Monthly Archives

December 2012

2012, مقالات, نشرة رعيتي

انطلاقة بولس/ الأحد 30 كانون الأول 2012 / العدد 53

بولس الرسول في استخدامه كلمة «إنجيل» يعني البشارة بالمسيح كما يُقدّمها في رسائله، ولا يعني الأناجيل الأربعة، والمضمون التعليميّ واحد بين هذه الأناجيل وما علّمه بولس.

ثم يوضح أن ما يُعلّمه لم يتسلّمه من إنسان اي من الرسل الذين سبقوه، ولكنه أخذه من يسوع بكشفٍ له خاصّ.

وهنا يسرد ملخّصا عن سيرته ويذكُر أنه لما كان في ملّة اليهود كان يضطهد كنيسة الله بإفراط ويُدمّرها، وهذا ذكره سِفرُ أعمال الرسل في مطلع الإصحاح التاسع.

هذا كان سلوك من كان يُسمّى شاول الطرسوسيّ قبل أن يظهر له السيد على طريق الشام التي كان ذاهبًا اليها ليضطهد المسيحيين مبعوثًا من رئيس الكهنة اليهوديّ في اورشليم. كان شاول مهيّأ لهذا البغض للمسيحيين بسببٍ من انتمائه الى مذهب الفرّيسيين المُعادي للمسيح وأتباعه.

على طريق دمشق، بعد ظهور السيد له وبعد كلامه له، انقلب شاول الى المسيح وخدمته العظيمة حتى موت الشهادة فقال: «فلما ارتضى الله الذي أَفرزني من جوفِ أُمّي ودعاني بنعمته الخ…».

بولس يعتقد أن الله جاء به الى مسيحه، وأنه قبْل أن يضطهد الكنيسة كان الله مهيّئًا إياه ليدخل كنيسة المسيح. هدايته هي في التصميم الإلهي فيما كان يضطهد المسيحيين، وكشف له دعوته بعد أن حاول تدمير الكنيسة.

ظهر له المسيح فيما كان ذاهبا الى دمشق ليقتل المسيحيين او يُلقي القبض عليهم. يقول ما معناه انه بسبب هذا الظهور كان المفروض فيه أن يصعد الى الرسل ليتعلّم منهم الإنجيل. غير أنه انطلق توّا الى «ديار العرب» أو المنطقة الرومانية المدعوّة «العربية» وهي تعني حوران وجبل العرب في سورية الحالية.

بعد ذلك رجع بولس الى دمشق. ثلاث سنين بعد مكوثه في دمشق او في حوران يقول: «صعدتُ الى اورشليم لأَزور بطرس». النص يعني انه كان يعرف ان بطرس هو المميّز او البارز بين الرسل، وبلغه أنه كان لا يزال في اورشليم، وربما كان بقيّة الرسل ايضا في اورشليم وما كانوا قد ذهبوا بعدُ خارج فلسطين للبشارة. لماذا أقام خمسة عشر يومًا عنده؟ ربما لأنه لم يكن عارفا بغيره، وربما قيل له ان بطرس هو المميّز بين الرسل. والدليل أنه كان قاصده قوله: «لم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الرب».

في متى 13: 55، نعرف المُسَمّين «إخوة يسوع» اي أنسباء له في العُرف العبريّ أنهم يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا. ونفهم من تاريخ الكنيسة الأولى أن يعقوب صار أول أُسقف في اورشليم.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأيام القادمة / السبت 29 كانون الأول 2012

تنصرم السنة بعد يومين ونرجو ان تزول بهذا الأزمنة الرديئة وان تطل علينا أوقات مباركة نرى فيها لكل الناس العدل والسلام تفتتحها النعمة حتى نضع جهدنا في إطار النعمة لتجيء قلوبنا من قلب الله وهذا حاصل في الكيانات القادرة على رؤية الكيان الإلهي.

لا تنفع الحسرة على ما فقدناه من خيرات في السنة التي فاتت. انّما تقدّسنا فيها كل منا بقدر إخلاصه. والقداسة هي الخير الوحيد الذي يبقى من الزمان الفائت لأنها هي نفحة الرجاء وبه نسير الى المحبة. الزمان يطوي السيئات اذا ما تبنا ويترك لنا الصالحات التي نزلت عليه. فاذا ما كرهنا السيئات تزول واذا تذكرنا الصالحات تبقى في الآتيات من الأيام والله يخزن في قلوبنا ما أحبت ويمحو منها ما آذت نفسها به.

ان ذاكرة الخيرات تهيئنا لحياة جديدة. اما الخطايا فلا يجوز ان نذكرها خوف عودتها فاذا ما سكن الروح الإلهي فينا يطرد المعاصي ويربينا على ذوق الجودة الإلهية. والذوق والجودة يتآلفان في نفوس تتجدد في اشتياق وجه الله. وليس من توليف في النفس بين الخطايا والإحسان الإلهي الى ان يهبنا الرب من بعد موت حياة جديدة.

في جو هذا التأمل توق الجديد النازل علينا من فوق وليس من جديد سواه وهذه هي الجدّة انك لا ترث العتيق الذي ليس من الله ولكن من العالم البالي. انت وريث الله والا كنت من الفانين والجديد لا يعني الحاضر ولكن المنسكب مما فاض عن الحياة الإلهية. القصة ليست قصة زمان انقضى او زمان جاء. انها قصة اللازمان فينا اي قصة انسياقنا الى الأبديات الحالة علينا في أزمنتنا ولكنها ليست من أزمنتنا.

على هذا المعيار تعيش ما جرى لك او معك من العام المنصرم. كان فيه الجديد الذي ألبسه الله إياك وفيه العتيق الذي حلّ فيه بالخطايا. الانسان تارة مرقع وطورا جديد. والتجديد الأخير يبدأ بالموت وتتم الجدّة اذا انقرض الموت عند انصباب الرضاء الإلهي اذ يساكننا الله فيه.

