Monthly Archives

October 2003

2003, جريدة النهار, مقالات

كتاب خالد / السبت في 30 تشرين الأول 2003

سأحدثكم عن كتاب خالد وعلى سبيل الحصر عن الفلسفة الدينية التي تبدو الهاجس الكبير في هذا السفر الكبير ولا أغوص على ديانة أمين الريحاني نفسه بسبب من القصص والبنية اللذين لا يتيحان لنا ان نحسب هذا المؤلف استعارة لسيرة ذاتية. فمن المؤكد ان وجه خالد مركب وأننا امام نص يريد الريحاني ان يراكم فيه من متاع دنياه الذوقية أشياء كثيرة من أهمها حديث ماروني في مطالع القرن العشرين عن كنيسته وحديث مفكر سوري نشأ في حضن التوحيد على غناه واستوعب الكثير من الثقافة الانكلوساكسونية التي كانت كالغرب كله تتغذى من المسيحية من جهة وترزح تحت أخطاء تاريخها من جهة وكل هذه محشو في حبكة رومنسية خلابة. ما أذهلني في الرجل أديبا ومتأملا انه ارتفع بقوة هذا السرد الى مستوى عال جدا في الادب العالمي.

قد تختفي بعض الحلاوات وراء الترجمة العربية التي كانت بين يديّ ولكن يبدو لي اننا نستطيع قراءة الفلسفة الدينية بلا تشويه كبير.

باختصار كلي لم أعثر في الكتاب على نكران عقيدة كاثوليكية إلا اذا اعتبرنا تعظيم الرجل للديانات الاخرى وانتماءه الروحي اليها لونا من ألوان التلفيق والمساواة بين الاديان تلفيقا. ولكن صاحبنا المتأذي من ممارسات الكهنة والرهبان يهجوهم هجاء مرا وكأننا امام اقرار نظري بالكثلكة ونفيا لبشريتها الساقطة ما يجعلك تحس انه يعلو في مقام التأملات العلوية ويسف في وصف المسالك وكأن له غيرة على كنيسة نقية وكأنه وريث لهذا اللذع الذي لذع به المبشرون الانجيليون الاوائل كنيسة التراث مع اني لم ألمس أي أثر بروتستنتي في كتاب خالد. يوغل في التنكيل حتى التهكم. هو ورفيقه شكيب “غسلا يديهما من كافة الخدعات والمكائد وكاهن الجالية السورية أحلهما من خطاياهما”. هذه السخرية لم تحل دون تأكيده انتماءهما الكاثوليكي.

ولكنك لا ترى عنده ارتباطا بين المسيحية والحياة الروحية التي يشتهيها لنفسه في أميركا. على ذلك وجه واحد وضاح هو وجه ذلك الراهب الطيب الذي كان يزرع الكرمة وكأن انسانيته الطيبة أتته من فتاة أحبها قبل ترهبه. وعلى رغم تعلق خالد بالنساء بحب او بشبق وفي كثرة من الاحايين بالخيال لا تراه يسائل نفسه عن مسلكيته هذه الا اذا استقرأت انت ان الحب وهو أرقى عاطفة في الكتاب كان المزكي لهذا التوثب الجنسي الذي كان عنده وفي هذا كان سباقا – عند حد تتبعي – ببضع عشرات من السنين لبيئات مسيحية متحررة تقول هذا القول. هنا لا أرى فصاما في شخصية خالد ولئن أدركت ضعفات عند من تمسك بأهداب الدين او الديانات المختلفة التي يقول بها جميعا هنا وثمة. النص تلفيقي ما في ذلك ريب. هل الشرق المتعدد المذاهب والبهائية منها يدفع الى هذا الموقف؟ هل البراغمية الانكلوساكسونية الموغلة فيه ترادفها النسبية العقدية؟ هل سحرته بعلبك بوثنيتها وقبضت عليه عشتروت الجبيلية وفي موضع يدين بالآلهة هي ثقافته الروحية الكاملة ام ان سوريا التي هي بلده بوتقة منذ فجر وجودها وخلال كل تاريخها البوتقة التي تنصهر فيها كل الديانات ولم تخرجه اميركا المتعددة المذاهب من هذه البوتقة.
كيف توفق بين تأكيده ان الكنيسة أمر حيوي وجوهري بالنسبة الى العافية الروحية وانتمائه الى كل الديانات بآن معا؟ ما هي مكانة التقمص التي تذكر مرة واحدة في الكتاب بين هذه الاديان التوحيدية التي تنكر التقمص بوضوح لقولها بالقيامة. مرة يقول: “انا مسيحي بنعمة الله” مرددا صيغة من كتاب التعليم المسيحي الذي تربى عليه الاطفال الكاثوليك في العالم.

اذا رمنا اعتبار الرجل منطقيا يبدو لي ان همّ صاحبنا هو الصوفية منذ العهد الفينيقي الذي كثيرا ما عاد اليه. يقول الفينيقي الصوفي ويقول التقشف الصوفي. على ذلك ليس التصوف عنده قائما في ذاته، اذ يؤكد ان الايمان هبة سماوية. للتصوف اذا مضمون وليس مجرد موقف تأثري. ينزل التصوف اليه من الايمان ويبقى السؤال أي ايمان او أية عقيدة. بعد صدور الكتاب بعشرين سنة يرى برغسون التصوف في غير تراث على ترجيحه المتصوفة المسيحيين. أظن ان خالدا في الاخير لا يرى الا هذا الخط المتعالي على كل المؤسسة الدينية.

أجل لا يخلو أمين الريحاني من رؤية التناقض بين المؤسسة الدينية والروحانية اذ يقول (ص160): “انا أكره هذه الأبوة الروحية حين ترتدي ثوب الكاهن وقلنسوة الراهب وسترة الحاخام الطويلة أو جبة الشيخ”. وهذا ما أعلنه على الملأ: “قداسة الفرد، وليس العائلة او الكنيسة”. بكلام آخر لم ير ان الكنيسة هي حركة الله الى الناس في قول الرب: “سأكون لكم إلها وتكونون لي شعبا” بمعنى ان الله يتحرك نحو البشر وهم يتكونون بحركته اليهم. وفي هذا المعنى ليست الكنيسة جسما مجتمعيا ولكنها كما يقول سرجيوس بولغاكوف حياة في المسيح. هناك غشاوة منعت الريحاني ان يرى ذلك وأن يغفر للناس زلات لهم وتقصيرا. قد يكون معظم رواد النهضة قوما لا يرون الكنائس الا مجتمعات طائفية يضغط عليها تاريخها وتولد مسوخا. كيف يجمع هذا الى تأكيداته المتكررة على انه مسيحي؟ في ذروة الرفض يقول: “هناك نجم واحد فحسب في هذا الفضاء الغسقي الغامض فوقنا، وهو لكم مثلما هو لي أنا. وذاك النجم إما ان يكون الاخير في الظلمة الابدية او الأول في الفجر الطالع. اما انه النجم الاول او الاخير في الليل. ومن ذا الذي يقول لنا ايهما هو؟ ليست الكنيسة، على وجه التأكيد ولا هي الدولة الى ان يقول “ان كل فرد من الناس عليه ان يفكر لنفسه وان يريد لنفسه”.

