Monthly Archives

February 2009

2009, جريدة النهار, مقالات

الصوم الطيّب / السبت 28 شباط 2009

صام قوم منا منذ بدء الأسبوع ونصوم نحن غدًا لنشترك بالفصح العظيم . عقل الإنسان يذهب الى الإمساك عن طعام وشراب – وهذا ما نمارسه- والكلمة تقول: «ليس ملكوت الله طعامًا وشرابًا». ان تمنع عن فمك طيبات هذا هو الحد الأدنى لمجاهدة الامتناع فيها رمز فقط، صورة عن الفقر او عن خطاب نقول فيه تصويريا ان احدًا منا بلا امتناع لن يكون رسولا او لا يكون محبا او ينسى انه من تراب. جميلة هذه الحركة التي يرسم بها الكاهن الماروني صليبًا من رماد على جبين المؤمنين ليذكّرهم بأنهم ان لم يتوحّدوا بالأرض ليسوا على شيء. وجميل كفاح جيل عرفته قبل سبعين سنة من اليوم حيث ابناء كنيستي كانوا يمسكون حتى صلاة الغروب واذا أدوها يأكلون وجبة في اليوم واحدة.

كل القضيّة قضيّة هذه النفس. أين أنت منها واين هي من كيانك؟ وكيف تسير الى الله الكامن فيك ثم اذا أدركته تكون وراءه واذا وصلت اليه يأخذك معه او يأخذك فيه. ان لم تكن في الحضرة وترقص حولها كالدراويش لست ترى شيئا من صيامك وليس هو تكثيفا لهذه الحضرة في النفس. وهذا لا يتمّ الا بالفرح اذ يقول في الكتاب: «فاذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لئلا تظهر للناس صائما بل لأبيك الذي في الخفية. وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك علانيّة». انت ابن اذا جعت اليه وفي المصطلح المسيحي اذا أكلت جسد ابن الله اي اذا اتحدت بذاته فصعدت اليه او نزل اليك اذ بينك وبين السماء سلّم يصعد وينزل عليها ابن البشر وانت تلتحق به اذا صقلت نفسك ويلقاك عندما تحلو اليه او اذا اشتاقك ورآك تتروّض بتعب ولكن بحب.

مَن لم يعرف هذا الجهاد تفوقه رؤى والرؤية هي التي تتكلّم ومع انك تصوم لله وحده اذ معه هو القران غير ان الكتاب في مستهلّ إنجيل الغد يقول: «ان غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي أيضًا. وان لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم ايضا لا يغفر لكم زلاتكم». انت لا تصوم للناس ولكن تصوم مع الناس. تضمهم اليك اي تلغي بالسماح عنهم خطاياهم لأنك ان لم تستدخلهم قلبك فليس الله في قلبك. تفريغ قلبك من التأذي الذي حصل فيه شرط سكنى الله فيك. عندنا اليوم مساء رتبة للغفران. فبعد انتهاء خدمة الغروب نركع حتى الأرض امام كل الحاضرين واحدا بعد واحد ونقول: «اغفر لي يا اخي انا الخاطئ» ثم ننتصب ونقبله وهو يعمل الشيء عينه والا لا نكون مؤهلين للولوج بالصوم. الصوم لا يحدث فيك طهارة آليّة. هو يذكّرك بالطهارة التي نزلت عليك لما استهللته.
# #
#

الصيام عمليّة مزدوجة: تفرغ نفسك من الطعام وتملأها بالصلاة وقراءة الكلمة. ليس هو مجرّد حمية. ما يحميك في الحقيقة ربّك ويحصنك. حاول ان تذهب كل يوم الى الكنيسة على الأقل مرة عند المساء لتنزل عليك معاني التوبة لتتحرّر من حب الرئاسة والكلام البطال كما يقول افرام البار وتكتسب «روح العفّة واتضاع الفكر والصبر والمحبّة». اتضاع الفكر محور هذه الطلبات. تدرب على الا تعتبر نفسك شيئا حتى يصبح الله في عينيك كل شيء فهو الذي أقامك من العدم الى الوجود. هل تستطيع ان تقول مع بولس: «جاء المسيح يسوع ليخلّص الخطأة الذين أولهم أنا».

المقطع الأخير من التلاوة الإنجيليّة غدا هو هذا: «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والآكلة وينقب السارقون ويسرقون. لكن اكنزوا لكم كنوزا في السماء… لأنه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم»

أبدأ بالمسؤولين في الكنيسة. في هذا يقول الأسقف بولس البوشي المصري المتوفى السنة الـ 1240: على الرسول ان يكون فقيرا. لا السيف ولا المال ولا النفوذ ولا العلم يبلّغ الرسالة. التبليغ يتم بالإله الذي فيك وهو ينطقك. وقد تنطق وتبلغ الرسالة بطهارتك وما عدا ذلك باطل. تجرّد من كل اقتناء لتقول والا يكون اقتناؤك هو المتكلّم. عندما سُئل سقراط كيف تزعم انك تقول الحقيقة. قال: فقري. كل كنيسة رئيسها قوي بقوة هذا العالم لا تستطيع ان تبلغ الرسالة. هذا الانسان غناه يجمّله. اذًا ليس عنده جمال في ذاته. ذاته المليئة من الله هي التي تصل الى الذوات الأخرى.

الكنيسة من حيث هي مؤسسة اتمناها غنية لتخدم الفقراء، لتكون كنيسة الفقراء الذين هم سادتها.

المال مفسد عادة لأنه سلطة و«كل سلطة تفسد والسلطة المطلقة تفسد مطلقًا». الجبابرة فقط يستطيعون ان يهربوا من هذه القاعدة. لذلك كان الفقر هو الأسهل لخلاص النفس. اعطِ تُعطَ احيانا هنا ليزيد امكانك على العطاء وتعطى دائما من فوق.

في القرن الاول من المسيحية في روما اذا لاحظ المؤمنون ان فيهم معوزين كانوا ينقطعون عن الطعام ليوزعوا ثمنه على المعوزين. كان هذا بدء مؤسسة الصوم عندهم حتى قال القديس يوحنا الذهبي الفم في آخر القرن الرابع: «ليس في روما من محتاج واحد مسيحيا كان ام وثنيا». الإحسان هو البعد الجماعي للصوم. بتعبير أبسط انت تمسك لتحب. ان انت اخترت الفقر تكون قد اخترت العطاء. تكون قد تحررت من فاعليّة أهل الدهر الحاضر لتحصل على فاعليّة أهل الملكوت اي انك تدخل الى نفسك الملكوت وتسكن فيه وتصبح بلا حاجة عملا بقول الكتاب: «اطلبوا اولا ملكوت الله وبرّه والباقي يُزاد لكم». تتدرّب ان فهمت هذا ان الله كنزك الوحيد وهو يطعمك كما يطعم العصافير ويزيّنك كما يزيّن زنابق الحقل ويضيئك كما يضيء النجوم فاذا رأيت نفسك عديم الملك يصبح الله مالكك وبه تستغني عن كل ما عداه.

