Monthly Archives

September 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

أن تعطي الكاهن / الأحد 25 أيلول 2005 / العدد 39

أنْ تحب كاهن رعيتك لا يجعله في حرج بسبب من المال. ساعده ألا يستجدي وألا يبطر وألا يحسب لدخول مال وألا يكون المال هاجسه. وإذا فعلت لا يتذمر من تقصير الرعية تجاهه. ساعد طالب اللاهوت أو المثقف روحيًا أن يدخل سلك الكهنوت بلا هاجس لإطعام العائلة التي سيكوّن.

حاولنا، هنا وثمة، أن نقتبس فكر المؤسسات فجعلنا للكاهن راتبا. لم نبذل الجهد الكافي لنجعله في كل مكان كافيا. وأفهم أن القرى الصغيرة جدا معذورة لو قصّرت. ويعني هذا انه لا بد من إنشاء صندوق مركزي يرعى كهنة الرعايا القليلة العدد. مع هذا أظن أن حاجة الكاهن لا تُسَدّ ان لم نتبنَّ نظام الاشتراكات أعائليةً كانت أم شخصية. عندما أراجع احد المجالس الرعائية لماذا تدفعون فقط مئتي أو ثلاثمئة ألف ليرة للكاهن، يأتي الجواب ان الصواني تجمع فقط هذا المبلغ. مبدئيا الكاهن الرسالي النشيط يؤثّر في عودة شعبنا إلى كنائسه، ولكن هذا يستغرق وقتا طويلا ومع ذلك يتخلف بعض. الاتكال على ما يُجبى في القداس صباح الأحد لا يحل مشكلة.

وأنا لست هنا في صدد تحدث عن التنظيم المالي، ولكني محدثكم عن محبتكم للكاهن والتعبير عن هذه المحبة بالعطاء المالي. وقد جرت العادة ان يعطى الراعي المحلّي شيئا بمناسبة قيامه بالأسرار. أنا بعد تأمل طويل لا أجد مانعا من الحفاظ على هذه العادة حيث هي تحكّمت. قلة قليلة جدا لا تعطي شيئا. في هذه الحال أرجو الا يذكّرها الأب الروحي بواجبها تجاهه. «مجانا أخذتم مجانا أعطوا». ومن الواضح ان يخدم الكاهنُ الفقيرَ والميسورَ بالاندفاع الواحد.

يهمني الا يختبئ المؤمن وراء الظن بأن الكاهن يدفع له الوقف ما يكفيه. معظم الناس لا يعلم ان وضع الكاهن عموما وسط. ولست أظن ان أحدا يعيش في بحبوحة كبيرة. أنت ليس عليك ان توصيه بالتقشف. هو يفرضه على نفسه، ولا يستطيع ان يفرضه على أطفاله. أنت، ان كنت كريم النفس، تحب كرامة العيش لكل من تحب. وهذه تقتضي ان يكون راعيك مرتاحا من الأعباء الثقيلة حتى لا يُحزن عياله ولا يتشتت بالسعي إلى المال إذ تضعف، عند ذاك، عزيمته الروحية. الحضارات القديمة كانت تيسّر معيشة الذين كانت تنتظر منهم إنتاجا فكريا. كاهنك يعيبه ان يفتش عن مأتم هنا وعرس هناك خارج رعيته. لا تضطره إلى ذلك. يمكنك وأنت فرد ان تخصص له مبلغا من المال كل شهر مهما كان يسيرا لتتذكر ان «العطاء مغبوط أكثر من الأخذ»، ولتشعر برابطة روحية معه معبَّر عنها بصورة محسوسة.

قد يكون عند بعضٍ لائحة ببعض العائلات يساعدونها، هذا جيد. اكتب اسم كاهنك على هذه اللائحة وفي المقدمة. إذا انتظرت معمودية ابنٍ لك لتعطي، وانتظرت اكليلك ومناسبة وفاة في عائلتك، قد لا تعطي كاهنك أكثر من عشر أو 15 مرة في حياتك كلها، وهذا قليل. أعط لتشعر بأن قوة خرجت منك أو لتحسّ بأنك شاركت خادم الكلمة لأن هذا يدعو لك بالخير والتوفيق والعافية.

هذا بعض من كرم تفتدي به لنفسك فيفرح الله بك إذ تتروض بذلك على الرحابة. فإذا بذلت وأحسست بأنك ساعدت، تحس بما هو أعظم وهو عطف الله عليك. ما يصل إلى يد الكاهن لا ينبغي أن يبقى حديث المؤمنين في مجالسهم. ينقطع هذا الحديث إذا اقتنعتم جميعا بصلاة الكاهن عنكم وعن عيالكم. أكرموه ولو رمزيا إذا كنتم محتاجين، وبسخاء إن كنتم على شيء من اليسر، حتى تكونوا بالعطاء المحب جسدا واحدا للمسيح.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

سر الصليب فينا/ الأحد 18 أيلول 2005 / العدد 38

ثلاثة فصول إنجيلية قرأناها قبل اليوم تحدثنا عن سر المحبة الذي كشف يسوع انه اكتمل في الصليب. “هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (الأحد الذي قبل العيد). ثم في العيد: “انا اذا ارتفعتُ عن الأرض (اي بموتي) جذبتُ اليّ الجميع”. ثم في السبت السابق للعيد: “متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعرفون اني انا هو”. هذا ليكشف لنا ان الصليب كان مكان المحبة الإلهية.