على هذا الضوء تحاكم نفسك على ما كانت عليه في العام الذي انصرم. هذا لا يعني انك تدينها. ربك وحده يدينك كل يوم واذا كنت من التائبين يكشف لك دينونته قبل ان تموت لأنه يريدك ان تموت حسنا.

#   #

#

لا بد ان تقع اذا واجهت كل ما يؤتيك زمانك اذ يعسر عليك ان تتحمّل كل ما يواجهك من صعاب النفس. ولكن اذا كنت انسان الله ينتشلك هو بسبب حنانه وقد جئت  من حنان لما ولدتك امك وذقت الكثير منه بعد سقطات وتجلى الله بين الرفعة والرفعة.

الرياضة التي يطلبها الآن ربك منك ان تفيد دائما من الحسنات التي ذقت فهذا الذوق يربيك. ومعنى هذا في العمق ان تبني على الحسنات هذه لتشكر الرب اولا وتعاهده ثانيا على الاستمرار بها من اجل صدقك في الاخلاص. هكذا فقط تعرف الجدة في الأزمنة الآتية اليك. ولكن لا تنسَ ان الزمان بحد نفسه لا يخلق الجدّة. ربك وحده ينعم عليك بها فتعرف انه هو وحده قوّة وجودك وارتقائك الى وجهه.

ولكن اذهب الى ربك مع الأحبة. خدمتك لهم في ان تحبهم حتى يشكروا الله اذا عرفوا انهم قائمون في محبته لهم ومحبتك لهم. لا تستطيع ان تصل الى الرحمان ما لم تكشف لأصدقائك رحمانيته فيصيرون له. انت لا تستطيع ان تسير اليه وحدك. فاذا اصطحبتهم واصطحبوك تعرفون معا انكم سائرون اليه. ان وجه الله لا يمكنك ان تراه ما لم ترَه على وجه الإخوة. ربما كان من قبلت ان تراه يكشف لك وجه الرب.

هذه مرافقة لك ولهم وليس فيها زمان ولو جرت في الأزمنة. انها الأبدية فيكم ضمن الزمان الرديء او الزمان الطيب. الله يبيّن لك انه هو وحده الجودة فيما يأتي إليك كل وقت من اوقاتك. ليس التاريخ هو المهم. انه لا شيء ان لم يحل الله فيه، ان لم يصر فيك زمان الله.

هذا يعني ان الأبدية ليست آتية عليك من المستقبل. ان هي نزلت على حاضرك والآتي يصيران كلاهما مقام الله فيك. الأبدية النازلة على الزمان تجعله زمان الله. لذلك كان الله هو الجدّة.

#   #

#

واذا كان الأمر فينا هكذا يتطلّب منك هذا ان تملأ، السنة القادمة، نفسك من الحضور الإلهي ليكون لها معنى. اما حشو الأيام والأسابيع والأشهر فيها بلا حضور إلهي فيجعلها بلا مضمون والمضمون هو الله نفسه.

اقول تملأ نفسك ونفوس من تحب. هلى هذا انت قادر والآخرون تدعوهم بحلاوة نفسك الى ان يطلّوا على الله فيطلّ عليهم. انت تشغل الأيام الآتية اليك. انك تجعلها اليك ان طلبت لها الرحمة العظمى.

ليس شغلك ان تهتم باليوم. كل يوم هو للرب اذا ظهر فيه للكنيسة او للإخوة الأبرار. شغلك ان تطلب اليه ان يحضر في كل ايامك وان تجعل كل وقت عندك افضل مما سبقه لأنك ان تجددت انت يمنحك ربك ان تجدد الآخرين. حياة الرب فقط تطهرك من وطأة الأزمنة السيئة عليك فتصبح خليقة جديدة فيمسح الله من عينيك كل دمعة.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

البطريرك / الأحد 23 كانون الأول 2012 / العدد 52

رأس الكنيسة المحلية (الأبرشية) هو الأُسقف. والكنيسة المحلية هي الموصوفة كالكنيسة العالمية واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة. على هذا الأساس الرسوليّ تأتي كل كنيسة يرئسها أُسقف أرثوذكسي. بتطور الأزمنة أخذ أُسقف العاصمة يسمّى «ميتروبوليت» التي صارت «مطران» بالعربية عن طريق اللغة السريانية.

غير أن الميتروبوليت تسمية شرفية لأسقف العاصمة ولكنه -على صعيد الأسرار الإلهية- هو مجرّد أسقف. من سُمّي «رئيس أساقفة» أو «ميتروبوليت» أو «بطريركًا» يبقى في جوهر الأسرار أُسقفا. الميتروبوليت أو البطريرك ليسا مرتفعين دينيا عن الأُسقف الا من حيث الترتيب المجمعيّ.الميتروبوليت في القديم يرئس مجمع الأساقفة.

في منتصف القرن الخامس ظهر المتروبوليت الذي بقي -دينيا- أُسقفا ولكنه يرئس الأساقفة في النظام المجمعي. يتقدمهم ويكون الاول بين إخوة متساوين. جوهريا، الأساقفة مهما كانت مقاماتهم الإدارية هم أساقفة فقط. يجتمعون بإقامة رئيس أساقفة أو ميتروبوليت أو بطريرك.

البطريرك يرئس من لهم لقب أُسقف أو مطران أو رئيس أساقفة. على صعيد الأسرار، البطريرك مجرّد أُسقف، وليس من أحد دينيا فوق الأسقف. البطريركية ليست درجة، هي ترتيب تنتظم فيه حياة الجماعة.

في الوضع الحاضر عندنا صارت الميتروبوليتيّة مجرّد تسمية للأسقف. كل رئيس أبرشية في الكرسي الأنطاكي صار يسمّى «ميتروبوليت». ليس هذا هو الوضع في الكنائس الأخرى.

الميتروبوليت القديم صار لقبه بطريركًا في أواسط القرن الخامس، وهو يرئس المجمع المقدس كله. ثم اندثر عندنا مقام المتروبوليت كرئيس لمجمع صغير يؤلّفه الأساقفة المحليّون. وصار كل رئيس كهنة في الكرسي الأنطاكي يدعى «ميتروبوليت» أو مطرانا. والمطارنة أصحاب الأبرشيات يؤلّفون مجمعا برئاسة البطريرك.

