Monthly Archives
أخلاقيا، هل يجب ان تنتخب؟ في الديموقراطيات الراقية حيث يجري الانتخاب بلا ضغط ولا رشوة يتحتم عليك ان تنتخب لأن في ذلك منفعة البلد. في بلدان العالم الثالث كلبنان حيث يضيق مجال حريتك وحيث تَبيَّنَ انك لا تؤثّر كثيرا أو قليلا، قد تتساءل اذا كان الضمير يحتّم عليك ان تشارك في الاقتراع. اي انك تقترع في ظرف سياسي معيّن عليك انت ان تقدّر اذا كنت فيه نافعا. انا مواطن مثلك ولا اوجهك في هذه الأمور، وغالبا ما تفهم انت امر السياسة اكثر مني. المهم ألاّ يستقيل فكرك، وألاّ تهرب من محاكمة الأمور، وان تقرر على ضوء وجدانك من جهة، وعلى ضوء تحليلك السياسي من جهة.
هناك بعض إرشادات عامة انت مرتبط بها اخلاقيا. اذا رأيت مرشّحا يحاول إرشاءك، فواجبك الأخلاقي ان تبتعد عنه، لأن مَن حاول استمالتك بهذه الطريقة الرخيصة تصبح الرشوة نظاما عقليا له ونظام سلوك في الدولة. واذا وعدك في الماضي وما وفى، أعرض عنه، لأن من كذب مرة يكذب هذه المرة أيضا. الإرشاد الثاني ان الأخلاق الأساسية يجب ان تتوفر ليس فقط بالمرشح الذي يتوسلك ولكن برفاق دربه أيضا. فاذا لم يَرُقْكَ واحد من هؤلاء، فليس ضميرك مرتبطا بكل اللائحة. اعضاء اللائحة سيضغطون عليك لتُلقي كل الأسماء. انت حليف من كان حليف ضميرك وقناعاتك.
إلى هذا نحن في بلدٍ القليلُ من مرشحيه له برنامج مفصَّل في كل المجالات التي تغطّيها الوزارات. أي الأصل ان تأتيك لائحة وتضع ليس فقط عناوين عامة أو أمنية ولكن برنامجا مفصلا. هذا قليل جدا توافُرُه في بلدنا. والانتخاب عندنا يقوم على أساس مودّات شخصية أو عائلية، أو نرى هذا ظريفا وذاك غليظا. نحن لا نزال بلدا انفصاليا يتأثر احدنا بصداقاته ولم يبلغ بعد مرحلة امتحان كل شيء والتمسُّك بالأفضل كما يدعونا إلى ذلك بولس. لعبة الترشيح اساسا محاولة تأثير على العواطف، وقليل فيها التأثير على العقل.
بعامة اذًا الوضع الذي كنا فيه سيتكرر. الوجوه هي اياها. وبعامة أيضا الفرق بين المرشحين فرق اخلاقي. وقد يكون هذا واعدا والزمن الذي يفصلنا عن الموعد قصير جدا لن تُقدَّم فيه برامج بالمعنى الصحيح. وفي اكثر الأماكن ليس من فرق بين سياسة هذه اللائحة وسياسة تلك. وفي ترجيح الأكثرين انه ليس من فروق كثيرة في السياسة الداخلية. فالمعارضون انفسهم موالون، والموالون احيانا معارضون. الفرق بين المرشحين كلاميّ في كثرة من الأحايين. اما في السياسة الخارجية فليس من فرق حقيقي بين فريق وفريق، والذي يأتي بهذا هو اياه الذي يأتي بذاك، وتتعدد اللوائح للمحافظة على ظاهر الديموقراطية. وهكذا نرى الوضع وضع تكرار واجترار وعودة العتيق إلى العتيق.
خلاصة هذا التأمل ان هناك فرقا أخلاقيا بين اشخاص، أو فرقا في الفهم بين اشخاص، وليس من اختلاف كبير بين لائحة ولائحة أو التزام والتزام، وكأنه لم يبق عليك الا ان تختار أهون الشرين.
انا، اسقفا، ليس عندي موقف رسمي في مناطقنا. وليس من تقاليد الرعاة عندنا ان يفكروا في السياسة العملية عوضا عن ابنائهم. اصنعْ اذًا ما شئت. ولكن ان رأيت نورا في مرشح ورأيت ظلاما في الآخر، فلا تتردد في ان تكون اقرب إلى الذي عنده نور.