يبقى الله عنده غير منازع فيكره الالحاد ويحتقره. ربما لأنه تأكيد او جزم لا سند له. ولكن على تأرجح الكاتب الدائم بين قيام الكنيسة والغائها يرى الانسان في الظل الناقص الشبه الظل من الايمان والشك. بعيد هذا بأسطر يقول: “سواء أكان الدواء السحري هو الكنيسة الأم أو الشعر او الفلسفة او الموسيقى، فالنتيجة هي ذاتها ما لم يكن الباعث المحرك صادقا متدينا باخلاص. ونقي التقوى، وساميا وانسانيا”، دينيا ومتدينا باخلاص ولكن أين وبأي ممارسة أي بأي فعل تجسدي لهذا الايمان. ليس نفي للمعابد ولكن ليس من تأكيد لها حقيقي. المهم تربية كرمة للعنب وزراعتها وهذه التربية يجب “ان تكون بصدق واخلاص ورع”. ولا مانع من ان تكون الكنيسة الى جانب الكرمة. أجل لم يخطر على باله ان الناسك الذي ينتج العنب انما قصده الاساسي ان يجعل كأس الخلاص ريا لا مهرب اذا من الجماعة المصلية.

ليس عند الريحاني فرادة في انتقاد الكنيسة المسيحية. كل هذا قيل منذ القرن الثالث وردده الغرب العقلاني والفلسفة العلموية. الريحاني يرى ان المسيحية والكنيسة يرعيان الجهل والتعصب. وعندي ان الجهل والتعصب قد يكونان مسببين اكثر منهما سببين ويختاران الدين وسيلة فالنفس أمّارة بالسوء أكانت دائنة ام غير دائنة وعند كتابة خالد ما كانت الماركسية اللينينية قد ظهرت ولا النازية ولست أعرف في الحياة التاريخية تعصبا وتقتيلا مثل هذا الذي انتجته الايديولوجيات. مع ذلك يصر على قول ان “أخرجوا من خرافات الشيوخ وعلماء الدين، ومتاهات الصوفيين الجدباء، والمستنقعات المميتة لرجال اللاهوت والكهنة”. يريد صوفية ولا يريد صوفية. كنت أتوقع ألا يذهب أديب كبير كهذا الى التعميم الظالم وان يشهد أن رابعة العدوية التي يذكرها بحب والبسطامي وابن الفارض والحلاج وأوغسطينس وفرنسيس الاسيزي ويوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس بالماس وسواهم لم يغرقوا البشرية في مستنقعات مميتة. تحس كأن الرجل قهره كاهن الفريكة او قس في مانهاتن وانهما كل التاريخ.

متعب تتبع ظلم الرجل. هكذا، مجانا يقول ان اصلاح جمال الدين الافغاني ومحمد عبده باطل. “انه اصلاح يستند الى الشعوذة اللاهوتية والسفسطات او المغالطات التقليدية” في البحر الديني كله مذهب لا ينتقده ابدا وهو البهائية ومذهب يعجبه وهو الوهابية مع انهما على نقيضين.

ما ديانة خالد الأخيرة؟ أظن ان مفتاح قناعته قوله: “سأقيم مذبحا للروح في هيكل المادية، ومذبحا للمادية في هيكل الروح. ولكن الروحية عنده ليست النكران الزهدي للذات، هذا النكران الذي ينتهي الى نوع من البلاهة”. عنده اخلاص ثنائي للمادي والروحي. واذا فهمنا ان مادية الغرب – وهكذا يسميها – هي التكنولوجيا والعمل وبناء الدولة في لحظة يقول ان الغرب يعني بالنسبة اليه الطموح والشرق يعني القناعة حتى يؤكد: “قلبي يقيم دائما في الواحد منهما، وروحي في الآخر”. ما معنى هذا التمييز بين القلب والروح. مع ذلك لا نجد مرة تعريفا عن الروح. يبدو لي انها تلك الافهومة التي جعلت بين اميركا والمهجريين فاصلا وكأنها لفظة تحمل عندهم نوستالجيا الشرق.

الروحي والمادي معا بهذا العطف الغامض ليسا بديانة. ما ديانة خالد اذا في ما عبّر عنه صريحا؟ يقول حرفيا لرفيقته البهائية: “الحب هو الديانة الجديدة، والديانة الوحيدة… الحب هو بهاء الله – والله هو بهاء الحب”. وحتى لا تلتبس افهومة الحب او مضمونه قال هذا عندما كانت يده ممدودة الى صديقته وهنا قال: “كل شيء في الحياة يجب ان ينحل الى الحب. فالحب هو المذيب الالهي. الحب هو عظمة الله وبهاؤه”. قال هذا في موقع مغازلة فالحب هنا إيروسي ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالمحبة الانجيلية.

مع تركيز الرجل على الشرق والغرب والحديث عن الروح والمادة، مع قبوله ورفضه للديانات وذلك في حركة واحدة، في تلاوين هذه اللوحة الكبيرة التي هي ككتاب خالد يبدو لي ان قلب الكتاب هو لقاء الرجل بهذه الداعية البهائية التي أراد ان يوغل في جمالها وأبت يتحول من أراد ان يتنطح الى الفكر الى شاعر يغني المرأة ويجعل من لقائه بها ديانة يحملها في قلبه.

ألقيت هذه الكلمة، الخميس الفائت، في ندوة حول أمين الريحاني لدى “صادر للفن والثقافة”.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

وضعنا القانوني في أميركا/ الأحد 26 تشرين الأول 2003 / العدد 43

أبرشية نيويورك وأميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) أَحسّت انها تحتاج إلى ان يكون عندها وضع قانوني مميز او خاص يجعلها تدير شؤونها الداخلية بواسطة مجمع مكاني مؤلف من الميتربوليت والأساقفة بدءا من الحاليين وهم اربعة بحيث يسوس كل منهم منطقة تدعى أُسقفية فلا يبقى مَن كان عليها اسقفا فخريا بل يكون له شعب هو يرعاه وشيء من «الذاتية» تمنحه حرية الحركة على أرضه، وبحيث يتخذ لقب المدينة التي يعيش فيها لا لقب مدينة أثرية، دارسة في هذه البلاد.

ويبقى الميتروبوليت عضوا في المجمع المقدس كما يكون رأسا لهذا المجمع الإقليمي. ويحق للأساقفة ان يحضروا اجتماعات المجمع الأنطاكي اذا دعي اليه الأساقفة في الوطن والمهاجر الى جانب مطارنة الأبرشيات.