المجمع المقدّس هو اجتماع مطارنة كنيسة مستقلّة، فهناك، على سبيل المثال، المجمع القسطنطيني يرئسه بطريرك القسطنطينية، وعندنا المجمع الأنطاكي الذي ينعقد برئاسة البطريرك الأنطاكي.

البطريرك يرئس المجمع ويسعى الى التقارب الروحي بين الأبرشيات ويتّصل برؤساء الكنائس الأرثوذكسية المستقلة ويعبّر عن وحدة الكنيسة الأنطاكية تجاه كل الهيئات الدينية والمدنية. هذا لا يمنع أيّ مطران من الاتصال الشخصي بزملائه المطارنة الآخرين في كرسيّنا وخارج كرسيّنا أو أن يُراسل من يشاء في العالم وأن يشرح وجهة نظره في هذا الأمر او ذاك. البطريرك لا يقيّد حرية المطارنة بالتعبير عن فكرهم او أن يسافروا، ويمكن لأيّ مطران من عندنا أن يشرح لصديق له في كنيسة مستقلّة أُخرى مواقف كنيستنا او أن يناقشه في اللاهوت او أن ينشر في مجلة ارثوذكسية او غير أرثوذكسية او في مجلة علمية ويتحمّل مسوولية ما يكتب.

غير أن البطريرك اذا تحرّك خارج الكرسيّ الأنطاكي لا ينطق باسمه ولكنه يعبّر عن رأي المجمع. لا يقول: هذا موقف الكنيسة الأنطاكيّة الا اذا تسلّح بقرار من المجمع المقدس. هو لسان حال المجمع. البطريرك ينقل فكر إخوته.

هو حامل المجمع. مسؤوليته السَهَر على المجمعية وعلى وحدة الفكر الأنطاكي. والمطران يحمل الى المجمع أبرشيته لأنه غير مستقلّ عنها. المفروض أنه يتفاعل مع أهل الرأي في أبرشيته ويُكوّن رأيه بالمشاروة. ليس أحد منّا منفصلا عن التراث وتعاون الإخوة. الأسقف يحمل القديم والحاضر معا. لا يخالف التراث ولا التعبير الحيّ عن التراث في اليوم الذي يعيشه.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

عطاء الأبرار / السبت 22 كانون الأول 2012

الكنيسة الأرثوذكسية تبدو أحيانًا ضعيفة في بشريتها واذ بها تنهض بافتقاد إلهي حسب قول الرب لها: «واخطبك لنفسي الى الأبد أخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم» (هوشع 2: 19).

الموت الروحي رفيقنا كجماعة. يشدنا الى خارج المسيح حتى يدعو من اختارهم ليطلقهم في التوثب. ويحيينا بما يهبنا من افتقاده. المسيحيون بشر وتعتريهم ضعفات كل البشر فيما هم يشتهون ان يجددهم انسكاب الله فيهم. الكنيسة المجيدة الوضاءة وعد وبعض تحقيق يدوم قليلا او كثيرا. ان المجد لا يسطع كاملا فينا ما دمنا في هذا الجسد والخطيئة ساكنة فينا الى ان تكف في الموت ونذوق به وعود المجد للتائبين.

الكنيسة مجيدة بالوعد وهذه حقيقة أخروية. فالخطيئة معششة في النفس التي يسكن فيها نداء المجد وطاقتنا على ذوق الملك الآتي. معنى الكلام اننا نشتهي المجد وهذا الاشتهاء بعض مجد ولكن كماله محقق في اليوم الأخير.

انت تعيش في كنيسة هشة بسبب من سقوطنا وعظيمة بسبب من النعمة وانت تتوق الى القداسة فتعطاها على الرجاء ولا تكمل فيك. ليس من نصر في هذه الدنيا ولكن ليس من يأس لأن الخطيئة لا تقضم نفسك بكاملها لأنها قائمة بالوعود الإلهية والوعد الإلهي.

ما يصح على كل الإخوة في رؤية واقعهم النفسي هذا لا يمنع ان المؤمنين في السباق على دروب الخلاص وان تفاوتوا قدرا وجهدا. وليس من مؤمن في السماء وفق العقيدة الأرثوذكسية الا مريم القائمة من الموت والشهداء. اما القديسون الآخرون فهم قائمون مثل أهل الأرض على الرجاء.

هذا الوصف ليس تراضيا مع التراضي. ولكنه حث على رؤية الجمال الروحي على بعض من الوجوه. اذا تكلمنا عن القديسين فليس لننسب اليهم القيام في المجد. هذا لمريم فقط مع الذين بذلوا دماءهم في الشهادة.

كل ما أعطانا الله اعطانا اياه بالوعد والوعد بعض تحقيق. لهذا كانت المسيرة باقية الى ان ينقلنا الرب الى رحمته من بعد موت.

#   #

#

ومسيرة بعض النفوس وثابة الى درجة انك تراها وكأنها في السماء. الملكوت آت مع المسيح الآتي ابدا وهو في بعض من بشر راسخ بحيث تحس انهم حضرة المسيح فأنت تدركه إدراكا مباشرا في الكلمة وكثيرا ما تلتقطه على وجوه استنارت ولا تستطيع ان تباعد في الرؤية بينها وبين وجه الإله.

البشرية تعيش بهؤلاء وبهم يشهد الله لنفسه. بفضل هؤلاء لا ينحصر الرب في سمائه. ينزل على الأرض فتغدو هذه سماء اخرى يسكن فيها البر.

نفسك تطلب هؤلاء الناس لتنتعش. لا يحيا امرؤ وحده ولكنه يحيا في شراكة الحب. هذه تسمى في المسيحية كنيسة. هذه ليس شيء مثلها لأنها سطوع التجسد الإلهي الذي يزورنا بعد ايام معدودة. كل المسيحية قولها ان الانسان بات مسكن الله. فاذا رأينا من كانت نفسه عظيمة البهاء نكون قد رأينا مجد الله على الأرض. ولما صُلب المبارك بدا الله آتيا الينا بدمه فأصعدنا بهذا الانسكاب الى السماء.

