Category

2007

2007, جريدة النهار, مقالات

روسيا المقدسة / السبت29 كانون الأول 2007

استطبت، السبت الماضي، في هذه الصحيفة مقالا للسيّد سميح صعب عن روسيا فيما هي تواجه أميركا في اوربا وكلّه تحليل سياسي دقيق. ففي جهلي لن أغوص عليه وصف ما سماه الانبعاث الروسي في مجال الجيوبوليتيك. هذا لا يفي بفرض القول ان روسيا كانت حية قبل المجازر التي ارتكبها لينين وستالين وقبل الخراب الثقافي الرهيب الذي قام به البلاشفة منذ بدء ثورة اوكتوبر. الذي لم يقرأ شيئًا عن قتل مئتي وخمسين أسقفًا وستة آلاف كاهن أرثوذكسي ما خلا ألوفًا من المؤمنين العاديين له ان يفهم ان الانبعاث الروحي الحاصل في روسيا اليوم أعجوبة من السماء. الذي لم يتصفّح الموسوعة السوفياتيّة (باللغة الروسيّة) وقولها مثلا ان يسوع لم يوجد لا يستطيع ان يدرك هذا الغباء الذي كان منتشرًا في الأدبيّات السوفياتيّة. ان كان من عصر ظلمات في التاريخ فليس القرون الوسطى كما قال فلاسفة عصر الأنوار اذ كيف يكون ظلما عصر ابن رشد وتلميذه الأكويني وعصر الكاتدرائيّات والموسيقى الغريغورية؟

                      روسيا الأبدية تحدّث عنها منذ سنتين مثقّفون روسيّون تجاوزوا الستين من عمرهم في لقاء عقده البيت اللبناني الروسي الذي أخدمه مع بعض الأصدقاء. قالوا امام لبنانيين وعرب من الديانتين: «ما مضمون ثقافتنا الروسيّة؟ هي الأرثوذكسيّة». وكان هؤلاء طبعا نشأوا على العقيدة الماركسيّة. لماذا يريد معظم الناس هنا اذا تكلّموا عن الغرب ان نفهمه على انه فرنسا وبريطانيا واميركا بخاصة. افهم ان ثمّة ما يميّز غربي اوربا عن شرقها ولكن الذين يتحدّثون عن أوربا بهذه الصورة الحصريّة انّما تتلمذوا على الإرساليّات الغربيّة والانكلوسكسونيّة ولا يعرف احدهم شيئًا عن اوربا الشرقية وقلبها روسيا. وأريد بها ذلك البلد العظيم قبل ان يعجنه بطرس الأكبر عجنة غربية.

                      نحن كنا دائما على علاقة شائكة بالغرب الى جانب معرفتنا لغتين منه او ثلاثا. فرنسا تقول منذ ديغول عن اللبنانيين انها تحبهم جميعا على السواء. من قرأ الأدب السياسي الأميركي قراءة جيدة يعرف جيدا ان الولايات المتحدة لا تؤثر طائفة على طائفة او شريحة على شريحة ،اذا أرادت أن تتقارب من أحد فهي تقارب من عنده نفط. كل المسيحيين مجموعين لا يساوون عند الولايات المتحدة برميل نفط. فماذا ينفع حسب مصطلح مسيح صعب ان تقيم روسيا توازنا -ولست أقول حربا باردة- والبلاد الروسية. لقد أكّد لنا سيمون هيرش منذ فترة يسيرة ان بلاده ليست مناصرة لأحد في لبنان. انا ما استنتجت من هذا انه الأفضل لنا ان نختار محورا آخر. ولكني اقول ان تصريحات كهذه لا تقيمنا في مكان آمن وان حريّتنا في مصادقة بلد قوي في اوربا يدنينا من صدق المعاملة ويأتينا بدعم آخر قد يكون اقرب الى مصالحنا. واذا اتّخذنا هذا القول قد ينشأ عنه معادلة أخرى في الجيوبوليتيك.

#                  #

#

                      ولكني آليت على نفسي الا ادخل الى هذا المضمار وان أبقى في روسيا الأبدية. لا يهمّني اليوم ولا أفهم كيف تتحرك او كيف تشعر إزاء ايران. ما يهمّني مما أعرفه من المدارس المسكوبيّة التي درس فيها أبي وأمي ان اهل بلدنا تعلّموا اللغة الروسية ووما سعى معلّموهم ان يجلبوهم الى حب روسيا ذاتها كما فعل اساتذتي الفرنسيون. ولما درس بعض الفتيات الطرابلسيّات في بيت جالا اللغة الروسية جيدا عادوا بالعروبة وما عادوا بالعشق الروسي. في الناصرة نهل مخائيل نعيمة من الأدب الروسي قبل أن يتلقن بعض مبادئ اللاهوت في بولتافا.

                      اجل كانت موسكو تحس انها وارثة القسطنطينيّة وتتصرّف بموجب ذلك. هذه مشكلة معقّدة لن أتعرّض اليها. ولكني فقط اذكر ان القسطنطينيّة بقيت مسيحيّة ألف سنة وكانت استتركت ثلاثمئة سنة فقط لما نشب الخلاف بين روسيا والعثمانيين. ولكن نحن العرب ليس لنا علاقة بهذا وفي الجيوبوليتيك الحاضرة من المؤكّد ان فلاديمير بوتين لا شهوة له في لبلاد الأتراك. بوتين او من خلفه يريد ان يقول ان الولايات المتحدة ليست كل العالم وان روسيا شيء ولها ان تصبح بعد سنوات قليلة شيئا عظيما.

                      والكنيسة الروسية لها علاقات طيّبة ونظاميّة مع مسلمي بلادها والأرثوذكس والمسلمون عانوا معا من البلشفة. لذلك لن تسعى روسيا الى احتضان الأرثوذكس في العالم الا اذا وقع الظلم عليهم. ولماذا يقع الظلم في بلاد العرب عليهم وهم يرون انفسهم عربا. ولكن الأرثوذكس ليس عندهم نفط.

#                #

#

                      نبقى اذًا في الجماليات وربما في الطبائع القوميّة. في الحد الأدنى من الرقص تقصد البلّشوي. ولا يعلوه على الرقص فيه باليه في العالم ويعادله احيانا. والعجيب ان الشيوعيين لم يمنعوا هذا الفن «البرجوازي» وما منعوا المرأة عند دخولها المسرح ان تضع في رجليها حذاءً برجوازيًا عند وصولها.

                      ما قد يكون أقرب الى فهمي هو الشعر في رقّته العظيمة كما عند اخماتوفا هذا اذا اهملت القرن السابع عشر عند الفرنسيين وشكسبير. ولكنك لا تستطيع ان تفهم شيئا في المشاعر البشريّة اذا لم تقرأ دوستويفسكي أبا القصة في العالم من ايامه الى دهر الداهرين. لم يصل أحد الى مستوى الإخوة كرامازوفي او الجريمة والعقاب او الأذلة والمهانين وغيرهما من فن  القصة. هذا اذا لم أذكر تولستوي واخيرا سولجنتسين.

                      غير أن العبقرية الروسية بدت انسانية في رهبانية مذهلة وفي قداس ولا أبهى مع ترتيل لا تعرف ان كانت السماء او الأرض مصدره. وربما في تحرّك القلوب ليس من شيء يفوق الأيقونة عندهم على مختلف مدارسها منذ تسعة قرون الى اليوم. واذا رأيت الى أيقونة الثالوث لروبليوف على عقلانيّتك الجافة لا تفرّق بين ما هو للرسام وما هو لله. هل الرب وحده كتب هذه الأيقونة بأصابع روبليوف؟

                      مرة اصطحبني البطريرك الياس الرابع الى موسكو في عيد الغطاس وأقمنا الخدمة وتبادلنا الخطب نحن والبطريرك الروسي ودامت الصلاة ست ساعات ونحن والروسيون واقفون ولا تلين لهم ركبة.