          اما كيف نستفيد نحن من هذه المحبة فهو موضوع هذا الأحد الذي بعد العيد. ويستهل مرقس الإنجيلي القراءة بقول الرب: “من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. الصليب هنا يعني المشقات التي يعانيها كل انسان ولكنه يتحملها او لا يتحملها، وكأنه يقول ليس من احد منكم لا يتألم جسديا او معنويا ويصدمه من يعايشهم ولعلهم الأقربون ويقلقونه ويؤذونه ولكن ليس من عيشة لا صعوبة فيها او لا شقاء. السؤال هو بأية قوة تحمل، كيف؟ الجواب انك لا تقدر ان تتصبر الا اذا قررت ان تمشي وراء يسوع اي ان تكون له تلميذا. فاذا كنت كذلك تتوجع مثل كل الناس. تتقبل الآلام بايمان (انت تتبع المعلم اذا آمنت به).

          ولكن يجب ان تريد ذلك (من أراد ان يتبعني). واذا قررت اتباعه تكفر بنفسك اي لا تتعلق بمالك او نفوذ لك او سلطة ولا تكون اسيرا لامرأتك او اولادك او لنافذ في قومك واخيرا لا تكون أسيرا لذاتك (فليكفر بنفسه وليس فقط بالأشياء التي يحبها او الأشخاص القريبين اليه).

          وعبّر عن هذا بوضوح اذ قال: “من اراد ان يخلّص نفسه يهلكها ومن أهلكَ نفسه من اجلي ومن اجل الإنجيل يخلصها”. تهلك نفسك بمعنى ان تعرض عن كل ما يفسدها، عن كل ما يعطل سيرها الى الله، عما يلهيها عنه. تعف عما يؤذيك من اجل الإنجيل، من اجل شهادتك ليسوع، تتحرر من كل شيء لتبشر، فاذا كنت مكبلا بما هو غير نافع لا تخرج كلمة صالحة من فمك ولا يسطع نور من سلوكك.

          وينهي السيد هذا المقطع الرئيس في تلاوة اليوم بقوله: “ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. واضح من كلام المعلم انك اذا اشتهيت كل ما في العالم من مال وسلطة وشهوة للجسد تعرّض نفسك للعبودية ولا يسكنك الروح القدس. اما اذا افرغتها من كل ما يستعبدها تصبح انت عبدا للمسيح اي حرا من كل شيء، من كل انسان ولو مرضت او تعبت او شخت. واذا اخطأت تتذكر الحرية التي كنت تتمتع بها وتحنّ اليها لأن وجودك هو بهذه الحرية.

          غير ان هذه الحرية لن تنالها الا اذا آمنت ان المسيح مخلصك وانه وحده ينهضك من كل وقعة ويشفيك من كل مرض ويغفر لك كل سيئة. فالقصة ليست فقط ان تقرر ارادتك الخروج مما يعطل حرية النفس. القصة ان تذوق يسوع في وجدانك، ذلك انه معك في كل حين ان طلبت اليه ذلك واشتقت الى صداقته وألفته حتى تصبح واحدا معه.

          غير ان كل هذا لن يتم لك ما لم تدخل في سر الصليب اي اذا ادركت ان الله احبك شخصيا وانه ارسل ابنه من اجلك. “احبني وأسلم نفسه لأجلي” يقول بولس. ليس فقط لأجلنا جميعا كما هو الواقع ولكن لأجلي. فقد جعلك يسوع انت شخصيا مركز حبه وأثبت لك ذلك بأنه مات عنك وانه اعطاك الحياة الجديدة بحيث لا تبقى مركزا لوجودك بل يصير هو مركز وجودك.

          فقط اذا عرفت سر الصليب ينزل اليك هذا السر وتحيا به فتكون مصلوبا مع السيد وقائما معه من بين الأموات اي سالكا حياة جديدة. هذه أخذتَ عربونها بالمعمودية فاذكرها دائما حتى تبقى دائما مغتسلا، لتظل المعمودية فعالة في نفسك كل حين فيتحول شقاؤك الى فرح وتشرق بضياء يسوع، فاذا رآك الناس على هذه الحياة الجديدة يتحولون هم انفسهم الى هذا الضياء.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

اللطف / السبت في 17 أيلول 2005

اللطف موقف وقناعة قبل ان يكون خلقاً وسلوكاً. والموقف هو انك مع الآخر في وحدة وجود وهو منحى المشاركة بحيث تقدر على ان تقول هذا لحم من لحمي وعظم من عظمي. هذا من الـ “نحن” الذي أكونه معه فلا يبقى هو هو الا اذا كان هو أنا وصرت أنا اياه بفضل الله علينا جميعاً. وهذا لا يحتاج أبداً الى ان أصنفه دينياً او قومياً فأنت تحبه ولو قبح وجهه أو ساءت سيرته ولا أنت تتوقع منه تجاوب حب أو مرافقة أو انسجام رأي لأن العطاء مجاني كعطاء الله والرب ما سألك عن رأيك لما أحبك وكنت حبيبه قبل ان تولد أي لما كنت فكرة في أزلية وجوده.

غير انك ذو اعصاب وانفعال وتأتيك الصدمات من كل جانب بدءاً من المثقفين ان كنت منهم. فطراوة النفس لا علاقة لها بالعلم كما لا صلة لها بمستوى معاشك الاجتماعي. والذين يريدون سحقك أو تهميشك كثر اذا كنت ذا مواهب والناس لا يحبون ان تسطع الشموس ولا ان يجلس زملاؤهم على عروش المجد اذا المجد لم يتوافر لهم. لذلك امتلأت الارض شتيمة وحقداً وكيداً. الكثيرون الكثيرون “أظلم قلبهم الغبي” (رومية 1 :21). وما قال الرسول: أظلمت عقولهم فقد تكون مشبعة بالمعارف لكن قلبهم جاف. ويدعون الحكمة وليس من حكمة لأن هذه من القلب. انت تعيش في عالم “بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة” وتبغي ان تكون ايقونة المسيح لأنك أنت لا تأتي منهم وأنت نازل من فوق وتعالج القوم بما تزودته من فوق اذ همك الوحيد ان يسلموا ويصحوا وينموا بالزاد الذي تعطيهم فانهم اعزة على سوئهم لأن ربك أعزهم وجعلهم ابناءه ولو عاقين.