فاذا كنت مصممًا هذا فادخل صومك مباركا. واذا رأيت نفسك غير راغب في هذا تكون قد قررت حمية وبقيت في موقع الطب وهذا ينفع قليلا. ولكن ان باشرت سعيك منذ هذا المساء بالغفران وروح التجرّد من كلّ وسائل الأرض ترى وسائل السماء قد نزلت عليك.

فلتلحظ نفسك متصاعدا الى السماء لحظة بعد لحظة. فاذا نظرت الى وجه الرب يحرّرك من كل رؤية أخرى ويقيمك امام وجهه ابنا حبيبًا.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن الزارع/ الأحد 22 شباط 2009 / العدد 8

 “خرج الزارع ليزرع”. كل ما يعرفه الكاهن عن عمله انه يزرع. احيانا يرى الحصاد في نفس هذا وذاك. ولكن الحصاد في الرعية رؤيته صعبة. لا يوجد حصاد جماعي إلا في اليوم الأخير حتى تَصْدُق الكلمة: “واحد يزرع وآخر يحصد” (يوحنا 37:4). الحقيقة ان المسيح هو الحصّاد الكبير ونحن نعمل له. صاحب الصناعة وحده يعرف نتيجة عمله لأنه ملموس. الطبيب كذلك. اما الشاعر فلا يعرف شيئا لأن عمله غير ملموس. كذلك الكاهن الذي قبِل أن يأخذه الكهنوت. انه يعمل ولا يعرف أنه يغيّر الناس. وفي افضل الأحوال الملموسات قليلة جدا. تعزية الكاهن في السماء وانه هنا فقط يزرع.

انه يُسلم رعيته الى المسيح الذي يرعاها من فوق. ان سقوطنا الكبير يدلّ على ان السيّد وحده هو الراعي الصالح. غير انه هو القائل لتلاميذه: “اذهبوا وتلمذوا” اي اذا قبلتم الذهاب (او العمل) جعلتُكم انا قادرين ان تجعلوا لي تلاميذ. هم ليسوا تلاميذ عندكم. انهم لي. افرحوا ليس لأن بعض الناس يجتمعون حولكم، ولكن افرحوا اذا استطعتم ان تجعلوهم حولي فالكلمة ليـست لكـم. هـي لي. واذا قـدرتـم ان تُخْلصوا لي، اي أن تصبح كلمتكم هي اياها كلمتي، تكونون عندئذ زارعين اذ ان الزرع هو انا.

اذكروا انكم لا تزرعون الا اذا كان الزرع بين أيديكم وودعتموه في الأرض. يمكن ان تكونوا عظماء في المعرفة وتبقى فيكم كما يكون الحَب عند الفلاّح ولا يأخذه الى الحقل. العارف يحتاج الى المحبة. هي التي تزرع وترمي الحبوب في أرض متقبلة. واذا لم يعمل الراعي شيئا وطلع حصاد، يكون الرب نفسه هو الزارع والحاصد، والراعي الأرضي يُدان.

هل انت، ايها الكاهن، زارع كبير؟ كل عمل تقوم به جيدا مثل خدمة إلهيّة متقنة هي زرع. قداس تقيمه بخشوع، بلفظ جيد، بانخطاف الى الله ينزل في القلوب. هذا زرع. كل صلاة غير “مسلوقة” زرع. الصلاة “المسلوقة” تدمير للمؤمنين. كل غضب على المؤمنين وإهمال لسماعهم اذا جاؤوك دمار. مرات تزرع، ومرات تبيد الزرع. ولكن خارج كل خدمة إلهيّة سلوكك الطاهر، الوديع، الذي لا عشق فيه للمال زرع جيد. إذا رأيت نفسًا متقبّلة لعطائك ولم تلبّها، فأنت متلف للزرع. المشكلة انك لا تستطيع ان تنسحب من الخدمة. “انت كاهن الى الأبد”. اذا دُعي شاب الى خدمة العَلَم، لا يستطيع أن يهرب. عليه ان يتعلّم الحرب. رسموك وربما لم تكن مستحقا، او بعد أن كنت مستحقا سقطتَ. لا تستطيع ان تهرب. تنمو من النقطة التي وصلت اليها. تُقوّم ما اعوجّ فيك. تحصل على ما كنت فاقده. تستعيد ما خسرته بسقطات متراكمة. الله وَضَع الرجاء لكي يخلّص كل انسان. لا تضيّع الفرصة لخلاصك لئلا تدان بشدة. فهناك خطايا الارتكاب الفعلي، وهناك خطايا الغفلة. إن غفلت ما كان عليك ان تقوم به فتُحاسَب كما لو انك ارتكبت. اقرأ انجيلك كل يوم. واذا آمنت بواحد من زملائك وعَرفتَ انه أفضل منك، فاذهب اليه واكشف له ضعفك فيعضدك ويحافظ عليك فتصير أحسن وتزرع من جديد. ولا مانع ان تكشف نفسك لرجل تقيّ وفهيم وناضج من رعيّتك او غيرها فتحصل لك قيامة كأنها معمودية جديدة.

لا حدود لحجم الزرع ولا حدود لخصب الأرض. معنى ذلك ان الجهاد مطلوب منك باستمرار. وتبقى غير شاهد للحصاد. تتعزى بالزرع لا بالحصاد لأن هذا سيُعرف في اليوم الأخير. سلّم نفسك ليسوع لتصير انسانا جديدا.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الابن الشاطر / السبت 21 شباط 2009

لست أعرف قارئا للإنجيل الا مشدودًا لهذه الحكاية ربما لأنها حكايتنا جميعا. الذي ورد المثل عنده لوقا لا يسمي الذي ضل في سلوكه الابن الشاطر اي الذي طلب نصف مال أبيه ولا يسميه ضالا. والده ما نعته بهذا النعت عند عودته. هذا أخذ قسطه من الميراث سيولة وسافر الى بلاد بعيدة، وهناك بدد ماله في العيش بلا حساب او بعيش مسرف (في ترجمة أخرى) او في غيرها عند العرب والأجانب في الخلاعة. والمعنى السائد هنا وثمة في المجون.