                      وعلى كثرة الخمرة في الشتاء التماسًا للدفء تلمس النفس وديعة رقيقة على شيء من التواضع وكأن التتار الذين حكموا الروسيين مئتي سنة لم يتركوا فيهم شيئا. ما عدا ذلك الحكم حكم في كل بلدان العالم وليس ما يلطفه شيء حتى يبقى عسكر. اما الشعب فشيء آخر.

                      انا ما كتبت هذه السطور لأعظ روسيا فهي عظيمة بلا شهادتي آخر مع ان الغرب حاول تحطيمها كثيرا كما حاول ويحاول تحطيم البلدان الأرثوذكسية منذ بدء الحرب الصليبيّة حتى الرابعة التي دنّست كنيسة اجيا صوفيا السنة ١٢٠٤. ولكن ليس عند الأرثوذكسيين حقد على الغرب وواضح عند الكتّاب الروس حبهم الكبير للغرب ولكن الغرب لا ينسى وان احدًا من الشرق المسيحي لم يحل به شيئا من الأذى. وقد حان الحين لتفهم اوربا الغربية انها ليست واحدة مع اميركا المهيمنة عليها وعلى العالم ولتدرك ان انبعاث روسيا المقدسة هدية من السماء الى اهل الشرق جميعا مسلمين ومسيحيين في انسجام نحبه.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

شباب بلادي / السبت 22 كانون الأول 2007

إلى نايلة جبران تويني

كل الأرقام التي قرأتها عن الأعمار في بلاد الناس قاطبة تقول إن الشباب أكثر من نصف السكان فمن خاطبهم يكون في الحقيقة مخاطبًا البلد في مسيرته. وتختلف القواميس في تحديد هذه الفترة من العمر ولكني آثرت أن أجعلها دون الأربعين أو لنقل من كان له من الصحة والجاذبية والنضج العقلي ما يجعله متأهّبا لخدمة أو نضال أو عمل على صعيد علم أو مهنة لأن الذي فيه خلل لا ندخله في أية فئة. قلت متأهِّبًا لخدمة، لاعتقادي ان الشباب من رأى ان له غدًا يجاهد فيه أو يبدع فيه ولا يحس بترهل أو ميل الى التكرار.

هناك التماع ما مع مضمون وعطاء يجعلك من جيل الشباب ولا شيء يمنع ان تأخذ معك هذه المعطيات الى الكهولة والشيخوخة. غير ان دعوتي اليوم، هي الى شبابنا المتعطش الـى قلب عادات في الحياة العامة والحياة الخاصة وهذا قد يكون انقلابا اذا تضخّم حجم التغيير ونوعيّته.

توًا يذهب فكري الى موقفكم من أهل السياسة. وهنا ينبغي الا يأتي رأينا فيهم تعميمًا اذ لا يشبهون بعضهم بعضًا والشيوخ أيضًا لا يشبهون بعضهم بعضًا ولكني أشاطركم القول بأن البلد الى خراب وبعضه خراب الأخلاق مثلما لم نشاهد قبل الحرب الأهلية أو شبه الأهلية. ولكنكم تنظرون الى المستقبل لأنه اذا طغت عليكم نظرة الماضي وحدها تحصرون أنفسكم بالاحتجاج والاحتجاج مرحلة اولى شرعية من مناقشة أحوال البلد ولكنها تبقى مرحلة أولى. ما يفرض اذًا نفسه ان تعرفوا كيف تريدون ان تكونوا.

لا أجادلكم هنا في خياراتكم السياسية اذ أسمع أن معظمكم مسيّس اي انكم تابعون لأهل السياسة القائمين، وفي هذا تكون قفزتكم الى الكهولة العقلية والمبتغى ان تأتوا بسياسة جديدة أو رؤية جديدة للبنان. واذا أحببتم أن تتبعوا الموجود فقدموا فكرا نيّرًا وليد خبرتكم أو صرخة من صرخاتكم. ليس في النقيق (النق) حياة. انشطوا، أنشئوا أنتم حياة جديدة ولكن هذا كله يقتضي حياة متأججة فيكم اي حبًا كبيرًا للإنسان وطهارة لم تنثلم وثقافة واسعة. ربما يتضح لكم انكم حاملو حضارة جديدة فيها الكثير من المرئيات المسموعة والإلكترونيّات. انا جاهل لاستعمال الحاسوب وليس عندي هاتف محمول ولا ألومكم على الإقبال على هذا. ولكني موقن – مع الذين درسوا الموضوع – انكم لا تقدرون على الاستغناء عن الكتاب وتكون حياتكم فارغة ان لم تستوعبوا أهم ما في تراث البشر من اليونان القديم وبلاد الرافدين ومصر وصولاً إلينا والى دياناتنا وشِعرنا امتدادًا الى اوروبا بما فيها روسيا المقدسة.

أعرف أن هذا يتطلّب الحياة كلها وان تتقنوا في الحد الأدنى لغة أجنبية صافية الى عربية أنيقة. يجب ان تفتشوا عن عظمة الفكر. العضلات والجمال والثروات والسيارات وكل بهرجة هذا العالم ليست بشيء. ولا تسمحوا أن يستهين أحد بحداثتكم في توهّم أن الكهولة أنضج. ليس للعمر نضج لكنه لا يحصل بلا تعب كثير. غير ان هذا لا يعني ان لكم الحق في ان تفتخروا بشبابكم اذ لن يحسب لكم الإقدام ولكن نتيجة الإقدام. سوف يسألكم ضميركم عن تعبكم ولكن المهم ان تغيّروا نفوسكم قبل أن تغيّروا العالم.

•••
لا تكبّوا الأشياء القديمة بسرعة وبلا تأمّل. اذا كانت الحقيقة ما تقصدون فهذه حملته الأجيال السالفة ايضًا. خذوها بقوتكم وضعوها في مراميكم. بلّروها وترجموها بلغتكم واخزنوها في مساعيكم لأن كل كلام لا حقيقة فيه مظهر من مظاهر الخطابة الإنشائية ولا دسم فيه. واذا شئتم آلية لتجمعكم اقرأوا كل شيء وتمسّكوا بالأفضل ولا تخشوا الأجهزة الأمنيّة اذا قامت على الباطل أو الانحياز السياسي. ولكن تصدوا للسياسات القائمة اذا آمنتم انها ضد الحق وضد الحرية اي صارعوها بفهم وبأسلوب سلمي لأن السلم دائما أفضل من الدم.


كونوا متواضعين فالتواضع ليس له سن. الشاب القادر على التواضع يعني خضوعا للحقيقة. راهنوا على الحق ولا تراهنوا على العدد فالعدد الى جانبكم لكونكم نصف البلد أو أكثر وحاولوا ان تقنعوا أهل الحكم أو مَن تعاطى السياسة وذلك بالحجة اذ ليس من فئة كاملة اعتراها الفساد وسوف يحاولون ان يخضعوكم بغير الحق ولكن ارفضوا كل كذب وكل اهتراء خلقي لأن شبابكم لا يعود يعني شيئًا. المهم في كل تحرّك ان تكونوا طاهرين.

