ليس في الأصول المسيحية عقيدة تتعلق بمريم مباشرة ولو سماها مجمع أفسس (٤٣١) والدة الإله٠ لأن الألوهية طبيعة في المسيح والطبيعتان متلازمتان في وحدة شخصه٠ ومن البداهة قول ان مريم مخلوقة وانها لم تلد الثالوث المقدس٠ والحقيقة ان هذه العبارة استعملت ضد النساطرة الذين اتُهموا على انهم يفرقون بين طبيعتي المسيح. القولة “والدة الإله” هي، مداورة، قول في مريم وهي في حقيقتها قولة في المسيح.
الا ان المجمع المسكوني الخامس نعتها في سياق كلامه عليها على انها دائمة البتولية بمعنى انها بعد مولد السيد لم تقترن بيوسف وان علاقتها به بقيت علاقة قانونية وليست فعلية٠ ولكن اية قراءة متأنية للنص لا تدل على ان القصد منه هو الإقرار بديمومة عذريتها٠ هذه نأخذها من التراث العبادي٠ تلاقينا مريم تلاقي عبادات لا تقل حقيقة في وجدان الكنيسة عن الصياغة العقدية٠
واللافت في العهد الجديد انه بعد سرده رواية الميلاد ذكرها أربع مرات فقط: ١) في اعجوبة قانا الجليل٠ ٢) في ذهابها اليه مع انسباء له ارادوا ان يطلبوا اليه ان يكف عن الرسالة٠ ٣) في وجودها امام الصلب٠ ٤) في اجتماعها مع الرسل والإخوة لما حل الروح الإلهي عليهم في العلية التي كانوا فيها مختبئين.
بعد العنصرة لا نعرف عنها شيئا فلا ذكر لها في رسائل بولس او سواه من التلاميذ٠ ولا نستغرب هذا لأنها ليست هي موضوع ايماننا وهاجس الإنجيل ان يركز على المخلص لا ان يسرد سيرة صحبه.
مع ذلك غدًا نعيد لرقادها اي لموتها وهذا الذكر لم يرد قبل القرن الخامس في مواعظ لبعض الآباء واهمهم يوحنا الدمشقي الذي خصص لهذا الرقاد كتابا٠ غير ان التقليد الكنسي أضاف على موتها انها انتقلت الى السماء ولم يوضح اذا كان هذا بالجسد او خارج الجسد٠ وفي هذا اختلف اللاهوتيون الشرقيون حتى جاء في التحديد البابوي في منتصف القرن العشرين انها انتقلت الى السماء نفسا وجسدا٠ غير ان الرقاد بقي عيدا في الكنيسة الارثوذكسية وهو بمثابة اعتقاد ان لم يكن عقيدة٠ والايقونة البيزنطية لا تقول في هذا شيئا صريحا.
غير ان الحس الكنسي عند الارثوذكسيين يفصح عن قبولهم لهذا المعتقد في اناشيدهم ليدل على ان التي لم تعرف فسادا في حياتها لا يسوغ ان تعرفه من بعد موت٠ في المسيحية التراثية تواتر التأكيدات العبادية له قوة كبيرة ولو لم يكن ثمة عقيدة بالمعنى الدقيق للكلمة٠ هناك حب لمريم وانخطاف اليها يجعلانا مريميي القلب٠ وهذا ما سوف نحاول جلاءه٠
# #
اعرف ان بسطاء القوم لا يهتمو لكل هذه التعقيدات ولكني أخشى انحرافاتهم “التقوية”٠ اعرف ايضا ان عندنا في العبادات عبارات تزعج اللاهوتيين مثل توجهنا الى مريم بهذا القول: “يا رجاء من ليس لهم رجاء سواك”٠ واضح اذا اردنا التدقيق ان في هذا مبالغة كبيرة٠ غير ان العبادات البيزنطية فيها كثير من الشعر والشعر لا يحمل بالضرورة طاقة ذهنية تأكيدية٠ ربما شيء مثل هذا ابعد البروتستنتيين عن كنيستهم الأم٠ ربما كان هذا بسبب من تعلقهم الشديد بحرف الكتاب٠ وردت عبارة “خلصينا” وعند الارثوذكسيين المخلص الوحيد هو المسيح وليست هي شريكة في الخلاص والى هذا تنزع الكنيسة الغربية اليوم.
