كتاب خالد / السبت في 30 تشرين الأول 2003
سأحدثكم عن كتاب خالد وعلى سبيل الحصر عن الفلسفة الدينية التي تبدو الهاجس الكبير في هذا السفر الكبير ولا أغوص على ديانة أمين الريحاني نفسه بسبب من القصص والبنية اللذين لا يتيحان لنا ان نحسب هذا المؤلف استعارة لسيرة ذاتية. فمن المؤكد ان وجه خالد مركب وأننا امام نص يريد الريحاني ان يراكم فيه من متاع دنياه الذوقية أشياء كثيرة من أهمها حديث ماروني في مطالع القرن العشرين عن كنيسته وحديث مفكر سوري نشأ في حضن التوحيد على غناه واستوعب الكثير من الثقافة الانكلوساكسونية التي كانت كالغرب كله تتغذى من المسيحية من جهة وترزح تحت أخطاء تاريخها من جهة وكل هذه محشو في حبكة رومنسية خلابة. ما أذهلني في الرجل أديبا ومتأملا انه ارتفع بقوة هذا السرد الى مستوى عال جدا في الادب العالمي.
قد تختفي بعض الحلاوات وراء الترجمة العربية التي كانت بين يديّ ولكن يبدو لي اننا نستطيع قراءة الفلسفة الدينية بلا تشويه كبير.
باختصار كلي لم أعثر في الكتاب على نكران عقيدة كاثوليكية إلا اذا اعتبرنا تعظيم الرجل للديانات الاخرى وانتماءه الروحي اليها لونا من ألوان التلفيق والمساواة بين الاديان تلفيقا. ولكن صاحبنا المتأذي من ممارسات الكهنة والرهبان يهجوهم هجاء مرا وكأننا امام اقرار نظري بالكثلكة ونفيا لبشريتها الساقطة ما يجعلك تحس انه يعلو في مقام التأملات العلوية ويسف في وصف المسالك وكأن له غيرة على كنيسة نقية وكأنه وريث لهذا اللذع الذي لذع به المبشرون الانجيليون الاوائل كنيسة التراث مع اني لم ألمس أي أثر بروتستنتي في كتاب خالد. يوغل في التنكيل حتى التهكم. هو ورفيقه شكيب “غسلا يديهما من كافة الخدعات والمكائد وكاهن الجالية السورية أحلهما من خطاياهما”. هذه السخرية لم تحل دون تأكيده انتماءهما الكاثوليكي.
ولكنك لا ترى عنده ارتباطا بين المسيحية والحياة الروحية التي يشتهيها لنفسه في أميركا. على ذلك وجه واحد وضاح هو وجه ذلك الراهب الطيب الذي كان يزرع الكرمة وكأن انسانيته الطيبة أتته من فتاة أحبها قبل ترهبه. وعلى رغم تعلق خالد بالنساء بحب او بشبق وفي كثرة من الاحايين بالخيال لا تراه يسائل نفسه عن مسلكيته هذه الا اذا استقرأت انت ان الحب وهو أرقى عاطفة في الكتاب كان المزكي لهذا التوثب الجنسي الذي كان عنده وفي هذا كان سباقا – عند حد تتبعي – ببضع عشرات من السنين لبيئات مسيحية متحررة تقول هذا القول. هنا لا أرى فصاما في شخصية خالد ولئن أدركت ضعفات عند من تمسك بأهداب الدين او الديانات المختلفة التي يقول بها جميعا هنا وثمة. النص تلفيقي ما في ذلك ريب. هل الشرق المتعدد المذاهب والبهائية منها يدفع الى هذا الموقف؟ هل البراغمية الانكلوساكسونية الموغلة فيه ترادفها النسبية العقدية؟ هل سحرته بعلبك بوثنيتها وقبضت عليه عشتروت الجبيلية وفي موضع يدين بالآلهة هي ثقافته الروحية الكاملة ام ان سوريا التي هي بلده بوتقة منذ فجر وجودها وخلال كل تاريخها البوتقة التي تنصهر فيها كل الديانات ولم تخرجه اميركا المتعددة المذاهب من هذه البوتقة.