وأنت تعلم ان القلب يحمل كل طاقات الفساد وتعامله بقلبك أنت الذي يحمل جمالات هم غير قادرين على تخيلها اذ حجب الاثم الحق الذي ربما تراءى لهم في اوان الرضى. وانت لا تقتحم نفوسهم الا بالحق الذي نزل عليك واحتضنك. ليس انك لا ترى قباحاتهم ولكنك تحسبها من لوثاتهم التي تدغدغهم ويحسبون انها فيهم مصدر ذكاء.

طبعا هم موقنون انك غبي. لذلك ليس بينكم من تحاور وما من تقدير متبادل. غير انك تسلك طريقك اليهم، هذه التي رسمها الله لك لما اقامك في حنوه وجعلك مصدر حنو اذ يتم الله عمله بأحبائه. الله ايضا يسعى ولا يقهر وينتظر رجوع المارق الى أبد الآباد.

العهد الجديد يقول ان اللطف موهبة من مواهب الروح الإلهي. فاذا انسكب عليك تعامل الناس به ولا تعاملهم بالغضب الذي هو جواب عن غضب الذين لم ينزل عليهم الروح. والغضب يأتي من روح بشرية لم تسلم لله. وانت لا تستطيع ان تواجه الا بالروح الذي أتى عليك، امامك نتوء، لا تكسره بنتوء هو أصلاً ليس فيك. ولهذا كتب: “لا تقاوموا الشر بالشر” لأنه لا يشفي الشر المقابل، المحب يقابل الشرور بما عنده لأنه هو وحده الدواء. وأهل السماء يزرعون السماويات. قد يحصدون وقد لا يحصدون ولكنهم استلموا الزرع الإلهي الذي يبددونه على كل القلوب ناظرين الى من وهبهم وراجين الإصلاح بروح الوداعة.

لفتني منذ بضع من السنين قولة يسوع: “تعلموا مني اني وديع ومتواضع القلب” (متى 29:11). لماذا لم يذكر السيد فضيلة أخرى في نفسه وفضائله كثيرة؟ كان جوابي لنفسي ان حسنة لا تعلو هذه الحسنة فالوداعة والتواضع واحد اذا كان تواضع الانسان ان يحسب نفسه كلاشيء. ويعرف عند ذاك ان وداعة المخلص قد نزلت عليه. لذلك يصبح على مثال المسيح الذي قال عنه الإنجيل: “لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفىء” (متى 19:12 و20). طبعاً الوديع يلوم في أوان اللوم وقد يؤنب غير صارخ ولكنه في كل هذا لا يستعلي أي انه لا يحسب نفسه خيراً من الذي هو يلومه. قال لغاندي اتباعه: “لماذا لا تقاوم العنف وقد طرد يسوع الناصري الصيارفة وباعة الحمام في الهيكل. أجابهم اذا استطعتم ان تكونوا على وداعة المسيح لما استعمل السياط فهذا لكم”.

لك ان تكون شديداً، حاداً ولكن ليس لك ان تكون عنيفاً لان في هذا كسراً للآخر. تكون قد رضضت القصبة أو كسرتها أي تكون محوت الآخر وبقي على شره وانت طبيب لمن لمست فيه سوءاً . فتغض الطرف عن السوء وتؤتي الانسان الشيء دواء لانك تحب نفسه حباً كلياً أيا كان موقفه منك. وأنى للشرير ان يعرف لطف الله ما لم تلطف انت به لكون الصالحين أدوات الله ليكشفوا خصاله وانت لا تبغي ان يعترف بك الأشرار ولكن ان يعترفوا بعطايا الله لهم.

وقد يتهمك الأغبياء بالضعف لظنهم ان اللطف ضعف. هذا شأنهم وانت معهم على الرجاء الى ان يفهموا قوة الرأفة والرأفة مولدة ذلك الحنان الذي به تضم الآخرين الى ربهم علهم يفعلون. وقد يمتحنك الشيطان ويزين لك ان اخلاقك لا تنفع لانها ليست من هذه الدنيا ولكنك اخترت الا تكون انت من هذه الدنيا لانك لا تأتي منها وتعرفها تافهة مع التفهين وفانية بالفانين. غير انك تقوى بهذا الذي كلفك لعلمك انك اليه عائد في كل حين. هم هزلوك ولكنك لست وحدك لانك عشير الله وهذه القلة من محبيه. تعرف انك تنزل السماء على الأرض.

بصبر كبير موصول. هناك من لا يعيش الاّ بالمشاجرة، بالحكم على الغير، بالدينونة، بالتسلط، ليس للطيف حق في تدبير أمره كما يفهم. ينبغي ان يتبنى فهم القساة، الذين يحسبون ان هذا الكوكب الأرضي لا يمشي الا وفق احكامهم.

الى هذا كله اللطف يمارس بالدرجة أولاً مع المساوين لك في المنزلة ومع من كان دونك في الترتيب المجتمعي ذلك ان الذي كان أعظم منك شأنا في الدنيا كثيراً ما يملي عليك. معظم الذين في المقامات العلى يعتبرون ان مناصبهم تعطيهم الحق في كل شيء. هذه اساءة لاستعمال السلطة ولكن من يرد هؤلاء. أما المساوون لك فكثيراً ما لك ان تناقشهم ولكنك لا تنجح دائما بمسعاك. انت تعرف حقيقة لطفك ان مارسته مع ابنائك وبناتك أولاً وجعلتهم لك رفقاء فكر ورفقاء قرار. ولا أتكلم عن زوجتك فإنها مغبونة في كثرة من الاحوال لتفسيرك الذكوري لنصوص دينية في هذا المذهب وذاك.