ان في تقوى الشعب البسيط ميلا جارفا الى العاطفة بل الى العاطفية وكثير من الصلوات او الادعية وضعها رهبان لم يكن عندهم تحصيل لاهوتي كبير٠ ويبقى على المؤمن ان يغربل العبادات بوعيه وان يعرف محدوديتها لأنها اذا اكتسبت قوة كبيرة فيكون من شأنها ان تضعف مركزية المسيح٠ المسيحيون يعرفون ان مريم ليست إلهة دون الله ولا نعرف فرقة واحدة في بلاد العرب او غيرها ألهت هذه المرأة٠ ولكن المشكلة سيكولوجية وهذه تفضي احيانا كثيرة الى الانفعالية او التأثر الكبير٠ وكل منا سمع مؤمنين كثيرين في لهفتهم يقولون: “يا عذراء… يا عذراء”٠ وليس على هذا اعتراض ان لم يكن الهتاف حصريا اذ هكذا يبدو احيانا٠ وما يغرقنا في الالتباس ان بعضا من الكنائس تستعمل عبارة “التعبد لمريم”٠ ومع ان العبارة عندهم تعني التقرب من مريم في الدعاء الا انها، في اللغة، مرفوضة بسبب جذر عبد، يعبد٠ ان سلامة النية لا تكفي٠ فالكلام المستقيم اساسي خشية خطأ القلب.
مع ذلك احتسب ان فهم العقيدة الصحيح من شأنه ان يقوم الانحراف التعبيري الذي نجده هنا وثمة وكنت اتمنى ان تأتي كل اقوالنا ضمن مركزية المسيح٠ في ظني انه لا بد من “إصلاح طقوسي” يعتقنا من التركز على مريم٠ ان اقصاءها من الذكر مخالف للإنجيل اذ قالت هي: “ها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال” (لوقا ٤٨:١)٠ انها قائمة مع ابنها وتاليا أضعف الإيمان الا نتجاهلها٠ وقد أحسنت الكنيسة البيزنطية انها خصصت لها اعيادا وانها تذكرها في كل العبادات٠ وهذا غنى كبير للنفس٠
# #
لماذا يجب ان تكون في الذكر؟ السبب الرئيس ان المسيح “الوسيط الوحيد بين الله والناس” ليس معزولا عن صحبه القديسين٠ انه يؤلف وحدة كاملة معهم في الملكوت كما يؤلف وحدة مع احبائه في الأرض٠ اجل، ليس القديسون وسطاء خلاص٠ غير انهم في حالة الصلاة لله وانت واحد معهم في سجودهم الملكوتي لربهم بمعنى انك اذا ناجيته ناجيتهم٠ ان قيامة المخلص أكلت الموت٠ واذا كان الله “ليس إله اموات بل إله احياء” (متى ٣٢:٢٢) تكون قيامة السيد فاعلة في القديسين منذ انتقالهم اليه٠ ان الذين لا يخاطبون اهل السماء يبدون لي انهم يرجئون هذه المحادثة الى القيامة الأخيرة حيث نكون في حالة خطاب٠ اما الآن فقيامة المسيح حاصلة اذ هو القائل: “انا القيامة والحياة”٠ نأكل نحن اذًا من هذه القيامة الآن٠ لذلك لا تنقطع المخاطبة بيننا وبين الذين انتقلوا الى الاخدار السماوية٠ هناك ما نسميه جسد المسيح اي امتداده فينا٠ المسيح له مدى وهذا المدى هم قديسو السماء والأرض٠ ومع ان كل مؤمن يستطيع ان يتوجه الى المسيح وحده غير انه -في هذه الحالة نفسها- لا يلقاه وحده٠ يجده مع صحبه٠