تحت هذه المعاني المتقاربة ما أراده الكاتب تبديد المال الموروث الذي ما كان الا نتيجة الانفصال عن البيت الأبوي . ويؤكّد هنا أهمية الوالد عند رجوع الفتى وحنانه. ما يتضّح عند لوقا ان الخطيئة في طبيعتها هي من قبلنا رفض البنوة لله بمعنى انها ليست مجرّد ذنب قانوني منصوص عنه في الوصايا ولكنها رفض لأبوّة الله ومعايشته التي يعرف هو قوّتها ومداها وانت تدخلها وتذوقها.

الضال يريد نفسه وحده ، يقرّر ما يشاء هو اذ يعتقد ان الوجود هو في هذه الحريّة التي لا يقيّدها الفتى بقيد.

»فلمّا أنفق كل شيء، أصابت كل البلاد مجاعة قاسية، فوقع في ضيق». ليس حرا الآن ان يخطئ. لم تبقَ عنده وسائل للخطيئة. الخطيئة تكلّف مالا احيانا كثيرة. الخطيئة أمست بيت الشاب في الفترة الأخيرة من غربته حتى لم يبقَ له مأوى. الى أين المفر؟حاول العمل. وجد وظيفة في رعاية الخنازير. هرب من خطيئة الى خطيئة أخرى اذ أكل الخنزير تحرّمه الشريعة. لوقا البديع الوصف هل أراد ان يبيّن انك كثيرا ما تهرب من معصية الى معصية أخرى لأن المعاصي عالم متكامل؟

لم يعطه أحد طعام الخنازير «فرجع الى نفسه» ليجد فيها الفراغ. الخطيئة ليس لها كيان. انها العدم. انها المرارة لأنها المؤقت. لأنها الحزن. تلك هي حيلة إبليس اذ يصوّر لك بكذبه انها وجود اذا حلمت به يتحقق، وسرعان ما تحس انك قابض على الريح. واذا اغتربت عن الله كما فعل الابن الشاطر تقلّب لذّة على لذّة لشعورك بأن الثانية أطيب فتحس انك انتقلت من اللاشيء الى اللاشيء وانك لا تزال في الخواء.

كل الخطأة عرفوا الفراغ وندموا. ان يزيّن لك ان في يديك شيئًا ولا تراه كأنك عميت تصبح شاكًا في الوجود كله. لذلك كثيرا ما قادت كثافة الخطيئة الى الجحود. كنت تنتظر من المعصية سلوة ما، طربا، سكرة ما، فإذا لمست عدم كل هذا تظن ان الوجود كله عدم. المشكلة اقوى بكثير من ان نطيع الوصية او لا نطيع. المشكلة هي ان نكون في ظل الله او لا نكون، في حنانه او في غضبه. رأى الفتى كل هذا في نفسه لما عاد اليها. أحس انه لا بد ان يختار.

# #
#
لم يُظهر الكتاب انه كان في حيرة لأن الخيار كان بين ان يموت جوعا او الا يموت. هو قرار الحياة اولًا ثم قرار الاستمتاع بما هو منتشر عند أبيه. جاء القرار قاطعًا: «سأقوم وأرجع الى أبي». لم يبقَ شيء من كل ما اشتهيته في الغربة لما اغتربت. عند أبي اشياء، وانا بعت ابي، ظننت أنه يمكنني أن أمحوه ولو لفترة او ان اعوّض عنه بمتع، فأدركت ان الأب لا يقابله الا الجوع ومعاشرة الخنازير والتبدي الذي لا ينتهي.

»سأرجع الى ابي واقول له يا أبي». الكلمة ليست مجرّد تسمية. أقرّ بالأبوّة، أقرّ بالصلة تلك التي قطعها باغترابٍ ما كان له من ضرورة اذ كان العيش مؤمّنا. كان اغترابي قطيعة. ثم يقول في نفسه: «أخطأت الى السماء واليك، ولا أستحقّ بعد أن أدعى لك ابنًا فعاملني كأجير عندك». الخطيئة دائما خطيئة الى الله. ظنّ هذا الغلام انّ والده سيكون قاسيا، أقلّه انه سيعاتبه عتابا شديدا وانه سيبقى أقرب الى الأخ الأكبر الذي ما عصى لوالده أمرًا ولعلّه ظنّ بأنه ولو استرجعه ابنا لن يكون له دالة عليه او لا يكون بينهما حميميّة.

»فرآه أبوه آتيًا من بعيد». هذا يعني ان الأب كان في كثير من أوقاته واقفًا على سطح او شرفة يترقّب كل الأشباح لعلّ واحدًا منها يكون ابنه وانه لم ييأس من عودته. كان يخشى عليه الفقر والمرض.

»رآه أبوه من بعيد، فأشفق عليه وأسرع اليه يعانقه ويقبّله». في لوحة رمبرانت عن هذا المثل ترى الولد ضائعا في حضن أبيه وترى الوالد منكبًا عليه كأنّ اللقاء لصوق. هذا معنى «يعانقه». ظهر شوق الوالد بالقبلات. لا يقول الإنجيل ان الشيخ عاتب الفتى او لامه قليلا أو ان هناك. عودة الى ذكر الاغتراب. لا سؤال عن سوء السلوك المحتمل لشاب طائش. مُحيت كل سيئة بعدم التذكير بها.

بعد الرجوع كانت المسرات بالشاب الذي أبدى حبّه للبيت الوالدي اذ «قال الأب لخدمه، أسرعوا هاتوا أفخر ثوب وألبسوه، وضعوا خاتمًا في إصبعه وحذاء في رجليه. وقدّموا العجل المسمّن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوُجد، فأخذوا يفرحون».

# #
#
التوبة الى الأب يقابلها الغفران والزينة الكاملة لذاك الذي جرّده تعاطي البغايا بهاء حشمته فعاد وتجمّل بالرضاء الأبوي. المثل يطول بذكر الغيرة عند الولد البكر الذي لم يحتمل ما اعتبره مكافأة عند أبيه لتعاطي أخيه الضلالة. ولكن الأب لم يأبه لذلك واعتبر توبة الصغير أسمى ما يمكن ان يرفعه ويعادل في ذا أخاه البكر الذي لم يرتكب خطيئة.