لقد ظهرت فكرة التمايز عن ابرشيات الوطن بتكوين مجمع خاص بأن العدد الكبير من المؤمنين يتأمركون. وقد اخذت هذه الأجيال تصلّي بالانكليزية وتنصهر في المجتمع الاميركي. مع ذلك يبقى عندهم حنين إلى أنطاكية وإلى جذورهم هنا. بعد سنوات عديدة قد يصل الارثوذكسيون من مختلف القوميات إلى الانصهار في كنيسة واحدة، ولكن الفكرة لم تنضج بعد، ولذا يبقى اليونانيون تابعين القسطنطينية، والعرب تابعين انطاكية، ويتلاقون بالمحبة، وهيئة اساقفة تمثل الجاليات كلها.

من ناحية الانتخاب، الميتروبوليت، بعد ترشيحه هناك، ينتخبه المجمع الأنطاكي وفق ما كان حتى اليوم. اما الأسقف فترشحه الجمعية العمومية في اميركا مؤقتا، وقد ترشحه فيما بعد هيئة من منطقته، وينتخبه الأساقفة مع وفد من ثلاثة مطارنة اعضاء في المجمع المقدس، وتتم رسامته هناك.

هذا ما قرره المجمع المقدس في دورة الخريف في دار البطريركية في دمشق ووضع حدا لالتباسات وتشنجات وخلافات هنا وهناك. واتُّخذ القرار في جو من المحبة والرجاء على اننا نحن وأهلنا في المغتربات سائرون معا في انتماء انطاكي واحد وفي عزم واحد على دعم الإيمان الارثوذكسي عندنا وعندهم. وما زاد الناسَ قناعة بحلّ موافق كهذا أن الأجانب الذين اهتدوا إلى الإيمان الارثوذكسي إنما دخلوا الى الإيمان الارثوذكسي من بوابة انطاكية، وليس عندهم ولا عند المتحدرين من أصل عربي اية رغبة في تأليف كنيسة منفصلة.

من الناحية اللاهوتية، التحصيل الكبير أن كل اسقف صار مستقلا عن الآخر ولو التحم به بالأسقفية الواحدة. وهذا ما يشجعه على اتخاذ مبادرات في منطقته. في المبدأ لم يكن قبل بضعة قرون اسقف بلا شعب، فلا يمكن بتر رئيس كهنة عن شعبه. والمحصّلة الرعائية ان هذه الأبرشية تبقى واحدة معنا نتبادل الخبرات والفكر، ورجاؤنا ان إعلان هذه الخطوة يمكّن العلاقة بين الكنيسة الأمّ وبلاد الاغتراب.

طبعا النهضة لا تأتي آليا من تغيير شيء من الإدارة. انها تنزل من الروح القدس الذي ينشئ مؤمنين عظاما ومفكرين مبدعين. ان انطاكية تبقى مجرد لفظة ان لم تكن مقرونة بالقداسة وفكر لاهوتي جديد يواجه الإنسان الحديث والتحدّيات البارزة ليكون المسيح الكل في الكل.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الأحوال الشخصية لدى الارثوذكس / السبت في 25 تشرين الأول 2003

وضع المجمع المقدس للروم الارثوذكس ضمن دورته العادية (تشرين الاول) قانونا جديدا للاحوال الشخصية واصول المحاكمات وجاء اقرب الى التراث والى احساس الانسان المعاصر بآن وتضمن في نطاق الاحوال الشخصية وهو القسم الاول من القانون ثمانية ابواب1) الخطبة، 2) الزواج، 3) البائنة (الدوطة)4،) الهجر5،) انفكاك الزواج، 6) البنوة، 7) التبني، 8) احكام القاصر وتناول في الفصل الثاني موضوع تشكيل المحاكم واصول المحاكمات.

لن اتناول في هذه العجالة كل شيء ولكن ما قد يكون لافتا من الناحية اللاهوتية او ما قد يكون جديدا بالنسبة الى النص الاقدم. لم تستعمل كلمة عقد لتعريف الزواج لانها قليلة الاستعمال عند علمائنا اذ نعتبر هذه الافهومة مأخوذة بمفهوم السر فقلنا الزواج سر.

في باب موانع الزواج استقر على منع الدرجة الرابعة (اولاد العم والخال والخالة) وكذلك على منع زواج الكاهن لو انفك زواجه او ترمل وفي الحالتين ورد ما يسمى عندنا التدبير اي قبول راعي الابرشية بمخالفة القاعدة. بقي ان الزواج بشخص من طرف غير مسيحي ممنوع مطلقا ولا يستطيع اسقف ان يجيزه.

ما يلفت في باب الانفاق ان «المرأة الموسرة تلتزم اعانة زوجها المعسر والانفاق عليه». هذا مرتبط بمفهوم السر القائم على ان الكرامة واحدة لكل من الزوجين ونتيجة ذلك المساواة في الواجب. وكما تجب نفقة الزوجة الموسرة لزوجها هكذا تتعاون وزوجها للانفاق على البنين. وتبقى تفاصيل تتعلق بنفقة الاولاد عند اليتم. وفي المادة :27 «عند انحلال الروابط الزوجية تراعى اولا وآخرا مصلحة الاولاد في تحديد من يولى تربيتهم». ليس الولد ملحقا آليا بهذا او ذاك من والديه. وهنا امكن القول ان القانون ابرز اهمية الولد اذ اقر في مادته الـ57 حضانة الام حتى السنة الرابعة عشرة للذكر والخامسة عشرة للانثى (في القانون السابق كان الوالد يستعيد الصبي بعد اكماله السابعة والابنة بعد اكمالها التاسعة). هذا مع القول بالسلطان الابوي (لم يأخذ المجمع بالفكر العلماني الحديث القائل بسلطة الوالد والوالدة معا علي الاولاد). بقي القانون قائما في المبدأ السلطان الابوي. على ذلك لم يظل «بطريركيا» حتى النهاية اذ يقول ان سلطان الوالد يزول اذا انتفت اهليته للتربية. ان تطبيق هذا يتطلب قضاة يقتنعون بزوال الاهلية التربوية عند الرجل.

على رغم خطر الظلم للاولاد لاحظ القانون ان حق الحضانة او الحراسة يسقط 1) عند العجز او التقصير الفادح للحاضن او الحارس في التربية والرعاية، 2) عند زواج الحاضن او الحارس اذا الحق ضررا بالقاصر، 3) عند اعتناق الحاضن او الحارس دينا آخر، 4) اذا كان سلوك الحاضن او الحارس يسيء خلقيا او نفسيا الى القاصر.

&&&

الى هذا ادخل المجمع المقدس مفهوما جديدا في الحياة الزوجية عند الارثوذكس وهو مفهوم الابطال. منه اذا جرى في حال ارتباط احد الزوجين بزواج آخر او اذا شاب الزواج عيب من عيوب الرضا او اذا اقيم بالاكراه والتغرير او اذا تبين ان احد الزوجين كان في تاريخ اقامة الزواج غير اهل لممارسة الحياة الزوجية.