غير ان انسانيتك يجب الرجوع اليها باستمرار في معاملتك لموظفيك وللخادمة في بيتك اذ ينبغي ان تعلم ان كل هؤلاء بشر وانك مدعو الى ان تترفع عن الإذلال وشر ما فيه انك تحسب ان المال الذي تدفعه للخادم يجعلهم أسراك.

بالصوت الهادىء دائما، بالكلمة لا عدوان فيها، بشعورك ان الآخر دائما يعليك ويطهرك تسير فقط تحت نظر الله والناس ناسان: من يعيشون برؤية الله اياهم فيتكونون وأولئك الذين يتكونون من رؤية البشر اياهم وتعدمهم هذه الرؤية أحيانًا.

واذا كنت فقط في إشراف ربك عليك ولطفك اسر حقيقة لأنك تعترف بحرية الغير وتراه دائماً أقرب الى الرب منك. هذا الإحساس شرط اللطف العظيم.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

المحكمة الروحية/ الأحد 11 أيلول 2005 / العدد 37

المحكمة الروحية في هذه الأبرشية مؤلفة من ثلاثة كهنة أنا أعيّنهم وانتدبهم عني انتدابا كاملا أي أني منحتهم كل ثقتي فلا أتدخل بدعوى ولا بحكم ولا اعرف شيئا عن سير الدعوى لأني لو أردت ذلك لجلست ولم أَنتدب. وكيف أتدخل إلا لكون احد الطرفين قد راجعني، وكيف اعرف مسار الدعوى ان لم اسمع كل كلمة تقال أمام القوس واقرأ كل لائحة جوابية وانا لا أريد أن أوحي بأني اشك لحظة بنزاهة القضاة. لذلك أتمنى ألا يراجعني احد خارج المحكمة. وإصراركم على المراجعة يضطرني الى الاستماع الى الخصم اي ان اكون انا قاضيا خارج القوس.

          ثم هذه محكمة بدائية اي ان فوقها محكمة استئناف هي في دنيا الحقوق مرجع للمحكمة الاولى اذ نطبق نحن قانون اصول المحاكمات في المحاكم اللبنانية القائم على وجود محكمتين. ومن الأصول الأخلاقية الا اراجع انا قضاة محكمة الاستئناف وكأني اشك بعلمها وهي التي تفحص محكمتي فتثبت احكامها او تنقضها.

          ومن الواضح ان الفريق الخاسر تدفعه عواطفه ان يظن انه مغبون او مظلوم. ولكن في دنيا   القضاء هناك من يحكم بينك وبيم خصمك. اجل يمكن لقاضي البداية ان يخطئ. بسبب ذلك أقيمت محاكم الدرجة الثانية.

          الى هذا نحن قضاء لبناني تنفذ احكامه الدولة اللبنانية. لذلك تتدخل بأحكامنا محكمة التمييز اذا رفعت القضية المبرمة اليها وهي تنظر في ما اذا خالفنا القانون اللبناني.

          وافرضوا اني جلست قاضيا اول. هذا لا يعني ان رأيي يسود اذ يمكن للعضوين الآخرين الا يوافقاني. جلوسي ليس ضمانة لانتصار رأيي. ومن الطبيعي ان انتدب ثلاثة كهنة متزوجين -كما هي الحال- وهم يعرفون الحياة العائلية.

          اجل يحاول القضاة دائما مصالحة الزوجين، ولكن اذا تعذر عليهما الأمر فهم مضطرون ان يقاضوا اي ان يطبقوا القانون الصادر عن المجمع المقدس. الى هذا هم يتدارسون فيما بينهم الوضع النفساني للعائلة ووضع الأطفال وما ينفعهم وما يضرهم. ويعملون هذا كآباء روحيين.

          قد يعجبك هذا القاضي وقد لا يعجبك. هذه حالة القضاء في كل العالم. واذا انت لمست تحيز احد القضاة فيمكنك ان تطلب تنحيته ويقبل المطران طلبك او يرفضه. وهذا حقه الشرعي. والقاضي يفحص ويدقق ويستجوب ويستمع الى شهود ويستجوب الطرفين اذا رأى ذلك ضروريا ثم يكتسب خبرة ولاسيما اذا جلس سنوات على القوس. ضمانات اكثر من التي ذكرنا لا تتوفر في بشر.

          واذا انت تقدمت بدعوى يعني ذلك انك قبلت بهذا القضاء. هذا ما يوجد في الدنيا. وتتعرض الى خطأ المحكمة فتستأنف وتميز اذا شئت وما من طريقة اخرى. غير انك تقبل ضمنا ان القاضي يعرف القانون وتحسب انه طاهر وانه لا يرتشي. والمرتشي اذا ثبتت عليه الخطئية يحاكمه الرئيس الروحي. والمطران هو هذا الموجود.

          انت اذًا تدخل الى المحاكمة على رجاء ان تنصفك اذ لا تحل مشاكلك الزوجية خارج المحكمة. واذا اردت الخير كل الخير تصالح زوجتك ولا تظهر امام المحكمة. راجع كاهنك اولا او كاهنا آخر بغية السلام. وتحمل حياتك الزوجية بالغفران ما لم يكن سبب الخلاف فظيعا جدا ولم تطق المصالحة. واذا حصل فسخ الزواج فاولادك يتأذون ولاسيما اذا كانوا صغارا. حياة عائلية متشنجة يمكن ان تصل الى السلام. فلا تقم دعوى وانت في حالة الغضب. اما اذا لم تستطع اطفاء غضبك ورفعت قضية فاحتمل النتيجة مهما كانت، واذا لم تحتمل فاستأنف ثم ميز.