يقول بعض المفسرين ان الابن الضال يمثّل الأمم التي ضلّت والآن ترجع بالمسيح، وان الابن البكر يمثّل اليهود الذين لم يضلّوا في مجال العقيدة ولكن ليس عندهم امتياز، فالعائد بإيمانه كالباقي، ذلك اننا لا نتبرر بأعمال الناموس الموسوي ولكن بالإيمان الذي كان ابراهيم متسلّحًا به قبل ان تنزل الشريعة على موسى حسب قول الكتاب: «آمَنَ ابراهيم بالله فحُسب له ايمانه برًا».
مهما يكن من أمرِ توبةِ الأمم الى الله في هذه الحكاية، نقرأ قبل مثل الابن الشاطر مثل الدرهم المفقود الذي يختتم بقوله: «هكذا يفرح ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب». القديسون كانوا يعتقدون ان الرجوع الكامل الى الله صعب جدا في هذه الحياة. في هذا حوار رهباني قديم يتكلّم على ما جرى مع القديس سيسوي (ساسين بالسريانيّة). هذا كان رئيس دير يحتضر وتحلّق حوله رهبانه وسألوه: «يا سيّدي، قل لنا كلمة حياة». فأجاب «أنّى لي ان اقول لكم كلمة حياة ولم أتب بعد».
يبدو ان المواجهة اليوميّة مع الله عند الراسخين في الحياة الروحيّة تعطيهم شعورا انهم لا يزالون خطأة. ان تصير من جنس الله لأمر نطلبه بحرارة ولا ندركه حقًا الى ان نَمْثل في حضرة الله.
ان الرب برأفته الواسعة يريد ان يجعل كلًا منّا ابنًا له شبيهًا بمسيحه واضعًا في اصبعه خاتم عهد الحب، والحب يردم كلّ هوّة بيننا وبين الإله الحق.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

ثقافة الواعظ / الأحد 15 شباط 2009 / العدد 7

كتّاب كبار لم يدخلوا جامعات، فاذا قضت ظروف الرعاية ان نرسم كاهنا متوسّط العلم فلا بد له ان يجدّ ليزيد معارفه خارج اللاهوت ايضا، اذ لا بد من المعارف ليتكلّم انسان، وربما لا بدّ من الاطلاع على الفنون على أنواعها وتهذيب النفس بالموسيقى العالية. فاللغة ذوق يأتي من مصادر مختلفة، والمعلومات الإنجيليّة تـسندها علـوم. على سبيل المثال اذا قال الكاهن ان يسوع “كان لا بـدّ له ان يـجتـاز السامرة” يجب ان يعرف جغرافية فلسطين، واذا تحدّث عن “بيلاطس البنطي الوالي” لا بد له ان يعرف ان الرومان احتلّوا فلسطين قبل الميلاد، وانه كان له تنظيم سياسي- إداري فيها.

الى هذا تثقيف العقل ورهافة الإحساس من شأنهما ان يلطفا التعبير عند الواعظ وان يدخلا المعاني الإنجيليّة من مختلف الحضارات، ولكنه قد يحتاج اليها احيانا دون ان يثقل العظة بما هو خارج عن الكتاب المقدّس. ذكرنا في ما مضى انه لا بد من معرفة العربيّة الفصحى يستعملها احيانا ويهملها احيانا حسب الظرف وحسب السامعين. وهذا يتطلّب معرفة علوم اللغة العربـيّة.

لا يجوز ان يتكلّم المتعلّمون على الواعظ لجهله قواعد اللغة.

الى هذا، الكاهن انسان في حاجة الى فرح يأتي من المعرفة والى فرح يُعطاه بالعطاء، بالحديث في مجالس الناس، بالموآنسة. مؤذٍ مظهر كاهن صامت في كل المجالس. انه تُطلب الحكمة من فمه. الأخرس لا يعطي شيئا.

الى هذا ايضا لا بد للكاهن ان يطالع جريدة يوميّة عالية المستوى ليعرف ما في البلد وفي العالم. لا يعني هذا ان يُدخل السياسة في العظة. هذا ليس شغله. ولكنه ابو المظلوم والفقير والمريض، وأوضاعهم تستصرخ ضميره، واحيانا يجب ان يذكر عذابهم. المهم الا يتحيّز لفريق او لزعيم حتى في مجالسه الخاصة الضيّقة لأن الرعية فيها اختلافات. لا ينبغي ان يُبعد احدًا عنه بسبب السياسة، ولكن اذا رأى ان كلامه يصل الى السلطات او النافذين، فالكلام عن رفع القهر عن المقهورين، الدفاع عن الإنسان واجب علينا، ولكن الانفعال السياسي ليس من شأننا، والنضال السياسي ليس من شأننا.

من الثقافة الا يكون الخطيب الديني غضوبا لأن الغضوب يتدحرج لسانه حتى أذى الرعية وشتمها. نحن نلوم ونوبّخ احيانا ولكن بمحبّة كثيرة. الغضوب انسان لا يرتاح الى الكلمة ودسمها. اما اذا شبع منها حقا، فلا يحتاج الى ما هو غيرها، والغضب ليس الكلمة.

الكاهن ليس فقط في خدمة الشعب. هو غذاء الشعب. بشخصه. بقامته الروحيّة. بحنانه. يساعد على هذا الثقافة. كلما علت يزيد عطاؤه.

اجل واجب المرء ان يستثمر الوزنات التي الله واهبه.

غير ان هذا لا يعفيه من واجب التحصيل. هذا ايضا وزنة من الرب. فكما يسهر على ترويض جسده خوفا من المرض والموت، ترويض عقله ونفسه واجب لينمو ذهنه وتتجلّى نفسه ويزداد عطاؤه. هذا خدمة لنفسه وللآخرين معا. عندما فتح الله أذهان العلماء كان يفكّر بـالخـدمة التـي يـقدّمونـها. اغـرف مـن عطائهـم في سبـيل إخوتك. انت مسؤول عن كل الناس الذين يحيطون بك لأننا نبني بعضُنا بعضا لنصير جسدا واحدا للمسيح.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الهوية / السبت 14 شباط 2009

أود ان أعلو التمزق اللبناني وان اتفلسف حتى لا أقع في الحزن الذي يعترينا جميعا ولا ارى له منتهى الا بلطف الله اي بأعجوبة تغيّر كل معطياتنا. اليوم عزمت على ان احدثكم عن الهوية او الهويات التي بينها نتأرجح. كتاب امين معلوف عن «الهويات القاتلة» ان كل واحد منا ذو هويات كثيرة. انا كذا اي لست شيئا آخر ولكن على المستوى نفسه. انا ذكر اي لست انثى. انا من هذا الحي اي لست من ذاك. انا لبناني اي ما انا من بلد آخر. الهوية تفترض وجود الآخر. والآخر ليس انا الا بالحب. الآخر مقابلي. يحبني او لا يحبني. ولكن وجوده ثابت امامي. بيني وبينه مودة او بغض. ولكن في كل الاحوال هو آخر. احدد نفسي ازاءه والإزائية تعني الكثرة ولكن تنزع الى الوحدة. افراد متعددون، عائلات كثيرة، بلدان متواجهة، أديان متقابلة او متناقضة ولو نزعت الى التقارب. ولكنها لا تنصهر اذ تعطل عندئذ الهوية.

