فردوس دير إيطالي / السبت 24 أيلول 2009
هل في الأرض فراديس تكشف الملكوت الذي أعده الله للذين يحبونه؟ من هذه الاطلالات الملكوتية عند الجانب الايطالي من الألب وانت ذاهب من تورينو ينبسط دير بوزه Bose على الخضراء والثمار والغاب ويقوم ناسه في منازل من حجر وخشب وقرميد وكل بناء ينسق بين هذه ويأكلون من تعبهم فقط رافضين كل هدية ليكون لله وحده فضل عليهم وعلى ايديهم. وما أنزل عليهم من حب وكرم وبركات صلاة وتلاوات الهية ينحت شخصيتهم على طراوة وبساطة ومباشرة صلة وهم مسكوبون بلطف يأتي خدمة ودقة انتباه لأن الضيف عندهم هو الملك بلا مساءلة لفكره أو تحرش بهواجسه.
هذا يعني انهم لا يحشرونك في قالب فلا تحس انك ضيف خاضع لقواعد فتمشي الأمور كلها ليمحى الفرق بين الضيف والمضيف.
هم رجال ونساء يرتدون ثياباً مدنية عادية بسيطة الا في الكنيسة حيث لهم لباس خاص أبيض. يصلون صفين مختلفين ويقيمون صلاة هم وضعوها تقوم على مزامير وأناشيد وتلاوات من الكتاب أو أدب روحي وما ألفوه في الإنشاد عميق المعاني مجرد من الانفعال العاطفي وملحن على مقام واحد اذا ساغت الاستعارة بحيث يتمكن الضيوف من مشاركتهم في الأداء.
بعد الصلاة فكر وعمل. لست أعلم ان كانوا يحصلون اللاهوت في كلية لاهوت أم لا ولكن المؤكد ان معرفتهم عظيمة لأن مكتبتهم تحتوي حوالي خمسين ألف كتاب في مختلف اللغات بما فيها موسوعات عدة. والثابت أيضاً انهم ينقلون كتبا لاهوتية الى الايطالية بما فيها مؤلفات لغير الكاثوليك كما يقرأون في الكنيسة أدباً روحيا لغير الكاثوليك.
ذلك ان هذه الأخوية الرهبانية تضم عدداً قليلاً من الإنجيليين واسقفاْ أرثوذكسياً متقاعداً لهم ما للكاثوليك وعليهم ما على الكاثوليك. انت تلحظ في الواقع ان هؤلاء يتعايشون بمحبة ويحفظون معتقداتهم واذا قرأت نصوص العبادات تلحظ انها “مسكونية” بحيث لا يفرض النص عليك مذهباً. قد تقبل ذلك وقد لا تقبل ولكن الفتح المبين تعايش سلمي لاخوة متباينين في العقيدة. ما رأيناه خلال أسبوع كامل استهل في 10 ايلول ان اساقفة وكهنة واساتذة لاهوت كباراً من الارثوذكسيين وقسساً من كنائس الإصلاح البروتستنتي اشتركوا في هذه العبادات ولكنهم لم يشتركوا في القرابين وكان للارثوذكسيين قداسان خلال هذا اللقاء الذي تم بين العاشر والثامن عشر من ايلول.
هذا هو الجانب اللاهوتي في حياة هذا الدير. أما الأعمال اليدوية فالزراعة على أنواعها ومشاغل نجارة وخزف فني ورسم ايقونات على الطراز البيزنطي. تقديري ان هذه الانحصارية تأتي من قناعتهم ان الشرق الارثوذكسي حافظ وحده للفن الكنسي وان سواه لوحات تأتي من قوانين الاستاطيقي أي من هذه الدنيا. فقد صار المشهد المعروف في الكنائس الكاثوليكية بعامة هو مشهد الانتقال من الصورة الى الايقونة بما يصحب ذلك من تفسير لاهوتي لهذه بعدما كان الغرب غير حساس للايقونة منذ ان حدد المجمع السابع المسكوني أي النيقاوي الثاني في السنة الـ787 عقيدة اكرام الايقونات.