في ما اعتبره المفهوم الارثوذكسي للزواج لا يعتد بالاسباب السابقة للزواج اي ليس هناك مقولة الإبطال. المقولة غير الملفوظ بها ان الزواج العائب (ما يعوزه الرضى) لم يحصل. هو زواج غير موجود حسب مفهوم قانون نابوليون. يبقى ان غموضا كاملا يكتنف القول بأن زوجا من الزوجين كان غير اهل لممارسة الحياة الزوجية (هذا غير العجز الذي له احكامه). متى يعتبر احدهما غير ناضج بما فيه الكفاية؟ من يثبت ذلك بعد انقضاء سنين على الاكليل؟ هل القاضي الروحي يستطيع ان يلم بما فيه الكفاية بأن احد الزوجين كان غير اهل للحياة الزوجية؟ ما اخشاه ان يفتح القول بأن احد الزوجين كان غير اهل للزواج عند حصوله بابا لاجتهادات لا تحد وللتقدير المزاجي او النزوي عند القاضي.

لا جديد في موضوع الطلاق اذ يبقى محصورا بعلة الزنى او ما هو بحكم الزنى. الجدير بالملاحظة ان هذا القانون – بخلاف ما يدعي المدافعون عن حقوق المرأة – لا يقيم اي فرق بين الرجل والمرأة. فالاسباب الدافعة الى طلاق المرأة هي اياها الدافعة الى طلاق الرجل. لم يبق اثر لمفهوم فسخ الزواج او لذكر عدم الانسجام بين الزوجين. من هذا المنظار جاء القانون الحالي اشد تضييقا. غير ان القانون تبنى فكرة الهجر وتوسع بها وكانت قائمة قضائيا على سبيل العرف ولكن ما من شك في ان القول بالهجر كان غير معروف في التراث البيزنطي. ولست اعلم مدى نجاحه عند الآخرين. ما من شك في انه افهومة مأخوذة من القانون الكاثوليكي الذي يقيم بالهجر طلاقا موقتا. افهم الهجر الموقت التدبيري لايام او بضعة اشهر طلبا للتهدئة. لكن الهجر الممكن مده الى ثلاث سنوات من شأنه ان يعرض طهارة الازواج لخطر. البت النهائي اصرح ويقع في منظومة التدبير الارثوذكسية.

&&&

اكثر ما هو لافت في هذا القانون ان اعضاء المحكمة الروحية يمكن اختيارهم من العلمانيين الذين يشترط فيهم ان يكونوا قد مارسوا القضاء او المحاماة وبحيث يسوغ ان يكون كل القضاة من العلمانيين. هذا يفصل بين الرعاية والقضاء. وهذا قد يحتم ضميريا على المطارنة ان يسعوا الى المصالحة قبل الاحتكام الى المحاكم. اذ ذاك يكون المتقاضيان قد اختارا الخصومة فتكون المحكمة المدعوة روحية بمثابة مجلس يقضي وفق احكام قانون وضعي.

الامر الآخر الذي اتى عليه القانون ان القضاة العلمانيين يمكن ان يكونوا من النساء. الثغرة الكبيرة في القانون ان يشترط ان يكون القاضي المدني حاملا اجازة حقوق ومارسها ولا يشترط في راعي الابرشية الجالس قاضيا او في من ينتدبه ان يكون قارئا الحقوق. وما من شك في ان بعض الاحكام يبدو ضعفها بسبب من النقص العلمي عند القضاة الاكليريكيين وكأن ما مورس سابقا يفترض ان معرفة الحقوق تنتقل الى الكاهن على البداهة.

لقد تحررنا من جهالة فهمنا لقولة من بولس: «الرجل رأس المرأة» ووردت في مسودة القانون. غير ان الآباء الاساقفة لاحظوا ان هذا قول يبتر الآية اذ القول الكريم هو: «الرجل رأس المرأة كما ان المسيح رأس الكنيسة» وان الذكورة لا تعني لله شيئا ولكن عطاء الزوج حتى الموت على صورة موت السيد عن كنيسته. لا سيادة للرجل على المرأة افضل تحقيق لهذا القانون. اجل هناك سلطة أبوية اذا قرأناها جيدا هي تكليف وواجب اذ تتكلم على التربية وادارة الاموال للقاصر. كذلك هناك حدود موضوعة للسلطة الابوية اذ تسقط بالدرجة الاولى بسوء السلوك عند الاب. في الحقيقة يمكن نعت القانون بأنه يغلب الابوة على الامومة ولكن ليس فيها غلو «شرقي». كان المنطق يتطلب الاعتراف بالسلطة نفسها للأم من اجل مساواة نظرية. غير ان وضع العمل للرجل الذي لا يزال سائدا في هذه المنطقة يمكن ان يبرر هذا السلطان الابوي اللين.

في المحصلة الاخيرة ارجو ان يأتي هذا القانون تربية للارثوذكسيين الذين كان بعض الناس يظن ان الطلاق سهل عند الروم. في النص الحاضر يخسر الطلاق سهولته كثيرا اذ نعود عمليا الى كنيسة الالفية الاولى التي كانت تقول بالطلاق الاستثنائي الصعب الاتيان بالادلة عليه. ما من شك في ان قدسية الزواج في النص الجديد واضحة وان النصوص تربي الناس. غير ان القانون لا يصنع القضاء آليا بسبب من عدم احتراف الكهنة عندنا مهنة القضاء. انهم يجيئون من ممارسة تطول احيانا وتقوى باحتكاكهم بأهل الشرائع غير ان هذا لا يكفي.

الشيء الآخر ان الرجل -ولو كاهنا- لا يزال اسير ذكوريته ويحتاج تاليا الى تربية حقوقية قوية اي الى موضوعية قصوى ليساوي بين الرجل والمرأة وحتى لا يقع فريسة حكم عقلي مستبق فيكون مقتنعا بطهارة جنس او عدم طهارته.

هل يغير انتظام قاضيات في المحكمة شيئا بحيث يعظم الانتباه الى الزوجة المتقاضية؟ اظن اننا نحتاج الى وقت طويل للاقتناع بضرورة اجلاس المرأة قاضيا. غير اننا نقدر ان نعطي للطبيب والمساعدة الاجتماعية والاب الروحي دورا في طور المصالحة بحيث تبطل المحاكمة او لا تسير بخصومة كبرى.

اظن اننا لا نزال في حاجة الى تحسين ولكنا خطونا خطوات كبيرة اكثر اتصالا بالعقيدة والعصر. هذا قانون بشري مع بعض إلهام. وهو قابل لملاحظات الاخوة. اتخذناه على رجاء فهم اشد وروحانية اعمق.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

العائلية/ الأحد 19 تشرين الأول 2003 / العدد 42

هذه الكلمة تعني العصبية العائلية اعني التناصر المرضي بين افراد العائلة الصغرى المكونة من الوالدين واولادهم او بين البيوت المؤلفة لعائلة كبرى يجمعها جد واحد حي او جد قديم. هناك تلاحم صحي بين افراد البيت الواحد او الأنسباء لا يقوم على التناصر في الظلم والبغضاء لعائلات اخرى ولكنه يقوم على التعاضد البناء ونصرة الضعيف والفقير بين الأقارب.

