روسيا المقدسة / السبت29 كانون الأول 2007
استطبت، السبت الماضي، في هذه الصحيفة مقالا للسيّد سميح صعب عن روسيا فيما هي تواجه أميركا في اوربا وكلّه تحليل سياسي دقيق. ففي جهلي لن أغوص عليه وصف ما سماه الانبعاث الروسي في مجال الجيوبوليتيك. هذا لا يفي بفرض القول ان روسيا كانت حية قبل المجازر التي ارتكبها لينين وستالين وقبل الخراب الثقافي الرهيب الذي قام به البلاشفة منذ بدء ثورة اوكتوبر. الذي لم يقرأ شيئًا عن قتل مئتي وخمسين أسقفًا وستة آلاف كاهن أرثوذكسي ما خلا ألوفًا من المؤمنين العاديين له ان يفهم ان الانبعاث الروحي الحاصل في روسيا اليوم أعجوبة من السماء. الذي لم يتصفّح الموسوعة السوفياتيّة (باللغة الروسيّة) وقولها مثلا ان يسوع لم يوجد لا يستطيع ان يدرك هذا الغباء الذي كان منتشرًا في الأدبيّات السوفياتيّة. ان كان من عصر ظلمات في التاريخ فليس القرون الوسطى كما قال فلاسفة عصر الأنوار اذ كيف يكون ظلما عصر ابن رشد وتلميذه الأكويني وعصر الكاتدرائيّات والموسيقى الغريغورية؟
روسيا الأبدية تحدّث عنها منذ سنتين مثقّفون روسيّون تجاوزوا الستين من عمرهم في لقاء عقده البيت اللبناني الروسي الذي أخدمه مع بعض الأصدقاء. قالوا امام لبنانيين وعرب من الديانتين: «ما مضمون ثقافتنا الروسيّة؟ هي الأرثوذكسيّة». وكان هؤلاء طبعا نشأوا على العقيدة الماركسيّة. لماذا يريد معظم الناس هنا اذا تكلّموا عن الغرب ان نفهمه على انه فرنسا وبريطانيا واميركا بخاصة. افهم ان ثمّة ما يميّز غربي اوربا عن شرقها ولكن الذين يتحدّثون عن أوربا بهذه الصورة الحصريّة انّما تتلمذوا على الإرساليّات الغربيّة والانكلوسكسونيّة ولا يعرف احدهم شيئًا عن اوربا الشرقية وقلبها روسيا. وأريد بها ذلك البلد العظيم قبل ان يعجنه بطرس الأكبر عجنة غربية.
نحن كنا دائما على علاقة شائكة بالغرب الى جانب معرفتنا لغتين منه او ثلاثا. فرنسا تقول منذ ديغول عن اللبنانيين انها تحبهم جميعا على السواء. من قرأ الأدب السياسي الأميركي قراءة جيدة يعرف جيدا ان الولايات المتحدة لا تؤثر طائفة على طائفة او شريحة على شريحة ،اذا أرادت أن تتقارب من أحد فهي تقارب من عنده نفط. كل المسيحيين مجموعين لا يساوون عند الولايات المتحدة برميل نفط. فماذا ينفع حسب مصطلح مسيح صعب ان تقيم روسيا توازنا -ولست أقول حربا باردة- والبلاد الروسية. لقد أكّد لنا سيمون هيرش منذ فترة يسيرة ان بلاده ليست مناصرة لأحد في لبنان. انا ما استنتجت من هذا انه الأفضل لنا ان نختار محورا آخر. ولكني اقول ان تصريحات كهذه لا تقيمنا في مكان آمن وان حريّتنا في مصادقة بلد قوي في اوربا يدنينا من صدق المعاملة ويأتينا بدعم آخر قد يكون اقرب الى مصالحنا. واذا اتّخذنا هذا القول قد ينشأ عنه معادلة أخرى في الجيوبوليتيك.
# #
#
ولكني آليت على نفسي الا ادخل الى هذا المضمار وان أبقى في روسيا الأبدية. لا يهمّني اليوم ولا أفهم كيف تتحرك او كيف تشعر إزاء ايران. ما يهمّني مما أعرفه من المدارس المسكوبيّة التي درس فيها أبي وأمي ان اهل بلدنا تعلّموا اللغة الروسية ووما سعى معلّموهم ان يجلبوهم الى حب روسيا ذاتها كما فعل اساتذتي الفرنسيون. ولما درس بعض الفتيات الطرابلسيّات في بيت جالا اللغة الروسية جيدا عادوا بالعروبة وما عادوا بالعشق الروسي. في الناصرة نهل مخائيل نعيمة من الأدب الروسي قبل أن يتلقن بعض مبادئ اللاهوت في بولتافا.
