Category

1964

1964, لسان الحال, مقالات

محبّة النفس / الأحّد 22 تشرين الثاني 1964

عندما نبغض الأنانيّة ماذا نحن مبغضون؟ دائرة الأنا هذه الصغيرة التي يعطيها صاحبها كلّ قيمة الوجود ونحن نحسب أنّ أناه زائلة وفي كلّ حال ليست هي إلاّ القليل القليل. وفي تركيز كلّ شيئ عليها تبدو لنا هزيلة، كالفراغ. ومع ذلك قيل لنا «أحبب قريبك كنفسك» وكأنّ النفس ليست فقط ما يجب أن نحبّ ولكنّ محبّتنا لها هي قاعدة المحبّة وانطلاقها ومحكها. وكأنّ محبّة النفس هي بالكلّية غير ما نقصده بعبادة «محبّة الذات» السائرة.

أن أُحبّ نفسي هذا الحبّ الممدوح ليس أن أحب فرديّتي بأخطائها وغرورها بل أن أحب هذا الكيان العميق في ذاتي  كما خرج من يد الله وكما سيكون إذا افتداني الله برحمته. هذه الشخصيّة النورانيّة التي فيَّ، وقد غتّطها نواقصي وأسرتها أوهامي، بذور القداسة كامنة فيها. هذا الأبديّ فيَّ، اسمي الإلهيّ، كما يقول ابن عربي، هذا هو مطلقي. هذا التضارب بين الأنا المقيت، هذا الذي يسبيني إلى الغرور وبين نفسي المطمئنّة إلى نورها وصفائها أقدِرَت أن تعاين الله من خلال نورها أم لم تقدر.

كلّ نفس، ما لم تمرض بتعذيب ذاتها، متحابّة. الإنسان يحنّ إلى الهناء والإستقرار والفرح، إلى وجود لا يشمبه الإنحدار. فالمؤمن يعرف أنّه الآن يصلّي أة يتمتم كلمات. يعرف أن فعله صادر عن ذاته أو عن هذه القشرة التي تغلّفه. وكذلك الشاعر يحسّ أنّه كان نفسه أو لم يكنها.

هذه الشخصيّة التي ندركها فينا يقول المسيح أننّا محبّوها بالطبع. يطلب إلينا أن نحبّ الغير كما نحبّها. أن نحبّ هذا الخير الذي هو في سوانا. ألمسْناه أم لم نلمسه. أن نؤمن بحقيقة الآخر وأن نجعله ساعيًا إليها لأنّها بالنهاية صورة الله. المهم ألاّ يحوّل شرّ الغير دون رؤيتنا الزرع الذي حرثه الله فيه ويمكن الإنسان أن يستنبه في كلّ حين.

إذا أدركنا أن اللقاء بين البشر هو بين الألوهة التي فيّ والألوهة التي في غيري فلا يبقى من أثر للسؤال: كيف أحبّ قريبي كنفسي؟ أنا وقريبي كلانا مقرٌ للإله. وفي الرؤية الصافية أنا محبّ فقط لهذا الإله الموزَّع في النفوس بدون انقسام. كلّ نفس عرشه. أحبّها لكي تدرك ذلك، لكي ترفع عنها الغشاوة التي كانت تحول دون معرفتها هذا الأمر الذي يستحقّ كلّ اهتمامها.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

موت وحياة / الأحد 1 تشرين الثاني 1964

«طريق الموت وطريق الحياة طريق واحدة إذ خطوناها بمحبّة» (ريسه ماريتان). إمرأة في ذرى الأوجاع كتبت هذا وقد أدركت أنّ «كلّ خليقة تنتقل من موت عبر موت إلى الحياة الأبديّة».

الألم، إذا ارتضيناه، طاعةً واسلامًا، هو رياضتنا على الصبر والتواضع وهما مرقاتنا إلى الحق. ذلك أن الحقّ هو في المواجهة. وغير الحقّ هو هروب أو نزهة كما يقول يوسف حبشي الأشقر في روايته الأخيرة «أربعة أفراس حمر». أما قال أرباب الحياة الروحيّة قديمًا أنّ الخطيئة هي في الوهم، في ذلك السراب الذي نعدو وراءه فلا نرتوي. تلهينا الظلال ونستبدل ظلاً بظلّ إذا مللنا. هل العبث هو في الحياة نفسها أم في هذه الشباح التي تتراقص أمامنا؟ ألسنا كافرين بالأمور اليقينيّة لكوننا ساعين فقط إلى تلك الأشباح وهي في دوام الفرار؟ وإذا كان ما نسعى إليه صائرًا إلى العدم فنحن أنفسنا في دوران وإمّحاء، من تثائب إلى تثائب في نزهة الهروب.

