Monthly Archives

June 2015

2015, جريدة النهار, مقالات

المجمع المقدّس الأرثوذكسي / السبت في 27 حزيران ٢٠١٥

أنت، كاتبا، تأتي من الأبدي وتقوله في الحال. ان أتيت من الحاضر تكون صحفيا. ولكنك لا تكون كاتبا عظيما الا إذا قلت الأبدي باللغة الحاضرة والا كنت مجرد راوية للقديم أي ناقدًا في أحسن حال. ولكن الكاتب الذي لا علاقة له بالقديم أي بالأبدي يكون صحفيا تفها إذ الصحفي العظيم يأتي أيضًا من قديم الأزمنة أي من أبدية الحقيقة.

مشكلة الكاتب الديني انه لا يستطيع ان يتجاهل الماضي إذ لا يأتي أحد من زمانه فقط ولا يقدر ان يجتر الماضي. اليوم الأساقفة الأرثوذكس مجتمعون لمناقشة شؤون الكنيسة كما هي مطروحة وغالبا ما يكون فيها بحث الانتخابات في الأبرشيات الشاغرة. وهذا دائما بحث دقيق يحق للمطارنة ان يختلفوا فيه لأنه قائم على تقدير كل منهم للمرشحين المطروحة أسماؤهم. وهذا الاختلاف من طبيعة البشر. الأسقف الناخب له تقواه وله خبرته وثقافته اللاهوتية وهذه كلها تختلف بين أسقف وأسقف.

طبيعي ان نختلف في الإدارة الكنسية بسبب من اختلاف الرؤى بين الأساقفة وتباين العواطف، هذا ما عدا النزاهة المفروضة عند الناخبين. لا يجمع كل المطارنة على رؤية الأحسن. فإن بينهم اختلافا في التقوى وفي العلم والخبرة. وهذا الاختلاف يحاولون تذليله ما أمكن بتبادل الفكر فيما بينهم ولكن وحدة الرؤية لا تحصل دائما ولو صلوا إذ الخيارات في أحوال كثيرة تكون محسومة.

يصلون في بدء اجتماعهم على رجاء استلهام الله. ولكن هل تقبل القلوب نعمة الله اذا نزلت؟ هذه صعوبة الفكر في كل مجتمع يعتبر صادقا انه يستلهم الله.

الكنيسة الأرثوذكسية صعبة إدارتها لأنها قائمة على اتفاق مطارنة مجتمعين. والمطارنة بشر مختلفون في العلم أولاً وفي الخبرة وفي الاطلاع على سيرة كل مرشح للأسقفية. رؤساء الدين ولو أتقياء يمكن ان يختلفوا. انتخاب المطران والبطريرك مهما فعلنا يبقى انتخابا بشريا نسعى فيه سعيا أخلاقيا. وليس من انتخاب يضمن وصول الرجل الأصلح.

المجمع المقدس يبقى محاولة بشرية في المنطلق ما لم تنزل نعمة الله وتغير كل شيء. النظام المجمعي بلا تفرد سلطان يبقى الأفضل إذ لا بد ان تتوافر فيه نيات سليمة وعالمة. كل نظام في العالم بشري ويحمل ضعفات البشرة. ولكن في المبدأ عندنا ترجيح على ان الأكثرية تخطئ أقل من الفرد.

النظام الأرثوذكسي دقيق جدًا وصعب وأظن ان صعوبته الكبرى في هذا انه يفترض ان الإدارة الكنسية هي دائما في أيد طاهرة وقلوب مؤمنة وعقول ذكية.

التقاء المطارنة هيئة واحدة يدعى مجمعا مقدسا. هل هذا النعت يأتي من تصديق ان الله يلهم الأساقفة دائما وانهم دائما يطيعونه؟ مشكلتنا ان كل اجتماع بشري فيه من البشرة أي الانفعالات. القديسون قلائل. ولكن ليس لنا خيار الا النظام المجمعي. الناس كلهم يحسبون ان المسؤولين إذا اجتمعوا لهم نصيب معقول من قول الحقيقة والإتيان بأفضل الحلول. في حكم الفرد تسطع المصالح الفردية. مبدئيا إذا كثر المجتمعون يقتربون من الحقيقة. يمكن ان تقتنع بحكم الفرد إذا ثبت انه قديس عالم. ولكن الناس مقتنعون ان كثرة الآراء إذا صدق أصحابها وتطهروا ترجح الحقيقة وليس عندنا في الحقل الفكري في هذه الدنيا الا الترجيح.