          ثقوا بأن كل دعوى تصدمني وانا اصلي من اجل سلام المتخاصمين. غير ان الدنيا فيها شياطين الخلاف، ونحاول نحن بما وهبنا الله من طاقة ان نطرد الشياطين.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

عيد ارتفاع الصليب / السبت في 10 أيلول 2005

تاريخيا هو ذكرى لاعادة الامبراطور هرقل صليب المسيح من الفرس الى اورشليم (القدس) وكان الفرس قد اخذوه. لعلها مناسبة ان اطرح اسسا لبعض حوار مع كل الناس. منهم من قال ان القديسة هيلانة ام قسطنطين الملك هي التي عرفت ذلك العود الذي مات عليه المعلم اي ثلاثة قرون بعد حادثة الصلب وتثبت ذلك باعجوبة. لست اعلم ما اذا كانت فرقة تشك في هذا. الاوضح ان ثمة من لا يهمه هذا الامر وذلك في اعتقادي يعود ان مقاربته لسر الايمان تتجاوز المادة كليا. تجسد الكلمة عنده لا يستتبع تعابير في المقدسات. وسيظهر هذا الاختلاف في العبادات. فالمذهب الانجيلي الكلفيني يستخدم صليبا عاريا اي خشبة لا صورة عليها. الكثلكة (مع اللوثيريين) ترسم وتنحت المصلوب على الخشبة والكاثوليك يقبلون المصلوب لكنهم احيانا يستعملون صليبا بلا مصلوب هنا وثمة.

الارثوذكسيون لا يولون اية قيمة لصليب بلا مصلوب لان الصليب عندهم ايقونة فاذا قبلوها يؤمنون بانهم يتحدون روحيا بالمسيح. فالصليب العاري عند من يستعمله هو تذكر لسر الخلاص. اما الذين يتخذونه ايقونة فهو انتقال بالروح والايمان الى من رسم عليه. لذلك كان من الجهل ان يقال ان المسيحيين يعبدون الصليب. وما هو اعمق جهلا ان يصدق اي مطلع على طبيعة المسيحية ان المسيحيين يؤمنون بالاصنام.

مقاربتك للاديان ان تعرف لغة تعبيرها عن نفسها. فما يسميه البعض التجسيم ليس الا لغة فليس احد في العالم بدءا من الهندوسية المؤلفة تماثيلها يعتقد ان للاله جسما هو من طبيعته. المسيحيون يعتقدون ان الكلمة (او الابن) اتخذ جسدا وهذا خاص بالكلمة ولا ينحصر الابن في هذا الجسد بل يبقى مالئا الكون.

اكرر ان القضية قضية لغة. فاذا جثا الارثوذكسي او الكاثوليكي عند الصليب المرسوم انما هو في علاقة عناق مع الابن. في العبادة الارثوذكسية نخاطب الصليب مخاطبتنا لشخص. من الواضح ان كل من تحرك شهريا يفهم هذه اللغة ومعظم عباداتنا كتبناها شعرا يونانيا.

نحن اهل جمال ورأينا ان نسكب عباداتنا في جمال الرسم والموسيقى وان نعبر عن انفسنا كذلك. فالذي علق له عند معموديته صليب اذا كان له ايمان شعبي – فولكلوري فهذا شأنه وعلينا ان نربيه. الارثوذكسي يعرف انه يحمل ايقونة ولا يحمل طلاسم فعملية الحمل عملية صلاة مقولة او غير مقولة. هذه ضريبة الدين انه مسلم لكل العقول وهي تحمل مشاعر كثيرة. فانت قد تصلّب وجهك (اي ترسم اشارة الصليب على صدرك) بصورة آلية (لست متأكدا من ان احدا منا آلي مطلقا) وآخر يصلب وجهه بوعي اكمل ويصلي. والمألوف في العبادة (القداس وما اليه) اننا اذا لفظنا كلمة سجود او كلمة قيامة نقوم بهذه الاشارة. اذاً نحن في عالم المعاني والمعنى يلازمه شكل دائما في دنيا الشعر فأنت لا تلد معنى ثم تلبسه مبناه. هذان يصدران منك معا.

فلنتفق اذاً اولا على اننا لا نعبد صلبانا وانه من طبيعة الاشياء في مجتمعات متحضرة ان نحترم امرأة تزينت بصليب من ذهب اذا آمنت ان لها به علاقة روحية. للناس حق الاختلاف في اية بقعة من المعمورة وليس لدولة اذا تعاملت واهل ديانات اخرى ان تمنعهم من استعمال رموزهم. “لكم دينكم ولي ديني” سورة الكافرون الآية 6، ان عنت شيئا لقارئ عصري التنفس فإنما تعني حرية قول دينه في الطريقة التي يتحسس بها. وعليه ليس من سلطة مخولة ان تملي عليه له ما يلبس وما لا يلبس ولا تمنع امرأة من ارتداء حجاب وهي مؤمنة بانه من مقتضيات شرعها. وما تريده لنفسك ترضاه للآخرين.

ليس الصليب صنما فالصنم يعني حضور الاله فيه وهذا ما لا نؤمن به. وانت تسال الناس عما يؤمنه به وتفهمهم كما يفهمون انفسهم. هذه هي استقامة الحوار. والعبرة في العلم للائمة لا للعامة اذا جنحوا. ففي هذا جاء التنزيل: “وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا” (السجدة، الآية 24). في تدقيق المعنى كلامنا في المصلوب وليس في اداة موته. ونحن نؤمن ان نلنا بموته حياة ابدية لانه ما كان موت فناء بل موت قيامة. والمعنى ان المسيح لما مات لم يتسلط عليه الموت لحظة وما فني لحظة وما فسد. واذ ظن اليهود انهم قتلوه كان لحيظة وفاته حيا وقائما من وطأة الموت. وما نسميه قيامته بعد ثلاثة ايام ما هي الا الكشاف للنصر الذي انتصر به هنيهة اسلم الروح. فالكتاب يقول: “مجدني يا ابتِ (اي مجدني بالموت) بالمجد الذي كان لي عندك قبل انشاء العالم” (يوحنا 17 : 5). الفكرة ان البهاء الالهي الذي كان لي أزليا يتحقق في العالم اليوم بذبحي على الخشبة. هذا سر المحبة التي لا يسبر غورها.