         هذا التناصر لا يؤلف هوية. وقد وضع امين معلوف كتابا اسماه “الهويات القاتلة” اذ الهوية تقوم ضد الهويات الأخرى. واوضح الكاتب العظيم ادوار سعيد انه لا يؤمن بالهويات مع كونه كان يؤمن بوطنيته الفلسطينية ويناضل من اجلها ومع كونه كان يعتز باكتسابه الجنسية الأميركية. ولكن كان يرى ان هذه الانتسابات لا تعرف شخصيته. الإنسان ينتسب الى الإنسانية، وكل إنسان قريب له، والإنسان ينوجد بقدر محبته للآخرين ويتسع صدره اذا عطف على الآخرين وخدمهم.

         وتزول عندنا نحن المؤمنين الهوية العائلية اذا فهمنا اننا بالمعمودية ننتسب الى المسيح وتاليا إلى كل من يحبه. وكذلك ننتسب ببشريتنا الى كل بشر ولا ننتسب الى عائلة الا اذا احببناها بالخدمة وقويناها بالعطاء وعرفنا اننا محبوبون فيها. ولكن كل انسان يمكن ان يحبنا وان نحبه. عائلتنا واحدة هي عائلة المحبين والمحبوبين. نحن عائلة الله وهو وحده أبونا. وما والدنا بأب لنا الا اذا تصرف كالله الآب الذي يلدنا دائما برحمته. نحن لم نولد من لحم ودم – وهذا زائل – ولكنا نولد من مشيئة الله. نحن احرار من ضغط الأعصاب علينا، ونتحرر بالمسيح من كل وطأة العصب.

         ولست ارى سببا لتعلقنا المفرط بالعائلة الا لننال منها نفوذا ومجدا. ومن طلب المجد ليس عنده مجد في ذاته اي لا يكتفي بأن الله يمجده بالعمل الصالح. فقد يكون المرء تافها فيفتش عن فخر يأتيه من آخر. ونحن قيل لنا: “مَنِ افتخرَ فليفتخرْ بالرب” اي بجمال الرب وحنانه، وهذا الحنان يجعل كلا منا بشرا سويا ويكفيه ليكون بشرا سويا.

         واذا كان المال لا يزيدنا شرفًا فالنفوذ لا يزيدنا شرفا. ومن تمتع بنفوذ عظيم في ذاته فلكي يجعله في خدمة الذين لا نفوذ لهم. ومن كان غنيا فليحسن، ومن كان ذكيا فلكي يعلم الذين كانوا دونه ذكاء. والمال والنفوذ والذكاء تموت جميعا بموت الإنسان. وبالموت ننفك عن العائلة. والعائلة لا وجود لها في السماء لأن الإنسان يموت وحيدا ويصير قريب الله بالملكوت. اما عائلة الله المؤلفة من الأبرار والطاهرين فهذه تبقى في الملكوت. لذلك لا ينبغي ان نشتهي الملك ولا السلطة ولا الزعامة وألاّ نفاضل بيننا وبين الآخرين فالله وحده يفاضل ويجعل بعضا عن يمينه وبعضا عن يساره في ملكه. وقد لا يكون والدك او والدتك او جدك معك في الملكوت. واذا كنت مع الله هنا وما كان ابوك او اخوك معه فهما ليسا بشيء في عينيك، ويكون ما تسميه “غريبا” عظيما في عيني الله. فالغريب المحب للرب هو اخوك وامك وابوك. تذكرون ان بعضا قال ليسوع: “ان امك وإخوتك واقفون خارج الدار يريدون ان يكلموك”. فأجاب الذي قال له ذلك: “من امي ومن إخوتي؟”، ثم اشار بيده الى تلاميذه وقال: “هؤلاء هم امي وإخوتي. لأن من يعمل مشيئة ابي الذي في السموات هو اخي واختي وامي” (متى 12: 47-5.).

         في الكنيسة هذا واضح. فبخلاف ما يقوله بعض، الكنيسة ليست مؤلفة من بيوت. انها مؤلفة من أفراد فقط. وعلاقتك بالكنيسة مباشرة بالمعمودية. فأنت لا تعبر بعائلتك لتصل الى الكنيسة. فقد يكون بعض من اهلك بعيدين عن المسيح وليس لك اذًا معهم رباط. انت تبشرهم باعتبارهم غرباء. الكتاب لم يتكلم عن العائلة الا في حديثه عن الزواج. وفي الزوجية انت مرتبط بزوجتك باعتبارها واحدة معك في المسيح. لذلك لا تقوم زوجية بين مؤمن وغير مؤمنة. وحدتك مع زوجتك قائمة على ان يسوع فيك وفيها معا. هنا الرباط ايضا ليس باللحم والدم بل بالمخلّص. وكل لحم يموت واما المسيح فهو وحده لا يموت.

         كثير من مشاكلنا اننا اهملنا انتسابنا الى عائلة الآب واخترعنا لأنفسنا عائلة من لحم ودم اي أبدلنا المسيح غير الفاني بالفاني. لا وجود لنا كنسيا فاعلاً ان لم نُلغِ الهوية العائلية لندرك اننا واحد مع المؤمنين فيتجلى الله هكذا بأحبائه.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

ذكرى الآباء / الأحد 12 تشرين الاول 2003 / العدد 41

هي ذكرى الآباء المجتمعين في المجمع السابع المسكوني، على محاربي الايقونات، المنعقد في نيقية السنة الـ 787 والذي أعلن تكريم الأيقونة عقيدة. وعبارة “آباء قديسون” نطلقها على الذين كانوا في المجامع المسكونية السبعة التي هي قاعدة الإيمان عندنا كما نطلقها على الذين اوضحوا الإيمان الأرثوذكسي وكتبوا ضد الهرطقات. وهم ليسوا منحصرين بلائحة او زمن. الناس كلهم يعرفون الثلاثة الأقمار: يوحنا الذهبي الفم، باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللاهوتي، وهؤلاء عاشوا بين القرن الرابع والقرن الخامس، ولكن من الكبار غيرهم ايريناوس اسقف ليون واثناسيوس الكبير وغريغوريوس اسقف نيصص اخو باسيليوس ثم مكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي وغريغوريوس بالاماس.

         وقد يظن المؤمن البسيط ان احدهم كان يجتر تعليم الآخر كأنهم يرددون اسطوانة. لا، كانوا مبدعين يَحيون بالإيمان ويُحيون المؤمنين كل حسب طريقته وأسلوبه. وفي بعض الأمور غير الأساسية كانوا يختلفون. وعظوا وجاءت تعاليمهم معظمها في المواعظ ولكن منهم من وضع مؤلفات لاهوتية حسب المواضيع التي كانت الكنيسة تحتاج اليها في مكافحتها اصحاب البدع. المهم عندهم كان الدفاع عن الإيمان اي تبيان الإيمان الارثوذكسي على انه موافق للكتاب المقدس وتوضيح ان كلام الهراطقة كان تحريفا للكتاب او سوء فهم له.