لقد احتضن دير بوزه منذ احدى عشرة سنة اللاهوت الشرقي في مؤتمرين له كل سنة أولهما يتركز على الآباء الشرقيين وثانيهما على اللاهوت الروسي أو احداث الكنيسة الروسية. هذا الصيف كان موضوع اللاهوت الشرقي القديس يوحنا الدمشقي والموضوع الروسي راسم الايقونات القديس اندره روبليوف. واللافت ان المبحث فيهما قام على لاهوتيين أومؤرخين من الكنائس الشرقية ومن الكنائس الغربية ذلك لأن العلم علم لا أثر فيه لقراءة مذهبية. اليوم ومنذ سنين طولى يقوم الجميع ببحث أكاديمي ولا يختلفون في تحليل الاشخاص وآثارهم وتأثيرهم وبيئتهم.
ففي اللقاء الاول المخصص ليوحنا الدمشقي عند فجر الإسلام تناول لاهوت الرجل وكتابته العقدي والنقاش حول تاثيره في الفلسفة الإسلامية الناشئة كذلك حول مدى معرفته للإسلام ولا سيما انه لم يكتب في العربية. كان يعرف شيئاً من الإسلام وقد ساجل فيه وذلك في كتاب صغير في اليونانية. أما المساهمة الكبرى التي قدمها الى جانب كتابه الأساسي “الينبوع” بما فيه “الإيمان الارثوذكسي” فكان الدفاع عن الايقونة وقد تبنى دفاعه هذا المجمع المسكوني السابع.
وقد سيطر على البحث علم واسع لا تمييز فيه بين العلماء على الصعيد المذهبي. علم مدهش جداً تمنينا لو كان مثله في شرقنا وكله قائم على معرفة دقيقة للبيئة الأموية وللغة الإغريقية. وبين العلماء فرادة الرجل وعبقريته.
أما البحث في فَن روبليوف في القسم الروسي من المؤتمر فقام به في الدرجة الاولى علماء روس ولا سيما النساء وكان السعي الى معرفة كل أعماله وما سبقها وما رافقها مع التركيز على ايقونة الثالوث الشهيرة التي قد تكون من أجمل ما عرف الفن التصويري الارثوذكسي في كل أطواره. وفيها تتبين الإبداع في الزمن ذاك أي فترة أواخر القرن الابع عشر والخامس عشر.
طبعا تدرك الحياة الروحية عند روبليوف الذي لم يترك على وجه الدقة أكثر من 12 صورة الى جانب بعض الجدرانيات. هذه الروحانية المذهلة في كل ما وضعه جعل الكنيسة الروسية أخيراً تعلن قداسته وقدتوارت حياته الشخصية خلف ما تركه من آثار.
لم تكن الكنيسة الأنطاكية الارثوذكسية غريبة عن العطاء العلمي اذ أوكل الى احدنا ان يتكلم على “الخلاص في المادة” حيث كان التركيز على التجسد الإلهي واستعمال المواد في العبادات (الماء والزيت والقرابين الإلهية والايقونات) وحيث دار الحديث ضد ثنائية النفس والجسد وعن وحدة الكيان البشري وعن تجلي الانسان والكون.
هذه الأبحاث سوف تنشر باللغة الايطالية وكذلك أبحاث المؤتمرات السابقة نشرت في هذه اللغة ليتاح للجمهور الايطالي التعرف الى التراث الشرقي القديم من جهة والى التراث الروسي من جهة.
انفتاح الدير على كنيسة أخرى بهذه الصورة أمر نادر في العالم كله. هذا رجوع الى ينابيع المسيحية الاولى ولقاء في العمق بين الكنيستين.
الى هذا كانت غير مناسبة لتواصل العلماء والمطلعين في ما بينهم. لعل الأحاديث الشخصية لم تكن أقل نفعاً من التواصل الأكاديمي. لم يكن أحد منا يحس ان الآخر غريب. وما من شك في ان مشاركتنا في حياة الرهبان اعطتنا حيوية وفهما ما كنا عليهما قبل زيارة هذا الدير وقبل جلوسنا عند اقدام العلماء. كانت هذه خبرة عمق وانسكاب بركات جعلتنا نتبين اننا أدركنا وحدة في المسيح فيها تأجج كبير.
Continue reading