اجل كانت موسكو تحس انها وارثة القسطنطينيّة وتتصرّف بموجب ذلك. هذه مشكلة معقّدة لن أتعرّض اليها. ولكني فقط اذكر ان القسطنطينيّة بقيت مسيحيّة ألف سنة وكانت استتركت ثلاثمئة سنة فقط لما نشب الخلاف بين روسيا والعثمانيين. ولكن نحن العرب ليس لنا علاقة بهذا وفي الجيوبوليتيك الحاضرة من المؤكّد ان فلاديمير بوتين لا شهوة له في لبلاد الأتراك. بوتين او من خلفه يريد ان يقول ان الولايات المتحدة ليست كل العالم وان روسيا شيء ولها ان تصبح بعد سنوات قليلة شيئا عظيما.
والكنيسة الروسية لها علاقات طيّبة ونظاميّة مع مسلمي بلادها والأرثوذكس والمسلمون عانوا معا من البلشفة. لذلك لن تسعى روسيا الى احتضان الأرثوذكس في العالم الا اذا وقع الظلم عليهم. ولماذا يقع الظلم في بلاد العرب عليهم وهم يرون انفسهم عربا. ولكن الأرثوذكس ليس عندهم نفط.
# #
#
نبقى اذًا في الجماليات وربما في الطبائع القوميّة. في الحد الأدنى من الرقص تقصد البلّشوي. ولا يعلوه على الرقص فيه باليه في العالم ويعادله احيانا. والعجيب ان الشيوعيين لم يمنعوا هذا الفن «البرجوازي» وما منعوا المرأة عند دخولها المسرح ان تضع في رجليها حذاءً برجوازيًا عند وصولها.
ما قد يكون أقرب الى فهمي هو الشعر في رقّته العظيمة كما عند اخماتوفا هذا اذا اهملت القرن السابع عشر عند الفرنسيين وشكسبير. ولكنك لا تستطيع ان تفهم شيئا في المشاعر البشريّة اذا لم تقرأ دوستويفسكي أبا القصة في العالم من ايامه الى دهر الداهرين. لم يصل أحد الى مستوى الإخوة كرامازوفي او الجريمة والعقاب او الأذلة والمهانين وغيرهما من فن القصة. هذا اذا لم أذكر تولستوي واخيرا سولجنتسين.
غير أن العبقرية الروسية بدت انسانية في رهبانية مذهلة وفي قداس ولا أبهى مع ترتيل لا تعرف ان كانت السماء او الأرض مصدره. وربما في تحرّك القلوب ليس من شيء يفوق الأيقونة عندهم على مختلف مدارسها منذ تسعة قرون الى اليوم. واذا رأيت الى أيقونة الثالوث لروبليوف على عقلانيّتك الجافة لا تفرّق بين ما هو للرسام وما هو لله. هل الرب وحده كتب هذه الأيقونة بأصابع روبليوف؟
مرة اصطحبني البطريرك الياس الرابع الى موسكو في عيد الغطاس وأقمنا الخدمة وتبادلنا الخطب نحن والبطريرك الروسي ودامت الصلاة ست ساعات ونحن والروسيون واقفون ولا تلين لهم ركبة.
وعلى كثرة الخمرة في الشتاء التماسًا للدفء تلمس النفس وديعة رقيقة على شيء من التواضع وكأن التتار الذين حكموا الروسيين مئتي سنة لم يتركوا فيهم شيئا. ما عدا ذلك الحكم حكم في كل بلدان العالم وليس ما يلطفه شيء حتى يبقى عسكر. اما الشعب فشيء آخر.
انا ما كتبت هذه السطور لأعظ روسيا فهي عظيمة بلا شهادتي آخر مع ان الغرب حاول تحطيمها كثيرا كما حاول ويحاول تحطيم البلدان الأرثوذكسية منذ بدء الحرب الصليبيّة حتى الرابعة التي دنّست كنيسة اجيا صوفيا السنة ١٢٠٤. ولكن ليس عند الأرثوذكسيين حقد على الغرب وواضح عند الكتّاب الروس حبهم الكبير للغرب ولكن الغرب لا ينسى وان احدًا من الشرق المسيحي لم يحل به شيئا من الأذى. وقد حان الحين لتفهم اوربا الغربية انها ليست واحدة مع اميركا المهيمنة عليها وعلى العالم ولتدرك ان انبعاث روسيا المقدسة هدية من السماء الى اهل الشرق جميعا مسلمين ومسيحيين في انسجام نحبه.
Continue reading