         ان تقول في الله قولا حسنا موافقا لما أعلنه هو بالرسل كان همهم لأن الإنسان انما بالإيمان يخلص. “من آمن واعتمد خلص ومن لا يؤمن يدان”. لنأخذ مثلا اثناسيوس واليه يعود الفضل في وضع دستور الإيمان (كان هو محرك المجمع النيقاوي الاول). تصدى لآريوس القائل: “كان زمان لم يكن الكلمة (اي الابن) فيه”. بتعبير آخر كان آريوس يعلّم (وعلى طريقته سلك شهود يهوه) ان الابن اول المخلوقات. الكنيسة قالت في الدستور “مولود (ازليا من الآب) غير مخلوق”. ماذا كان هاجس اثناسيوس؟ الهاجس كان ان المسيح اذا كان مخلوقا لا يكون إلها. واذا لم يكن كذلك لا نكون قد حصلنا على الخلاص.

         بعد آريوس جاء اوطيخا وقال ان المسيح لم يكن بشرا. فتصدت له الكنيسة لأنه ان لم يكن انسانا لا يكون احد قد عُلّق على الصليب. في كل موقع اذًا كان همّ الكنيسة ان تؤكد ان المسيح إله وانسان معا حتى يكون الخلاص حقيقيا لا وهمًا.

         عندنا اذًا في الكنيسة عقائد جوهرها قائم في الدستور النيقاوي (سنة 325) المكمَّل في المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينية (سنة 381). لذلك نقول “الدستور النيقاوي-القسطنطيني”. ويجب ان نلاحظ ان هناك حركة بين اقوال المجامع واقوال الآباء. بعضهم هيأ للمجامع مثل باسيليوس الذي اوضح ألوهية الروح القدس وتوفي سنة 973. جاء المجمع القسطنطيني المنعقد بعد سنتين من وفاته وأدخل بند الروح القدس في الدستور فاكتمل. او يكون الآباء شارحين للعقيدة بعد ان وضعها المجمع. وكانت المجامع تُثبت ما قيل في المجامع السابقة، ويأتي هكذا الخط الارثوذكسي واحدا متموجا بين ما حددته المجامع المسكونية وما علّمه الآباء.

         سمّيناهم آباءنا لأننا لم نأت من زنا كالهراطقة الذين كانوا يخلطون بين كلمة الله وآرائهم الخاصة او الفلسفة اليونانية، اي ليس لهم أصل شرعي. فالآباء الشرعيون يستحقون ان يقال لهم ولنا من بعدهم: “انتم نور العالم”. وقد اقتطفنا رسالة اليوم من كلام بولس الى تيطس: “رجل البدعة بعد الإنذار مرة واخرى أَعرضْ عنه” ثم قوله: “سلِّمْ على الذين يحبّوننا بالإيمان”. وهكذا لا نصغي الى قول الذين يدعوننا الى اجتماعاتهم مدّعين معرفة الكتاب. الشيطان ايضا يعرف الكتاب بدليل انه لما جَرّب يسوع كان يذكر آيات من الكتاب بمعنى خاطئ. نحن ندرس الكتاب على ضوء ما تعلّمنا اياه الكنيسة المقدسة.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

المجمع المقدّس / السبت في 11 تشرين الأول 2003

«الكنيسة ليست مؤسسة. انها حياة في المسيح» (سرجيوس بولغاكوف). هي ليست مؤسسة بمعنى ان قوانين العالم المدني لا تسودها ولو ظهر ان ثمة مسؤولين في ما بينهم تراتبية. في الحقيقة ليست الكنيسة شبيهة بجيش ولا بإدارة مدنية فيها الآمر والمأمور لان هذين مرتبطان بحقوق يحددها نص. الزامات يفعلها التنفيذ والتنفيذ يظهر بالعقوبة. والعقوبة قائمة على الخوف والخوف قائم على وجود سلطة آسرة تتحدد فيها الحقوق والواجبات وآخر حد فيها هو السجن او ما هو اقسى منه.

إذا كانت المسيحية ديانة المحبة معنى ذلك ان امور الكنيسة تحل بالمحبة فقط ولا تقوم على دستور بالمعنى القانوني للكلمة وان الآمر يأمر بمحبة والمؤمن يطيع هذه المحبة. ولذا كانت الكنيسة شركة قلوب. اجل هناك ما يسمى قوانين الكنيسة منذ القرن الرابع وهناك اعراف هيأت لها. لكن القانون الكنسي ليس شبيها بقوانين العالم لانه يعبر عن موقف لاهوتي. صحيح مثلا انك تخضع للأسقف ولكن بوصفه اباك واذا ادبك فهو كمن يؤدب ابنا اي بالمحبة ايضا. صح انك لا تصبح كاهنا الا اذا وضع يديه عليك. لكن صلوات الرسامة عندنا توضح ان وضع اليد (او الرسامة) صورة عن انحدار النعمة على من تجعله كاهنا. “النعمة الالهية التي للناقصين تكمل وللمرضى تشفي هي تنتدب فلانا الكلي الورع من رتبة الشموسية الى رتبة القسوسية”. الاسقف يختفي وراء النعمة التي تنتقل بقوتها وقوة الصلاة التي في الجماعة. واذا اوقف الاسقف قسا عن الخدمة فترة من الزمان فليس هذا عقابا له لان الاسقف يحب الكاهن. والامر اذاً تأديب للاصلاح والتوبة. واذا منعك الاب الروحي من مناولة القرابين فلكي يزداد بالمنع شوقك الى الاسرار الالهية فتدنو منها اكثر اهلية مما كنت. نحن اذاً خارج الدنيا الحقوقية اطلاقا.

ما شكل الكنيسة اذاً. او ما صورتها لو اتخذنا كلمة فلسفية. الحقيقة ان ليس لها شكل لانها حركة. قطعا هي حركة الله الى الانسان وحركة الاخوة بعضهم الى بعض. وما بينهم الشركة، شركة الروح القدس اي الكون بالنعمة الالهية المجانية. وهذا ما عبر عنه انجيل مرقس في مقطع شهير لما جاء يعقوب ويوحنا ابنا زبدى الى السيد وسألاه ان يجلس احدهما عن يمينه والآخر عن شماله في مجده فوبخهما ثم قال لتلاميذه: “تعلمون ان الذين يعدون رؤساء الامم يسودونها، وان اكابرها يتسلطون عليها، فليس الامر فيكم كذلك. بل من اراد ان يكون كبيرا فيكم، فليكن لكم خادما. ومن اراد ان يكون الاول فيكم، فليكن لاجمعكم عبدا. لان ابن الانسان لم يأت ليُخدم (بضم الياء)، بل ليخدم (بفتح الياء) ويفدي بنفسه جماعة الناس”. انت لست آمرا اذاً لاحد ولكنك مبذول في الخدمة. والبذل يعطيك اولية والطاعة للمبذول. فانت لا تطيع الاسقف لانه فوقك اذ ليس في المسيح من كان فوق او كان تحت. لكن القادر على ان يكون كامل البذل لكونه تحرر من الغرض والهوى قادر على ان يأمرك بلا غرض ولا هوى وانت تطيعه لانه تنزه عن كل ذلك. العلاقة هي اذاً بين محب ومحبوب.