في البدء كانت القبيلة والفرد لم يكن. تجمّع القبيلة يلغي الفرد. وينشأ الفرد من مواجهته القبيلة. تصبح هذه ذات هوية اذا قابلت القبائل الاخرى. غير ان هويتها تقوى اذا بطل التبدّي واستقرت. عندئذ تنشأ المدينة. من هنا ان ابن خلدون صنّف الناس بين البداوة والحضر. في الحضر انا مرتبط بأرض ومتصل بالناس الذين يعيشون فيها افرادًا مستقلين ولو كانوا اعضاء في عائلات. والعائلات تتعايش على أساس هوية الاسم. وهي متعاونة او تسعى الى التعاون بسبب من تعدد المهن ومشاركة اهل المهن في الانتاج. تنتقل الهوية، اذ ذاك، من العيلة الى المدينة. عندنا هنا هويتان متكاملتان ولو سيطر زعيم على زعيم وتضاربَت الأسر او تقارعت. في المدينة اجتماع ولو على زغل احيانا او منافسة. وعند اجتماع المدن عندك وطن يقوم على وحدة وعلى خصومات معا الا اذا برز عدوّ فتشتد الهوية الوطنية وتظهر ايديولوجيات للتغطية ولكن لا تفنى خصوصية الافراد ولا خصوصية المدن. تجتمع الهويات او تتراكم وانت من هذه وتلك وتتأنسن العلاقات كما لم تتأنسن في العشيرة. الأنسنة تقوى اذا قويت روح المسؤولية.

داخل الوطن المدينة واحدة. كانت ذات سور لأنها تعيش حياة العداوة للذين هم خارجها. الموتى المسيحيون كانوا يُدفنون في العصر العثماني قبل أواخره خارج السور. الأعداء، المتوحشون، الغرباء ليسوا من المدينة ولو عاشوا ضمن السور. وهذا اخذ يضعف عندما ظهرت فكرة الوطن. اهل المدينة يسودهم القانون وخارجها ليس من قانون حتى يسود القانون العام ولا يبقى من غريب داخل السور او خارجه لأن القانون امسى القاعدة التي يعيش عليها كل الوطن.

# #
# وتتعقد الامور اذا حلّت الطائفة كقبيلة. الطائفة تهدد وحدة المدينة ووحدة الوطن لأنها أضحت في النفوس هي المجتمع ولم تترسخ في الأذهان وحدة الوطن.

في الحقيقة ان الصراع بين الطائفة والبلد لا يقوم الا اذا اعطيت الطائفة والبلد المضمون نفسه اي كانا كلاهما الوحدة الاجتماعية. الطائفة وحدة روحية اي الله يسودها ولا يقوم بين ابنائها مصالح في حين ان البلد يقوم على المصالح المشتركة بين ابنائه. فاذا اعتبرت طائفتك قوما اعضاؤه مرتبطون بمنافع الارض تكون قد خلطت بين ما كان قائما على الايمان وما كان قائما على منافع الدنيا اي تكون عائشا في هويتين متناقضتين. وبدل ان تكون في طائفتك عبدا لله تكون قد سخّرته ليكون في صالح قوم لهم ذاتيتهم المجتمعية وتكون قد جرّدت المجتمع المدني من طابعه المدني ليكون لا شيء. في الطائفة المعلمنة (القائمة عوض البلد) تكون استعملت الله ليلغي البلد اي تكون قد جعلته جزءا من طائفتك وهو ليس وقفا عليها لأنه رب العالمين. وتكون قد انتزعت من عقيدتك الدينية روحانيتها وكونها جسرا الى الآخرين وينبوع محبة.

انت مسيحي روحاني او مسلم روحاني ولست مسيحيا قوميا او مسلما قوميا. فاذا حل الروح الالهي فيك فهذا يدفعك الى ان تكون مواطنا اي قائما على الارض المشتركة التي هي الوطن وقلبك في الله وهو في قلبك، وللوطن مسعاك الأرضي في العمل وبذل الذات في سبيل الآخرين ويمسي حسّك بالآخرين الذين لهم هوية دينية اخرى خدمة للجميع. لست اقول ان بين الهويتين فاصلًا ولكن بينهما تمييز. فالوطن ليس مجموعة الطوائف لأنه من جوهر والطوائف من جوهر آخر. ومع هذا لك قلب واحد تحب به البلد وتحب ديانتك، ويدفعك دينك الى محبة الجماعة الوطنية وتحمي هذه قناعاتك الروحية.

لذلك لا معنى للقول ان الوطن هو فوق الطوائف ولكنه ليس الطوائف. وانت لا تمر بطائفتك لتتحد بالبلد ولا تنفي ايمانك الديني لتخدم البلد. نحن في مجالين مختلفين يلتقيان في قلبك ومسعاك ولكل منهما حقيقته وكيانه لأن الله -في اعتقادك- يكون لطائفتك ولبلدك معا. وانت تكون فيهما ولكن بهويتين. وتذهب من جماعتك الدينية الى بلدك ومن بلدك الى جماعتك الدينية لأن ربك جامع بينهما فيك.

عندنا في لبنان تمايز بين الطوائف وتداخُل معا. في عيشنا المشترك تقابُل بين اهل الاديان وتناضُح معا بسبب من مشاركة الوجود وبسبب من تقارب القيم وكثيرا ما كانت واحدة على الصعيد الخلقي وفي حالات كثيرة على الصعيد العقدي أقلّه في التوحيد ولو كانت ثمة مباينات في هذا الموضوع او ذاك. ولذلك قيل ان عند المسلم اللبناني شيئا من المسيحية وعند المسيحي شيئا من الاسلام. ففي معانٍ كثيرة نحن متداخلون، متماسّون. ومن هذا القبيل تنفع الاديان في تكوين الوطن.

الخطر يبدأ في اعتبار هذه الطائفة نفسها كل الوطن. انا لست أقول ان هذا قائم عندنا ولكني أحذّر من قيامه لأننا نريد ان يكون مجتمعنا واحدا على الصعيد المدني. الخطر عندنا ان نُحوّل الطائفة الى كيان منغلق او مكتف بنفسه في حين ان الطائفة ينبغي ان تنفتح من حيث هي كتلة على كل الطوائف ما لا يُزعزِع ذاتيتها الروحية وإسهامها في بناء الحياة كلها.