نحن لا نعلم ان النعمة الإلهية تنزل علينا عبر مريم٠ هي لا تملك شيئا اذ ليس فيها قوة من عندها٠ غير ان العذراء مقيمة في المسيح اليوم كما كان هو مقيما فيها في هذا العالم٠ فاذا ذكرناه وحده نكون ذاهبين اليها ايضا لان المسيح لا يلغي احدا منا في السماء ولا في الارض٠ لذلك لا يبقى من معنى لاعتراض بعض على تراثنا اذا قالوا لماذا لا تخاطبون المسيح مباشرة٠ ما المباشرة وما المداورة اذا كنا جميعا جسده اي اذا كان هو فينا وكنا نحن فيه؟
لا يجذبني القول ان قيام مريم في السماء يدل على ان لنا منذ الآن سفيرة البشر في المجد٠ مع قناعتي بصحة هذا اخشى ان ننسى ان البشرية قائمة في المجد في صعود المسيح الى السماء٠ هناك كائن بشري اعني المسيح قائم بجسده الممجد عن يمين الآب وهذا بسبب من بشريته التي اكتملت في الفداء٠ دائما اخشى الا يرى بعض من المؤمنين ان انسانية المسيح كاملة وان احدا لا يضيف عليها شيئا٠ لذلك اخشى التصور ان مريم تقابل السيد٠ في العمق الروحي هي ليست الى جانبه٠ انها في صميمه وان كان لا بد من ان تظهرها الى يمينه ايقونة الدينونة٠ ذلك انك مضطر الى ان ترسم اجسادا٠ غير ان الحقيقة الصوفية هي ان مريم في داخل ابنها وانك لا تستطيع في الذهن والتقوى ان تفصلهما٠ فبعد ان تجسد الكلمة تكون ثنائي فريد منه ومنها وبعد ان صارت مريم هيكل الابن الوحيد وفق قول الملاك اكتمل سر وحدتهما وأغلق الباب٠
ان تكون مريميا هو ان ترى هذه الوحدة وان تعيشها صلاة وتأملا٠ واذا رأيت هذا تستطيع ان تبث المسيح في كامل ارتباطه باحبائه٠ واذا ولدت المسيح في الناس اي اذا اعطيت إنجيله تكون مريما جديدة٠ في هذا العطاء تطهر وتستعيد بكارتك المفقودة وتفهم عند ذاك لماذا أصرت الكنيسة على اعتبار مريم دائمة البتولية٠ هذا سر ورمز القصد الحقيقي الأخير ان العذرية الجسدية في مريم هي صورة عن ان نفسها لم تنثلم٠ وبهذا المعنى هي دعوة، دعوة ان نحافظ على بكارتنا الروحية اي تنزهنا عن كل شر وشبه شر٠
مريم بفضل دوام طهارتها تشرح لك المعنى الأخير للإنجيل٠انه ان تبقى واحدا مع الرب بحيث لا يلهيك شيء عن وجهه٠ ان تكون خصيص الله لا تشرك فيه احدا ولكن ان تراه محاطا بالأبرار يكملونه على الدوام تلك هي المريمية٠ لقد استعار الله بشريتنا ليعيش في وسطنا وذلك من امرأة جعلتها طاعتها الكاملة له شبيهة به حتى إذا رأيناها نرى هذا الشبه الذي أقامه هو بينه وبيننا٠
عسى إذا أقمنا العيد غدا ندرك ان ابنة من جنسنا ازالت كل نتؤ بينها وبين ربها بحيث لا نستطيع ان نشاهد هوة بينهما٠ فاذا اشتهيت ذلك لنفسك غدا تكون قد اقمت العيد٠
Continue reading