الى هذا الضياء دعيت الانسانية كلها. غير ان هذا لا يتحقق فيها كلها. النور يختار لنفسه مواضع مميزة. انت لا تحدد للرب أماكن حضوره. هو ينتقيها كما يشاء. وعليك انت ان تفتش عن أماكنه في البشر.

هناك من نستطيع ان نعرفهم بجمالاتهم وان نغض النظر عن نقائصهم او الا نراها لكوننا ابصرنا الرب يتراءى فيهم اي في النهاية يقر فيهم. المخلّصون مقار الله. كيف يستمر التجسد بلا رؤيتنا اياه في الطيبين الذين يجودون علينا بحلاوتهم والدماثة والشفافية. ليس التجسد معطى محدودا الى كل مدى، انه لأفراد جعلوا الله نصيبهم وانت لا تجد ربّك فقط ان سعيت اليه. هذا طريق. ولكنك تجده عند من عاشره بالطاعة اي بالزهد بالأنا واستقبال الرب في بذل ذاتك. ليس الله في الآخر بانغلاقه عنك. هو في الآخر وفيك اذا استطعتما ان تتلاقيا لتتشاركا. الله في هذا النوع من البشر.

#   #

#

تتطلّب الحياة الروحية ان يلتقي الروحانيون في المدى المنظور. لا ينبغي ان يكتفي الروحاني بذاته. اجل هذا يؤمّن إشعاعا ما ولكن اذا رمت ضوءًا كثيرا لا بدّ ان تتكاتف والأبرار. تكتل الصالحين يعطيهم فعالية ناتجة من مشاركتهم. هناك تراص يساعد على الفاعلية الروحية. والتراص يقوي الرسالة كثيرا.

لست من أنصار التكتلات في الحياة الروحية. ولكن اجتماع الأبرار يمد بعطائهم ويكثر العطاء. صح ان الأبرار ليسوا حزبا ولا يتحزبون ولكن التلاقي بينهم موقع من مواقع الله. الأشرار كثيرون وفاعلون على طريقهم. يصدمهم الأبرار في فهمهم وعمقهم وصدقهم واذا تجمّع الصالحون تقوى شهادتهم.

والأشرار لا تبيدهم الا الشهادة وعدد الأشرار لا يخيف. واحد يبيد فعلهم إبادة كاملة. لذلك لا بدّ للأنقياء ان يتعاونوا ليس فقط بنقائهم ولكن بثقافتهم وصمودهم واجتماع بعضهم الى بعض لأن هذا الاجتماع حضور الله في العالم.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

البطريرك إغناطيوس / السبت 15 كانون الأول 2012

الكبار قلّة. واحد منهم بطريرك الروم الأرثوذكس إغناطيوس الرابع ذهب عنّا إلى اللّطف الإلهي. شعرت لما ووري الثرى انه يقر في ملكوت الآب. كنا نشتاق بقاءه بيننا. إلى اللامدى، إلى الإقامة في سكينة ربه وافتقادنا اياه.

اذا ذكرت كاهنا ترى نفسك مرفوعا إلى تقواه لتسكنك وإلى ما حققه بهذه التقوى في أعماق من رعاهم. هذا ما ينتظره الرب ومحبوه من الراعي. وفي هذا أعطى من نذكر ذاته إلى كل الناس أكانوا من كنيسته أو من غير كنيسته أو من أهل العالم.

أعطى إلى العقل ما أخذه بالعقل وبه التمع ويزين لي انه في هذا كان الأقوى. قلت ما قلته هنا في أسقف كانت له إطلالة عظيمة على الدنيا. في هذا الجانب يذكرني بالروحانيين القدامى الذين لم يفصلوا بين ما استلهموه الله وما أبدعته أذهانهم فأعطوا مما نزل عليهم.

كان السيّد إغناطيوس الرابع يجمع بين الحكمتين الإلهية والبشرية والبشرة ركيزة فعلية للإلهيات التي تنزل علينا. اظن ان أهميّة هذا الراحل الكبير تكمن في انه قدر ان يلج باب المعرفة الإنسانية ليوحي للمشككين انهم لا يحتكرون الذهن الحر الصافي وان أهل الايمان يملكونه أيضا.

بفضل هذه المسيرة كما أراها لا يستطيع الخارجون عن الإيمان ان يروا الإدراك حكرا عليهم. من حيث الفهم ليس الخارجون عن الايمان اعظم ذكاء من أهل الإيمان. ان البطريرك إغناطيوس في تحركه الفكري ثبت هذا.

#   #

#

لقد استطاع هذا السيد الكبير ان يبيّن ان العقل الصافي لا ينفصل عن البساطة. هناك بساطة انجيلية أو عيسوية كانت تلتحم عنده مع الذكاء. اذا اردت ان أكون حادا أقول انه حافظ على اتّضاع القرية وعلى فذلكة الإنسان الأكاديمي. أحيانا كانت تصبح بساطته مذهلة وتتساءل امامها كيف يجمع هذا الرجل المفرط في الذكاء بين العقل المتقد وتعبير يشبه أحيانا كلام الأطفال. ثم تتساءل عن طبيعة تقواه أو على لونها فتراه أحيانا شفاف اللغة الدينية وعالي التفلسف. واذا اردت ان تصنف طبيعة ذهنه تقول انه نشأ على المنهاج الفلسفي دون ان يهمل بسيط الكلام.

يخفي البساطة بأسلوب تعبيري يحتجب وراءه احتجابا اظن انه كان يأتيه من حياء قديم موروث من مناهج النسك.