الخطر ان تتحول الطائفة الى قبيلة تتبدّى وحدها في حين ان واجبها ان تتحد بالمجموعات الاخرى على صعيد التجمع الوطني. واذا فهمتْ ذلك تطرح الخوف خارجا. اذكر حديثا جرى في الحرب لما كان زعماؤنا المدنيون مجتمعين في مطرانية الروم الارثوذكس في بيروت. كان ذلك في عهد المثلث الرحمات المطران ايليا الصليبي. اذكر ان الشيخ بيار جميّل قال للمسلمين: نحن نخافكم. فأجابه المغفور له تقي الدين الصلح: الخوف عيب. لماذا تخافون. فردّ عليه الشيخ بيار: لماذا تخيفوننا. أليس هذا عيبًا؟

الصلاح في ألا نخاف وألا نخيف. وهذا يحصل لو اعتبر الفريقان ان لهما هوية واحدة دنيوية أعني الهوية اللبنانية.

بعد مرور كل هذه السنوات لا يشك فريق بالهوية اللبنانية عند الفريق الآخر. ولكن كيف نفعل كل هذا؟ في الوضع الحاضر لم يبق الخلاف، على ما اظن، خلاف طوائف بل خلاف حزبي اي خلاف خيارات على الصعيد السياسي حصرا. اعرف ان تأكيدي هذا يشك فيه الكثيرون. ولكن أدركنا الآن وقتا لا يشك احد في الخلافات السياسية بيننا. انا ليس عندي وصفة لحل هذا النزاع. وصفتي فقط ان يحب بعضنا بعضا بحيث ندعو الله ان يجمع بيننا واذا ما حل يكون اضعف الايمان الا نشتم بعضنا بعضا واقوى الايمان ان نتحابّ.

السياسة لا تحل كل عقدها. الله وحده هو حلاّل المشاكل. ودعوتنا هي اذًا اليه. وما لم نستنزل الله الى القلوب لن يتغير شيء في لبنان. لبنان بلا اله في نفوس الناس يبقى متفسخا، والانتخابات لا تحل عقدة ما لم تقترن بالغفران اي بالتلاقي الذي يمليه الله علينا. عند ذاك تكون لنا هوية روحية واحدة مع اختلاف الدين. نحن في حاجة الى توبة كل جماعة الى الجماعة الاخرى واعتبارها اساسية للمشاركة الوطنية.

هل تحصل الأعجوبة اذا سعينا الى الحرية الواحدة لكل ابناء البلد والى تنميته الواحدة لكل المناطق والى ازدهاره الاقتصادي والى الإبداع الفكري الذي هو في مصلحة الجميع. انا واثق ان هذا اذا حصل تأخذ الخلافات بالزوال ونمشي معا ليزول حكم القبائل وتنشأ المدينة الفاضلة. نحن عندنا معطيات وجمالات روحية لكي نبني حياتنا على العقل والقلب معا. ونحن قادرون ان نبقي بلدنا طيّبا بمواطنيه وسالكا دروب الحق ومعتَقا من كل سيئاته القديمة ليتجلى بالله الذي يريد ان ينزل عليه.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الموعظة: سكبها ومضمونها / الأحد 8 شباط 2009 / العدد 6

الموعظة موجّهة الى رعيّة الراعي الذي يعرفها ويعرف أمراضها الروحيّة وسيئاتها، ولذلك تختلف من هذه الزاوية عن تلك التي تُلقى في رعيّة أخرى. في حالات خاصة مثل مشاركة مطران او كاهن غريب، لا شيء يمنع أن يُفوّضا بالوعظ. يتجنّبان عند ذاك الأمور الخاصة، ويبسطون كلمة الله بمعناها العام.

لا بد من مدخل او تمهيد كأن يقول الخطيب: نقيم اليوم عيد القديس الفلاني، او أصاب أكثر الناس وباء، او حلّت بهذه المدينة هذه الحالة التي تعرفون. هذه طريقة. طريقة اخرى ان يضع الواعظ النص الإنجيلي في سياقه التاريخي فيبيّن كيف جاء ولماذا جاء. واخيرا يختم ولا يبقى متحيرًا ولا يجتر الكلام. واذا رأى الخطيب ذلك مناسبا، يختصر بسرعة الفحوى الذي شرحه، وهو يعي ان الخطاب بناء اي تقوم فيه أجزاء على أجزاء وتؤلف هذه معا عمارة واحدة متراصّة حجارتها، مترابطة المعاني.

حتى تتلاحم الأجزاء يمكن ان تتضمن العظة نقطتـين او ثلاثـا. امـا اذا لم يكـن عند الخطـيب الا نقطـة واحدة فيمكن ابراز جهة او جهتين منها.

هذا كان الشكل. اما المضمون فقلنا انه الإنجيل بمعنى ان الكاهن الذي لا يعرف جيدا العهد الجديد والخطوط العريضة في العهد القديم لا ينبغي عليه ان يعظ، لأنه في فراغ عقله من العهد الجديد يأتي الرعية بمفاهيمه هو التي كثيرا ما تكون تافهة او عادية جدا، ونحن ما جئنا لنعرف آراءه في الحياة او السياسة، ولكنا جئنا نتعلّم كلمة الله. لعل اهم فضيلة في الكاهن ان يعرف حدوده.

لمّا كنتُ خادما للميناء، كان ينزل عندي مرتين او ثلاثا من أبرشية اخرى كاهن عنده اسباب لحضوره في رعيتي. وقال لي: “عندي كتاب عن الكهنوت اقرأ فيه كل ليلة فصلا قبل النوم، ثم أقول لنفسي عندما أضع رأسي على الوسادة: يا فلان ما كان إلك حق تصير كاهن”.

ولكن اذا أدرك الكاهن انه لم يكن مستحقا، ينبغي ان يجعل نفسه مستحقا من بعد الرسامة اذ يمكنه ان يدرس ويعلّم، وخوفًا من الخطأ يكتب ويعرض مواعظه على المطران او كاهن لاهوتيّ ليصحح له الكلمة التي وضعها. اذا قرأ عند بولس: “ويل لي إن لم أبشّر”، ماذا يعمل لينجّي نفسه من الدينونة؟ قداس بلا وعظ شيء غير موجود في الكنيسة الأرثوذكسيّة. هذا لا يقدر ان يشلح، ويحب ان يخدم. ولم يأتِ وقت موته. يبدأ بوعي الثغرات ويسدّها الواحدة تلو الأخرى. والرسول قال ايضًا: “عظ في الوقت المناسب وغير المناسب”. أنت إنسان الكلمة.