يمكنكم خارج كل حزب ان تؤلّفوا حكومة ظل أو بضع حكومات ظل تدرس كل مشاريع الوزارات وتناقشها بكل وسائل الإعلام واذا جاء فكركم صالحًا وعلميًا لا بد له ان يهز ضمائر الحكام فيأخذوا منه ما يأخذونه وتتابعوا دراساتكم حتى يصل منها ما يصل وتُقلقوا من كان قابل القلق. العمل السياسي الصادق، الحق يأتي من القاعدة ومن تبادل الفكر في القوى الضاغطة التي تؤلّفونها. هذا لا يمنع مواجهتكم للأحزاب أو الكتل القائمة بحيث تأخذون منها ما يوافق تطلّعاتكم ولعلّها تتلقّى ما بلغتموه من فكر. يمكن البعض ان يتأثر بهذا القائد السياسي أو ذاك، ولا مانع، اذ ذاك، ان تختلفوا في ما بينكم، ولكن لا بد لكم ان تقولوا انتم كلمتكم وتصبروا عليها فتنشأ مواقف شبابية متقاربة أو متباينة وقد تبين أحزاب جديدة من صفوفكم، لكن المهم ان تنكشف افكار جديدة والتزام جديد.

غير ان الحياة المجتمعيّة في لبنان ليست محصورة في الفكر السياسي. يمكن ان تظهر منك أعمال على صعيد الواقع. لكم مثلا أن تقدِّموا اهتمامًا بنظافة الشوارع وتبنّي مؤسسات ترفع من شأن الفقراء. ضمّوا الفقراء اليكم. اجمعوهم حولكم. ابنوا بلدًا خارج الهاجس السياسي المباشر. قد يهزأ بكم بعض الزعماء وأزلامهم ويسمونكم جمعيات خيريّة. هل تكوين جمعيات خيرية سخيف الى هذا الحد؟ لا تكتفوا بالنقد الكلامي. اعمَلوا باستمرار ليؤمن الناس بكم ويعتبروكم مستقبل البلد. الخطباء قالوا لكم دوما انكم مستقبل البلد ولكنهم لم يسلكوا لتصبحوا حقيقة هكذا. برهنوا لهم ان الله يفتح أمامكم اليوم الحاضر والأيام الآتية. اجرفوا كل وساخة وافضحوا كل كذب في الحياة العامة واكشفوا الهدر في كل مجال. قد يعرضكم هذا للإهانة أو الضرب. هذه شهادتكم.

•••
بتجمّعكم الصادق، المخلص برهنوا لهم انكم لا تخشون احدا أو شيئًا لأن الكذب لا بد له ان يفتضح. ثابروا واصبروا ولكن لا ترجئوا قولا حلالا وعملا شكورا. لازموا البلد ولا تهاجروا وتبنّوا ما قاله مفكّر سياسي كبير: “لبنان ليس فندقًا ذا خمسة نجوم”. سوف تتعذّبون في لبنان. هذا هو صليبكم اذا آمنتم أن الألم شرط القيامة.

وقبل كل شيء لا تقيموا اي وزن وطني للانتساب الديني. لا تؤلّفوا قوى ضاغطة على أساس طائفي. شرط الاجتماع ان تكونوا من كل الألوان. ثابروا على ايمانكم إن كنتم مؤمنين وامتنعوا عن التكلّم على حصص طوائفكم الا اذا قلتم معا – بعد فحص دقيق – ان هذه الطائفة أو تلك مغبونة لأن رفع الغبن يكون، عند ذاك، رفع شأن البلد مجتمعا.

اذا كان بعضكم لقناعة فيه لا يحب استعمال كلمة عَلمانية لأنه لا يفهم مضمونها الحقيقي فهي ليست ضدّ أية عقيدة قائمة في هذا البلد، قولوا نريد حكما مدنيًا في لبنان. من كان مدنيًا بهذا المعنى الجامع فهو الإنسان الحضاري. خذوا ما أردتم من الإلهام الديني أو الروحي فهذا مكوّن من مكوّنات الحضارة. ولكن لا يدخل في شعوركم أبدا في العمل المجتمعي والسياسي ان هذا مسلم وذاك مسيحي. القوى الضاغطة من القلب الطاهر الشجاع وهذا ممكن وجوده في اي دين.

عيشوا اللاطائفيّة منذ اليوم في تجمّعاتكم ولا تسمحوا بجدل ديني أو طائفي في ما بينكم لأن هذا يجعلكم شبيهين بالموجود المهترئ. هناك من أحب لبنان حتى الموت. هذا خذوه في صفوفكم. اعلموا قبل كل شيء انكم لستم بلدًا موقتًا وان فيكم كل المقوّمات التي تجعلنا معكم وطنًا نهائيًا. كل بحث بينكم على أساس تجزئة البلد أو انقساماته أو مرحليّته بحث هدام يجعلكم طغمة تودّع الحياة.

لبنان فيه من الطاقات الخلقيّة والطبيعة ومواردها والحب ما يجعلكم قادرين على التأمّل في صموده في الحرية على أن تكون هذه الحرية فرصة للنمو الفكري والاقتصادي في الإبداع. المهم الا تقبلوا الشرخ بين طائفة واخرى والا تقبلوا ببلد فقير أعد للاغتراب. الفقير أو الضعيف الثقافة لا يهاجر. كيف يتألّف البلد ويزدهر بالطبقات المحرومة أو الجاهلة؟ تمسّكوا بهذه الأرض وبالأدمغة فيها. هذان العنصران قادران ان يُنشئا بلدًا يتجدّد. هذا يعني ان تحبوا البلد حبا لا حد له. ان تحبّوه هو ان تلازموه وان تخدموه ايا تكن الصعاب.

على هذه الأسس كلنا ننتظركم. لا تخيّبوا الآمال. اعطونا انتم الطمأنينة. انتم قادرون ان تستنزلوا علينا نِعم السماء.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

هذه الضوضاء / السبت ١٥ كانون الأول ٢٠٠٧

يرافق الضوضاء كثيرًا استعمال مفردات لم يقرأ القائلون بها القاموس. فالكونفدرالية التي يهمس بعض خفرا انها اتحاد دولة كاملة السيادة تشكّل مرحلة غايتها حلّ الاتحاد او تحوّله الى دولة فيديرالية. هبوا مثلا أن الموارنة في كسروان وجبّة بشري وعكار وبيروت والجنوب دولة في هذه الكونفدرالية. كيف يستطيعون أن يجتمعوا دولة خارجة عن لبنان لو أرادوا؟ وهبوا أن سنّة جبيل ضمن دولة إسلامية ذات سيادة، كيف تنفصل عن باقي السنة وما الى ذلك؟ عبارة كونفدرالية طوائف عبارة لا معنى لها في الحقوق الدستورية ما لم نجمع كل طائفة من الثماني  عشرة في منطقة، وهذا لا يتم عقليا الا بحرب. نبقى اذًا في النظام الطوائفي كما هو او نتعلمن. ولكن كل هذا اللغو او اللغط يحتاج الى حرب، والناس متمسّكون ببيوتهم وقراهم. بلا قتال استطاع ستالين وحده أن ينقل سكانا في الاتحاد السوفياتي.

                      هنا تحضرني بعض من سورة الناس: «قلْ أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس». والشيطان هو المهرّج الكبير الذي ترى قناعه ولا ترى وجهه اي لا تعرف خلفيّة فكره التي يريد ان تتبناها.