في هذه البيئة كان يؤلمه الذين ليس عندهم لهب ولو كان يصبر كثيرا. جاءه الصبر من معاناة طويلة في أوساطنا الدينية، من رؤيته لضعفاتنا ومنها ان الكنيسة لم تصل بعد إلى مرتجاها ان تكون عروس المسيح. كان يرى الوهن عندنا ومع ذلك كان في آن »رجل أوجاع« كما قال الكتاب وانسان الرجاء الكبير.

ربما بسبب غير المحقق والتماسا للمرجو صار رجل المؤسسات. هل اعتقد ان المؤسسة هي الثبات، أو الحلم المحقق؟ اظن هذا. كان هذا تعبيرا عن الجانب البراغماتي في طبعه. ما جعله يرجح التطبيق على النظري البحت.

#   #

#

كنت ترى هذا في توليه البلمند وكل مدى تربوي في كنيستنا واذا اردت ايضاح شخصيته ايضاحا اكبر اقول انه كان مربيا في كل المجالات التي تعاطاها في التعليم وفي معالجته الشأن الرعائي في الكنيسة. بات يخشى ان نستغرق في النظريات الكبيرة ولا نصل إلى المعالجة الحقيقية لمشاكل معهد اللاهوت من جهة ولمشاكل الكنيسة من جهة. في الحالتين كانت الرعاية تطغى عنده على الذهنية الأكاديمية. المهم في رأيه الخلاص والنتائج العملية لكل ما نقوله أو نفكر به.

المؤكد ان الرعاية تعني الشدة وليس فيها تحير وكان هذا باديا في كل تحرّك له. والرعاية تنطلق من القلب إلى الذهن.

من هنا ان البطريرك الراحل كان يشرف على قلبه من ذهنه. هذا يجعل الكاهن أو الأسقف المفكر في توتر بين قناعاته النظرية وضرورة التطبيق أو بين الحقيقة ومعاملة الناس. كيف تقود بالنصوص الدينية شعبا قليل الاطلاع عليها؟ كيف تجعل رعيتك في الوحدة وفي الحقيقة بآن؟ وبعبارة اخرى كيف، معلما، تملي على الناس العقيدة وراعيا ترسخها في عقولهم على قدر قوتها وتهيئها لاقتبال الحق.

في جانب من جوانب إحساسه أظن انه لم يخرج من بساطة العيش. هو ما كان يرى تصادما بينها وبين الثقافة العليا. يذهلني فيه هذا الجمع بين الفكر البسيط والفكر المعقّد. كنت تراه شخصية غنية بجمع الأضداد إلى حال واحد كما نقول في أيام الصيام الكبير.

كان يريد ان يكون عقلانيا وحساسا في آن. العقل والشعور يمتزجان عندنا في العبادات وهذه كان يتقنها. ربما تركزت ديانته على ما فيها من فكر ولو عرف بساطة المسيح وهنا أصرح ان الرتب ما كانت تغريه وما كان يتقبلها ليعلو بها. الكنيسة الأرثوذكسية في كل العالم تحب صورة الشماس المثقف الذي لا يتوق إلى المراتب. يدعوك اليها الرؤساء للحاجة وتضطر إلى الطاعة. تصير بطريكا أحيانا ويبقى لك قلب شماس يؤثر أداء الترتيل وبهجة العبادة. الأرثوذكسيون قداس والباقي يعطى لهم كزيادة.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الناموس القديم والإيمان/ الأحد 9 كانون الأول 2012/ العدد 50

همّ بولس الكبير في الرسالة الى أهل غلاطية أن نثبُت في الحرية التي حرّرنا المسيح بها ولا نبقى مرتبطين بناموس موسى لكوننا وصلنا الى الإيمان. وتوضيحًا لقيامنا بالمسيح بالإيمان وأننا تبرّرنا به، يوضح الرسول أننا لا نخلص بطاعة المسيح، ويأتينا بكلام يدل على ان اليهود الذين رفضوا المسيح هم عبيد مع مدينة اورشليم، ويقول ان المسيحيين أكانوا من الأمم أصلا ام من اليهود هم مواطنو اورشليم السماوية.

الدليل الأساسي على النعمة والحرية هي الخبرة المسيحية لحياة جديدة في المسيح. ويحثّ كل الذين كانوا تحت الناموس المقروء في المجامع أن يفحصوا نتائج اتخاذ الناموس عوضا عن النعمة كطريق خلاص.

توضيحًا لموقفه يدخل الرسول في تأويل وضع إسماعيل ووضع إسحق ابني إبراهيم. أُمّ إسماعيل هاجر كانت عبدة لسارة أُمّ إسحق الذي هو ابن الموعد. ابن الجارية مولود حسب الجسد. كان لسارة تسعون سنة لما وُلد منها إسحق. هنا يؤكد بولس أن الأمر صار ممكنا بسبب الإيمان. هذا ما سمّاه الموعد. إسماعيل ظهر بلا موعد دون غاية روحية معينة وليس له مساهمة في تاريخ البشرية. اما فرع إسحق فأعطى المسيح.

ويوضح بولس أن هاتين سارة وهاجر يرمزان الى عهدين، أحدهما من طور سينا وهو جبل في ديار العرب ويناسب اورشليم الحالية، وفي الواقع ان طور سينا المعروف الى اليوم بهذا الاسم هو في ديار العرب (وليس من مصر). اورشليم التي لم تصل الى حرية أبناء الله اي التي بقيت على عبوديتها اليهودية هي عاقر ولم تلد أحدا بالروح اي بقيت على الجحود اليهودي. اما نحن المولودين من اورشليم الحُرّة فأولاد الموعد سواء انحدرنا من إسحق في الجسد أَم لم ننحدر لأننا بالإيمان أبناء إبراهيم. الذين لم يؤمنوا بالمسيح وُلدوا حسب الجسد في شهوات هذا العالم، وهؤلاء يضطهدون الذين وُلدوا حسب الروح اي في الروح القدس بالمعمودية.

