مفردة الكاهن في المسيحية لا علاقة لها بمن سمي كذلك في جاهلية العرب اي الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار. هي تدل فقط على القس الذي يفتقد المؤمنين ويرعاهم ويؤم صلاتهم. واللفظة المرادفة لها في العهد الجديد الشيخ او الاسقف. الكاهن عندنا هو المسيح من حيث انه قرب نفسه ذبيحة ثم اطلقت على امام الصلاة في القرن الرابع من حيث انه يستمد كهنوته من المسيح استمداداً.
اما لفظة إكليرُس اليونانية التي أضفنا اليها الهمزة لكون الكاف ساكنة في اليونانية، فتعني النصيب أي من كان الله نصيبه وهي لا تشير الى امتياز ولكنها تشير الى تفويض للخدمة. فليس في المسيحية طبقات بحيث يكون أحدنا بحكم وظيفته اقرب الى الله. مكانة الانسان في تقواه ولا تتصل بالمسؤولية المسندة اليه. لا بل الأدب النسكي حافل بالتندر بشأن الاساقفة المعذبين في النار. هناك توقير يرتبط بقدسية الدور الذي هو اقامة العبادات. واما القول القرآني “ان كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل” فإذا صح تاريخياً في فترة من الزمن فإنما يصح في كل من استغل مركزه الى أي دين انتمى ولا علاقة له بعقيدة أحد. والقول ان النصارى “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله” فنحن لسنا نصارى بل مسيحيون. وفي تاريخ الكنيسة ليست عندنا واقعة واحدة تدل على اننا فعلنا مثل هؤلاء المدعوين نصارى في جزيرة العرب. ولا نعرف اننا رفعنا القساوسة الى المرتبة الإلهية. وما نحن تالياً معنيين بهذا القول بالإضافة الى ان الكلام الظرفي لا يؤخذ على اطلاقه.
كل تاريخ ثقيل، ولسنا نبرئ احداً. كل المسيحيين الطاهرين قاموا على قهر بعض الاساقفة للشعب في الغرب في زمان محاكم التفتيش والمسيحية الغربية من هؤلاء براء. البابوية الحالية شجبت ذلك وندمت. ولعل بعض الاساقفة في اميركا اللاتينية او غيرها من القارات ساندت الطغاة. غير ان بعض الاساقفة والقسس دعم الفقراء دعماً بطولياً واستشهد. وقد يكون هذا الاسقف الشرقي او ذاك يمارس شيئاً من العنت او القسوة. لكن الاساقفة الشرقيين لم يعرفوا السلطة السياسية ليتسلطوا وكان معظمهم فقيراً ومتواضعاً في اوروبا الشرقية في كل عصورها. وما شكا المؤرخون بعامة ائمتنا على هذا الصعيد. واما الادعاء الذي روجه الماركسيون من ان الكنيسة كانت مسيطرة في روسيا فمن قاله ليس مطلعاً على شيء لأن الكنيسة هناك كانت تشكو من سيطرة القياصرة عليها ولم يكن بيدها حكم او شبه حكم. وهنا كان رؤساؤنا الروحيون يذوقون مرارة المماليك والعثمانيين ولا حول لهم.
وان لم اكن في معرض المقارنة فمن ليس عنده اكليرس كان عنده من يحكم باسم الله وكان ظل الله على الارض ويكفر من يشاء ويقتل تاليا من شاء ويرمي في البوسفور من شاء. فعلى مستوى العنف والسيطرة وخنق الحريات فليس احد منا مؤهلا ليعطي الاخر درسا. فالخطايا شخصية ولا تمت بصلة الى المؤسسة. كل صاحب مقام من شأنه ان يستكبر ومن شأنه ان يتضع. الشعوب واحدة في المعاصي والكبار معا في البر ولا سباق في السماحة اذا استشرفنا الامور تاريخيا.
في العقيدة الكاهن عندنا خادم وكذا يقال له في عدة من اللغات الاجنبية، ونحن ايضا لا نسميه “رجل دين”. انا لا اعرف هذه العبارة في القاموس اللاهوتي ولست اظن ان احدا يعني ان القس موفور الدين اذا قيس بسواه او كأنه متخصص بالدين وكل مؤمن متخصص بمعنى الانصراف الى الله والاخلاص له.
كل الديانات عندها علماء دين لأن الدين تراث يتطلب دراسة وافية المسيحية تنفرد بأن لديها رعاة منشغلين بالهداية والتقويم لمن شاء ان يهتدي ويتوب. واذا شئنا ان نتكلم عن سلطة لهم فليست هذه مقرونة بأي تنفيذ. فمن جحد المسيحية يتركها ولا يمنعه احد ولا يستطيع منعه. فما من دولة تحمي الايمان عندنا ولا تطلب الكنيسة لأية دولة ان تعاقب احدا لكفره. انت حر في اعتناق الايمان المسيحي وحر في تركه وحر في مكافحته.