                      ورقصة الشياطين على مسرح لبنان تجعلك تشكّ في أهل الدين الآخر. وأظن أننا على هذا المسرح المتعدّد الشخصيّات لا نزال نشك بوحدة المسلمين والمسيحيين، والشك يعني هنا أن تخشى أن يبتلعك الآخر. أهل العَلمانية أبرياء من الشكوك ولكن ما قدرتهم الآن؟ولا يطمئنني أن اللبنانيين اجتمعوا في الفريقين المتصارعين وتلازمهم خلفيّاتهم لأن كل طائفة تفكّر بسيادتها بدليل تمسّكها بالحقائب الهامّة وانا لست أشك في وسوسات الدول ولكن لو استلهمنا الحق وحده لا نبقى طائفيين في خياراتنا، او متبارعين في موضوع التعديل وآلياته بحيث نبقى رافضين لأي حل ولو رأينا فيه خير البلد. الأزمات الظاهرة التي لا نهاية لها يبطنها تأزمات نضمرها ويحس بها الآخر ولكنا جميعا باطنيون. الباطنية حضارة البلد.

                      لنأخذ مثلا قضيّة التوطين التي كانت تسع سنوات حديث الرئيس العماد لحود واتخذها الدستور. ولكن لم نفصل هذه المسألة عن تساؤلات كثيرة. هذه ليست قضية تخص المسيحيين وحدهم، فالفلسطينيون يريدون العودة ونحن نريدها لهم. ولماذا يأتي خطر التوطين عنصر إحباط عند المسيحيين. فلم نواجه فكرة التوطين لنقول ان لبنان يمنح الفلسطينيين هوية لبنانية ولهم ان يحملوا جواز سفر فلسطيني حتى يعودوا الى حيث يشاؤون، واذا لعبنا لعبة الخبث من قال ان المسلمين او بعض المسلمين يريدون هذا التوطين؟ كنت أتمنّى أن أسمع من غير جهة أنه يجب رفع الظلم والفقر عن أهل المخيّمات وأن يلحّ المسيحيون على ذلك.

#             #

#

                      لعل جزءًا آخر من الإحباط موضوع العدد. قبل كل بحث كنت أتمنّى على المسيحيين أن يقولوا أنهم مغتبطون بأن عضوية مجلس النواب مناصفة هي تضحية من قبل المسلمين بعد ان قال جميع الناس إن المسلمين أكثر من نصف الأمّة وانا لا أعرف النسبة ولست أظنّ أن مسؤولًا يعرفها بدقّة.

                      هنا نأتي الى موضوع أسلمة الأرض. لست أظن أن أحدا يقول إن المسيحيين يرتدّون عن دينهم. نحن اذًا مع موضوع شراء أرض يبيعها صاحبها بكل خاطره لكونه محتاجا، والمسلم على ما عرفته في صباي يؤثر الملك العقاري على أيّ استثمار آخر. لماذا لا يجتمع أغنياء المسيحيين في جمعيّة او مصرف قليل الفائدة ليدعم فقراء المسيحيين؟ لماذا لا تحول الكنائس وعلى رأسها الكنيسة المارونية المعروفة بكثرة أملاكها لتحل هذه المشكلة. أنا أفهم أن يضطرب المسيحي الفقير إن لم يبقَ له موضع يضع قدميه عليه او يضطرب لانتقال الثروة من طائفة الى طائفة، ولكن هذا كله لا يؤسس لإحباط إن كان أثرياء المسيحيين او رؤساء كنائسهم حريصين على بقاء الثروة في طوائفهم.

                      هناك قضيّة المناصب. هبوا أن مركزا من الفئة الأولى معيّن لطائفة ما قد لا يكون فيها أكثر من اثنين او ثلاثة لائقين بالمنصب، وان طائفة أخرى او أكثر فيها من كان أعظم كفاءة. أنت تكون ضد سلامة المؤسسة إن أصررت على إسناد المركز لطائفة محددة. قلت هنا غير مرة ان الفئة الاولى لا ينبغي ان تكون مسيّسة  ولكونها تقنية بطبيعتها لا علاقة لها بالانتساب الديني. هبوا  مثلا ان اية طائفة فيها مهندس نفط واننا أنشأنا مديريّة للنفط لا نجد من يشغلها الا واحد في كل الشعب. كيف يتم التوزيع؟ ان الحكومة نفسها لا تجد فيها دائما  واحدا من طائفة معينة ذات اهمية كبرى. أنا أفهم أن مجلس النواب ينبثق عن الطوائف كلّها في هذا البلد ما دمنا على هذا النظام  لأن النيابة عمل سياسيّ أصلا يقوم على مشاعر وروابط ولكن يحتاج الى حقوقيين. اما الوزارات ولئن كان بعضها فقط سياسيا، فما من شك ان بعضا منها يغلب عليه الفكر السياسي وكأن الوزير شبيه بالمدير العام. هذا يجب تقريره بعد مجيء الرئيس حتى ننهض بالمؤسسات على أساس علميّ.

#         #

#

                      أنت تهيئ لزوال الطائفيّة السياسيّة منذ الآن تدريجيا بحيث يحس المواطنون أن عظام الفكر اذا باتوا مغلوبين تأتي المؤسسة عرجاء ويبقى الشك في الأذهان ويذهب الناس الى أن أهل السياسة خاضعون لثنائيّة القلب واللسان وان الحكم اللبناني مسرحية كبيرة ولو ذكيّة بذكاء الوسواس الخنّاس.

                      انه لمن العسير جدا أن تعيش في بلد يشك كل الناس بكل الناس. ويكلّمونك عن الموازين ويفسرونها لك على ان كل فريق يتنازل عن شيء وكأن الأمر معادلة بين فريق وفريق وكأنهما هما الكيانان المتقابلان في حين ان طلب كل منهما هو الله او ينبغي ان يكون كذلك. انا لا أستطيع أن أنصح المسلمين فلهم علماؤهم وساسة منهم ويقدر كل مواطن ان ينصح سياسيا لأنه مدني يقوم يمسؤوليّته من أجلك . ولكني في الحديث عن المسيحيين لست أذكر أن أحدًا كلّمهم على غير السياسة وعلى غياب حقوقهم او ضعفها ولم أذكر أن أحدا ذكر لهم اسم المسيح ليروه رجاء في حالة يحسبونها إحباطا.

                      لنذهب على ان المسيحيين بعد عشرين سنة أضحوا فقط ثلث البلد وبعض يقول انهم اليوم على هذه النسبة او اكثر بقليل، هل يكون المسيح قد غاب إن هم خفّت أراضيهم او ابنيتهم ولم يرضَ المسلمون بزوال الطائفيّة السياسيّة او أصروا على انتخاب اي رئيس جمهورية من الشعب. ماذا ينتقص عند ذاك من بهاء المحبين للمسيح؟ هل تنحدر فاعليّتهم الروحية والفكريّة وطهارتهم؟ لا يفهمنّ أهل السياسة هذا القول على ان ما يحتجون به باطل او ان المسألة السياسية غير واردة عندي. انا لا أنفي عن الإكليروس حقه في الدفاع عن المسيحيين، وما يسر الجميع ان كبارهم ولا سيّما في الكنيسة المارونية همهم كل لبنان، ولكني أتمنّى على كل الساسة المسيحيين المؤمنين الا يخافوا لأن المسيح قام. مئة ألف مسيحي يضيئون كالمصابيح في لبنان خير من كل رمل البحر.

                      الخوف قتّال لأنه يلغي الفكر او أقلّه يوحي بفكر مغلوط وعصبيّة. الى هذا أضيف انه عيب ان يخيف احد أحدًا. واذا أتانا رئيس لا بدّ ان تنقلب الموازين وأخشى، اذ ذاك، مواجهات جديدة.