هذا لا يعني أن أهل الحقّ مغمورون بنور وهّاج. ذلك لأنّ «النور في الظلمة يضيء». «كنجم يرسل أشعّته من مسافة تفوق التصوّر». تقول أيضًا ريسه ماريتان، «ذلك لأنّه يجب أن نتسلّق، بخطى موت، سلم الحياة». لا يعرف الصابرون هذه الواحة الكسول. هم ليسوا معمّدين بفيض نور لا ينقطع. المحنة تلدهم يومًا بعد يوم، في أنّات مخاض مرير. وفي قلب المحنة، لا خارجها، يطلّون على هذا السلام الذي لا يضع حدًّا للْمُلمِّات ولا يخفف وطأة اليأس ولكنّه يعايشها جميعًا حتّى تتجرّد الطمأنينة من مرافقة الشدّة يوم تطلّ علينا رحمة الموت.

والألم منهل، رائده المؤمن ليس لأنّه يستلذّ الألم استلذاذًا مرضيًّا بل لأنّ الألم، في واقعنا، يغلّف الحقيقة، تلك التي ليست علمًا وحفظًا بل التصاقًا بالوجود، بهذا الوجود الذي ليس من طبيعته أن يتلاشى كالفيئ المائل.

الصبر، عند المؤمن، مفتاح المعرفة إذًا، هذه الصامدة. التطهّر الداخلّي سبيل لاكتناه الحق، إعراض عن الوهم، هروب من الهروب. أمام تأليق الخيال وجموحه وجذبه تجربةُ المؤمن أن يلهو هو أيضًا بالسراب. خلاصه في أن يستمدّ حكمه ومواقفه لا من عتمة الأشباح في تراكمها بل من هذا القبس الذي ينير سبيله من عل. الظلام المحيط بالمؤمن كثيرًا ما يكون كثيفًا. ولكن في قلبه هذا اليقين الذي لا ينزع منه الفجر بازغ من العتمة نفسها وأنّ كلّ ألوان الموت ودرجاته تؤدّي، عاجلاً أم آجلاً، إلى الحياة.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

الخطيئة / الأحّد 25 تشرين الأوّل 1964

مشكلة الخطيئة، هي في آخر المطاف، المشكلة الوحيدة فأنّها تلازمنا طيلة العمر. تطرح الإنسان في صراع مستميت إن كان من الساعين إلى رؤية الله الطهور. والمشكلة قائمة لأنّ المؤمن يلمس تسرّب الضعفات إلى نفسه مهما تقدّم في معارج البرّ أو على قدر تقدّمه. الاثم هو العذاب الوحيد الذي نعاني لأنّه وحده في أعماق الكيان. المرض يؤثّر فيك فقط إذا افتقدك الصبر، ولكنّه، بالنهاية، مستقرّ في الجسد الذي يمكنك أن تتأمّل أحواله وكأنّك متفرّج. ولكن إذا استعبدك الشرّ الداخليّ وطغت عليك الظلمات فأنت واحد مع هذا التخبّط وكانت نهاية أمرك الموت.

أيّ موت؟ هذا الشلل الذي يصيب النفس إذا استرخت وارتكبت يجعلك غير قادر على محبّة الخير، غير منجذب إليه. الحياة التي كانت كامنة في كلمات الله تصير إلى جماد. لا يأتيك منها انعاش وتقلّب الصلاة في فكرك- إن كنت لا تزال من أهل الصلاة- وكأنّك تتعاطى الفراغ. الله وشؤونه في غياب. قد يُترك لك بعضٌ من حنين ولكنّه لا ينشئ فيك الرجوع. تعرف من الذكرى جمال ما فات ولكنّ الخطيئة عاشت ونمت فلم تتحوّل الذكرى إلى نداء.