ماذا يستنتج بولس من صورة سيناء وصورة اورشليم الحرة. يريد أن الذين بقوا بلا مسيح هم أبناء الجارية ولا يرثون مع ابن الحرة. يصل بولس بعد هذا الى القول اننا لسنا اولاد الجارية بل أولاد الحرة. نحن تَحرّرنا من النظام الموسوي القديم وبتنا أولاد الحرية. «لقد دُعيتم الى الحرية» التي حررنا فيها المسيح ليس فقط من الخطيئة ولكن من الناموس ايضا وجعلنا أبناء المحبة التي صارت الناموس الجديد الذي نحيا فيه. لهذا تغلّبنا على عبودية الخطيئة وعبودية الناموس وباتت علاقتنا مباشرة مع الله في دم المسيح وفي قيامته.

أنتَ اذا تحررتَ من الخطيئة تصير قائمًا في البر الذي يأتيك من الإيمان بيسوع. وهذا يفرض عليك قانون المحبة الذي ليس فوقه قانون. بهذا تأتي من أعماق المسيح وتُلازمها وتُلازمك ما دُمت في سلوكك ابنًا لله.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

قداسة أم قديسون؟ / السبت 8 كانون الأول 2012

«قدوس واحد، رب واحد، يسوع المسيح». نأخذ من هذا ان القداسة اذا نُسبت الى انسان نسبية قليلا او كثيرا ولا يمكن ان تكون كاملة في مخلوق. القديسون المطوبون انفسهم رأينا عندهم إشعاعات إلهية ومواهب وإطلالات على البر او برّا كبيرا ولكن لم نر فيهم برا مطلقا. كان لهم في دنياهم مقدار من القربى الى الله كبير. فإذا خاطبناهم في صلاتنا كما ترى الكنائس القديمة فهذا لشعورنا انهم يشاركوننا توجهنا الي الله وتوبتنا اليه. ولكن اذا سمينا عظماءنا مسحاء فهذا على سبيل رؤيتنا اليهم مقربين ومجالسين إياه بقدر ما فيهم من النعمة والحق.

فإذا سميناهم وسطاء لا ننسى ان «الوسيط الوحيد بين الله والناس» (1تيموثاوس2: 5) هو السيد المبارك الذي جعل في نفسه اللاهوت والناسوت وان من سميناهم قديسين يتوسطون من ضمن الوساطة الوحيدة التي ليسوع المسيح.

لذلك لا مكانة إطلاقا لهذا القول الشعبي المغلوط اننا نتوسط البقديسين لكونهم بشرا أقرب الينا من السيد فمن رأى الى المسيح وجد عنده الطبيعة البشرية الكاملة في طهارتها.

الى هذا يدلك الباحثون على الضعف الذي كان عليه على الأرض هذا او ذاك من الذين نستشفعهم. وحدهم الشهداء مقبولون في المجد الكامل. هم لا يقيمون في الغبطة الكاملة قبل القيامة العامة والدينونة وان سطع فيهم نور فهذا نورالثالوث. ليس لمخلوق نور من ذاته وانت لا تطلب من انسان سماوي نعمة من عنده. كل نعمة تحل في انسان أبقي في حدود جسده ام انتقل نزلت عليه. انه اقتبسها من إلهه اذا كان ربه قد استبقاه على الأرض ام نقله اليه.

لذلك لما اختلف بعض من المسيحين في أمر بعض من القديسين المحبوبين اليهم وفاضلوا بين باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس اللاهوتي أقامت الكنيسة عيد الثلاثة الأقمار في يوم واحد لتوحي لهم ان تقييم القديسين امر احتفظ به الله لنفسه وان هذا يظهر فقط في اليوم الأخير.

#   #

#

هذا لا يمنع الباحثين ان يتبينوا جوانب البر المختلفة عند السماويين كما لا ينفع احدا ان يقترب بالمعرفة من هذا اكثر من اقترابه من ذاك. هذه أذواق روحية مسموح بها اما قول بعض الناس ان من اهل السماء من اختص بهذا النوع من العطف او ذاك او يلجأ اليه في هذا الظرف او ذاك فهذا لم يكشفه الله لأحد.

لا ينفعك في شيء ان تقارن بين القديسين. ما ينفعك كثيرا ان تتشبه بهم وان تعرفهم. المصيبة اننا نعرف القليل او لا نسعى الى المعرفة. في هذا الباب لفتني ان الكثيرين عندنا قريبون عاطفيا من ايليا النبي. يستشفعونه كثيرا ويبنون الكنائس على اسمه ويخاطبونه بالأدعية اذا مرض اولادهم. ويقيني انهم لا يعرفون غير وجاهته عند الرب. ولكن من من المؤمنين العاديين يعرف انه من العهد القديم؟ من يعرف شيئا يسيرا عن سيرته وعن مخاصمته للملك آخاب وللملكة إيزابيل؟ من يتقدس بهذه المعرفة؟ تصدمني هذه الديانة الشعبية الفارغة من المضمون.

لست أدين ديانة احد ضمن استقامة الرأي التي ينتمي اليها نظريا هذا المؤمن او ذاك ولكن يصدمني ان موقف الكثيرين من القديسين لا علاقة له أحيانًا باستقامة الفكر والعقيدة مما يوحي ان هناك كنيسة شعبية قائمة على خيال الناس ولا علاقة لها بالكنيسة الحقيقية التي أسسها يسوع المسيح.

ويحزنني على صعيد الرعاية اننا نعرف هذه الانحرافات في شعبنا ويقول بعض الأعلين: «اتركوا الشعب على إيمانه». هذا كلام مرفوض كليا لأن ما وصفناه آيمانًا ليس بإيمان. انه الخرافة عينها ونحن علينا ان نضرب الخرافات كما ضرب الأقدمون الأصنام. الصنم كثيرا ما كان في العقل والنفس وانت لا يحق لك ان تحافظ في الكنيسة على عبدة الأصنام.

#   #

#

ليست الكنيسة طائفة البشر الذي يسمون انفسهم مسيحيين. انها مجموعة الذي استقام رأيهم فقالوا بكلام الله كما صدر عنه وكما فسره أكابر الإيمان واللاهوت عندنا. انت تؤمن بالوحي فقط واذا آمنت ترجو وتحب.

