أراد راهب ان يرسم أيقونة الدينونة وفيها صف علوي للمسيح والقديسين وصف سفلي فيه الخطأة. فيها السماء وفيها النار. وكان هذا الراهب سمع بامرأة داعرة كريمة اليد جداً فأراد رسمها فلم يستطع أن يجعلها في السماء كما لم يقتنع ان يضعها في الجحيم بسبب من فضيلتها فوجد لها منزلة بين المنزلتين.
وإذا أردنا التعريف بالكريم لقلنا انه ذاك الذي لا ينفد عطاؤه أو الذي ألفته عطاؤه وكأنه لا يشتهي الأخذ أو كأنه لا يحب قبض مال الاّ بغية توزيعه. وجهه الى الآخرين وفرحه بفرحهم وكأنه يغتذي من بهجتهم إذا ما أخذوا فكان لهم بعض رزق لهم ولعيالهم وكان لهم فوق كل شيء ان أحد الناس أحبهم فأشركهم بما كان عنده فازدادت كرامتهم من حيث ان أحدا أحبهم ويكون أحياناً قد تجرد كثيرًا حتى لا يتألموا كثيراً.
قلت يكون قد تجرد كثيراً وهاكم قصة. في مطلع الخمسينات في ميناء طرابلس رغبت الشبيبة الأرثوذكسية ان تبني لها بيتاً يكون منتدى للاجتماعات الروحية فجابوا أزقة المدينة ليدخلوا على المحسنين فسمعوا امرأة من خلفهم تناديهم فعادوا اليها وعاتبتهم لأنهم لم يمروا بها فاعتذروا وقالوا نعرف أنك أرملة وفي ضائقة. قالت أريد أن أساهم فتبرعت بستمئة ليرة لبنانية وما كانت تملك إلا هذا المبلغ أي انها ما كانت تعرف ماذا أو كيف تأكل في الغد.
التعريف المقبول للكرم انك تعطي مما فاض منك. مثل هذه المرأة ان ليس للكرم من تعريف. انت كريم لأنك تحب. أو الحب يقاس. والأساسي في ما تعطي ان وجه من تعطي أو لونه أو دينه لا يهمك وأنك ترفض ان يعبر لك عن عرفان خشية ان يكون وقع في شعور دوني وانت الى تضميده ولست الى استعلاء لأنك فقير الى الله ولا تحس انك مالك لما بين يديك وانك فقط جسر الى الآخر. غير ان المال مجرد رمز تقول به انك محب كما الله محب وترى نفسك مؤتمنا على مال الله وليس ما يشير في كتبنا الى ان ما حصلته هو لك وان قضى التكليف الإلهي ان تطعم أولادك والمحتاجين من عائلتك فإن القربى كانت التفويض السماوي. وبعد هذا فالناس كلهم عيال الله.
ومن هذه الزاوية ما من كريم الا من أحس انه فقير الى الله الكريم وحده بالمطلق وانك أنت خادمه فلا مطمع لك بالدنيا ولا ان يقال عنك حسناً ولا شيء أحب اليك من ان تعبر دنياك غير معروف طامعاً بأن يعرفك الله وحده اذ لا تسعى الى أن يكافئك أحد. لذلك لا ترضى أن يُحفَر اسمُكَ على معبد أو مؤسسة خيرية اذ تكون قد كوفئت في هذا العالم وما سجل الله لك ذلك في سفر الحياة. المجهولية التامة شرط العطاء ولو لم تستطع ان تكم أفواه الناطقين بالشكر. ولكنك لا تفرح بهذا ولا تنتفخ لئلا تهتك المروءة.
ان تكلمت عن إحسانك يضيع ويسقط في ذاكرة الله ولا يحفظه لك اذ تكون قد استكبرت. في العطاء. علاقتك هي فقط مع الله ولا صلة لك بمن أعطيته شيئاً ولو شكر في داخله. عطاؤك غالباً ما أنشأ صلة بينه وبين الله.
صلة المعطي الحصرية مع الله عطلتها مفردات مثل إحسان وصدقة وما إليهما وهي واردة في الإنجيل لأنها من الكلمات الشائعة والسيد كلم الناس ليفهموه ولكنها كلمات مضللة إذ تتضمن ان المال الذي تعطيه انت مالكه واذا ما أعطيته يصبح ملكا لآخر. هل المحبة نقل ملك من يد الى يد أم هي فقط احراق القلب الإلهي لقلبنا وضرب كل أنانية فيه ليحترق قلب آخر (لا بقلبنا) ولكن بالحب الإلهي.
أنت لست مالكاً شيئاً لتخسره. انت مستودع النعمة الإلهية فاذا أعطيت مادة تخفي هذه تحرك عطف الله عليك وعلى ذاك الذي أكرمته فرضي ان يأخذ شكراً لله اذ عليك أن تمنعه من ان يشكرك فقد أمرنا باسيليوس الكبير أن نُسكت مادحينا اذا ما مدحوا.