تتنقّل النفس، وهي في هذه الحال، بين التساؤل عن مصيرها العظيم وبين اللافكر، بين بعض من حضور وبعض من التلاشي. العجز عن الوثبة المنقذة هو عينه ما جعل أحدهم يقول :”إنّ أجرة الخطيئة هي موت”

وإذا كان الجحيم هو ذلك العجز عن إدراك الله، إذا كان استحالة محبّتنا له فخبرة الخطيئة في عمقها هي ذلك الجحيم الموصول. لا يستلم الإنسان قصاصه من حكم ولكنّ كلّ عمل شرّ يحمل إلى النفس قصاصها.

عقابنا الكبير أن ما نبغضه إيّاه نفعل، إنّ الشرّ حاضر عندنا يسبينا إلى ناموس الخطيئة الكائن فينا. شقاؤنا في هذا الذي نقترف والعقل عارف أن في الإعتراف تجزئة الكيان واضمحلاله.

ولكنّ الله جعل من الخطيئة نفسها عبرة إن هي صارت بالإنسان، على هذه الأرض، إلى ذلك الجحيم أو إلى مقدّمة الجحيم. ذلك لأنّ الله جعل من الموت قيامة. هناك مخرج لا نعرفه بالعقل ولا تحلّله أساليب الإستقصاء عندنا ولم ينطق به علمٌ. هناك خلاص من المأساة. الإنسان الذي كان في قسوة يلامسه لطفٌ إلهيّ غريب ويؤتى رحمة. والرحمة يغرق فيها الخاطئ مثلما كان غريق خطيئته. هذا الإنسان المشتت تلملمه إلتفاتةٌ واحدةٌ من عند ربّه. لا يدري كيف أنقذ كما أنّه لا يدري كيف عصا. الأثم والبرّ كلاهما سرٌ. وكما أنّ الموت الروحيّ، مهما طال، لا يحول دون انبعاثنا من جحيمه في هذه الدنيا كذلك الحياة الروحيّة الكبرى، مهما امتدّت، لا تحول دون سقوط الجبابرة. الإنسان هو إمكان لا حدّ له يتحوّل إلى ظلمات كثيفة إذا انتهك سرّ الأثم أو ينقلب إلى نور عظيم إذا جاور سرّ القداسة. هذان السرّان يحملان كلّ معاني الحياة.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

خطايا الراشدين / الأحد 13 أيلول 1964

كنت مرّة أكلّم فئة من الأحداث في فضيلة التواضع. بعد ربع ساعة شعرت بأنّهم لم يفهموا من الحديث شيئًا فأدركت أنّهم لم يعرفوا الكبرياء ولعلّها لم تمسّهم وكأنّ نوعًا من الزلاّت يظهر في سنّ معيّنة. بل هناك أكثر من ذلك. بدون الحياة الإجتماعيّة ومسؤوليّاتها لا ينكشف للإنسان شقاؤه. ليس أن الجماعة سبب المعاصي ولكن هذا السيل من الآثام منسكب من داخلنا عندما تمتحن الحياة اخلاصنا. مسكين هذا الإنسان الذي يعف بسبب قصر الطفولة وعجز الشيخوخة. ومن هذا القبيل كانت الشيخوخة رحمة لأنّها تفضح ثقل الماضي وتفاهته. هي تضجك في حكمتها من جهل غرقت فيه ولعلّ الحكمة، على العموم، نضوج ناتج من تراكم الأخطاء.

ومع هذا كلّه ليس الشيوخ كلّهم من أهل الفطنة. ليس كذلك بالضرورة لأنّ شرّ الإنسان راسخ فيه حتى الموت. فالنفس كثيرًا ما تبقى على ضلالها حتّى النهاية ولا ترتوي حتى إذا دنا اللامق الأخير. لا يرتدع الإنسان بقوّة الموت إذا اقترب بشيئ أقوى من الموت نفسه هو العاصم. قل هو الإيمان أو هو المحبّة. إنّه أمر ربك تطلّ عليه الطفولة ويعرفه الشباب بنوع خاص كلّما ساقته خطيئة إلى اليأس. اليأس من الإنسان الذي لا خير فيه ولا متوكّل عليه.