الى هذا، يشتري (من معاشه) الكتب الدينيّة التي صارت منتشرة في الكنيسة الأنطاكية ولا ينتظر هدية. يخصص لكل يوم ما لا يقل عن ساعتين للقراءة. عنده ساعات فراغ. يملأ رأسه من المعرفة، وتتلاقى المعارف في عقله ويحبها بقلبه ويحس تدريجيا انه يستضيء. وليطرح اسئلة على الزملاء الذين هم أعمق منه في المعرفة. ليس في هذا حياء. قد يصير هذا الأخ واعظًا كبيرا.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الاشياء العتيقة قد مضت / السبت 7 شباط 2009

الاثنين الماضي كنا في عيد دخول المسيح الى الهيكل ويقال له في اليونانية عيد اللقاء واني لمتخذه رمزًا لأقول ما وددت قوله. ولعلّ عمق المعنى ما استهلّ به لوقا هذا الفصل بقوله: «ولما حان يوم ظهورهما (اي مريم ويوسف) بحسب شريعة موسى، صعدا بالطفل يسوع الى أورشليم ليقدّماه للرب» كما هو مكتوب في شريعة الرب: «كل ذكر فاتح رحم هو نذر للرب».

لقاء مع الهيكل، لقاء الهيكل الجديد الحي بالهيكل القديم. وكان هناك رجل مدعوّ سمعان ما كان من الكهنة. هذا اقتبل الطفل وقال انه يحمل الخلاص لليهود وللأمم. أقف عند هذا لأقول اولا ان اليهوديّة زالت وهيكلها انقرض بإحراق الرومان له السنة السبعين وتاليا ان كل شيء عتيق قد مضى كما قال بولس وكما نشعر نحن ابناء العهد الجديد الذي أقامه الله مع الذين جدّد قلوبهم وسكنها. فبخلاف ما يظن الناس لم تبقَ ديانة العهد القديم حصرًا. انها في الوجدان اليهودي مكللة بالتلمود وفي الحياة اليوميّة يسودها التلمود الذي كتب خمسة قرون بعد المسيح. لقد اخذ يسوع الناصري اليهودية الى المقاصد الإلهيّة التي كان الكلام الظاهري يغلفها. الفرائض اذا بقيت حرفا ننفذه قاتلة للنفس، مستعبدة لها. وقمة التطوّر في هذا ان صار اليهود عابدين لأنفسهم، عابدين للأرض. كأنهم من حيث هم جماعة قائمة على «أرض الميعاد» مخلّص لأنفسهم وللعالم. هذا هو حال لاهوتهم من زمن بعيد، كأن الله يهمّه تراب الأرض، كأنه أمين سجل عقاري لمصلحتهم.

نحن المسيحيين الشرقيين نقول ان اليهوديّة زالت من حيث هي نواميس وهيكل (حتى لو لم تنقرض حجارته) وان الذهنيّة اليهوديّة من حيث هي حروف شرائع لم يبقَ لها مكانة عند الله وتاليا صراعنا مع الصهيونيّة القائمة على مفهوم الأرض المقدسة صراع لاهوتي. لذلك لا نفهم اللاهوت المسيحي الغربي القائل بأن اليهود لا يزالون شعب الله الحامل رسالته للعالم. فبعد ان صارت الكنيسة شعب الله ابتلع المسيح كل شيء قديم ليجعله جديدا. من أمات الأشياء القديمة في نفسه يحيا مع المسيح الذي هو الجدّة كلها.

لقد انهدمت الهيكليات القديمة التي تحمل بذرة الموت وحضارة الموت لتحمل بذرة الحياة وحضارة الحياة. كل واحد منّا فيه نزعة الى التحجّر اي الى تحويل الحياة الى هياكل مصنوعة بالأيدي بحيث ينقطع عن إحيائه الينبوع الذي كان يسيل فيه بعد ان تفجّر في جوف الله. وهكذا يفترض ان يعتبر العتيق فيه عتيقا كما الخلايا في الجسم تعتق وتسبب الموت. هيكليات العقل المعتق زائفة بطبيعتها وتتأكلنا من الداخل كالخلايا السرطانية ولا احياء ممكنا للجسم الا اذا أمست كل مكوناته جديدة.

كل انسان ميال الى العتاقة لأن الجديد مقلق لكونه يغترض المسؤولية اي إرادة التغيير كأننا مولودون جديدا وهذا في المصطلح الانجيلي يسمى الولادة من الروح.
# #
#

قصتنا مع الحياة هي كيف نكافح قوة الموت الروحي الذي فينا. كيف نواجه الاهتراء. ما يسمى السقوط في الكنيسة الشرقيّة ليس خطيئة ورثناها منذ البدء. انت لا ترث مسؤولية سواك، ذلك ان كل نفس تموت بموتها اي بسوئها الداخلي وتحتمل ذنبها لا ذنب سواها. غير ان الانسان يولد معطوبا. كل يوم من حياته يقرّبه من الموت ويدخل دائما الى كيانها ما يعرقله عن تحقيق دعوته الإلهيّة، ما يحول دون صعوده او يؤجّل صعوده. بهذا المعنى العميق «كل نفس ذائقة الموت». بالتعبير القديم هذه هي تجارب إبليس او هجمات الشهوة فاذا استغرقت في شهوات الأرض تفقد ميلك الى رغبة في السماء حيث تجديد الحياة.

كل خوف من الموت يجعلك تصطنع هيكليات، عادات تنكفئ اليها وتظن انها تحميك من مختلف تعابير السقوط. في الحقيقة الإنسان في هروب. يحس ان وجه الله اليه مطاردة او ان الله يطلب الكثير ويتطلب الجهد وهذا يهدد الهياكل التي اصطنعناها في داخل لنفس نلجأ اليها وسرعان ما نلحظ ان اللجوء اليها لا يشفينا.

سمعان الشيخ لما اقتبل الطفل يسوع تمنى الى الله ان يأخذه اليه. «ان عيني قد ابصرتا خلاصك» قال. والخلاص جدة الله اذ الله ما كان ابدا بعتيق -هذا الكلام- يخفي عند قائله قصده ان الهياكل العتيقة فيّ عندما واجهت طراوة المسيح لها ان تنقرض وانا اصير انسانا طريئا كهذا الطفل. واذا صرت كذلك اشتهي طراوة الله وأشفى.