أنت في العطاء تقرض الله كما يقول الكتاب اذ كثيراً ما يعود المال اليك بالحنان الإلهي وذلك ليس لملذاتك ولكن ليستمر العطاء. وكثيراً ما لا تعرف كيف يعود. ولكن ما أمسى ثابتاً عندي ان الله يرزق وهذا ما لم أكن أؤمن به في شبابي. كنت أحسب ان الرب خارج لعبة المال حتى جاءني رجل وقال ان زوجتي ستجرى لها عملية القلب المفتوح وهي تحتاج الى صمام. سألته عن ثمنه. قال ثمانون ألف ليرة (وكانت على شيء من القوة آنذاك). قلت ليس عندي هذا المبلغ وانصرف. بعد قليل أردت أن أهتف الى معاونتي ففتحت باب البهو الذي يفصل مكتبي عن الباب الخارجي. رأيت هذا الرجل جالساً عند الباب. قلت ما بالك لا تزال هنا؟ قال أريد الصمام. قلت له اني لمعطيك اياه. قال كيف وليس لديك المال؟ قلت منذ دقيقتين أي بعدما تركتني خاطبني رجل من بيروت قائلاً: يا سيدنا أنا مرسل اليك مبلغ ثمانين ألف ليرة (أي المبلغ عينه الذي طلبه الرجل) اذذاك آمنت انك ان اعطيت يعوض الله ليس ليزداد حجم مقتناك ولكن لتستمر على العطاء.
ما تملكه يأسرك. ما تعطيه يحررك. كان صديق لي كبير ثرياً عائشاً في سويسرا وأعماله على صعيد عالمي. عظيم التواضع على هذا الثراء. قال لي مرة: كلما دخلني مبلغ كبير من المال أبذل منه الكثير لئلا أتعلق به. المشكلة ليست في المال ولكن في تداولك اياه. المشكلة في قلبك.
عمق التأمل في فضيلة الكرم لا تبلغه ما لم يتضح لك موقف آبائنا من الملكية. هذه تبدو مقدسة عند الجميع غير ان هذا موروث من الشرع الروماني واقتبسته كل قوانين العالم. وهذا لا بد منه بسبب من قيام الدولة. قدسية الملكية الفردية تبدأ ليحمي الانسان من السرقة ومن تعسف الدولة المعروفة بدولة الحق. نحن، مواطنين، نراعي هذا وان كنا روحانيين، لا نؤمن بالملكية الفردية. فأنت لك ما لك على أساس أرث ورثته من ذويك وكثيراً ما ورد ذويك أو جدودك بصورة غير شرعية. من أين للارث قدسية؟
نحن المسيحيين الآتين من القرون الأربعة الأولى نقول: “للرب الأرض بكمالها، الدنيا وكل الساكنين فيها”. ثم نلحظ ان املاك جاءت كما جاءت وليس علينا ان نناقش مصدرها فلا نباركها ولا نلعنها. واجبك انت يبدأ من اللحظة. يقول تراثنا ان الملك هو لكل الناس وان ظروفاً تاريخية جعلته بين يدي هذا ويدي ذاك. لكن هذا الواقع لا يجعلك أكثر من وكيل الله على هذا الملك وتتصرف به بتقشف لمصلحتك ومصلحة عائلتك بلا إتلاف ولا بذخ ولا بطر ولا انتفاخ وتتصرف به لصالح المحتاجين وهم في كرامتهم.
على ضوء هذا يقول باسيليوس الكبير إن الأحذية والأثواب الكثيرة التي عندك انت سارقها لأنها تخص الفقير الذي ليس له شيء منها ثم يقول: اذا قلت هذه الأرض لي فتشبه من اذا كان أول الواصلين الى مسرح يقول: هذه المقاعد كلها لي. فمن الواضح، شرقاً أو غرباً، في القرون الأولى ان المسيحية علمت بأن عطاءنا للفقير واجب وان ما فاض على حاجاتك حق له.
غير ان الكنيسة لا تحرك الناس بالزجر والاستبداد. تحركهم بالدعوة، بالتقوى اذ لسنا نظاماً سياسياً أو ترتيباً قانونياً . ولكني لا أرى عمق الكرم عند امرىء إلاً إذا أحس انه يعطي الفقير ما كان حقاً له ولكنه مودع في خزانة عند سواه. الكرم تحرك في القلب قوامه ان تقطع كل صلة شعورية مع الغنى الذي بين يديك وان تهدم الغنى كقيمة وان يحرك فقط محبة الله ومحبة القريب فتكتسب عقلية المشاركة. انت تبذل مالاً وفق ما قال المزمور: “بدد، أعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد” لترى نفسك عارياً حافياً أمام الله لأنك ستمثل هكذا في حضرته في اليوم الأخير.
أهمية الكرم اذا تكلمنا لاهوتياً انك به تتشبه بالله كثيراً لأنه المعطاء المطلق. والله حر مطلقاً . وانت تصير على شيء من هذا ان فتحت قلبك للإخوة المحتاجين وأحببتهم كما الله يحبهم. هكذا يرقون الى ربهم بكثير من الحنان.
Continue reading