وما يؤيد كلامي هذا الحديث الذي ورد بعد القيامة بين المخلص وبطرس لما سأله السيد: “يا سمعان بن يونا (وكان هذا اسمه الاول) اتحبني اكثر مما يحبني هؤلاء؟” قال له: نعم يا رب، انت تعلم اني احبك حبا شديدا. قال له: “ارع حملاني”. اي ان يسوع جعل بطرس راعيا لما اعترف له بحبه. تلك هي الرعاية والحب مضمونها الوحيد وليس من علاقة اخرى بين الراعي والخراف.

ثم لما انتظمت الكنيسة جماعة واحدة بنزول الروح القدس عليها “كانوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات”. وذكر الكتاب بعيد هذا: “كان جميع الذين آمنوا جماعة واحدة”. جوهر الكنيسة انها واحدة بالروح الالهي.

وفي المنحى نفسه يقول سفر الاعمال: “وكانت الكنيسة تنعم بالسلام في جميع اليهودية والجليل والسامرة. وكانت تنشأ وتسير على مخافة الرب، وتنمو بتأييد الروح القدس”. غير ان مسألة اثيرت حول ختانة الوثنيين عند انضمامهم الى المسيح او عدم ختانهم فاجتمع الرسل والشيوخ في اورشليم وبت الخلاف المجمع المؤلف من هاتين الفئتين (وليس فقط من الرسل).

كان هذا اول شكل – اذا صح التعبير – اتخذته الكنيسة. المجمعية او الجماعية بالحري هي الترتيب الالهي الذي تسير عليه الجماعة. وهذا تعبير عن روح وليس نظاما بالمعنى الحقوقي. الفكرة التي هيمنت ان الروح يجعل المسيحيين جماعة وليس معنى ذلك ان مجرد انعقاد الجماعة في مجمع ينزل عليها الروح الالهي آليا. وسلكت الكنيسة في ما بعد على حل مسائلها بهذه الهيئة التي دعيت مجمعا وباليونانية سينوذوس اي السائرين معا على طريق واحد. فهم ليسوا مجمعا لمجرد تلاقيهم الجسدي ولكن لتلاقيهم على طريق القائل: “انا الطريق والحق والحياة”. فالجماعة تصير شركة اذا حل الروح القدس عليها والا بقيت قطيعا بلا رأس.

ثم على غرار مجمع اورشليم انعقدت مجامع عديدة اقليمية وعالمية.

وما سمي كل تجمع مجمعا لمجرد التقاء اساقفة ولكنه مجمع اذا ظلوا على استقامة الرأي فقد كفّرت الكنيسة مجامع لكونها انحرفت عن جادة الصواب. لذلك لا نقول نحن ان المجمع آلية تدير بحد نفسها الكنيسة. فأخذت المجامع المتتالية تؤيد المجامع السابقة لكي تثبت شرعية ما سبق اي لتعلن ان ما سبق كان من الله. تأييد الله الظاهر في وجدان الجماعة هوالذي يضفي صورة الاستقامة على الاجتماعات الكنسية. فالسلطان المجمعي يأتيه من صحة الكلمة التي تقال فيه ولا تتبين انت صحتها لمجرد الالتئام.

يبقى ان الكنيسة تعيش في ازمنة الناس وشاء الله ان تنتظم كنائس مكانية والكنيسة المكانية هي المدى الذي بشره الرسل في الاصل او بشرته الكنائس الرسولية. وهكذا بدا ان الحضور المسيحي بأن تدبير شؤونه في كنائس خمس في الألفية الاولى هي رومية والقسطنطينية والاسكندرية وانطاكية واورشليم. وكل كنيسة من المدى المسيحي تتكلم وترتب شؤونها من طريق مجمع مقدس يؤلفه بخاصة اساقفة المنطقة لا من حيث هم افراد ولكن من حيث ان كلا منهم يحمل كنيسته (أو أبرشيته) معه فتتلاقى هكذا كنائس المنطقة الرسولية الواحدة حول كنيسة تعتبر مركزية كان يسمى رئيسها المتروبوليت وبعد هذا سمي بطريركا اي رئيس الامة المقدسة وقال الضمير الكنسي ان من اقيم بطريركا هو اول بين اخوة متساوين Primus inter pares

ما معنى ان البطريرك هو الاول؟ بما لا يقبل الجدل كان مفهوم الامر ليس ان هذا الرجل آمر ناه شبيه بصاحب النظام الرئاسي كما في الولايات المتحدة. ان صلاحية كهذه لم يعرفها العالم المسيحي في الالفية الاولى ولا يعرفها الشرق الارثوذكسي اليوم. فالبطريرك لا يتدخل في ادارة ابرشية اخرى لان الاسقف موضوع الهيا وليس فوق رأسه في نطاق ابرشيته احد. لكن احدية الاسقف لا تفهم استقلالا عن اخوته في الايمان والعقيدة والاسرار المقدسة لان الشركة الاخوية تمنع الانعزال او الاعتزال لان كلمة الله ليست ملكا للأسقف فهو خاضع لاستقامة الرأي. ولذلك عندما تتم رسامته يوضع الانجيل مفتوحا فوق رأسه لتنزل عليه الكلمة ولا يبقى اسقفا اذا خرج عنها او اخرج منها.

ما مكانة البطريرك في هذا الانتظام؟ لدينا مجموعة قانونية تسمى قوانين الرسل تيمنا بالفكر الاول وتعود غالبا الى بداءة القرن الرابع. القانون 24 في هذه المجموعة يمكن اعتباره تحديدا لمكانة البطريرك وعلاقته بالاساقفة . يقول: “ان اساقفة كل امة يجب ان يعرفوا الاول فيهم ويعتبروه رئيسا لهم ولا يقدموا على امر خطير بدون رأيه، بل ليدبر كل منهم شؤون ابرشيته خاصة. ولا يقدمن الاول على شيء بدون مشاورة الجميع وبذلك يتم اجتماع الرأي ويتمجد الله بالرب في الروح القدس”.