انت تتوق الى القداسة التي هي صفة الله الكاملة وانت وصحبك سماكم الله آلهة وقال: «كونوا قديسين كما انا قدوس». انت وان وطئت قدماك هذه الأرض جالس في السماويات اذا صار عقلك سماويا. الله يصفك في سجل الحياة انسانا مألوها وانسانا ساعيا. لعل القداسة سعي الى القداسة.

انت تبتغي ان تكون رفيق المسيح في كمال انسانيته. لا ترتضي ان تصبو الى ما كان أقل من المسيح لأن ما كان اقل منه هو من العالم وأنت تجاوزت العالم لتسكن السماء. انه هو ردم الهوة التي أقامتها الخطيئة بين هذا العالم والعالم الآخر. يدفعك هذا الى ان تنتمي منذ الآن بالرجاء الى العالم الآتي فالمسيح أتى ويأتي الآن وسوف يأتي.

انت في كل تحركاته لأنك له. الخطيئة هي ان ترتضي ان تلبس ضعفك بعد ان قال الرسول: «يا جميع الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم».

هذه هي القداسة الا يفرق شيء بين كيانك وثوبك الذي هو المسيح. المسيح يرتضي ان يجعلك انت ثوبه بعد ان قبلت ان يصير هو ثوبك.

القداسة ان ترفض ان تجعل لنفسك حيزا غير المسيح. ان تقيم فيه هو ان يجعلك اياه. اذ ذاك وجهك وجهه وجسمك جسمه وعيناك عيناه وتبصر بعينيه كل الوجود.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الحياة في النُّور/ الأحد 2 كانون الأول 2012 / العدد 49

بعد أن أنهى بولس الرسول كلامه اللاهوتي العظيم في الرسالة الى أهل أفسس، وصل الى الناحية السلوكية وحذّر المؤمنين من الكلام الباطل حتى وصل الى القول ان المسيحيين هم نور في الرب وحثّهم على أن يسلكوا كأولاد النور وأوضح أنهم يصيرون هكذا اذا امتلأوا من الروح القدس مصدر كل صلاح وبرّ وحق.

ينتج من توصيته هذه أن يختبروا ما هو مرضيّ للرب بتركهم أعمال الظلمة، وليس فقط هذا بل يحضّهم على أن يوبّخوا هذه الأعمال عند إخوتهم المسيحيين لتكون الكنيسة كلها جميلة. الأعمال المظلمة نميل الى إخفائها. لذلك يحثّ بولس المؤمنين أن يُظهروا أعمال النور.

وبعد تأكيده النور، يستشهد بنشيد كان يُستعمل في العبادة وهو «استيقِظْ ايها النائم وقُم من بين الأموات فيضيء لك المسيح». يستنتج مِن كون المسيح نور العالم فيدعو الرسول المسيحيين أن يسلكوا لا كجهلاء بل حكماء لأن الأيام شريرة.

هذه كانت التوصية العامة أن تتمسكوا بحكمة الله («كونوا حكماء كالحيّات»، هذا كان قول الرب). ولكن أن نسلك كما يريد الرب يتطلب أن نفهم ما مشيئة الرب. مشيئته هي أن نحفظ وصاياه، أن نتشبّه به، أن نسعى أن نكون مثله.

هنا يعطي مثلا عن السلوك المسيحيّ لا يتضمن كل شيء ولكن يُقاس عليه فيقول: «لا تسكروا بالخمر التي فيها الدعارة»، والمقصود أن السُكر يوصل الى رفض العفّة، وهذا ما يسمّيه الرسول هنا الدعارة. والقاعدة في موضوع الخمر هي أن يتخذها الانسان باعتدال. ففي كثير من حضارات الشعوب المسيحية هي شراب عاديّ، ولكن اذا وقع الإنسان في السُكر يكون قد خالف الوصية. «السكّيرون لا يرثون ملكوت الله» (1كورنثوس 6: 10). إن هدوء العقل الذي يفقده السكّير أساسيّ عند المؤمنين. الشراهة والسُكر واحد.

ضد السُكر يقدّم بولس الامتلاء بالروح القدس الذي شرطه العفّة. فاذا امتلأتم من الروح القدس تصبحون قادرين أن «تُكلّموا بعضُكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية». هنا نفهم أن العبادة المسيحية (الطقوس) في عهد بولس كانت تتضمن أناشيد وليس فقط قراءات.

هناك مَن اعترض من الرهبان بعد زمن بولس على الترنيم باستعمال الألحان. ولكن الكنيسة لم تُعِرْ هذا الاعتراض على الموسيقى أهمية، وثبتت الموسيقى في الشرق دائما وفي الغرب حتى القرن الثاني عشر بلا أدوات موسيقية، ورأت الكنيسة الشرقية أن الترنيم بالصوت البشريّ كافٍ ليرفع النفس الى الله.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

عناد الله / السبت أول كانون الأول 2012

انت لم تخلق الناس ورماك الرب في أيديهم فانه ما نجاك من الوحوش وهي بطبيعتها كاسرة وانت في غابة ولو اشتهيت ان تعيش مع حملان. ولو شاء ربك ان تحيا في هناء دائم لجعل لك مجتمعا على هواك قائماً على الهوى ولم يفعل وتسربت الخطيئة الى تعاريج دماغك وتفاصيل فكرك وثنايا قلبك وستبقى كذلك لأن البشر لا يتوبون أو التائبون قلة ولهم من معاصيهم منافع لأن الكثيرين منا عبدة مال وعبدة سلطان وقتال وهم لا يؤمنون ذلك الايمان الذي قذفه الله في النفس. لا يؤمنون ولو مارسوا فإن الدنيا أفقهم والآخرة تفرض عليهم تكاليف وتعبا كثيرا وصدامات مع أهل الأولى ولا يتعب أهل الأولى الصدام.