                      ونحن ماضون الى الأضحى اي الى النحر، واذا أجاز لي المفسّرون بالمجاز فهذا نحر خطايانا اذا كنا نشترك جميعا بالأضحى معنويا. كذلك نحن مقبلون  على ميلاد المسيح الذي أحد أسمائه السلام. كنت أتمنّى أن نقدّم لله نحر أحقادنا وسلام قلوبنا بحيث يصير لبنان كله قيامة عنيت بها بساطة الثقة.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الرئيس ايضا وايضا / السبت ٨ كانون الأول ٢٠٠٧

فيما أكتب لست أعلم بما سيجري يوم الجمعة (أمس). وهنا تحضرني الآية: «يا أيها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع» (سورة الجمعة، الآية ٩). واذا ترجمتها للنواب على أطيافهم أقول الانتخاب يتضمّن دعاء في القلب وان يذر مندوبونا البيع بمعنى التفاوض والنقاش الذي لا منتهى له حتى نموت اختناقا بالكلمات التي تولد احيانا عقما رهيبا فاذهبوا ان لم تذهبوا بعد وقلوبكم مطهّرة وأتونا بالحسن ان لم يكن الأحسن لئلا تهمشوا نفوسكم عن حب الجماعة التي دعتكم الى حمل وزرها عالمين ان كل نسان مكتوب عليه الموت وان البلد مدعوّ الى القيامة بكم او بمن تستخلفون.

                      هنا أذكر حديثا لصديق لي كان يقودني الى مطار باريس أرجع منه الى لبنان وكانت على يمين الطريق مقيرة مليئة بأكاليل زهور بسبب من ذكرى للموتى في الكنيسة الكاثوليكية فقال لي رفيقي: «انظر الى هذه القبوركلها ملأى بناس لا غنى عنهم». وانا في شيخوختي ارتب بعض أموري برؤيتي موت قد أكون معه على موعد قريب. ثم اذا نظرت الى ما قد يعتبره أصدقائي إنجازات لي أفكر دائما بأن خلفي قد يكون عظيما ويكمل الطريق.

                      لقد تعب محبو هذه الأمة من الكلام على صفات الرئيس وهو أتى من أمّة كما أتى. وأنتم تختارون واحدا من الموجودين في هذا الشعب ولا تأتون بالضرورة بعبقري او قديس. فاذا كنتم لم تُجمعوا على واحد أمس فأجمِعوا على الممكن وجوده بين الأبرار والفاهمين ومن أعدتهم طبيعتهم للقيادة. وهذا أمر قابل للنقاش بينكم اي قابل للاستنساب. صونوا أنفسكم بالإخلاص وانا آمن انكم خرجتم او تخرجون باختيار من يناسب المقام وان المقام سيعلّمه أشياء كثيرة ويمده بملازمة الحق بمحبة لنا جميعا. واما الحكومة والمناصب والحقائب فستأتون بها في حينه وفي دستورنا هذه أهم من الرئيس في صلاحياتها وأفعل واذا أصررتم على رؤية جامعة لهذه الأمور فقد لا تبلغون شيئا من مراد الأمة.

                      والأمة راغبة في إتمام هذا الاستحقاق لتستعيد رجاءها ولا تخشى الجوع الذي يهددنا حقيقة ولعل كل ما يهمها من أمر السياسة ان يأكل الأطفال ويدرسوا ويحبوا بعضهم بعضا ويتهذّبوا.

                      لقد اصطلحنا في هذا البلد على كلمتين: الحكم والحكومة. والحق ان هذا الاصطلاح كان ذا أساس قبل الطائف والحاكم  من نفّذ. اما الآن فالنص يقول ان الرئيس رمز الوحدة ولا يعترف له بصلاحية تفسر على انه حاكم وظننتم ان هذا التغيير يسكت المدفع ولكن تحول المدفع من آلة الى كلام يقتل هو ايضا على صعيده.

                      مع ذلك اؤمن بأن رئيس الجمهورية هو ليس فقط رمزا لكونه يختار بمشاورات ملزمة رئيس الوزارة التي وحدتها انها تقرر مجتمعة.

#            #

#

                      فمن المؤكد أن رئيس الجمهورية يجب أن يكون أكثر من رمز وهذا له ان ينتزعه ممارسة لا بتجاوز القوانين ولكن بالإيحاء الذي تعطيه طهارته وشهامته ونفوذه المعنوي »الكتاب« كما كان يسميه الرئيس فؤاد شهاب لا يكفي. يجب ان يصبح الرئيس بنظره الثاقب ومرونته واقترابه من الأطراف المتنازعة حَكما يحكم بالقانون والحب معا.

                      لست أقول ان المسيحيين يجب ان يكونوا محتشدين وراءه او حوله. هذا رئىس البلد وليس فريقا طائفيا. والسدة نفسها دلّت منذ الاستقلال ان رئيس الجمهورية لم يكن في خدمة حماسية لطائفته او متحيّزا لها. فاذا راق المسيحيين ان ينصروه وهو قائم في عدله فقد يشفي المحبطين منهم ومجموعتهم اذا تجمّعت -وهذا نادر- قد يزيد انتعاشها ويقل إحباطها اذ لا ينبغي ان ندرك يوما يشعر فيه المسيحيون بضعف بعد ان كانوا أقوياء.

                      في الإنجيل هذه الكلمة: «مبارك الآتي باسم الرب»، لنترجمها سياسيا ونقل «مبارك الآتي باسم الشعب اللبناني» ممثَلا بالنواب كما هم اذ ليس لنا وسيلة اخرى افضل. بعد ظهور الرئيس واذا نضج الوضع لنا اننتكلّم على نظام رئاسي. غير ان هذا يزيد في التوتر الحالي. ولا يمنع نظريا النظام الرئاسي على ان نبقي على رئيس ماروني. هذه قد تكون رمزية نافعة. كلنا يذكر الدور الذي لعبه المغفور له الرئىس سليمان فرنجية عندما تكلّم باسم العرب في الأمم المتحدة. عرف العالم عند ذاك ان العرب فيهم غير دين ولم يشك المسلمون اللبنانيون ان هذا كان عملا مليحا.

                      واذا جئنا على ذكر العسكر أذكر اني كنت أكلل عميدا في الجيش أرثوذكسيا لا يزال حيا يرزق وكان الشاهد في الإكليل المرحوم الرئيس كميل شمعون فلما جاء وقت الموعظة قلت للعريس: أنت عسكري في الثكنة ولن تكون عسكريا في البيت. لقد رئس شارل ديغول وأيزنهور بلديهما وصارا مدنيَين. وما يبقى من ديغول خارج رئاسته لفرنسا انه كان كاتبا بليغا. وهكذا ستعرفه الأجيال. القول الحسن والتصرف الحسن اي الحكمة ستخلعان اللباس المدني على رئيس عسكري اذا ما أتى.

                      «الطبيعة تكره الفراغ». والنساك قالوا لنا ان الفراغ يملأه الشيطان. اجعلوا الله في البلد واشتموا إبليس الذي يضع الفوضى في عقول الناس وقلوبهم واعلموا يا سعادة النواب ان لبنان اذا تحوّل الى جحيم بسبب من خصوماتكم لن يبقى على ما نعرفه عليه. قالت المزامير: «نجّني من الدماء يا الله». عوا هذا القول لئلا تفنوا وأتوا برجل فاضل ان لم تأتوا به أمس. الدنيا فيها أبرار والقديسون العظام قلائل. لا تحدثوا في أية نفس خيبة فقد تختلط الأوراق بعد انتخاب الرئيس ولا يتساجل المتساجلون او تختلف نقاط السجال. ويحل سلم كبير او بعض من سلم حتى نتلاحم في الوقت الذي تنزل علينا فقط حكمة الله ورأفاته.