قناعة الناس جميعا ان الكثرة أقرب إلى الحقيقة من الفرد الواحد وانها غالبا هي الأضمن. ليس لأحد إذا تكلم تأكيد من الله انه على حق. الفكر بما فيه الفكر الديني مسعى. ما من أحد في الكنيسة يقول ان مئات الأساقفة إذا اجتمعوا هم آليا على حق. هذا تعرفه بعد اجتماعهم وبتصديق مجمع لاحق. ولكن هذا أيضا غير مؤكد بالمطلق. ما من مجمع بحد ذاته له ضمانة العصمة. العصمة تؤكدها الأجيال اللاحقة. الناس ناس. المجمع مسعى وليس ضمانة بمجرد انعقاده بدليل ان أكبر قوة لمجمع مطارنة يتخذها من المجامع اللاحقة. الحقيقة المسيحية لا تظهر من آلية الاجتماع ولكن مما تبقى من قناعة في الكنيسة.

Continue reading
2015, جريدة النهار, مقالات

ما الإنسان حتى تفتقده؟ / السبت ٢٠ حزيران ٢٠١٥

هناك من تشتاق كلامهم. تريد ان تسمعهم قبل ان يموتوا لإيمانك بأن ما يقولون فيه دائما حياة. هناك ناس كلامهم نزل عليهم. تفتقدهم حيثما حلّوا. أنت لا تعلم دائما من أين يأتي كلامهم وهم لا يعلمون. هم كلام من ليس له فم بشري. كلامهم لا يخرج منهم الا جرحا لهم. هؤلاء وحدهم كلامهم لقاء. لأن الله ينطق فيهم بصمت.

عندما تكون الكلمة فقط حبا تصل. لذلك يمكن ان تتواصل أحيانا بصمت وفي الصراخ لا تتواصل. وفي الحقيقة اذا لم تصر أنت الآخر الذي تواصله لا تخرج منك كلمة. ليس الكلام دائما في ما تقول. هو في ما تحب. واذا لم يكن الحب لا ينفع النطق. الكلام اذا كان عقلا محضا لا يصل. القلوب كثيرا ما كانت موصولة بلا كلام. «قل هو الله أحد». أجل أدركتك وحدانيته بلا كلام ولكن الكلام يزيد قناعتك ويبلغ الآخرين.

«قل هو الله أحد. لم يلد ولم يولد». أفهمها ان ليس مثله واحد ولا يليه أحد في المنزلة اذ ليس من منزلة. ولكونه أحدا أنت له وحده ويستحيل عليك الشرك. يستحيل ذلك لأن الله لا يقع تحت مقولة أي لا يقع العقل عليه وأنت مخطوف اليه وفي الانخطاف تفهم. هو الحب والحب هو الفهم ويأتي العقل معاونا.

ما همك ان تقول كلامك الذي تظنه صادرا عنك؟ لماذا تحس ان كلام الله يملى عليك؟ من تكون حتى لا تقبل كلام حياة أفضل مما أنت تقول. دائما كان عندي مشكلة مع القائلين ان بينهم وبين الله عداء. الحوار بين متعادلين. أأنت لا تعرف انك دون الله. واذا تكلّم كبار المؤمنين عن حوار فلأنهم يريدون ان يعظموا الانسان ويقنعوه بأنه شبيه بالله لكي يطمئن اذا كلم الرب ان ربه لا يريد ان يسحقه. من قال هذا لا يعرف ان الحبيب يريد ان ينسحق.

الحبيب ليس له حضور الا عند الحبيب. لذلك لا يحتاج إلى ان يتكلم. ولكن اللاهوت يسعف ضعفنا اذ لا يكفينا القلب أحيانا وربما حاجتنا ان نخرج من أنفسنا بالكلام. هذه مشكلة الروحانيين الكبار انهم يريدون ان يبلّغوا وهم يعرفون ان التبليغ الحقيقي يقوم به القلب.

صعوبة التواصل بين الروحانيين ان الكلام يخون وان الاتصال بالكلام. في أوج العلاقة بالروح لا تحتاج الا للروح ولكن هذا صعب في دنيا الكلام. هذه جدلية صعبة ان المحبة تصل بك إلى الكلام مع ان الكلام يخونها.

هذه هي الحقيقة والصعوبة معا ان الفكر لا بد له ان يصير جسدا أي كلمة مقولة ليصل. واذا وصل الكلام في عمقه يكون الحب ويعطل التعبير. هذه هي مشكلة الفصاحة انها تبطل القلب واذا بطل ماذا يبقى؟

ما الإنسان حتى تذكره وابن الإنسان حتى تفتقده؟ هذا السؤال المرفوع إلى الله رده الله عندما نزل إلى الإنسان بالتجسد، قال بهذا ان الله يجعله عديله بالحب. واذا فهمنا ان الحب من الله ماذا يحل بالحب عند الناكرين؟

Continue reading
2015, جريدة النهار, مقالات

الكتابة معية / السبت ١٣ حزيران ٢٠١٥

كل من كتب يحاور. لا يكتب ليقرأ نفسه. انه يجعل ذاته في معية أو يطلبها لإيمانه بأن ما قاله من الله وان هذا القول يجب ان ينتشر. الكتابة في طبيعتها تفاوض، لقاء.