هناك وحدة روحية بين اعضاء المجمع المقدس على صورة الثالوث حيث لا عسف ولا تسلط على صورة التناغم القائم بين الاقانيم الالهية. الامر شورى غايتها “اجتماع الرأي” فلا مجمع بلا بطريرك ولا بطريرك بلا مجمع وليس من ديموقراطية بمعناها العددي. نحن لسنا في نظام حقوقي يفيد ان يفرض المطارنة شيئا على البطريرك وليس من نظام اوتوقراطي بحيث يفرض البطريرك شيئا على الاساقفة. السؤال الذي يفرض نفسه هو هل للبطريرك حق النقض. هذا يرده قول القانون: “لا يقدمون الاول على شيء، بدون مشاورة الجميع”.

طبعا هذا ليس نظاما بمعنى الحقوق الوضعية. هذا سعي روحي غايته تجنب الانشقاق. انه خطر روحي ان تقاوم بالتصويت موقف البطريرك. لكن البطريرك يكون ايضا في خطر روحي ان قاوم الاساقفة مجتمعين. اجل يمكن ان ينتج من هذا تعطيل اداري او غياب اداري. لكن المؤمن يرجو الا يكون هناك عناد وان يستمر السعي بالصلاة والاقناع للأخذ بالموقف الصالح.

لماذا الاجماع كغاية او مرتجى؟ لان الانشقاق خطيئة لا تغتفر حسبما علم القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله ان الانقسام في الكنيسة شق لثوب المسيح غير المخيط (المصنوع من قطعة قماش واحدة). هناك دائما رجاء وقد يكون ارجاء الحل أدنى الى الرجاء واذا كان البطريرك “راعي الرعاة” فمعنى ذلك انه المحب الاول واذا كان الاول بين أئمة الحياة الروحية يكون الاقرب الى العدل والاقرب الى الرحمة ولا يعرف قلبه بغضا او انتقاما ويفرض ان يكون زملاؤه موضوعيين وان يتخذوا المواقف الموافقة لفكر المسيح كما يقول بولس. هذه اعجوبة التناغم بين اخوة تنزهوا عن الشهوة وليس فيهم أحزاب ولا كتل.

ليس من شهادة في المؤمنين اقوى من شهادة الوحدة بين رؤساء الكنيسة. والوحدة في ما بينهم ان يتفقوا على ما يرضي الله في الظرف الذي يعيشون. اجل تاريخ الكنيسة لم يكن دائما هكذا ولكن على المرء ان يسعى لتبدو الكنيسة عروسا للمسيح لكي يؤمن الناس.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة/ الأحد 5 تشرين الأول 2003 / العدد 40

إنجيل لوقا إنجيل الرحمة بامتياز، وفي مستهل قراءة اليوم (لوقا 6: 31-36) يقدم الإنجيلي قاعدة للسلوك فيها إقدام: «كما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم». تريد أن يعطف عليك الناس، ان يساعدوك، ان يؤتوك خدمة في الضيق، ان يعودوك في مرضك، فبادر إلى هذه الأعمال إنْ وجدتَ الناس في مثل هذه الأحوال.

ثم يرتفع لوقا درجة عن هذا فيقول: «ان أحببتم الذين يحبونكم فأية منّة لكم»؟. وإذا أردتَ ان تعبّر عن محبتك بالإحسان، فأحسن إلى أي محتاج وليس فقط إلى نسيب لك أو صديق إذ قد تتوقّع من هذا شكرا أو ان يعاملك بالمثل ان صرت أنت في الضيق. ولكن أعطِ من لا ترجو منه مكافأة أو تقرُّبا إليك وقد لا يعود يوما للشكران. يذكر لوقا تطبيقا وهو: «ان أقرضتم الذين ترجون ان تستوفوا منهم فأية منّة لكم»؟. فقد لا يستطيع هذا ان يوفي السند الذي وقّعه على نفسه. أو ترسله إلى السجن؟ وماذا ينفعك هذا؟ ان كنت عاجزا عن دين كبير لا تَقُم به. اعرف ان بعضا من الناس يستغلون ميلك إلى المحتاجين ويعرفون رحمتك فلا يوفون ولو كانوا قادرين. تعامل مع هذا الوضع. فهناك ما يسمّونه دين شرف وهو يعني ان تسلف مبلغا ولا تقاضي من استدان. فهو يوفي إذا استطاع أو لا يوفي ولو كان قادرا على ذلك. سلّمه إلى الرب.

ثم يعلو لوقا أيضا درجة ويقول «أحبوا أعداءكم». «أحبوا» هنا لا تعني ان تجعل عدوّك صديقا فقد لا يقبل صداقتك. في ادنى مستوى، الكلمة تعني الا تحقد ولو توجّعت داخليا فالظلم موجع. وفي اغلب الأحيان لا تستطيع ان تقنع عدوك ان لا سبب حقيقيا لبغضه إياك أو لأذاك. فقد يشن عليك حملة شعواء ويلطخ سمعتك وذلك لأن الشيطان دخله ولوّث نفسه، ثم هناك من كان نهجه البغض ويتلذذ بالأذى. ويسوع حريص على ألا تقع أنت في حقد مقابل حقد لأن الحقد ظلم وبه تُلطِّخ قلبك وتنزع عنه الهدوء. وإذا تعكرتْ نفسك لا تستطيع ان تعاين وجه الله لأن الله سلام.

ويقدّم الإنجيلي عن الغفران حجة إذ يقول انك في الغفران تصير ابنا لله الذي «يُنعم على غير الشاكرين والأشرار». انه يرسل المطر ونور الشمس على جميع الناس كما يقول متى. ويُنعم على الناس بطعامهم أيا كانوا، ويُنعم على الخاطئ أيضا بشتى المواهب علّه يتوب.

ثم ينهي لوقا هذا الفصل بقوله: «كونوا رحماء كما ان أباكم هو رحيم». هنا يطلب يسوع ان تسلك كما الله يسلك. وأنت قادر على ذلك إذا أدركت ان النعمة جعلتك ابنا لله أي مشاركا المسيح بُنُوّته للآب.

ان تكون رحيما تعني في اللغة ان يتسع صدرك لجميع الناس. هكذا صدرُ الله. المهم ان تفهم ان الخطيئة هي وحدها ذلك الشيء الذي يؤذيك في العمق. وقد تنجح الرحمة بإعادة من ترحمه إلى صوابه. ربما لا يتأثر من ترحمه برحمتك. ولكن تكون أنت نجّيت نفسك من الكراهية. وفي أعلى مراتب الغفران تكون صرت غافرا مثل الله أبيك. لأن الرحمة تمحو كل معصية فيك وتكون تروّضت على التواضع. مَن لا يغفر هو الذي لا يتحمل جرحه. ولكن قد يجرحك الناس كثيرا. مطلوب منك ان تنزف وان تداوي جرحك بالدواء الوحيد الذي يشفيك وحده وهو الغفران. كل الخطايا تأسرنا، ولكن ليس مثل الحقد سجنا. وكما تغفر بسهولة لابنٍ لك شرس أو مشاكس لأنه مِن لحمك ودمك، اغفر لكل الشرسين لأنهم من لحم المسيح ودمه.

Continue reading