#           #

#

                      لبنان يعلونا جميعا وهو دائم بوحدتنا على اختلاف السياسات. ومن طبيعتها أن تختلف. الاختلاف بلا حقد هو الفن الممكن ان كنا رحماء وطوبى للرحماء. هذا بلد فيه طاقات مذهلة ولكن يجب ان تتجمع واذا أردتم الا يتلاعب بكم احد فأنتم على ذلك قادرون. اذ ذاك نكون قد بلغنا الاستقلال الناجز. ليس الاستقلال بأن نتباعد عن أحد ولكن ان نجتمع بعضنا الى بعض اي انه عمل داخلي اولا وهذا فيه مساعي الكل وان يعي الشعب اولا انه يحكم الحكام ويدربهم على انهم مسؤولون أمامه.

                      واذا قمنا بسياسة الحكم المدني تتضاءل الطائفيات اذ رغبتنا جميعا ان نربّي اولادنا وان ننعش مناطقنا ونبني وطنا قائما على العمل وعلى الفهم وعلى ايماننا بأننا متراحمون بحيث لا يتهمّش أحد لأننا في حاجة الى مساهمة كل الأطياف ولا سيما الأدمغة النيّرة العالمة وهذا لا ينقصنا.

                      وتبدأ السياسة بالعمران والاقتصاد فلا تبقى طريق لا تُسلَك ولا قرية ينقصها ماء او إضاءة او مدرسة ولا تُهمل الموارد التي نتكلّم عليها وتلك التي ينبغي ان نفتش عنها ويكون مال الدولة مقدَسًا كمال الأفراد. ذلك لأن أساس كل إصلاح هو الاستقامة في تعاملنا والدولة.

                      لبنان فيه كل المقدرات التي تجعله وطنا وحكما عصريا يحس فيه المواطن بالطمأنينة وانه عديل كل مواطن آخر في الحقوق والواجبات. هل تؤمنون بإمكان ظهور هذا اللبنان؟ ومن كان هذا إيمانه فليتقدّم الى النيابة والمسؤوليات الأخرى. وليترك لكل امرئ اعتقاده بالقضاء وحريته الشخصية وقدراته على الإنتاج في كل مجال من مجالات الاقتصاد والمعرفة والفنون.

                      واذا رحّبنا بالمبدعين في كل مضمار فهم يغيّرون الناس في مضمارهم اذ لم يكتب القدر لعنة على شريحة من شرائحنا ولم يكتب علينا دوام التحالف. والإبداع تساعد عليه الدولة الجيّدة فلا يموت احد بسبب من عطائه او حدة فكره. والتنوّع لا قيمة له الا ان يعضد الفهماء من كل صوب حتى لا نموت يأسا من البلد. فعند ازدهارنا الجماعي الحق وعند عدالة الحكم يرجو الناس الى مستقبل زاهر نضعه في خدمة العرب وخدمة العالم ونصبح على صغر حجمنا وعددنا نافعين للعالم كله.

                      هذا كله يتطلّب جمالات في النفس اي هداية الى الحق او تحوّلا الى الله. وبعد هذا يهبنا ربك كل ما نحتاج اليه لمجده وبهائنا تحت مجده.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

تعدد ووحدة / السبت ١ كانون الأول ٢٠٠٧

الأزمة السياسية التي تجتاحنا تدعوني الى التكلّم عن لبنان الأساس لأن بعض الأزمة متعلق بالجذور ولا تقتصر على اشتهاء السلطة عند هذا الفريق او ذاك والصعوبة في الكلام على الجذور لا تكمن فقط في ان الإسلام والمسيحية في مواجهة دينية بعد ان اختلط اللبنانيون من كل حدب وصوب اختلاطا سياسيا بحيث لم يبقَ التواجه بين الديانتين هو الأصل الوحيد لأزماتنا ولم يبقَ صحيحا ان التوتر قائم بين مسيحيين ومسلمين اذ الصدامات الإقليمية والدولية انصبت على هذا البلد. غير ان المقابلة بين المسيحية والإسلام عند بسطاء القوم ومفكريه نائمة في النفوس وتبعث من حين الى آخر في ترجمة سياسية.

                      وتبديدا لكل سوء فهم وسيرا في الجيوبوليتيك ما من شك ان الخلاف بين اهل بلدنا ليس مرآة للصراع القائم بين الغرب «المسيحي» والشرق المسلم. فخلافا لممارسات الدول الغربية في القرن التاسع عشر ومنذ القرن السادس عشر تم الاتفاق بين فرنسا والسلطنة على حماية فرنسا للكاثوليك الشرقيين تم في أواخر القرن التاسع عشر كان العثمانيون يتقبّلون حماية روسيا للأرثوذكس ولكن بلا تفاهم مكتوب بين الروس والأتراك ثم مع ظهور البلشفة لم يبقَ من اتصال بين الاتحاد السوفياتي والأرثوذكس وانتهت رعاية فرنسا للموارنة عند انتهاء الحرب العالمية الثانية. اما الولايات  المتحدة فلم يكن يوما لها شعور خاص بالمسيحيين. اميركا كانت بروتستنتية ولا إحساس لها بالكنائس الشرقية القديمة الى ان تمّ احتضان اميركا للمملكة العربية السعودية منذ تأسيس المملكة بعيد الحرب العالمية الأولى.

                      ربما قادت العَلمانية الفرنسية الى عدم التصرف التمييزي بين طوائف هذا البلد وهذا واضح منذ تسلم شارل ديغول للحكم في بلاده وتتالت التصريحات بحياد فرنسا عن الطوائف وآخرها ما فاه به وزير خارجيّتها برنار كوشنير في ايام او اسابيع خلت.

                      واذا كان من ميل خاص للأميركيين غير مقول ولكنه واضح فهو ميلهم الى البلدان الإسلامية -قبل مشكلة إيران الحالية-  لعلمها بأن النفط مخزون في البلدان الإسلامية. الثابت تاليا ان ليس للمسيحيين في لبنان رعاية من أحد وعلى تدخل اسرائيل في الحروب الأهلية عندنا فلم يكن عندها احترام للمقاتلين «المسيحيين» الذين آزرت وهذا وارد حرفيا في الأدبيات الصهيونية التي في مكتبتي.

#           #

#

                      مل يفخر به اللبنانيون التنوّع الثقافي. وهذه مفردة خفرة يراد بها التنوع الديني القائم على السلام. وعندما أتبنّى هذا القول امام الأجانب يجيبون اصطدام الموارنة والدروز مرتين في اربعينات القرن التاسع عشر وكذلك السنة الـ ١٨٦٠ ثم نشبت الحرب الأهلية وكانت ذات طابع طائفي وذُبح المسيحيون في دمشق في السنة  الـ ١٨٦٠ وحماهم فيها عبد القادر الجزائري في منزله الى ان هاجر بعضها منهم الى بيروت واحفادهم معروفون حتى اليوم فيها. فهل السلم الأهلي في لبنان سوى مرحلة بين قتال وقتال؟ مسيحيو دمشق لم تكن لهم اية علاقة باللبنانيين لكون دمشق قلب ولاية عثمانية ولكون مسيحيي لبنان كانوا من المتصرفية. اجل كان للسلطنة إصبع في هذه الحوادث الطائفية ذات الطابع السوسيولوجي ولكن لم يدخل عنصر الحقد الديني في هذه المواجهات ولم يكبحها الايمان في هذه الشريحة او تلك. قال الوزير طارق متري في فصلية «أبجدية» الصادرة عن نقابة المعلمين في عدد تشرين الثاني عندما سُئل: «هل نحن بإزاء طبقية وطائفية ومذهبية في الثقافة»؟ قال: الثلاثة معا. انما ما يعنيني هو حماية التنوّع من ان يأسره الانعزال ويحكمه الصدام، لتتحول غنى «حواريا».