يكتب لأنه يحب ان يعرف الناس قوله، لأنه يسعى إلى مشاركتهم أي ان يقول حبه اياهم أو انه يلتمس محبتهم. الكتابة عمل من أعمال الحب الذي هو في كشف الحقيقة. أنت اذا أحببت تقول الحق. لذا جاء في القداس البيزنطي: «لنحب بعضنا بعضا لكي نعترف بآب وابن…» فيكون المعنى ان المحبة شرط الكلام الحلال. وهذا ينفي الظن الشائع ان المحبة شيء والعقل شيء واذا آمنا بهذا حتى النهاية نقول انك ان لم تكن في حالة حب لا يجوز لك ان تتكلم.

أنت تخاطب دائما ناسا تحبهم. وان لم يكن في خيالك وجوه لا تتكلم اذ يأتي عندئذ حديثك لغوا. ان تكلمت قل الصدق دائما لئلا تكون جرحت إنسانا حاضرا أو غائبا. أنت، كاتبا، تسعى إلى إيصال الناس الى الحقيقة. انها الجامع الوحيد بينك وبين الناس. وللناس عليك حق وهو ان يفهموا ان الحقيقة مما تقول وان غابت عنك اخرس. انها العلاقة الوحيدة بينك وبين الناس لأن إيصالها وجه من وجوه المحبة.

وإن لم تحب تقع تحت الدينونة. لك ان تكتب ضد أفكار بعض الناس ولكن لا يجوز أن تكتب حاقدًا إذ يعسر جدً على الحاقد أن يقول الحقيقة.

المبغضون لا يستطيعون أن يكتبوا. اذا كنت تحت تأثير البغض لا تكتب إذ يكون هذا دائما شرًا. المحبة وحدها مبدعة عند الذين يتعاطون الكلمة. الحب شرط لها.

المحبة كل الوجود. انت لا ترى إلى وجوه الناس لتحبهم، ترى إلى وجه الله وحده. ولكن إذا منحت لهم قلبك لا بد أن يعودوا إلى الله. ابذل نفسك تجدها. احبسها عن الناس تفنى في قوقعتها. اعط ذاتك تر ان الرب حافظها. لا تموت نفسك بالحب. سر الله فينا أننا نحيا به من موت شهواتنا ويحيا بنا الآخرون. الحياة ليست بعد كل موت. هي من الموت المبذول حبًا.

Continue reading
2015, جريدة النهار, مقالات

غسان تويني / السبت في ٤ حزيران 2015

صعب على صديق ان يقول في صديقه قولا حلالا. وإذا كان الكلام في حياته أمرا عسيرا فيمسي بعد فراقه شبه مستحيل ولكنكم أردتم شهادة اعتبرتم انها علي واجب. هل المحبة تجعل الكلام عسيرا؟ غير انكم رغبتم في ان اتخطى العسر لاحتسابكم اني قادر على ان أقول الحق.

قبل ان يدرك الرجل العشرين وأنا كنت قد جاوزتها بقليل عرفت انه غير عادي وانك ولو فتيا ينبغي عليك ان تقاربه بوقار. معنى ذلك على ما أرجو، ان أكون صادقا والا يكون في المودة مبالغة. إذا قلت ذكرى يفهم انك تجاوزت الوجه. انى لي ذلك وغسان وجه لست مستقلا عنه واحتسابي اننا جئنا إلى الحق مترافقين قبل ان ندرك العشرين.

صعب الكلام عن موت بقي عندك مرا ولكن الأيام تنقضي وعليك ان تستبقي حلوها حتى لا تموت أنت. اظن اني احتفظت بشيء من الهدوء في الكلام عن هذا العزيز لأتمكن من الحق. غير انه ذهب. صعوبتي في ان الرجل كان عظيم الخلابة وان الخلابة تعرقل تعبيري. وما زاد في صعوبتي اني عرفت غسانا في احتدام محبتي للمسيح وكان لا يزال في المسيح فتيا. واظن ان فتوته هذه بقيت في ذهني وقلبي ولست مستعدا لبرودة فيّ أراه عليها. وأنا عارف بأني أموت قبل غسان لكوني أسنّ غير ان ربكم يرتب الأعمار.