نحن نفرح بالصلب لانه مطرح القيامة الحقيقي. ذلك ان آلام المعلم ما كانت الا معراج جسده وروحه البشرية الى الضياء الابدية الذي لازمه دوما واخفاه بسبب من التجسد.

قال لي مرة واحد من ائمة المسلمين كان صديقا عليّ واداً ومودوداً: “ديانتكم ديانة مأساة”. أجبته: “اذا عربت بكلمة مأساة التراجيديا اليونانية فنحن لسنا كذلك لان الفكر الاغريقي يجعل الانسان الذي في الضيق بلا مخرج تماما كما يراه جان بول سارتر سجين قاعة مغلقة من كل النواحي. نحن نخرج بقيامة المسيح”.

نحن لا نعذب انفسنا لنتشبه بعذابات المسيح ولا نسر بالمرض يفتك بنا بدليل ان المسيح قضى مساره على الارض بشفاء الاسقام وبدليل اننا نخصص صلوات وسرا ندعوه مسحة المرضى التماسا لشفائهم. نحن ديانة الفرح مع كوننا ديانة صبر. والالم موجود في الكون وهو ينشأ من وضعنا الكوني اما الملكوت حيث لا وجع ولا حزن ولا تنهد فموضع بهجة لا تنقطع.

لهذا يقول بولس: “افرحوا في الرب كل حين واقول ايضا افرحوا” (فيليبي 4:4) وزيادة في التدقيق احصيت كل كلمات الكتاب المقدس التي هي من جذر فرح، يفرح فكانت 313 كلمة. الكنيسة التي تأمر بشهادة الدم لا تسر بعذاب الشهداء ولم يمر جيل في هذا البلد او ذاك لم نضطهد (بفتح الهاء) به لا نتفرج نحن على عذاب لهم لا يوصف ولكننا نتعزى بايمانهم بقيامة يسوع وتاليا بقيامتهم. اما اذا انوجد عند المشغوفين بالالم استلذاذ بالالم فهذا شأنهم ولكن ليس هذا ما يقوله الائمة عندنا. ليس صحيحا على الاطلاق عندنا ان الاوجاع كعارة لمن عاناها. قد تكون فرصة للمؤمن الكبير ان يصبر اي ان يفرح بعزاء الرب. اذا صرت بآلامك قياميا اي اذا آلت عندك الى مطرح فصحي فانت تعرف بها القيامة الاولى كما يسميها غريغوريوس بالاماس.

لذلك نقول مع يوحنا الذهبي الفم: “قام المسيح وليس من ميت في القبور”. وعلى هذا نقيم الى جانب العيد الكبير وتهليلاته التي تدوم اربعين يوما بعد العيد، نقيم كل احد عيدا للقيامة. لذلك كان المسيحيون الاوائل يلبسون ثيابا بيضا عند موت عزيز.

فاذا حملنا صليبا في اعناقنا نكون ملازمين الحياة العليا التي لنا بالمخلص. عيد ارتفاع الصليب ان هو الى دعوة الى الحياة الجديدة في المسيح وفي اختبارنا انها ممكنة ههنا الى ان يقيم الرب اجسادنا في اليوم الاخير بالروح القدس حيث “ننتقل من مجد الى مجد” لنسير في الله.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الغفران في انجيل اليوم/ الأحد 4 أيلول 2005 / العدد 36

عندنا كلمة بشعة في هذا البلد وهي كلمة كرامة، وهي ان تأسر انسانا آخر بحدود من كلام يتبين لك منه انه يراعيك (طبعا بالقدر الذي انت تفرضه). لذلك تقول: فلان مسّ كرامتي وانا لا أقبل. قد تكون مظلوما اذا لم يعتبرك بما تراه الكفاية. وتضيف الى هذا كرامة العيلة احيانا اي انك تسعى دائما الى توازن والى الاعتراف بفضلك وسعيك ونشاطك لأنك تريد ان توجد في عيني هذا الذي اساء اليك او ظننت انه اساء، وفي الحقيقة تريد ان تظهر.

           في المثل الإنجيلي، وموضوعه الغفران، مَلِكٌ اراد ان يحاسب عبيده. هذا حق له بل واجب عليه لأن المملكة ليست سائبة. وفي المحاسبة تذكير الموظف بواجبه. هنا العبد مديون والمبلغ باهظ “فرقّ سيد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين”. لم يعطه مهلة قصيرة او طويلة للدفع. أعفاه كليا من الدفع. اوصى مرة يسوع بالعفو الكامل. ولكن حالة المديون قد تكون عسيرة وقد يكون الدائن موسرا قادرا على انتظار الإيفاء.

          هذا العبد الذي عرف حنان الملك الدائن لم يبق على هذا الحنان تجاه عبد آخر مديون له. فدفع الملك عبده الاول الى التعذيب حتى يوفي جميع ما له عليه لأنه لم يتعلم شيئا من الرأفة لما أعفي من الدين. هنا يختتم السيد المبارك المثل الإنجيلي بقوله: “فهكذا ابي السماوي يصنع بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته”.

          فاذا اساء اليك انسان يبقى اخا لك ولكنه جاهل او حاقد. انت لا تنظر الى كرامتك المجروحة اذ اصلا لم يكن عليك ان تنجرح لكن ان تشفق على الذي اساء لأنه لم يصل الى تلك الروحانية التي تؤهله للمحبة. جَرَحَك او شتَمك او قَساك بسبب من ضعفه ومنه التشفي وإحساسه بأنه يقهرك بالشتيمة.