اليأس مرحلة أساسيّة من مراحل الرجاء. ذلك لأنّ الرجاء رجاء بالله. الثقة ليست بالنفس بل برب النفس. يبتدئ اليأس عندما ندرك ضعفنا اللامحدود. إنّه شرط الإنطلاقات الروحيّة لأنّه الوضوح. يأس من الشباب ويأس من الشيخوخة قال لي أحدهم وأنا أتكلّم مثل هذا الكلام. إنّك تثبط العزيمة. ولكن إذا كانت العزيمة دائمًا تنتهي بالإخفاق. إن كان الإنسان يتبيّن فشل مساعيه باستمرار، كيف يجوز أن نتحدّث عن مكاسب الإنسان، اليوم أو غدًا، في المجال الروحيّ؟ أليست الفائدة من بلوغ الشيخوخة أن نتبيّن فساد الحياة كلّها، أن نعتبر الإنسان، طيلة حياته، بطلانًا ومدعاة إلى رجاء ينبع فقط من دفقات السماء.

قيمة الحياة كلّها في هذا: أن تكشف عراءنا الكامل أمام الله إذ انتهينا إلى عتبة ملكوته. العمر، ولا سيّما إذا كان، فرصة لهذا الإكتشاف. مدرسة يمكن أن نتعلّم فيها فقرنا. خطيئات الراشدين فائدتها- إذا صحّ التعبير- تبيان هذا الفقر كاملاً. أجل، الخطيئة جزء من ترويض الله لنا على محبّته فحيث كثرت تغمرها النعمة وفي مقابلتها تتجلّى الرحمة الواسعة. تراكم الحطايا، استفحال يأس نت الإنسان، ازدياد في الرجاء إلى أن تصفو النفس به فتطمئنّ إلى ما يأتيها من فوق اطمئنانًا هو السعادة عينها.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

روحية السفر / الأحد 26 تموز 1964

كان السفرُ سعيًّا إلى المعاش أو المعرفة أو حريّة الروح، إنطلاقًا من ضيق. الإغتراب حدث في الوجود الذاتي مهما كان قصير الأمد لأننا ملاصقون الأرض التي نشأنا عليها، لأن المدى الذي نسرح فيه جزء من كياننا والإنسلاخ عن مدانا معاناة. الأبعاد من أعمق ما فينا وليس لنا عنها استقلال. نحن نتبنّاها أو نرفضها وفي كل حال نعايشها. صبغتها لا تزول.

على هذا الصعيد الوجداني جاز القول أن الإنسان يستطيع أن يحوّل السفر إلى إكتشاف للذات. أنه إغتراب عن النفس أو إليها. نتلهى فيه عن النفس أو نكتنهها. ننساها أو نغوص فيها. نهرب من العزلة أو نواجهها وكأن المرء يدرك، في الغربة، ذاته عائمًا على سطح الأمور أو يغمره سرّ نفسه والكون.

سرّ نفسه والكون. لأن النفس لا نلقاها بالضرورة إذا انعزلنا وأردنا تأملها ولكن إذا ابتعدنا عن ديارنا فانطرحت تلقائيًّا أمام الفحص. السفر مدرسة ليس لأنه يُدربنا على معرفة الشعوب وطرقها وأخلاقها وحسب بل لأنه يروّضنا، بهذا الإحتكاك، على استدرار كنوز روحية كانت فينا دفينة.

بعضٌ من السفر إذن حج. هذا التّعري الداخلي الحاصل لنا من امتحان القلب يمكن أن يجعلنا أمام اليأس أو أمام الهداية. ولذلك كان السفر، في أكثر الأحيان، من أخطر الأمور التي لها مساس بالإيمان: تقضي عليه أو تقوّيه. يضمحل ما كان في الأساس هزيلاً. ما كان قائمًا بسبب مراقبة البيئة بسبب إتصاله بالقوى الإيمانية الحيّة الموجودة في العالم.

الحيّ لا يفنى. ولذلك لا خوف على فضيلة الشبّان أن هم سافروا. ليست الفضيلة ما يفقدون بل هذه الصورة المشوّهة عنها التي هي العادة. كل ما يزول لم يكن أصيلاً قبل الإغتراب. فمن حجّ إلى الله في بلده يظلّ الله محجته في كلّ أرض. في الخارج يتأصّل إله المرء فيه وكأن كل دار غربة بالنسبة إلى من يؤمّها مكان مقدس. شيئ من الأبد لا نلتقطه إلاّ بالإبتعاد وكأنّ امتدادنا إلى البعيد مقلبنا إلى الأدنى، كأننا أقرب إلى الأعماق عندما نسعى على سطح الدنيا. مَن يدري لعلّنا نجد هناك الذين تركنا هنا أو نلقاهم كما يريد الله أن نلقاهم في حقيقة الصلاة وصفاء التجرّد.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