واذا احسست ان هذا اكثر إخلاصا للبلد من ذاك او اعظم فهما، فخذ موقفا. تمسك بالأمل ولو ضعيفا خشية ان يصل بسبب من حيارك من كان اقرب إلى الظلام. وقد يبدأ لك تقويم الاعوجاج من بعد الانتخابات. بسبب من بريق الأمل هذا، يبدو لي أنّ انخراطك في العملية الانتخابية اقرب إلى قلب الله من إحجامك. القليل من الأمل افضل من التقاعس عن كل شيء.
Continue readingالزواج سر يتم في الكنيسة وهيبتها وقدسيتها، وليس الاكليل الذي يقام هو نفسه حفلة الكوكتيل التي تتبعه. وليس ما يفرض ان الكوكتيل نفسه مكان لعرض الأزياء المغالية في قلة الحشمة. فالمرأة التقية محتشمة في كل مكان وفي الكنيسة اولاً. والمرأة الحضارية في الغرب تظهر بالزي العاري في الحفلات وليس في المعابد. والإكليل قديما كان يجري في القداس، وهذا ليس فيه احتمال للعراء. كل هذا مشوِّه لصورة المرأة. وفي الحركة النسائية المعاصرة، هي تحتج ان الاعلانات في الشوارع والتلفزيون تعتبرها سلعة. وتغضب ان يُنظر اليها كذلك. ولكن مَن أرغمها أن تجعل نفسها سلعة في الأكاليل؟
للعيون حرمة. والعري اقتحام الآخرين في عفّتهم. وفي هذا نحن لا نقلّد الأوربيات لأنهن في الأعراس أكثر تأدبا من كثير من اللبنانيات. هذا تحرُّش في الرجال صارخ ومعيب. هذه المرأة الخارقة لكل القواعد ليست في حالة صلاة، والعرس صلاة وليس مجرد احتفال دنيوي بفرح عريس وعروس. هو فرح في الإيمان.
الإساءة الأخرى هي هذا الإكثار المزعج من التصوير الذي يعرقل أداء الصلاة. والمصوِّر يطلب من الكاهن احيانا ان يغيّر موضعه، ويجعل العروس تحت إمرته عند وصولها الى عتبة الكنيسة، فيستغرق دخولها ما لا يقل عن عشر دقائق او ربع ساعة، وكثيرا ما تتأخر عن الوصول، الأمر الذي يعرقل حياة الكاهن الذي قد يكون مرتبطا بواجب آخر. هذا غنج بغير محله. هذا اذا ارتضينا مكرهين بكل مسرحية التصوير لسر من اسرار الكنيسة الذي يجري في الأبدية وفي عقل الله ويعيشه العروسان بعد الإكليل حياة بارة. ويبدو لي أحيانا ان الأزواج تسعى إلى تجميد الإكليل في صُوَرٍ يتعزَّون بها عن فشلهم في الحياة المشتركة اللاحقة.
ونرى احيانا -ولو قليلا- التصفيق والزغاريد لنقع في الفولكلور الكامل، كأن الفرح العميق بالعروسين لا يكفي ويجب ان يكتمل بالتهييص.
غير ان الآداب تبدأ ببطاقات الدعوة التي يُنفَق عليها كثيرا في نوعيتها واستئجار خطاط وما الى ذلك من إنفاق لا ضرورة له. ولا ينتهي اختراق الحشمة بذلك. فهناك حفلة الاستقبال التي تتراوح بين كوكتيل بسيط وحفلة عشاء مصروفها عدة آلاف او عشرات الآلاف من الدولارات، وذلك كله باطل. مصاريف لا فائدة منها والناس جياع. والمدعوون يستطيعون ان يأكلوا ويشربوا في بيوتهم بعد ضيافة بسيطة في دار الكنيسة.
ويكتمل هذا بشهر عسل يكلف احيانا الشيء الكثير لعروسين فقيرين او متوسطي الحال. كل هذه المؤسسة التي اسمها «شهر العسل» لا معنى ولا فائدة منها. واذا كان لا مفرّ منها بسبب من الضغط الاجتماعي فلتكن متواضعة لا تخل بالميزانية.
هذه اشياء متكاملة تحتاج الى انتباه وتعقل وربما الى بعض من شجاعة. فلتكن اعراسنا بسيطة للغاية، مركَّزة على الخشوع وكثافة الصلاة. وليوارِ كُلاًّ منا مأواه مباشرة ويستلم بيته فورا ويقضي الايام الاولى في بيته. واذا أحبَّ السفر يوما فهذا له في كل عمره.
