل حال. والقسوة تحطم الآنية الخزفية الى ان تجبرها وداعة يسوع والذين هم له.

هناك جروح لا تندمل. مع هذا قال غير كبير عندنا ان الذي ارتكب خطيئة تكون هدايته عظيمة. طبعاً لست في حاجة الى ان أبين ان هؤلاء الأباء لم يدعوا الى الارتكاب ولكن دعوا الى الافادة من السقوط اذا حصل. ذلك ان الوجع الحاصل لك من الذنب يبكيك ويرض عظامك. طبعاً ليس حسناً ان تكسر الآنية ولكنها عند تحطمها يذكر الانسان انها كانت تحوي عطراً الهياً فينسى ما تكسر ويبقى على ذاكرة العطر.

Continue reading