هل مشكلتي مع سن غسان لأنه أفتى وان لم يكن بكثير؟ نمضي، كلنا يمضي ويجمع الله وجوهنا في الرحمة اليوم وغدا حتى تزول السماء والأرض. ثلاث سنوات كثيرة وبعض الأحبة استدعاهم ربهم ورقدوا في الرحمة. ليس لي مكان واحد مع غسان ولكن متى ألقاه؟

كل ما مضى ذكرى. إلى متى اللقاء؟ ثلاث سنوات كانت كثيرة وكثيفة ولكنا جميعا إلى موت ونلتقي فقط في رحمة ربك.

بعض من فرحي اني التقيت غسانا وهو دون العشرين وكان يتفتح للإيمان بعقله بعد ان شاهده في قلبه في الفتوة. واظن انه على نضج هذا العقل بقي على رؤية ربه في شباب ظل عليه. ما كان يذهلني في انه حافظ على إيمانه وأدركه إدراكًا أكبر لأني أعرف مصدره في العائلة وفيها مصدره قلب أمه ولكني أعرف أيضًا ان بعضًا منه كان يتضح له في الجامعة وان شيئا من عمقه كان يجيئه من رفاق له. إيمانه في كنيسته التي عرفها بخاصة من أمه مع اعتقادي ان أباه كان في حقيقته مؤمنا.

كنا في مطالع الأربعينات شبانا طلابا في بيروت نصلي في دير البلمند وغسان معنا ومرة ترك إليه ان يؤم الصلاة فسمعته لا يتقيد بالصلوات التي بين يديه ولكنه يؤلف وكنا نتعجب ان شابًا غير مشهور بالتزامه الكنسي كان يقول كلمات إلهية غير مدونة في الكتاب الذي معه. الأرثوذكس يحبون الصلاة المكتوبة ولكنه لم يتقيد بها ولم يخرج عنها. كيف كان معنا ولم يكن منا؟ ربما كان سره عندي كما كنت أراه آنذاك في بدء معرفتي به انه كان من العصر ومع ذلك ما كان من قراء كتبنا. هكذا تكون الأشياء ان آمنت بأن الرب حر ان يتجاوز ما كتب وما استقرأ وانك تأتي إليه منه دون ان تعبر الكتب.

غسان تويني كان خلقا جديدا من حيث انك لا تعرفه من الكتب ولا مما قيل عنه. هو من أولئك الناس الذين يجب ان تحبهم لتفهمهم. هذا طبعا يعرقل الذين يهتدون بالعقل وحده. ولكن نحن المؤمنين لنا وسائل أخرى للفهم.

عبر غسان تويني هذا الوجود حرا من كل المعوقات مرتبطا بالرب أكثر مما يظن بعضهم ولكنه خفر ولا يتلفظ بالإلهيات كثيرا على طريقة الأتقياء.

ذهب غسان وأنا عرفت إيمانه. ليس الذين يمارسون قليلا قليلي الإيمان بالضرورة. المؤمن يعرف عند الملمات. وغسان رجل الأوجاع كما يقول الكتاب عن السيد. وأعرف انه كان لا يقرأني وأنا لم أكتب عنه كثيرًا. الصداقة كانت تمنعني عن ذلك.

ذهب غسان ونحن حافظوه وحفظة لتراثه وأنا احفظه كما كان عندما كنا نجتمع في حضرة أمه أي عندما كان قلب كل واحد يتكلم مع اننا كنا تعلمنا شيئا من العقل. كان يؤمن بشارل مالك وتتلمذ عليه. كنت على مودة مع الدكتور مالك ولكني تتلمذت في أماكن أخرى.

ذهب غسان وإذا صح التعبير أقول ان هذا كان عندي مؤلمًا لا من ناحية عاطفية وحسب ولكن من حيث اننا تلاقينا روحيا في انضمامنا الواحد العميق إلى كنيستنا قبل ان تكون معروفة عند الخاصة من المفكرين. الموت صعب أيضًا عند الذين يحسون انهم واحد في الفكر وليس فقط في العاطفة. مشكلتي مع بعض الذين ذهبوا عنا ليست في انهم تواروا ولكن في اننا غير قادرين اليوم على التخاطب. المواجهة في هذه الدنيا أمر طيب. تعزيتي في غسان كثيرة الوجوه ولكن واحدا منها انه إذا اصغى وإذا تكلم ترى نفسك مع عقل وقلب.

السماء إذا أدركناها تنهي هذه الأوجاع. الكثيرون سوف يدركونها وهم لا يعلمون. هل إيماني كبير إذا لم أحسن ان اجتمع إلى رفاقي لكوني سألقاهم في الملكوت ولكوني قادرا على الانتظار؟

Continue reading