السياسة أمر غاية في الرصانة قبل أن يرث الله الأرض وما عليها. انه تعبير عن أن الله يتوسط البشر لرعاية بعضهم بعضا صورة عن حكمه لهذه الدنيا قبل أن تزول الدنيا. ومن هذا القبيل أنها اعتراف بملك الله بدل من أن يملك الإنسان الإنسان. وإذا أبينا أن يملك الله نكون قد حجبنا أنفسنا عنه. وفي هذا لا تختلف المسيحية عن الإسلام إلا بوسائل ملكه فلا فرق في الجوهر بين حاكمية الله كما يقول بعض الإسلاميين أي بالشرع والفقه وان يحكم بالروح التي تملي المواقف هنا والآن كما تقول المسيحية. وقد لا يكون جوهريا فرق بين المؤمنين ودعاة العلمانية إلا من حيث أن الإلهيين يقولون بمرجعية ربهم والإنسانيين يقولون بمرجعية الأخلاق التي يولونها قيمة مطلقة أو شبه مطلقة باعتبار جوهر إنساني ثابت أو باعتبار قيم هي في خطوطها العريضة شبيهة بالكلمة الإلهية أو هي تعبير عنها بلغة الإنسانيات المعلمنة.
في هذا كله لا تفصل السياسة عن الأخلاقيات إلا في كون الأخلاقيات غير قسرية والسياسة قسرية على صعيد التنفيذ. بتعبير آخر ليست السياسة براغماتية محضة تتوخى النجاح في كل ثمن إذ تكون، إذ ذاك، سلوك لطرق الشهوة وأهمها التسلط الذي لا قيد له ولا يقيم حسابا للآخر.
وقد يكون الشعب اللبناني جاهلا لهذا كله أو رافضا لأنه في وعيه أو لاوعيه براغماتي حتى حدود المكيافيلية لكونه يريد أن يعيش بمعنى انه يبغي تأمين ديمومته على الأرض كائنة ما كانت سبل الديمومة. فالسباب وارد والحقد وارد مثل الكذب والتوبة مرجأة أو كأن هذا الشعب لا يؤمن إلا بأخلاق التعامل الفردي ولا يهمه طهارة التعامل في الشأن العام. وكأن هناك فصاما في الشخصية اللبنانية بين العام والخاص. وإذا أردنا المبالغة القصوى فهو يكذب ويزور ويحتال على القانون أي انه يخطئ فيقيم العبادات وينتسب إلى أديان غير ممارس أو غير عارف بمقتضيات دينه في المسلك المجتمعي كأن هذه الدنيا تدبير على مقتضى الحال بلا تقيد بوازع وغير مبال بقبول الله حاكما في أمور الأرض. بكلام آخر يجعل اللبناني إلهه في السماء لا تماس له والبشر في سلوكهم سبل دنياهم. وهذا جحود والجحود ليس فقط أن تنكر الله في وجوده ولكن أن تنكره في تسيير هذا العالم. وإذا قال المسيحي أن الله ضابط الكل فلكي يضبط ما في السماء لا ليضبط ما على الأرض لأنه يريد الأرض له لا لربه.
***
من هنا أن اللبناني لا يؤمن بالدولة التي يزكي وجودها أن تحفظ الأمن والعيش الكريم والحياة ولاسيما حياة الفقراء فيكون لها وجود بقدر ما تحرس وجودنا. واللبناني المستقل في أعماقه عن الدولة لا يريدها أن تكون كيانا عاما فوق الأفراد ولكنه يريدها بلا سلطة إذ لا يعترف إلا بسلطة نفسه أي بسلطان مصالحه دون النظر إلى مصالح الكل أي دون إيمان بأن الفرد ينوجد بكرامته وكرامة الجميع متلاحمتين.
لست أعلم إذا كانت هذه الفلسفة العملية ناتجة، كما قيل كثيرا، عن إن العثمانيين ربونا على إقطاع الأراضي أي على التفريق بين أسياد أقاموهم ومسودين سخروهم وعلى معرفتنا مثلا أن والي بيروت كان السلطان يعينه إذا قبل كلاهما الرشوة. كذلك لا أعلم إذا كانت مشاعرنا هذه مشتقة من الانتداب الذي كان يسلك سلوك التفريق بين الطوائف. كذلك يزين لي أن حكم الإمارة كان متصلا بسؤدد العائلات “الكريمة” ثم الحكم الوطني بعد الاستقلال شديد التواطؤ والطوائف أو كبيراتها. المهم أننا نؤمن بأن الشعب اللبناني مجرد جمهور تسوده قوى مختلفة مالية أو طائفية وهي وحدها شريكة الحكم الذي تبقى سياسته الدائمة حفظ التوازن بين القوى أي استمرار الأوضاع القائمة وليس عنده هاجس التخطي لهذه التوازنات بغية شد الوطن إلى وضع ديناميكي ينشئ توازنات جديدة فيها الكثير من العقل والكثير من إرادة تكوين وطن اي مكان يعيش فيه الناس بكرامة اقل بؤسا مما كان وأقرب إلى الازدهار والإبداع في حرية النماء.