                      معنى ذلك ان التنوّع ليس بحد نفسه مدعاة للفخر ولكن الوحدة هي الفخر. التنوّع ملحوظة اجتماعية تحمل مخاوف التصادم، والوحدة الدينية الانصهارية تحمل خطر الانغلاق اذ ليس في الوحدانية الدينية ضمان دون الانكفاء الحضاري. افهم علماء الاجتماع والسياسة اذا قالوا لنا: فتشوا اولا عن الدوافع السياسية والظرف الديني ليس منشئا للخلافات. أميل الى الاعتقاد مع ذلك انه ينبغي التفتيش عن العنصر الديني الذي يختفي وراء الصدام السياسي. ليس من أمر ينفصل عن أمر في الحياة الاجتماعية. هنا تظهر مشكلة الأكثريات والأقليات وقد تكون اأقلية أعظم يسرا من الأكثرية ويلبس الصراع الاقتصادي بين الشريحتين لباسا دينيا. انا اوافق مبدئيا علماء الاجتماع على القول انك لا تستطيع ابدا ان تفرق بين الأسسباب وان العنصر المجتمعي كثيرا ما يطغى على العنصر الديني.

                      هذا كله يعني في كل مرة انه لا بد لك من فحص العوامل المختلفة وفحص قوتها فاذا قال الدكتور متري انه عليك ان تحمي التنوّع من ان يأسره الانعزال ويحكمه الصدام يكون عليك الا تبتهج تبسيطا بالتنوّع وانه عليك ان تدرس العناصر التي تقود الى الوحدة.

#                 #

#

                      لنسمها الوحدة الثقافية او الحضارية التي بعض روافدها من الإيمان الديني وهذا فيه غنى للجميع ويتجلّى في التناضح الروحي والفكري بين عامة الشعب وبين المؤمنين الأصحاء من كل ديانة عندنا. هذه أمة الأبرار القائمة في كل عائلة روحية النابعة من ينابيعها الصافية والذائقة لجمالات الدين الآخر. هذه الظاهرة قائمة في تقديري في كل الهلال الخصيب وفي واقع تفاعلي يومي في لبنان. هذه علاقتها بالقلوب وبالطهارة الساطعة في كل مجموعة دينية والتي تولي السياسة أهمية نسبية وهي لا تمزج بشكل عشوائي بين ما ينزل عليها من الله وبين المنافع الدنيوية للمنتفعين. وهذا ظاهر في علاقات الصداقة والعائلات التي تتعايش ويتعذر على الصديق اذا كان عميق الود الا يتبيّن المبادئ الروحية التي تنزل نفحات على الواد والمودود. واذا صح ما قاله الفيلسوف برغسون من انك لا تقدر ان تعرف لغة جيدا وتكره شعبها كذلك يتعذّر عليك ان تتنكر للبهاء الروحي الساطع على وجه صديقك المسلم او المسيحي.

                      هنا للنخبة الفكرية دور متميّز لأنها تضع جمالات القلب الذائق في فكر ذائق. وهناك خاصة الخاصة كما يقول الإمام الغزالي القادرة ان ترفع قيم الدين الآخر الى مرتبة العقل. وهذا حاصل بلا تبسيط وفي موضوعية كثيرة. وهذا ممكن تعميمه في تعليم الأديان بصورة علمية مجردة. هذا ما عرضه الإخوة الذين اجتمعوا في اواسط الستينات الى المغفور له الرئيس شارل حلو، اولئك الذين قاموا بأول حوار اسلامي -مسيحي في اواسط الستينات وكانت الندوة اللبنانية جمعتهم.

                      ايا كان المكان الذي تنشأ فيه على معرفة ديانتك وعباداتها هذا لا ينفي استقاء معرفتك، بصورة موضوعية، كل أديان العالم ولا سيما المسيحية والإسلام. هذا الكتاب اذا درس في الصفوف العليا وفي كليات  العلوم الإنسانية وربما في غيرها لا يتضمّن تبشيرا او دعوة وتوافق عليه المرجعيات الدينية القائمة في لبنان.

                      ولعل من اهم ما يتضمّنه معرفة الأ خلاق في كل ديانة وفي هذا الباب يجد الطالب ان الكثير او الأكثر يجمعنا. وهذا يكون جزءًا من الثقافة الواحدة. انا أخطئ ما شاع منذ بضع عشرات من السنين ان ثمة ثقافتين عندنا. فكل منا يقبل على ثقافة عالمية واحدة ذات لون عربي واضح. فالمسلمون والمسيحيون سواء في معرفة العربية وكلهم يقبل على العلوم الطبيعيّة او الانسانية. فهذا مسيحي طبيبه مسلم وهذا سلم طبيبه او محاميه او مهندس بيته مسيحي. والموسيقى العربية من أربابها مسيحيون. واذا أممت بيت مسلم ذي ثقافة أجنبيّة متقدمة تسمع عنده الموسيقى الكلاسيكية. وفن الرسم عندنا كباره من اهل الديانتين. واذا شئت آن تدرس اللاتينيّة في بيروت يكون عظيمها مسلما. وفي التاريخ البيزنطي حاورتني مسلمة تعرف اللغة اليونانية القديمة. ويذهلك ان يكتب سماحة السيد هاني فحص عن مريم ما لم يكتبه مسيحي هنا وفي الغرب. وقد يعلم في الجامعة الحضارة العربية الإسلامية مسيحي لا يصدم اي طالب من طلابه. واذا أحببت ان تقرأ أرقى نص فرنسي اشير عليك بصلاح ستيتيه المسلم.

                      اذا أردتم أن نتقارب في العمق فاقصدوا المسيحيين والمسلمين على السواء. واوّل المتقاربين في هذا المجال اللبنانيون الذين يتعايشون في صدق. هذه القاعدة المعرفية والمتشربة للروح الإلهي قائمة وستقوى. وهذه تنقذنا من السياسة السياسية فتجد نفسك ايا كان انتماؤك على قربى سياسية مع ناس ليسوا من دينك يحيون ملكوت الله في القلوب.

                      هذا هو المكوّن الأساسي لوحدتنا الوطنية على التنوّع.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

العيش الواحد في لبنان / السبت ٢٧تشرين الثاني ٢٠٠٧

                      لبنان واحد ومتعدد الأطياف معا. في هذه الكلمات لن أحدثكم في السياسة حتى تنجلي صعوباتها وتطلع العقول النيّرة والقلوب الطيّبة الى حلها. ليس من لبناني لا يتوق الى تلاقي هذه الأمة في محافظة كل شريحة على تراثها وفيه خصائصها بغية الحلم بوحدة لا تزيل الخصائص ولكنها تتخطاها الى اجتماع واحد بلا ذوبان بحيث تقدّم كل شريحة اجمل ما عندها واجمل ما فيها وبحيث نقدر ان نقول يوما عندنا مع الحفاظ على عبقريات الطوائف واجب تشكيل أمة واحدة وهذه العبارة لا أفلسفها ولكني ألحظها ولاسيما انها في الدستور.