          اذا سبَّكَ احد او آذاك وقصد تجريحك او حصرك في قفص او حاصرك، تصبر اولا وتصلي من اجله لأنه لم يتقبل نعمة الغفران وغيب وجه الله عن رؤيته ولم يشاهد الا الذي آذاه، وغالبا ما يضخم خطيئة الآخر ويعتبر نفسه شيئا كبيرا يجب تكريمه في كل حين وربما مدحه وتعظيمه.

          فجأة يجرحه احد الناس وما كان ينتظر ذلك ولاسيما اذا جاء الجرح من انسان قريب. يهزه ان نسيبا او صديقا او المعتبر صديقا وصل الى استبعاده واعتباره غريبا. وكثيرا ما كان الأذى متعمدا والقصد الإذلال والتحقير.

          يلح يسوع على ان نغض الطرف عن الذل الذي يلحق بنا، ويصرّ على ان نغفر. الرب لا يمنعنا من العتاب الذي قد يكون طريقة للإصلاح، واذا كانت بين الاثنين صداقة فكثيرا ما ينفع العتاب الهادئ لأننا نحن نتوخى تقويم الذي آذانا حتى لا يغرق في بغض او حقد. نحن لا ننظر الى صدمة اصابتنا بل ننظر الى الفساد الذي دخل فيه الآخر ونريد ان نشفيه منه. لا تهمنا كرامتنا. يهمنا هو فنحن بتقوانا نطلب شفاء المسيح لنا وبالحنان نشفي النفس التي سقطت بالشرور. الكنيسة مجموعة ناس خاطئين يغفرون بعضهم لبعض، واذا فعلوا يراهم الله طاهرين.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الكرم / السبت 3 أيلول 2005

أراد راهب ان يرسم أيقونة الدينونة وفيها صف علوي للمسيح والقديسين وصف سفلي فيه الخطأة. فيها السماء وفيها النار. وكان هذا الراهب سمع بامرأة داعرة كريمة اليد جداً فأراد رسمها فلم يستطع أن يجعلها في السماء كما لم يقتنع ان يضعها في الجحيم بسبب من فضيلتها فوجد لها منزلة بين المنزلتين.

وإذا أردنا التعريف بالكريم لقلنا انه ذاك الذي لا ينفد عطاؤه أو الذي ألفته عطاؤه وكأنه لا يشتهي الأخذ أو كأنه لا يحب قبض مال الاّ بغية توزيعه. وجهه الى الآخرين وفرحه بفرحهم وكأنه يغتذي من بهجتهم إذا ما أخذوا فكان لهم بعض رزق لهم ولعيالهم وكان لهم فوق كل شيء ان أحد الناس أحبهم فأشركهم بما كان عنده فازدادت كرامتهم من حيث ان أحدا أحبهم ويكون أحياناً قد تجرد كثيرًا حتى لا يتألموا كثيراً.

قلت يكون قد تجرد كثيراً وهاكم قصة. في مطلع الخمسينات في ميناء طرابلس رغبت الشبيبة الأرثوذكسية ان تبني لها بيتاً يكون منتدى للاجتماعات الروحية فجابوا أزقة المدينة ليدخلوا على المحسنين فسمعوا امرأة من خلفهم تناديهم فعادوا اليها وعاتبتهم لأنهم لم يمروا بها فاعتذروا وقالوا نعرف أنك أرملة وفي ضائقة. قالت أريد أن أساهم فتبرعت بستمئة ليرة لبنانية وما كانت تملك إلا هذا المبلغ أي انها ما كانت تعرف ماذا أو كيف تأكل في الغد.

التعريف المقبول للكرم انك تعطي مما فاض منك. مثل هذه المرأة ان ليس للكرم من تعريف. انت كريم لأنك تحب. أو الحب يقاس. والأساسي في ما تعطي ان وجه من تعطي أو لونه أو دينه لا يهمك وأنك ترفض ان يعبر لك عن عرفان خشية ان يكون وقع في شعور دوني وانت الى تضميده ولست الى استعلاء لأنك فقير الى الله ولا تحس انك مالك لما بين يديك وانك فقط جسر الى الآخر. غير ان المال مجرد رمز تقول به انك محب كما الله محب وترى نفسك مؤتمنا على مال الله وليس ما يشير في كتبنا الى ان ما حصلته هو لك وان قضى التكليف الإلهي ان تطعم أولادك والمحتاجين من عائلتك فإن القربى كانت التفويض السماوي. وبعد هذا فالناس كلهم عيال الله.

ومن هذه الزاوية ما من كريم الا من أحس انه فقير الى الله الكريم وحده بالمطلق وانك أنت خادمه فلا مطمع لك بالدنيا ولا ان يقال عنك حسناً ولا شيء أحب اليك من ان تعبر دنياك غير معروف طامعاً بأن يعرفك الله وحده اذ لا تسعى الى أن يكافئك أحد. لذلك لا ترضى أن يُحفَر اسمُكَ  على معبد أو مؤسسة خيرية اذ تكون قد كوفئت في هذا العالم وما سجل الله لك ذلك في سفر الحياة. المجهولية التامة شرط العطاء ولو لم تستطع ان تكم أفواه الناطقين بالشكر. ولكنك لا تفرح بهذا ولا تنتفخ لئلا تهتك المروءة.

ان تكلمت عن إحسانك يضيع ويسقط في ذاكرة الله ولا يحفظه لك اذ تكون قد استكبرت. في العطاء. علاقتك هي فقط مع الله ولا صلة لك بمن أعطيته شيئاً ولو شكر في داخله. عطاؤك غالباً ما أنشأ صلة بينه وبين الله.