لا يبدو أن شعبنا خارج معلومات ضحلة نالها على مقاعد المدرسة اكتسب أية قناعة بوجوب دولة إلا ما يجعل أمنه قائما. دولته في أفضل حال أبوية أو بطريركية. ولكنه في الزمان اللاحق للطائف وفي الأزمة التي نعيش لا يرى أن الحكم قادر أن يتقصى الجرائم ذات الطابع السياسي وكأن لسانه معقود أو قلمه مكسور إن بلغ عتبة المعرفة. فهذا الحد الأدنى من الأبوية لا يمارس. فإذا كان الشعب صامتا فالدولة تلازم الصمت منهجيا. ما يراه الناس أن الحكم مليء بالخبراء وان العلم الذي يحيط به متوفر ولكن العلم لا تفعيل له وكأن الدولة قابلة عجزها هيكلية لا مضمون لها.
على هذا المنوال عندنا خطاب منهجي وعندنا تنظير سياسي واقتصادي. غير أن الأكاديميات شيء والحكم شيء آخر. ويذهلني أن اسمع على الشاشة الصغيرة أو اقرأ في الصحف آراء تبدو سديدة ولا أفهم لماذا لا يصل هذا إلى حيز التنفيذ.
***
وكأن الدولة في حاجة إلى بساطة والى تدابير عملية تدخل إلينا بعض التعزيات. خذوا لكم مثل الخصخصة. هنا نسمع جعجعة ولا نرى طحينا. أفهم الاختلاف ولكن لست أفهم لماذا لا نختار فنوفق أو لا نوفق فالأفضل أن نخطئ من بعد قرار بدل أن نتقاعس عن أي قرار.
كذلك أفهم أن يقال إننا نسعى إلى تسديد خدمة الدين العام ونبقى مدينين. ولكني لم أقرأ حتى الآن أرقاما تثبت قدرتنا على إيفاء الفوائد وقدرتنا بعد عشر سنين او أكثر لإيفاء الدين. هذا الصمت المريع يذكرني بالنقاش الذي قام بين فاليري جيسكار دستان وفرنسوا ميتران عشية الانتخاب الأول الذي فاز به ميتران ودار بتهذيب كبير. لقد طرحا – على ما أذكر – ملفات وزارات كثيرة واختلفا فنيا بالحلول. واذكر في الجانب المالي والاقتصادي اختلافهما على أرقام وبعض الاختلاف كان على الأرقام الواردة بعد الفاصلة التي تلت الرقم الأساسي الذي أقرّاه. بكلام آخر بعض السياسة علم وهذا يبدو قليلا عندنا في مجال أو غير مجال.
ما العمل؟ قيل الأحزاب وأرى غير حزب متفرقًا في داخله أو متصادمًا وكأنه هو أيضا صورة عن هذا الشعب اللبناني في تبعثره. كذلك أرى أن ما يسود المشهد السياسي ولاء لشخص نافذ تفحص القلة ممارسته السياسية السابقة وأخلاقه فيها وكأن ما يربطنا سياسيا هو الإيمان بأفراد كما يأتي بهم واقعهم، أخطأوا قديما وسيخطئون وعليك ظاهريا أن تسلم أمرك إليهم وفي حقيقتهم هم إنهم ساعون إلى استمرار نفوذهم بتسخيرك ولك عليهم تفويضهم بتوظيف احد أبنائك أو دعمك بمخالفة القانون لكون القانون مقلقا للبناني ويحسه نيرا في رقبته.
***
إلى أين نحن سائرون؟ أظن أننا في هذا التفكك العام لدولة لا يؤمن بها احد لا بد من حلول جزئية في هذا المضمار أو ذاك نعرف فاعليتها بارتباطها بمجالات أخرى. قانون الانتخاب قد يكون له أولية بحيث يأتي النواب – في غياب الأحزاب – ممثلين حقيقيين لمن كان اقرب إليهم في منطقتهم فيشعر الناخب انه هو الذي أرسل من ينوب عنه. غير أن هذا يفترض نزاهة كبرى في عمليات الاقتراع ومراعاة للقانون ما أمكن كمالها. ولعل هذا الأمر منوط اليوم برئيس الجمهورية الحالي الذي يثق به المواطنون من هذه الجهة. فقد ينبثق عن هذا المجلس حكومة تأتي بتدابير عملية في مجال الاقتصاد وتكون على شجاعة كبرى بحيث لا يملى عليه شيء من فوق.
تعرفون أنفسكم براغماتيين. فليكن بعض من هذا، وعلى ضوء هذه الروح العاملة بإخلاص ينظر في الإنفاق بابا بابا وتولى لأهمية القصوى للثقافة والتربية. ربما إذا تثقف اللبناني روحيا ثم علميا، حقيقة، يستطيع أن يفهم حتى يبني المجتمع واحدا ويتبنى الديموقراطية تربية لا شكلا. ربما قدر أن ينتخب واعيا وان يرفض وصاية زعماء نصبوا أنفسهم قادة للأمة وليس عندهم قماشة القادة الحكماء. ما من ديموقراطية بلا وعي شخصي للإنسان الآخر.
إلى جانب هذا الفقراء الذين التقيهم كل يوم وهم الشريحة التي تحس أن الدولة ليست عندها وسائل ترقيتهم وضرب تهميشهم ويحسون بأنهم في أيدي الأثرياء الذين لا يثرون إلا أنفسهم.
إذا صح كل هذا لا تبقى الدولة حكواتية. متى تصير عظيمة حتى لا يستضعها الكبار، أجانب كانوا أم غرباء، فيرتفع صوتها عاليا فلا تبقى متغنية بجمال لبنان بل تجعله جميلاً حقًا.
Continue reading