كيف توفق بين تأكيده ان الكنيسة أمر حيوي وجوهري بالنسبة الى العافية الروحية وانتمائه الى كل الديانات بآن معا؟ ما هي مكانة التقمص التي تذكر مرة واحدة في الكتاب بين هذه الاديان التوحيدية التي تنكر التقمص بوضوح لقولها بالقيامة. مرة يقول: “انا مسيحي بنعمة الله” مرددا صيغة من كتاب التعليم المسيحي الذي تربى عليه الاطفال الكاثوليك في العالم.
اذا رمنا اعتبار الرجل منطقيا يبدو لي ان همّ صاحبنا هو الصوفية منذ العهد الفينيقي الذي كثيرا ما عاد اليه. يقول الفينيقي الصوفي ويقول التقشف الصوفي. على ذلك ليس التصوف عنده قائما في ذاته، اذ يؤكد ان الايمان هبة سماوية. للتصوف اذا مضمون وليس مجرد موقف تأثري. ينزل التصوف اليه من الايمان ويبقى السؤال أي ايمان او أية عقيدة. بعد صدور الكتاب بعشرين سنة يرى برغسون التصوف في غير تراث على ترجيحه المتصوفة المسيحيين. أظن ان خالدا في الاخير لا يرى الا هذا الخط المتعالي على كل المؤسسة الدينية.
أجل لا يخلو أمين الريحاني من رؤية التناقض بين المؤسسة الدينية والروحانية اذ يقول (ص160): “انا أكره هذه الأبوة الروحية حين ترتدي ثوب الكاهن وقلنسوة الراهب وسترة الحاخام الطويلة أو جبة الشيخ”. وهذا ما أعلنه على الملأ: “قداسة الفرد، وليس العائلة او الكنيسة”. بكلام آخر لم ير ان الكنيسة هي حركة الله الى الناس في قول الرب: “سأكون لكم إلها وتكونون لي شعبا” بمعنى ان الله يتحرك نحو البشر وهم يتكونون بحركته اليهم. وفي هذا المعنى ليست الكنيسة جسما مجتمعيا ولكنها كما يقول سرجيوس بولغاكوف حياة في المسيح. هناك غشاوة منعت الريحاني ان يرى ذلك وأن يغفر للناس زلات لهم وتقصيرا. قد يكون معظم رواد النهضة قوما لا يرون الكنائس الا مجتمعات طائفية يضغط عليها تاريخها وتولد مسوخا. كيف يجمع هذا الى تأكيداته المتكررة على انه مسيحي؟ في ذروة الرفض يقول: “هناك نجم واحد فحسب في هذا الفضاء الغسقي الغامض فوقنا، وهو لكم مثلما هو لي أنا. وذاك النجم إما ان يكون الاخير في الظلمة الابدية او الأول في الفجر الطالع. اما انه النجم الاول او الاخير في الليل. ومن ذا الذي يقول لنا ايهما هو؟ ليست الكنيسة، على وجه التأكيد ولا هي الدولة الى ان يقول “ان كل فرد من الناس عليه ان يفكر لنفسه وان يريد لنفسه”.
يبقى الله عنده غير منازع فيكره الالحاد ويحتقره. ربما لأنه تأكيد او جزم لا سند له. ولكن على تأرجح الكاتب الدائم بين قيام الكنيسة والغائها يرى الانسان في الظل الناقص الشبه الظل من الايمان والشك. بعيد هذا بأسطر يقول: “سواء أكان الدواء السحري هو الكنيسة الأم أو الشعر او الفلسفة او الموسيقى، فالنتيجة هي ذاتها ما لم يكن الباعث المحرك صادقا متدينا باخلاص. ونقي التقوى، وساميا وانسانيا”، دينيا ومتدينا باخلاص ولكن أين وبأي ممارسة أي بأي فعل تجسدي لهذا الايمان. ليس نفي للمعابد ولكن ليس من تأكيد لها حقيقي. المهم تربية كرمة للعنب وزراعتها وهذه التربية يجب “ان تكون بصدق واخلاص ورع”. ولا مانع من ان تكون الكنيسة الى جانب الكرمة. أجل لم يخطر على باله ان الناسك الذي ينتج العنب انما قصده الاساسي ان يجعل كأس الخلاص ريا لا مهرب اذا من الجماعة المصلية.