صلة المعطي الحصرية مع الله عطلتها مفردات مثل إحسان وصدقة وما إليهما وهي واردة في الإنجيل لأنها من الكلمات الشائعة والسيد كلم الناس ليفهموه ولكنها كلمات مضللة إذ تتضمن ان المال الذي تعطيه انت مالكه واذا ما أعطيته يصبح ملكا لآخر. هل المحبة نقل ملك من يد الى يد أم هي فقط احراق القلب الإلهي لقلبنا وضرب كل أنانية فيه ليحترق قلب آخر (لا بقلبنا) ولكن بالحب الإلهي.

أنت لست مالكاً شيئاً لتخسره. انت مستودع النعمة الإلهية فاذا أعطيت مادة تخفي هذه تحرك عطف الله عليك وعلى ذاك الذي أكرمته فرضي ان يأخذ شكراً لله اذ عليك أن تمنعه من ان يشكرك فقد أمرنا باسيليوس الكبير أن نُسكت مادحينا اذا ما مدحوا.

أنت في العطاء تقرض الله كما يقول الكتاب اذ كثيراً ما يعود المال اليك بالحنان الإلهي وذلك ليس لملذاتك ولكن ليستمر العطاء. وكثيراً ما لا تعرف كيف يعود. ولكن ما أمسى ثابتاً عندي ان الله يرزق وهذا ما لم أكن أؤمن به في شبابي. كنت أحسب ان الرب خارج لعبة المال حتى جاءني رجل وقال ان زوجتي ستجرى لها عملية القلب المفتوح وهي تحتاج الى صمام. سألته عن ثمنه. قال ثمانون ألف ليرة (وكانت على شيء من القوة آنذاك). قلت ليس عندي هذا المبلغ وانصرف. بعد قليل أردت أن أهتف الى معاونتي ففتحت باب البهو الذي يفصل مكتبي عن الباب الخارجي. رأيت هذا الرجل جالساً عند الباب. قلت ما بالك لا تزال هنا؟ قال أريد الصمام. قلت له اني لمعطيك اياه. قال كيف وليس لديك المال؟  قلت منذ دقيقتين أي بعدما تركتني خاطبني رجل من بيروت قائلاً: يا سيدنا أنا مرسل اليك مبلغ ثمانين ألف ليرة (أي المبلغ عينه الذي طلبه الرجل) اذذاك آمنت انك ان اعطيت يعوض الله ليس ليزداد حجم مقتناك ولكن لتستمر على العطاء.

ما تملكه يأسرك. ما تعطيه يحررك. كان صديق لي كبير ثرياً عائشاً في سويسرا وأعماله على صعيد عالمي. عظيم التواضع على هذا الثراء. قال لي مرة: كلما دخلني مبلغ كبير من المال أبذل منه الكثير لئلا أتعلق به. المشكلة ليست في المال ولكن في تداولك اياه. المشكلة في قلبك.

عمق التأمل في فضيلة الكرم لا تبلغه ما لم يتضح لك موقف آبائنا من الملكية. هذه تبدو مقدسة عند الجميع غير ان هذا موروث من الشرع الروماني واقتبسته كل قوانين العالم. وهذا لا بد منه بسبب من قيام الدولة. قدسية الملكية الفردية تبدأ ليحمي الانسان من السرقة ومن تعسف الدولة المعروفة بدولة الحق. نحن، مواطنين، نراعي هذا وان كنا روحانيين، لا نؤمن بالملكية الفردية. فأنت لك ما لك على أساس أرث ورثته من ذويك وكثيراً ما ورد ذويك أو جدودك بصورة غير شرعية. من أين للارث قدسية؟

نحن المسيحيين الآتين من القرون الأربعة الأولى نقول: “للرب الأرض بكمالها، الدنيا وكل الساكنين فيها”. ثم نلحظ ان املاك جاءت كما جاءت وليس علينا ان نناقش مصدرها فلا نباركها ولا نلعنها. واجبك انت يبدأ من اللحظة. يقول تراثنا ان الملك هو لكل الناس وان ظروفاً تاريخية جعلته بين يدي هذا ويدي ذاك. لكن هذا الواقع لا يجعلك أكثر من وكيل الله على هذا الملك وتتصرف به بتقشف لمصلحتك ومصلحة عائلتك بلا إتلاف ولا بذخ ولا بطر ولا انتفاخ وتتصرف به لصالح المحتاجين وهم في كرامتهم.

على ضوء هذا يقول باسيليوس الكبير إن الأحذية والأثواب الكثيرة التي عندك انت سارقها لأنها تخص الفقير الذي ليس له شيء منها ثم يقول: اذا قلت هذه الأرض لي فتشبه من اذا كان أول الواصلين الى مسرح يقول: هذه المقاعد كلها لي. فمن الواضح، شرقاً أو غرباً، في القرون الأولى ان المسيحية علمت بأن عطاءنا للفقير واجب وان ما فاض على حاجاتك حق له.

غير ان الكنيسة لا تحرك الناس بالزجر والاستبداد. تحركهم بالدعوة، بالتقوى اذ لسنا نظاماً سياسياً أو ترتيباً قانونياً . ولكني لا أرى عمق الكرم عند امرىء إلاً  إذا أحس انه يعطي الفقير ما كان حقاً له ولكنه مودع في خزانة عند سواه. الكرم تحرك في القلب قوامه ان تقطع كل صلة شعورية مع الغنى الذي بين يديك وان تهدم الغنى كقيمة وان يحرك فقط محبة الله ومحبة القريب فتكتسب عقلية المشاركة. انت تبذل مالاً وفق ما قال المزمور: “بدد، أعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد” لترى نفسك عارياً حافياً  أمام الله لأنك ستمثل هكذا في حضرته في اليوم الأخير.

أهمية الكرم اذا تكلمنا لاهوتياً انك به تتشبه بالله كثيراً لأنه المعطاء المطلق. والله حر مطلقاً . وانت تصير على شيء من هذا ان فتحت قلبك للإخوة المحتاجين وأحببتهم كما الله يحبهم. هكذا يرقون الى ربهم بكثير من الحنان.

Continue reading