اما القول بأن الكنيسة تنقذ اذ تحرم اعضاءها الذين يكفرون بصلب العقيدة فهذا شأن ادبي وليس يعكر صفو من يخرج ولا يزجه في سجن. الكنيسة محصورة في الدعوة ولا تلجأ الى مرجع مدني في الدول المسماة شعوبها مسيحية. الكنيسة على الصعيد الاجرائي ليست بشيء. انها مطروحة للصلب في كل مكان وهذا يهون على الجميع اكلها وهي مرتاحة الى وضعها الشهادي والى فلسفتها الشهادية.
المسيحية سلطان الرب على النفوس التي تحبه وهي خارجة عن افهومة السلطة لكونها خارجة عن افهومة القوة. هناك قوة الانجيل بحد كلماته ولا علاقة لهذا باحكام. المسيحية مملكة القلوب ولها قدرة القلوب اذا استنارت وحيت. “مملكتي ليست من هذا العالم” اي لا تأتي من نفوذ العالم ولكنها تأتي الى العالم نفوذا وجدانيا قادرا على ان يغير العالم.
العالم له سلاطينه واكثرهم سلاطين ظلام والمؤمن يحيا في ظلهم “عمرا هادئا مطمئنا بكل عبادة حسنة وتهذيب”. وهدأة المؤمن من نعمة ربه ولا تأتيه من احد لأن احدا ليس قادرا على اعطائها.
في هذا الجو السلامي الكامل يأتي القس ليغسل اقدام المؤمنين بما يحمل من رحمة. ويدعوهم بالتعليم الى تطويع عقولهم لفكر المسيح. ونسميه أباً لأنه يبشر بأبوة الله وهي تتنزل على المؤمنين من ربهم مباشرة. الكاهن فقير بالمعنى الكامل اذ لا يعطي الا مما اخذ من فوق. هو لا ينطق بكلمات فمه لأن فمه مملوك سيده. “وأنت يا ابن الانسان، فاسمع ما اكلمك به… افتح فمك وكل ما أناولك. فنظرت فاذا بيدٍ قد مُدت اليّ واذا بسفر فيها… فقال لي: “يا ابن الانسان، كل ما انت واجد، كل هذا السِفر واذهب فكلم بيت اسرائيل” (حزقيال 2:8-9 و3:1).
هذا الرجل يحاول ان يرعى مثلما الله يرعى اي بالكلمة والكلمة بعض قوتها بمحبة مبلغها. ولهذا كان رجلاً مبذولاً عن الخطأة، مسكوباً ليحيا الناس لا به ولكن بالكلمة التي يسمعون. وهو لا يقود احداً الى نفسه بل الى مخلص النفوس وهو يعرف ان النتانة تعشش في القلب البشري وان الطهارة قادرة ايضاً على ان تنثني فيه وتحييه. وكثيراً ما يصير المتبلغ اعظم من المبلغ وبهذا يفرح الرسول. ويتعب بسبب من الرفض وبسبب من الوقوع. والرعية بيت متمرد وبيت ممرمر في كثرة من الاحوال. وعليه ان يفتقدها كل يوم وان يفتقدها جميعاً وتعزيته ان يقول ربه فيها: “انا ارعى خرافي وأنا اربضها، يقول السيد الرب، فابحث عن الضالة وأرد الشاردة واجبر المكسورة واقوي الضعيفة واهلك السمينة والقوية، وارعاها بعدل” (حزقيال 34:15 و16).
انه يبلغها انها مرعية من فوق على ما قال السيد: أنا الراعي الصالح والراعي رالصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف” (يوحنا 10:11). ولكنه اذ يبلغها يرى نفسه هو ايضاً راعياً في حدود بشريته ومعيار طهارته. يدمع بسبب من الخروف الضال ويتبعه في تيهه ليرده الى المراعي الخضر.
امام هذه الرؤية يعرف الكاهن المسيحي نفسه ضعيفاً ولكنه يرجو ان تفتقده النعمة ليقدر على تحقيق رسالته كما امره الرب “ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبني ويغرس “وليس بمقدوره ان يفعل هذا اذا ناله لوم. ولهذا يختبره الله وينقيه وهمه الا يشغل نفسه بأمور الحياة الدنيا ليرضي الله الذي جنده. اجل هناك تلف كثير وخيانات كثيرة. هنا اذكر حديثاً جمعني مع امين نخله قال فيه: انا اجلّ من نذر نفسه للرب اجلالاً كثيراً مهما خطئ لأنه في لحظة مباركة بدا الله له كل شيء”. لعل اهمية الكاهن عندي تكمن في هذا ان المؤمن يدرك محبوبيته عند الله لأن انسانا كشفها له في لحظة رضاء.
Continue reading