العرس خلوة انسانية، عميقة بين شخصين، وليست مناسبة انفلاش في الطعام والشراب والرقص واستعراض سيارات وتزميرها وتكبُّر اجتماعي او استعراض غنى او جمال. الزواج رجـوع الى اللـه وليـس فيه ضجـة. فيـه لطف كثير وهـدوء لكـونـه اقترانا بالمسيح اولا.
Continue reading«لا يستطيع أحد أن يعبد ربَّين» (متى 6: 24). هذا يعيدنا إلى أن الرب في العهد القديم يسمّي نفسه إلهًا غيورًا لا يحتمل أن تُشرِك به معبودا آخر. كل معبود آخر صنما كان أَم شهوة يخلخل عبادتك للإله الواحد الذي وحده يجعلك كيانا موحَّدا لا تَبَعثُر فيه ولا تَفتُّت ولا ثنائية. وبهذا المعنى أكد بولس بقوله: «لا إله إلا الله الأحد» (1كورنثوس 8: 4).
ينتج من هذه الوصية قول السيد: «لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون». لا تهتمّوا تعني لا يكن فكركم منشغلا بالطعام والشراب، لا تكونوا مأسورين لهما بحيث لا يأسركم الله.
قد يزيَّن لقارئ الإنجيل للوهلة الأولى أن ما يدعونا يسوع إليه أن نهمل السعي إلى النشاط في سبيل المعيشة في المهنة. هذا تفسير مغلوط لأن الرسول يقول: «إن كان أحد لا يشتغل فلا يأكل أيضًا» (2تسالونيكي 3: 10). الدعوة إلى العمل تفترض سعيا حسب الوضع الاقتصادي الذي نحن فيه. والاقتصاد الحاضر يتضمّن اهتماما حثيثا بأمور الأنا بما فيها الادّخار وفتح حساب في المصارف والقيام بمشاريع منتجة.
هذا يبدو مناقضا لمَثَل الإنسان الغني الذي أَخصبَتْ أرضه وقال: «أَهدمُ أهرائي وأَبني أكبر منها». فقال له الرب: «في هذه الليلة تُطلَب نفسُك منك، فهذه التي أَعددتَها لمن تكون؟». المأخذ الحقيقي للسيد على هذا الغني لم يكن أنه بنى خزائن للقمح جديدة، ولكن أن نفسه انهمكت بالغنى وأحبّته. ودليل ذلك أن توبيخ المعلّم لَخَّصَته الآية القائلة: «فهكذا مَن يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله». خطيئة الرجل أنه اغترّ بالمال واستغنى عن الغنى الروحي الذي يأتيه من الله.
يسوع لم يكن من حيث المبدأ ضد الادخار في ذاك الاقتصاد الزراعي البسيط في فلسطين، ولكن ضد الخطر الروحي الذي كان ناجما عنه. كذلك ليس الرب ضد توسيع الثروة في الحياة الاقتصادية الحالية، ولكنه ضد استعباد الانسان نفسه لهذه الحياة الاقتصادية.
لذلك أكد الرب: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كله يُزاد لكم». الأوّلية إذًا لملكوت الله بمعنى أن الملكوت إذا ساد في قلوبكم فلن يدخل المال إليها. المال يوضع في جيوبكم أو في صناديقكم أو في المصارف، ولكن لا علاقة له بالقلب لأن كل ما يودع القلب يملأ كل القلب. فإذا ملأه الرب كليا لا يبقى مكان لشيء آخر. كذلك تعلُّقكم بالبشر إذا صار عبادة لهؤلاء البشر يكون عبودية لهم. يصبحون عليكم آلهة.
ليس المجال هنا للاستفاضة بالحديث عن خطر المال. ذلك انه يولّد حتمًا تسلّطًا على الناس. تعبدون، إذ ذاك، قُدرتَكم عليهم وتحكُّمكم فيهم. وهذا أسوأ الشرور. أن تطهر من كل شهوة الأشياء ومن اشتهاء البشر في استعبادهم، بذلك تقضي على هذه الخطيئة الكبرى. الناس في حياتكم وليسوا حياتكم. كذلك أشياء هذه الدنيا. تَيَقَّظوا حتى تجعلوا الله وحده حياتكم.