حقيقة ومحبّة / الأحد 19 تموز 1964

حقائق العلم المنثورة في الكون يستنبطها العقل مستقلاً عن كلّ قوة أخرى. ولكن، على معنى آخر كلّيًا، هي الحقيقة الوجدانيّة العميقة التي تحرر. هذه يرثها الإنسان من السماء. إنّها بنت الكشف، يقذفها الله في القلب ومنها نثب من جديد إليه ومنه إلى الإنسان والكون جميعًا. إنّها ذلك الواقع الداخليّ الذي يمسّ الكيان كلّه ويتقبّله الكيان بما فيه من تأمّل فكريّ وإرادة وشعور. الإنسان كلّه أمام الحقيقة أو هو أمام الباطل وهو بدوره إنسان حقّ أو إنسان باطل. الحقيقة هي ذاك ما ينقدح فينا نورًا. هي تتولّد في الوجود لا في الدماغ وحده، في الوجود المتسائل المتألّم والمتخطيّ نفسه.

من هذا القبيل، الحقيقة في انبعاث وتمخّض. لا شكّ أنّها مسجّلة في ضمير الله ولا شكّ عند المؤمن أن الله سلّمها في الخلاص الذي صنعه. ولكننا نحياها في كلّ يوم لا حرفًا نردّده بل مواجهة جديدة لله والأحياء الذين حولنا. ليست هي قصّة تُروى ولا مبادئ عامّة ولا آياتٍ كريمة أو أقوالاً مأئورة ولكنّها قصّة كلّ واحد منّا مع ذلك الإله الذي يدخل كلّ يوم معنا في حوار حبّ.

ولكنّ الحقيقة ليست فقط هذا الحديث الذي بين النفس ربّها ولكنّها نابعة أيضًا من حديث الإنسان وأخيه. أنا في الحقّ إن أحبّني بشر. أعماق الله تُكشَف لي عندئذ. أنا لا أستطيع أن أصل إلى الإنسان وما لم يصا الإنسان إليّ. في هذه الشركة الطيّبة تتحوّل قصة الله القديمة إلى صلة جديدة. ولماذا لا يلعب الله لعبتي كما لعب لعبة الأنبياء. وإذا كانت رسالة الله متوقّفة على شخصي وشخص من يتّصل بي فنقل الرسالة يستحيل على من لم يحبّ. وهذا يعني كلّ ما يهدم غيري لا يمكن أن يكون حقيقة ولو كان من الناحية العقليّة صحيحًا. المحبّة مركبة الحق وروحه.

وإذا كان وصول الحقّ ليس عمليّة لقاء أو سماع وحسب بل هو كشف في جو محبّة، فهذا يعني أن رعاية الصفاء والثقة بين الناس هي الشرط الأساسيّ لشيوع الحقيقة حتّى جاز القول أن المناظرة ليست على الإطلاق وسيلة لتبليغ الحقّ. لم يكن الإنسان يومًا محض عقل، إنّه وجود يوقظه وجود وينقذه وجود.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

ذكرى كرنفال / الأحد 11 آذار 1964 – من مونيخ

في الإخوة كرمازوف، يقول المفتّش الأكبر للمسيح: «ما لك وللجموع؟ أنت وعدتها بالحرّيّة. دعني أنا أعطيها خبزًا». كان هذا تحدّيًا لقول الناصريّ: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان». خبزًا وألعابًا بالعكس، كان الرومان يتطلّبون. الخبز لأنّهم وقعوا في الحياة، واللعب للخروج منها. وكأنّ الذي لم يطلّ على ما فاق رتابة العيش يظلّ سجين العيش. العبث جزءٌ من دنيا أُلقينا فيها. نداوي ما يتكرّر كلّ يوم بما يعود عند الموسم. ولكنّ اللذّات كلّها نقاط على دولاب الوجود. لا ترتطم واحدة بالأرض، حتّى تستتبع الأخرى، فتُداس اللذّة تلو اللذّة حسب قول الأسطورة القديمة: عندما يبلغ أبولون ديانا، تتحوّل إلى شجرة. فالحياة ليست في التقاط الحياة، بل ما في دوام التجاوز إلى اليقين.