الخلاص ليس فقط يخلّصك. انه يجددك لأنك اذا أبصرت الله محييا تحيا. تحيا بحياته. «من جاء من فوق، فهو فوق الناس جميعا. ومن كان من الأرض فهو أرضي وبكلام اهل الأرض يتكلّم» (يوحنا 3: 11) وهذا لا علاقة له بالأعمار «لأن مولود الجسد يكون جسدا ومولود الروح يكون روحا» (يوحنا 3: 6).

اجل لكل انسان بدن ولكلٍّ عقلٌ. هذا من الطبيعة المخلوقة وقيمته عظيمة على هذا المستوى. ولكن لا يقاس بما نزل نعمة. عند ذاك لا ينظر الى الأبدان ولا الى العقول لأن جميعها لا تقارن بالنعمة فلا شبه بين ما جاء من الطبيعة وما جاء مما فوق الطبيعة. ما جاء من تحت محافظة وترويض بشري. ما نزل من فوق لا تنفع فيه الأجساد ولا العقول ولا الدولة ولا انظمة العالم ولا التنظيم الذي أقامه الانسان لنفسه ظانا انه يفيد من ترتيبات العلم وانه ينمو بها ويثبت بها.

# #
#

انت جديد اذا رأيت ملكوت الله حسب قوله: «ما من احد يمكنه ان يرى ملكوت الله الا اذا ولد ثانية». (يوحنا 3: 3). الولادة من امرأة هي من الطبيعة. الولادة من الله من مشيئة الله وقبول الإنسان لها ولكنها في حاجة دائمة الى تقوية بالطاعة. ليس من عهد ضمان يجعلك آليا لصيق الله. انت معرض للخطر الروحي. لذلك عليك ان تسهر. اليقظة الروحيّة تقتضي ان تحبها، ان تجد فرحا بمرافقة الله اياك. معايشتك الله لا تنشئ فيك هياكل لوجوده معك. انت دائما في حاجة الى ان يمدك الله بنعمته وتتقبله انت كما تقبّل سمعان الشيخ يسوع.

هذا السهر الدائم ينجيك من الخوف. اطلب الى الله ان يلازمك، ان يجعلك دائما خليقة جديدة قفزت فوق الموت. أخطر تجربة تعتريك هي الخوف. «المحبة تطرح الخوف الى الخارج». هذه صلابة ليست منك ولا تدوم من نفسها. تبقى بالصلاة غير المنقطعة، بذكر اسم يسوع الذي اذا ردده لسانك يصبح حضورا وعند الحضور يتلاشى الخوف. عندئذ تمضي الأشياء العتيقة. اذ ذاك تشعر ان ربك جعلك من ابناء الملكوت.



Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

صناعة الموعظة / الاحد أول شباط 2009 / العدد 5

الكلمات المرتبة، الواضحة فيها صناعة. لا ينبغي ان تتدحرج الكلمات من اللسان ولكن من العقل الذي يحتوي المعاني ثم يستلم اللسان المعاني. هذه حال كل نص. اجل ان تستلهم الله ولكنك تدرس . تمحّص الأفكار المتّصلة بالفكر الإنجيلي اي بالقراءة الانجيلية التي قرئت. وهذا التواصل بين الواعظ والنص الانجيلي تدعمه التهيئة للعظة بحيث يأتي الكاهن الخطيب دارسا مكانة التلاوة الإنجيلية في الإنجيل الذي اقتُطفت منه ويعرف تفسيرها استنادا الى كتب التفسير المتوفّرة لديه بالعربية او باللغات الأجنبيّة اذا كان يتقنها، وعلى الأقل من الكتب التي تفسّر أناجيل الآحاد او الرسائل. وهذه متوفّرة بالعربي.

وقد كُتب في هذه الأبرشية منذ سنوات عديدة تفاسير في رعيتي، وربما أمكننا الاطّلاع على ما نُشر في أبرشيات أخرى.

غير ان هذا لا يعني أن نردّد ما قرأناه هنا وهناك، ولكن ان نستقي منه ونعود الى قول قولنا ويوافـق الجماعة التي نعظها لأن ما يقال في هذه الكنيسة لا يُقال في غيـرها، ومـا يـقال في هذه السنـة لا يـُقال في غـيرها.

واذا سعيت ان تكون بسيطا، هذا لا يعني ان تكون سطحيا لأن المؤمنين في حاجة الى غذاء روحي. ان تكون بسيطا يعني ان تكون واضحا. لا يعني ان تكون تافها.

انت ابذل جهدًا لتفهم. واذا رأيت انك لم تفهم كل المقطع، لا تحاول ان تشرحه كلّه. يمكنك فقط ان تشرح آية او آيتين. وحتى لو فهمت كل الفصل المقروء، قد تروقك آية واحدة اذ تعرف انها مفيدة لرعيتك. تركّز عليها ولا تكرّر كلماتك. ولكن لا تخف أن تردّد ما قلته في سنوات سابقة. دائما ان كنت حيويا محبا للإنجيل تنسال من لسانك كلمات جديدة. خذْ مثل “الابن الشاطر”. يمكن ان تركّز في هذه السنة على الولد الضال، وفي سنة أخرى على الذي لم يضل، وفي سنة ثالثة على الآب الحاضن والحنون. ولكن لا تقدر ان تعظ على هذا النص بعشر طرق الا اذا كنت موهوبا كثيرا. الأسلوب قد يتغيّر. الكلمات يمكن ان تأتي جديدة. ولكن عمق المعنى يأتي واحدًا.

من الأصعب ان يأتي نصّك جامعا بين الإنجيل والرسالة. غير ان هذا يتطلّب منك حذقًا في صناعة الكلمة ومعرفة أعظم. حاول هذا بعض المرات ولكن ليس كثيرا الا اذا كنت دارسا جيّدا للكتاب المقدّس.

حاول ان تستوعب الكلمة الإلهيّة من سِفْر التكوين الى سفر الرؤيا وسجّل على دفترٍ التقارب الذي تجده بين الآيات من العهدين. القراءة المتعمّقة مع قراءة الحواشي إن وُجدت تكون ينبوعا فياضا لوعظك. اذا استطعت ان تحفظ عشرات الآيات او مئات منها تتدحرج على لسانك وتتماسك في عقلك. اعرض موعظتك على الفاهمين اذا كانت مكتوبة او مسجّلة لتتأكّد انك لم تُخطئ في العقيدة. التواضع امام زملائك العارفين هو الذي يجعلك تتقدّم. المهم ان تعطي فكر المسيح وليس فكر الأدباء والشعراء او الفلاسفة.

انـت ابـن الكتــاب والآبـاء القديـسين ومنـهـم الآباء النساك. انت موفد المسيح الى رعيتك ولا علاقة لك بالنصوص الأدبيّة. التزم فكر الرب.

Continue reading