Continue readingبعد ان اجتاز يسوع البحيرة جاء إلى مدينته كفرناحوم (متى 9: 1-8). فقدّم إليه بعض القوم مخلّعا أو مفلوجًا مُلقى على فراش من القشّ أو طرّاحة خفيفة. لا يسأل السيد هؤلاء الناس شيئا. يتوجّه إلى المريض ويقول له: «ثق يا بنيّ» أو تشجّع، وتوًا يتابع: «مغفورة لك خطاياك». أصدقاؤه ما أتوا لهذا. المسيح يذهب إلى غايته هو، إلى ما يحتاج اليه هذا المُقعد في العمق. يريد له شفاء روحيا يكون أعظم من الشفاء الجسدي. الرجل كان خاليًا من الأمل وخاليًا من القدرة. ربما كان ضعيف الإيمان. لا يقول الإنجيل ان خطيئته كانت سببًا لمرضه. ولكنه حتمًا خاطئ ككل منا وتلك هي المصيبة. لذلك وجب أن يخلص اولاً من مصيبته الكبرى، ويجب أن نتعلّم نحن ان المعصية هي الكارثة التي لا بعدها كارثة.
يسوع في رقّته يسمّي هذا المريض: يا بنيّ، ولا شيء يدل على انه كان فتيًا. ربما كان أكبر سنًّا من السيد. لعل الكتاب هنا يوحي بأن كل مريض تشمله أُبوّة الله بنوع خاص. انوجَدَ حول المعلّم كتبة، والكتبة كان عملهم ان ينسخوا التوراة لأن الطباعة لم تكن. وبحكم خطّهم للعهد القديم كانوا يتعلّمونه. اتّهموا السيد بالتجديف. فإعلان الغفران للخطايا أمرٌ كان مجهولاً في شعب اليهود. الربّانيون، وهُم معلّمو الناموس، ما كانوا يمارسون غفران الخطايا للآخرين. ولم يقل أدبهم ان المسيح الذي كانوا ينتظرون له هذا الامتياز. كيف ينسب اذًا المعلم الجديد إلى نفسه هذه القدرة؟
عند ذاك قال لهم الرب: «أيمُّا أيسر، أن يقال: مغفـورة لك خطاياك، أَمْ أن يقـال: قم وامش؟». طبعًا الأيسر أن يقول الانسان ما يريد أن يقول. له أن يقول مغفورة لك خطاياك ولا أحد يثبت هذا أو يدحضه. ولكن أن يقول: قم وامش يعرّض صاحب القول إلى الخذلان. يشفي يسوعُ المريض ويُثْبِت بذلك انه كان على حق لما قال له: مغفورة لك خطاياك. قوة الله اذًا هي حالّة في يسوع. يقوم هو بوظيفة الغفران المختصّة بالله. مَن يكون اذًا هذا؟
المسيح يؤكد أن لابنِ الانسان (اي هو) سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا. سلطانه يأتيه من السماء. سيقول في إنجيل يوحنا ان سلطانه هذا من الآب. «كل ما هو لي فهو لك. وما هو لك فهو لي» (17: 10). بعد إعلان الغفران للمُقعد، يأمره يسوع أن يحمل فراشه ويذهب إلى بيته. الآن هو خالص روحيًا وجسديًا.
ما يتّضح من هذه الأعجوبة ومن مجموعة عجائب في متى أن إيمان الانسان بيسوع يستدعي عطفه عليه. هؤلاء القوم آمنوا بالسيد. العطف جاء على انسان آخر، على المفلوج. بسببِ التماسك القائم بين البشر يكون إيمان المؤمن نافعًا لسواه. كذلك نسأل الله من أجل الآخر فتنزل عليه نعمة صلاتنا. هذا هو التعاضد في جسد المسيح الذي نحن أعضاؤه معًا. المؤمنون يحملون الدنيا كلها ويحفظونها.
لعلّ من اهمّ العبَر نستمدّها من هذا النصّ الإنجيليّ أن نقتنع أن أمورنا الروحية أهمّ من أوضاعنا الصحية. يجب الاهتمام بها، ولكن الأهم أن نطلب العافية الروحية. ذلك أنك إن قويتَ روحيا لا تبقى في أَسْر جسدك. أن تحزن على نفسك البائسة في خطيئتها أهم من أن تحزن على مرض اعتراك. اذا أَدركتَ هذا، تكون قد وصلت إلى رؤية الله للأشياء. أن يكون فيك فكر الله لتعقل وجودك به فترتّبه وفق الفكر الإلهي، هذا هدف حياتك. ولكن هذا لا يحصل الا إذا رأيتَ نفسك معوقًا من الناحية الروحية. بعد اقتناعك بعجزك تقدر أن ترتمي على الرب فيهبك كل شيء وتطمئن.