وجوه متنكّرة تطوف شوارع مونيخ الرئيسة. لا يحول تساقط الثلج دون مرحها. ألمانيا كلّها في رقص، وما القناع سوى اتّخاذ دور، كما كان في المسرح الرومانيّ. أليس التشخيص، كما تسمّيه العامّة عندنا، أن نتلبّس شخصًا آخر، كأنّنا صائرون إلى تقمّص مؤقّت. هروب، وكأنّ الإنسان الغربيّ، ليلة ولوجه الصيام، يخجل من العبث، فيستر وجهه بالمستعار. لعلّه لم يقتنع، حتّى النهاية، بأنّ الرزانة يجب أن تتلاشى، فيخلع القناع عند بدء الصوم.

لكنّ الذين يحاولون أن يواجهوا أنفسهم في كلّ حين (والمواجهة من الوجه بالعربيّة) يعبرون الطريق، وكأنّ لا مكانة لهم في الجنون العامّ. ترى بعضًا منهم في خلوة، في الكنيسة الكبرى، وقد نهضت من خراب. لأنّها لم تفن بعد أن أماتها الحلفاء. لم تتنكّر للحياة، فاتّخذت منها خير حديثها. الأسلوب الجديد، في الرسم والنحت والنقش، حيٌّ في تكعيب، بسيط مع الجلال، ليس ممشوقه إلى تأنّث.

تساءلت بسذاجة: «أحكم على البشر أبدًا أن يستوحوا كلام المفتّش الأكبر، ألاّ يقاموا تجربة الخبز واللهو؟ هل يأتي يوم يصير فيه طواف المساخر إلى اضمحلال؟». ما كان يمثل، في ذهني، الدنيا الكرنفاليّة هذه، صورة شهيرة لبروغل في متحف مونيخ القديم: ثلاثة رجال قتلى نوم بعد مدام وطعام، لعلّ العالم سيبقى كذا منشطرًا إلى ذوي شهوة وسبات وأهل إمساكٍ ويقظة إلى يوم يُحلُّ الله الملكوت. في مجال الفنّ، يمثّل رمبرانت ذلك خير تمثيل. في هذا المتحف العظيم ذاته في زاوية ضائعة، له أربع لوحاتٍ: رفع المسيح على الصليب ثمّ إنزاله عنه فقيامته فصعوده. في الأوّليّين والرابعة، المسيح وحده في نور، واللوحة ما عداه مظلمة. فقط، في رسم الانبعاث، يشعّ النور من الملاك من فوق على السيّد الدفين. والنور كلّه كان في يقظته.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

«مين خلّف ما مات» / الأحد 8 آذار 1964

قول يتسرّب إلى اللسان من وثنيّة قابعة في نفوسنا إن نحن قمنا بواجب العزاء، تأصّل في الأرض، في تتالي الزمان ديانة الكثر، وكأنّه غاب عن فكرنا أنّ جيلاً أو بعضًا من جيل ينقضي وتمحق الذكرى. وحتّى النصب، الذي نقيم لكبير في قومه، كيف يترجم حياة هي توثّب فرادة؟ هذا الكائن الأحد الذي كنتُه أنّى لأولادي أن يحفظوا منه غير الصور الباهتة. هم أيضًا مخلوقات فريدة. الذكرى لا نحملها إلاّ لندلّ بها على الاندثار. هي إنعكاس الموت في من بقي.

لا معنى للكلام على الخلود إلاّ إذا كانت في الدنيا طاقة حياة أقوى من الموت، تبتلعه فور حدوثه، وكأنّه هو، بالحريّ، صورة عن استمرارها. البعث، الذي تكلّمت عليه ديانات الساميّين، ليس انقلابًا من المادّة إلى اللامنظور، لكنّه الإقرار بأنّ كيان الإله الحيّ يستقطب الإنسان، فيتجاوز هذا، بنعمة من عند ربّه، ما كان حدًّا لعيشه إلى حيث البقاء. هو إيمان بالإنسان على قدر ما هو إيمان بالله. بإله نواجه لا بإله فكرة. ليس هو الاعتقاد بتلك الإنسانيّة التي تتعاقب بسبب موت كلّ أفرادها، بل إيمان بكلّ إنسان أتى إلى العالم، بأصالته، بأنّه دنيا قائمة بذاتها لا تُردّ إلى شيء آخر، وليس مثلها شيء. الحديث عن القيامة ويوم الدين وما إليهما صورة عن الكيف للتعبير عن هذا أنّ الله أعدّنا للخلود وأنّ لهذه المقاصد محقّقًا. في هذا المذهب، تنقذنا كلمة من فم الله، وفي ذاك انحدار الألوهة نفسها إلى القبر، لتفجّر فيه قوّة الحياة وغلبتها.