ليس عند الريحاني فرادة في انتقاد الكنيسة المسيحية. كل هذا قيل منذ القرن الثالث وردده الغرب العقلاني والفلسفة العلموية. الريحاني يرى ان المسيحية والكنيسة يرعيان الجهل والتعصب. وعندي ان الجهل والتعصب قد يكونان مسببين اكثر منهما سببين ويختاران الدين وسيلة فالنفس أمّارة بالسوء أكانت دائنة ام غير دائنة وعند كتابة خالد ما كانت الماركسية اللينينية قد ظهرت ولا النازية ولست أعرف في الحياة التاريخية تعصبا وتقتيلا مثل هذا الذي انتجته الايديولوجيات. مع ذلك يصر على قول ان “أخرجوا من خرافات الشيوخ وعلماء الدين، ومتاهات الصوفيين الجدباء، والمستنقعات المميتة لرجال اللاهوت والكهنة”. يريد صوفية ولا يريد صوفية. كنت أتوقع ألا يذهب أديب كبير كهذا الى التعميم الظالم وان يشهد أن رابعة العدوية التي يذكرها بحب والبسطامي وابن الفارض والحلاج وأوغسطينس وفرنسيس الاسيزي ويوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس بالماس وسواهم لم يغرقوا البشرية في مستنقعات مميتة. تحس كأن الرجل قهره كاهن الفريكة او قس في مانهاتن وانهما كل التاريخ.
متعب تتبع ظلم الرجل. هكذا، مجانا يقول ان اصلاح جمال الدين الافغاني ومحمد عبده باطل. “انه اصلاح يستند الى الشعوذة اللاهوتية والسفسطات او المغالطات التقليدية” في البحر الديني كله مذهب لا ينتقده ابدا وهو البهائية ومذهب يعجبه وهو الوهابية مع انهما على نقيضين.
ما ديانة خالد الأخيرة؟ أظن ان مفتاح قناعته قوله: “سأقيم مذبحا للروح في هيكل المادية، ومذبحا للمادية في هيكل الروح. ولكن الروحية عنده ليست النكران الزهدي للذات، هذا النكران الذي ينتهي الى نوع من البلاهة”. عنده اخلاص ثنائي للمادي والروحي. واذا فهمنا ان مادية الغرب – وهكذا يسميها – هي التكنولوجيا والعمل وبناء الدولة في لحظة يقول ان الغرب يعني بالنسبة اليه الطموح والشرق يعني القناعة حتى يؤكد: “قلبي يقيم دائما في الواحد منهما، وروحي في الآخر”. ما معنى هذا التمييز بين القلب والروح. مع ذلك لا نجد مرة تعريفا عن الروح. يبدو لي انها تلك الافهومة التي جعلت بين اميركا والمهجريين فاصلا وكأنها لفظة تحمل عندهم نوستالجيا الشرق.
الروحي والمادي معا بهذا العطف الغامض ليسا بديانة. ما ديانة خالد اذا في ما عبّر عنه صريحا؟ يقول حرفيا لرفيقته البهائية: “الحب هو الديانة الجديدة، والديانة الوحيدة… الحب هو بهاء الله – والله هو بهاء الحب”. وحتى لا تلتبس افهومة الحب او مضمونه قال هذا عندما كانت يده ممدودة الى صديقته وهنا قال: “كل شيء في الحياة يجب ان ينحل الى الحب. فالحب هو المذيب الالهي. الحب هو عظمة الله وبهاؤه”. قال هذا في موقع مغازلة فالحب هنا إيروسي ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالمحبة الانجيلية.
مع تركيز الرجل على الشرق والغرب والحديث عن الروح والمادة، مع قبوله ورفضه للديانات وذلك في حركة واحدة، في تلاوين هذه اللوحة الكبيرة التي هي ككتاب خالد يبدو لي ان قلب الكتاب هو لقاء الرجل بهذه الداعية البهائية التي أراد ان يوغل في جمالها وأبت يتحول من أراد ان يتنطح الى الفكر الى شاعر يغني المرأة ويجعل من لقائه بها ديانة يحملها في قلبه.
ألقيت هذه الكلمة، الخميس الفائت، في ندوة حول أمين الريحاني لدى “صادر للفن والثقافة”.
Continue reading