Continue readingدعوة التلاميذ الاولين متشابهة جدا -تكاد تكون حرفيا- في الأناجيل الإزائية اي الثلاثة الاولى. ففيما كان السيد ماشيا على شاطئ بحر الجليل، وهو بحيرة طبرية، دعا بطرس واندراوس أخاه فيما كانا يلقيان شبكة في البحر (متى 4: 18-23). دعاهما ان يتبعاه فورا ليجعلهما صيادَي ناسٍ اي زارعين للكلمة بغية جمع البشر حول المسيح.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو بأية قوة يدعو، وما الدافع عند الرسولين كي يتركا كل شيء ويسيرا وراء المعلم؟ لقد قيل مرة في الإنجيل: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان» (يوحنا 7: 46). كان جذب في ناسوته عجيب، وداعة وقوة بآن. كان يحمل إلى الناس لغة جديدة، حرارة لم يألفوها عند الفريسيين الذين كانوا يكلّمون الناس على شرائع موسى والأحكام الإضافية التي تحميها. هذا كان عنده رحمة ورفق ورأفة بالخطأة. والذين قساهم المجتمع المتديّن المتعصب كان المعلّم الجليلي يلملمهم. ما كانوا يُحسّون عُلوّه استعلاء وإدانة لهم. وما كانوا يُحسّون عنده انهم رعاع كما يسمّيهم الفريسيون.
إلى جانب الجمالات الروحية التي كان يتحلّى بها، كانوا يستمعون اليه «في مجامع اليهودية» اي في تلك القاعات التي كانوا يجتمعون فيها في السبوت. إلى جانب هذا اتخذ شاطئ البحيرة مكانا للتبشير في الهواء الطلق كما يبدو في مطلع لوقا 5 اي ان دعوته لأندراوس وبطرس لم تكن عند هذين بدءا مطلقا. لقد مهّد لها. غير انه نقل، هذه المرة، كلامه من نداء عام إلى نداء خاص. اراد هذين له شخصيا. الرب ترك لنا الإنجيل يدعونا فيه. ولكن تنقدح لحظة ينزل فيها علينا الروح القدس ليخصّصنا بالكلام المرسَل إلى الكل. أو يحصل التلاقي في صلاة أو ترتيلة نكون قد سمعناها مئات من المرات بالأذن وما كان بين الأذن والقلب عبور. فاذا تنزّلت الكلمة على القلب يتصور فيه المسيح ونعي حضوره. هذا هو الاغتسال بالروح. ربما انشددنا آنذاك إلى الرب انشدادا كليا لا رجوع عنه.
هذا ما حصل للتلميذين الأوّلَين. تركا للتوّ شباكهما اي ما كانا يعيشان منه والتحقا بالمعلم. هما كانا مأخوذين بأشيائهما كالسمك في الشبكة. لم يبق بينهم وبين يسوع حاجز. هذه هي الهداية. القلب متعلّق به وحده الآن. ليس مرتبكا بشيء آخر. نقول عند ذاك للسيد: «مكانُكَ في القلب هو القلبُ كله».
ما حصل ليعقوب بن زبدى ويوحنا أخيه من بعد دعوته انهما تركا للوقت كما الأَوّلان. لم يتحيّر الأربعة بين هاجس المعيشة والذهاب وراء يسوع الذي لم يكن لديه ضمان لمعيشة. ليس عنده مهنة. الاربعة لم يتساءلوا كيف يَحيون هم وعيالهم. كان بطرس ويوحنا تركا الشباك فقط. اما يوحنا ويعقوب فتركا اباهما ايضا وهو أهم. اهتداؤنا نحن المسيحيين الحقيقي، الصادق يتطلب احيانا كثيرا أن ننفصل عن اصدقاء وعن بعض الأهل. وهذا شيء مؤلم. ذلك ان الأقربين يحاربوننا -ولو كانوا ظاهريا في الكنيسة- اذا لاحظوا ان تَقوانا اشتدت. ولكن إلى اين نذهب؟ نحن نعرف ان الحياة الأبدية عنده.
Continue reading