هذه النظرة وتلك، الرحمة تجمعها ما أعمقهما إذا قيستا بما نطق به أخيرًا جان بول سارتر في كتاب «الكلمات». يقول إنّه لم يخش الموت لأنّه كان دائمًا رفيقه، وإنّه لا يعقل نفسه محقّقًا إلاّ ما وراء موته. لا يخفي سارتر جحود مع أنّه، في الأخير، لا يبدو جازمًا. سيوجد إذًا، وهذا قوله، في حافظة الناس. ولذلك عرف، وهو في التاسعة، أنّه سيصبح كاتبًا. ولكن، إذا اندثر ذكره من أرض الأحياء، فمن أين له الوجود الذي يرتقب؟ ولذلك يرتعب لفكرة كارثة قد تودي بالكرة كلّها.

ليس سارتر أعمق من العامّة عندنا إذ قالت: «مين خلّف ما مات». يجترّ هذه الوثنيّة العتيقة. أهمّيّة الإله الحيّ أنّه يقيم وجودي، يعترف بحرّيتي كاملة ولو استعملتها ضدّه، وكأنّه يرضخ لذلك لأنّي بها أثبت نفسي. وما انحنى هو عليّ بكلمة توحي أو رقّة تغفر إلاّ لأنال منهما ما يؤهّلني، إذا أغمضت عينيّ، إلى ولوج ملكوت الحياة.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

وجه / الأحد 23 شباط 1964

في يوم قريب من هذا، نطلق إنسان صديق إلى ما وراء حجب الدنيا للقاء الأكبر، كأنّه إلى موعد حبّ. ذهب في خفّة الحرّيّة ومهابة المواجهة كمن يلبيّ نداء، يدفعه توق غريب، وفي أعماقه كينونته أنّ مغامرة الأرض لا نشوة فيها ما لم تكن تذوّقًا لجمالات الخلود.

استهان الألم لا ترفّعًا، بل يقينًا منه ملازمه حتّى آخر شوط. لم يتساءل عن سبب تكثّفه فيه، ولعلّ ذلك كان خيرَ وجه من وجوه إيمانه. ما احتسب يومًا أنّ صبره قدرة، لكنه رأى، في انسياق العبر، أنّ الصمت من مقتضيات الكرامة وأنّه مطلّنا على الآفاق التي تتكلّم. فضيلة كهذه في ذروة مدارج صعاب. غير أنّ الصمت تفضحه البسمة. قد تحمل هذه السخر الشفوق أو رقّة في خفر. وفي كلّ حال، هي العالم الداخليّ منقوشًا على وجه لحوار.

حضرة كهذه لا تغيب أن كان من يستطيع أن يتقبل الصلة. هذه ما كان الجسد إلاّ ركيزتها. ما لنا وللمتوكّأ إذا سقط. هذا الحضور الآتي من بعيد ما زالت منه غير الترجمة. وعندما نلحُّ على شدّ المحسوس إلينا فنستميت لتحلّ المعجزة ولا يتفلّت الراحلون من نطاقنا، أفلسنا نريد لهم أحيانًا مصيرًا لم يرتضوه؟ أليست المحبّة أن نفسح لهم مجال ميعاد تمنّوه؟ وإذا كانت «المحبّة أقوى من الموت»، فنحن معهم على حقيقة الشركة.

الذين اتّخذوا الأبد محجّة لا يفرّق بينهم زمان الارتحال. يجمعهم المبتغى وفيه فقط يبلغون التلاقي الحقّ. فالنفس، إذا صفت بالفراق، زالت بينها وبين من استبقي الحواجز، وكأنّنا نحن أيضًا، على نحوٍ ما، ورثة لبلّوريتها. ندرك، إذا عرفنا ذلك، أنّ التركة التي لنا أغنى ممّا كنّا نظنّ وأنّ ما حسبناه انسلاخًا ما كان سوى وضع آخر من أوضاع الوجود.