وليس لك أن تخرج من الدنيا ولو رغبت ويريد أهلها أن تلازمها حتى يسيطروا عليك فهم بالسيطرة يسكرون ويجعلون معاشك متعبا جدا ويحاولون كسبك الى ضلالاتهم ليهنأ لهم العيش فيها وهو متنفسهم إذ يحسبون أن الفضيلة مختنقهم ليس أنها لا تجذبهم أحيانا فالفضيلة جذابة كالرذيلة وإذا جذبت الانسان يذوقها ذوقا كثيرا.

أن تسبر غور الخطيئة هو أن تسبر كثافة العتمات وفي العتمة المكثفة تأبى النهوض وقد لا تخامرك فكرة النهوض لأن هذا يعني أن تعيش في النور لئلا تعيش نفسك كما آلت اليه أي وكرا للأفاعي وإذا تآكلت الافاعي أو عضتك الواحدة تلو الاخرى تحسب أن شفاءك يأتي بإعجوبة وتفهم أن غير ذلك تكاثر الذنوب.

والعالم كله تحت الشرير لأن كل ما في العالم «شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الوجود». الذين استغرقوا فيه، احبوا شهواته، صار مضمونهم. خلاصهم يبدأ إذا استلذوه. يريدون الحياة الجديدة. «ماذا اعمل لأرث الحياة الأبدية؟». احيانا تلمس عند كبار العصاة شوقا الى الحياة الجديدة النازلة من الرب والقادرة أن تجعل الانسان جديداً وكأن الذنوب لم تلمسه او كأنها لم تعشش فيه. الانسان لا يستطيع أن يستخرج من ذاته حياة جديدة. انه ميت. لا يقدر أن يحيي نفسه. يجب أن يحييه آخر. يجب أن يقيمه آخر من بين الاموات. ووسوسة
الشيطان الكبرى أن يقول له: أرجئ هذا فحياتك في أن تكره الحياة الابدية، في الا تشتهيها. انها تكلفك جهدا كبيرا لا لذة فيه تشبه اللذات التي كنت تسبح فيها.

#   #

#

النهوض من الموت الروحي الى حياة مشكلة. بعد أن اسودت صورة الله فينا. من يمحو هذا السواد؟ كيف؟ الكيف أن يعود الله نفسه الى الانسان فيبيد الموت. المسيح قام من بين الاموات لأنه عاد هو نفسه أي حياته التي لا تفنى الى جسده الذائق الموت. هذا اعجوبة. لا يحيا الانسان من جديد الا باعجوبة والاعجوبة تعني تحديدا هذا الشيء الذي لا يأتي منك. الذي ينزل عليك. ولهذا كانت التوبة خلقا جديدا. انت لا تصنع التوبة. تهبط عليك نعمة. تتقبلها وتعترف انها نعمة فإذا ظننت انك فاعلها تموت بكبريائك.

ما تقدر عليه أن تستقبلها. انها هي التي تفتح نفسك لتحل فيها. يحدث فيك خلق جديد. تغدو خليقة جديدة. هذا ما قاله بولس لأنه هو القائل: «بالنعمة انتم مخلَّصون». أنت كنت لا شيء وما أحييت نفسك. الروح القدس هو وحده المحيي.

إذا سقطت في الذنوب مرة أخرى السؤال هو كيف تستنير. لم يوضح الرسول كيف يكون النهوض. اضطرب لهذا اضطراباً كثيرا. خشي الا يبقى لنا سبيل الى الخلاص. ما كان عنده الا ان يلتمس النعمة، الى أن ينادي الروح القدس ليحل من جديد في النفس البشرية. عند بولس حيرة وجودية امام مشكلة النهوض بعد السقطة. لم يكن ليفهم حقيقة كيف يعيش الانسان خارج المسيح. كيف يبقى المسيح عائشا فيك بمعمودية واحدة؟ أين تذهب المعمودية بعد أن سقطت؟ كيف تحيا من جديد في قيامة المخلص؟ هل لك من وجود خارج الاقامة في المسيح؟ أسئلة تعاش في الألم. فإذا كانت لك أعجوبة الخلاص لا يكون لك تفسير للأعجوبة. يبقى لك فقط تلقيها.

#  #

#

الى هذا عندنا تراث من باسكال القائل اركع وصلّ (ان احسست بشعور ديني أم لم تحس). لم اجد كلاما كهذا في تراث الشرق النسكي ولكنه رعائيا مفيد او معقول أو قابل للتجربة. اطلب من المتحير ايمانيا او من كفر بالله ان يرافقك الى الكنيسة. قد يسمع صوتا جديدا او يلمس نعمة نزلت عليه.
بعض الذين كفروا يحدثون من تحول حدث معهم وما كانوا ملتفتين الى الله. في الحقيقة هو الذي يلتفت اليك ويتخذ الوسائل التي تحلو له. تروض على تقبل النعمة. لا يعني هذا انك تأمر الله ان ينزلها عليك ولكن تروض ما استطعت.

آباؤك قالوا ينبغي ان تفهم كل كلمة من كلمات الصلاة. غير ان هذا لا يعني بالضرورة تحس بالكلمات. قلها قد تكون «آمرا» الله أن يأتي اليك. إرم نفسك عليه. إرتمِ في احضانه. ربما لمّك واحتضنك. انه دائما يشعر ببنوتك. دائماً الرب يخترع وسائل لتقترب انت اليه. وإذا رآك من بعيد وكان عارفا أنك ابن ضال ينسى ضلالتك لأنه متأكد أنك ان انضممت الى صدره تسمع نبضات قلبه وتفهم ان قلبه ينبض من اجلك. انه متعطش الى رجوع قلبك.

يحركه بطريقة عجائبية لم يدلك عليها مسبقا. هو دائما صانع العجائب. «عجيب في قديسيه» نقول. عجيب في خطأته أقول. الخطأة هم له وقال هذا بقبوله أن يعلق الخطأة مسيحه على الخشبة. وإذا قبلوا دمه خلاصا يذهب عنهم عنادهم ليحل «عناده» هو أي المحبة.

Continue reading