الجوهريّ تنقله العبادة أكلمةً كانت أم لحنًا أم مخطوطًا. ولكنّا، في الأساس، نشتاق ما كان التجسيد محاولة للتعريف عنه. من عاش العلاقة البشريّة هكذا، كان يقول بالخلود عنده من مستلزمات هذا العيش. من خبرة الموت نشرف على الوجه الأرضيّ من كياننا وعلى الوجه ذاك. منها نعرف الذي كان في من تولّى فريدًا، ذاك الذي يعلو العابرات والتقطنا عنه صورًا لا تُستعاد. نفهم، عند ذلك، أنّ هذه الشعلة ليست إلى انطفاء، وما كان الغلاف الجسديّ سوى زجاجة المصباح. المذهب، الذي يحتاج إلى الحجّة، ليس القول بالبقاء.

Continue reading
1964, لسان الحال, مقالات

اليوم / الأحد 16 شباط 1964

الزمن، الذي يعنيني روحيًّا، هو اليوم.«اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم». الآن، أنا في مواجهة الله والمقابلة الوجدانيّة مع الخليقة.«لا نعلم بعد ماذا سنكون». ولا مسؤوليّة لي عن آتٍ ليس بعد. ما أحقّقه اللحظة، يميّز حاضري. في الآن، أحبل بالمستقبل. لا شكّ في أنّ ارتقاب الآخرة بعض من إيماننا، والتطلعَ إلى خلاصٍ حصل أو وحيٍ بعضُهُ الآخر. ولكن، أليس الإيمان كلّه «قيام المرجوّات فينا وبرهان غير المنظورات»؟ فكأنّ بالإنسان في حقيقة الخبرة الروحيّة يشدُّ إلى نفسه فعل إنقاذٍ قديم يذهب به إلى ما سيكون، فيذوق، الهنيهة، ما انكشف وما سوف ينجلي. هذا الإيمان فيه الرؤية الآنيّة للحقيقة المنسكبة على الناس في كلِّ أبعاد الزمان. هذه الرؤية هي مصدر الشهادة، إن لم تكنها.

وهذا يقود، من الناحية الأدبيّة، إلى أمرين. فبالنسبة إلى الآتي، ألاّ أرجى التوبة، فربّما لا يكون زمان، أو ربّما لا أوهَبُها فيه. والحقّ أنّي، إن لم أردها الساعة، فلست بعدُ من أهلها. ومن ناحية أخرى، أن أهمل إصلاح الدنيا رغبةً منّي في الآخرة وإيثارًا لها، فهذا يدلُّ على أنّي لم أفهم السماء منطلِقة من الأرض الوهّابة ومستقَرٌ للبشر الذين يحوطون بي، وهم بي يطهرون وبسببي ينساقون إلى الأرجاس. من هنا نبدأ الآخرة. الدنيا عتبة الجنّة أو مستهلُّها. حضورنا في الدنيا سبيلنا إلى حضرة المجد واليقين في النعيم.

وإذا كان الشطح نحو الآتي هروبًا، فالإنخطاف إلى الماضي ليس دونه هروبًا. في النطاق الأدبّي، هذا يعني أن أنسى معاصي الماضي لئلاّ تجذبني الذكرى. شيء من الذكريات حيلة من حيل الشيطان. ما انقضى من الأثم عبء ثقيل، خلْعُه أساس للوثبات واكتساب الحرّيّة الداخليّة. «أنسى ما هو وراء وامتدّ إلى قدّام ساعيًا نحو الغرض». سيمون ده بوفوار، في كتابها الأخير، تحزن على الذكريات: «فإنّي أحسُّها محكومًا عليها بالإعدام». اشتياق المؤمن، بعكس ذلك، أن ينعتق من الليل الجاثم على صدره إلى نور الولادة الجديدة. وتتساءل الأديبة الكبيرة: «أعلامة الشيخوخة قلق كلّ رحيل، كلّ انفصال!». المؤمن فتوّة دائمة، لأنّه لا يرحل إلى فراغ، ويعرف، وهو في شركة الكون، أن لا انفصال. تاريخه تاريخ الكلمات التي يقولها الله فيه. بسبب هذه الكلمات، كلّ حياتنا منفسح الله، مفتوحة في ما مضى منها على الغفران، وفي مصيرها على الرجاء، ومحورها إيمان اللحظة وفرحه.

Continue reading