                      انا لا أبحث في الهويات. بعد ان تبيّن لنا بصورة خفرة مع البيان الوزاري الذي وضعه المغفور له رياض الصلح اننا عرب وقيل هذا بأوضح صورة في وفاق الطائف والدستور المنبثق عنه بات هذا واقع تحسسنا وأصل وحدتنا مع العرب ما لا يبطل الوحدة الوطنية. بلا تفلسف قومي لا يلقي احد علينا درسا في عروبة التعاون والثقافة والنضال الواحد ابتغاء انتمائنا الى الحضارة العالمية. لا أقرأ منذ سنين ان احدا يسائل هويتنا اللبنانية الملوّنة عربيا. ومن سمي عربيا في الحديث الشريف هو من تكلّم هذه اللغة ويريد اعلاء شأنها وتبيان حركيّتها في العالم المعاصر اذ تشرع ابوابها ونوافذها على العالم المتمدّن فيما تحافظ على لونها الخاص ومن لا لون له لا إسهام له في مسيرة الحياة. لبنان ليس إزاء العرب ولكنه مع اولئك العرب الذين يحبونه.

                      مرة كنت في موسكو في معية السيّد البطريرك اغناطيوس (هزيم) وانتدبني الى مؤتمر جمع صحافيين  سوفياتا وعربا يمثلون جرائد عربية من عندنا. وسئلت: هل انتم مع السوفيات او الاميركيين؟ فأجبت: نحن مع الذين هم معنا وانتهى المؤتمر بهذا الكلام. نحن اذًا في كل طوائفنا مع الذين هم معنا صادقين. مع ذلك نرعى المودات كما قال ـ على ما أذكرـ ابو فراس الحمداني الذي طالب سيف الدولة الحمداني ان يخلصه من منفاه الرومي ولامه لعدم الاكتراث به. التماس الشاعر الكبير ما نريده الا نكون منفيين عند احد.

                      انا لا انفي حق كل شريحة بموداتها الخارجية اذا لم تأسرها هذه المودات وذاكرتها التاريخية لأن هذه الذاكرة مبنية على تواصل تاريخي وربما كان احد عناصرها التجانس الديني مع هذا الشعب او ذاك ولكنا لسنا ذراع احد لئلا يتخدش شعورنا بالوحدة اللبنانية ولا تفنى فينا العروبة الأصيلة. هذا الحنين الى هذا وذاك لا يشكل هوية اخرى لأن الهويات المتعددة قتالة كما يقول امين معلوف في احد كتبه.

                      واذا نظرت الآن الى المسيحيين فهم كنائس شقيقة وهذه واحدة في الأصل وفي الجوهر ولو كانت منفصلة في الشركة التنظيمية على الصعيد الكنسي. لذلك لا يشكل المسيحيون صفا واحدا بالضرورة على المستوى السياسي. فلكل كنيسة مساهمة ثقافية متميّزة وتاريخ مستقل وليس المسيحيون أمة صغرى ضمن الأمة الكبرى وان اعترف ائمة المسلمين الأحياء منهم والذين استدعاهم ربهم الى رحمته. كلهم اجمعوا على ان هذا البلد لا قيام له بلا مسيحية، كلهم يحزن لهزالة عدد المسيحيين بالهجرة. والحق ان الجميع يهاجر.

#               #

#

                      وقد قال الرسول العربي في «دستور المدينة» بعد ان هاجر اليها ان المؤمنين اي المسلمين واليهود امة واحدة. واذا كان هذا صحيحا آنذاك فمن باب أولى اذا استوحينا هذا الدستور في لبنان ان يقول المسلمون انهم مع المسيحيين امة واحدة. هذا لا يمنع المسلمين ان يوردوا قول كتابهم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (آل عمران، الآية ١٠٤). فالمعنى الواضح ان الجماعة الإسلامية ليست خير أمة بتكوينها المجتمعي ولكن بصفتها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر. هي خير أمّة بحركيّتها الى الإيمان والبر والطهارة. والمسيحيون بوصفهم يقيمون الإنجيل هم أيضا أمة صالحة وليس باعتبارهم كتلة مجتمعية تعتريها المعاصي كما تعتري غيرها. ليس عندي اية عثرة اذا استعمل المسلمو عبارة الأمة الإسلامية بمعنى التوحد في ما بينهم بالله. ولكن في الاستعمال الحديث نأخذ لفظة امة بمعناها المدني او الاصطفاف المدني كما قال الرسول في دستور المدينة.

                      كل منا قائم مع الآخرين في حضرة الله. كلنا إلهي او مألوه بهذا المعنى وهذا ينفي العصبية التي حددها ابن خلدون بقوله انها تناصر اهل الأرحام. الانتساب الى الأرحام لا يشكل هوية. والمسيحيون يسمون كتلتهم كنيسة وهي ليست قائمة بهم، لتجمعهم. انهم مدعوون في المسيح. واذا اتفقنا اننا واحد في المدينة الجديدة التي هي مجموعة المدن والقرى اللبنانية فليس بيننا فرق ولو بقيت فروق في العقيدة. العقيدتان ليستا الى تخاصم في هذه الدنيا ان عرفنا الله حق المعرفة وعرفنا الوطن واقعا تاريخيا وارضا نريد ان نلازمها في معيّتنا.

                      ليس علي انا ان اوحي للمسلمين انهم واحد. فالجامع الأزهر اعتبر في التدريس ان التشيّع مذهب خامس في الاسلام. ليس عليّ ان أتدخّل في هذا التقرير. ولكن ما يجمع السنة والشيعة اعظم بكثير مما يفرقهم. والمسيحيون اللبنانيون على مستوى الاجتماع يرونهم كذلك. وعلاقتهم بالمسلمين هي انهم كتلة واحدة تدين بالله وأنبيائه وسنة الرسول.

                      لنقل اذًا على اننا في هذا البلد مرميون روحيا على ان الإسلام واحد والمسيحية واحدة وانه كتب عليهم جميعا ان يجتمعوا على قيم روحية كثيرة واحدة وعلى أخلاق اساسية واحدة.

                      لست انا اليوم معنيا بالحوار الإسلامي المسيحي على صعيد الفكر اللاهوتي او ما يسميه المسلمون علم الكلام. الحوار له قواعده وذهنيّته وروحيّته وان لنا كلاما كثيرا متقاربا في اللاهوت ولو كنا على اختلاف في هذه العقيدة او تلك. هذا لا يمنع التلاقي الوجداني او التقارب الإنساني العميق. والاختلاف لا يقود الى العنف. ولست في حاجة اليوم الى استنباط ما يقرب بيننا في النصوص. ومن كان منا محبا للآخر يتقبّله في أصالته وفرادته وضرورة الأخوة بيننا والتلازم المدني في حكم مدني حسب عبارة المغفور له الإمام مهدي شمس الدين في خطب له كثيرة وفي الإرث الروحي الكبير الذي وضعه في كتاب وصايا. حيث رغب الى أبنائه ان تكون الآفاق اللبنانية وحدها آفاقهم. لا وحدة شعبية في العالم بالمعنى السياسي.

#           #

#

                      من يسود ومن لا يسود تفاهة التفاهات. انا لا اسود أخي في الوطنية. هذا اشتراء الحياة الدنيا  بالآخرة كما يقول في سورة البقرة. او كما جاء في سورة آل عمران: «وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور». وكذلك في الأنعام: «وما الحياة الدنيا الا لعب وغرور». من قال ان الإسلام ليس فيه نسك؟ وفي الإنجيل: «اطلبوا ملكوت الله وبره والباقي يُزاد لكم». وفي المسيحية البداءة والنهاية هي سيادة الله على القلوب. والسياسة التي لا قلب فيها ليس لها إله. ما يهمنا اذًا ليس سياسة المسلمين ولا سياسة المسيحيين ولكن سياسة الله فينا جميعا.

                      يؤسفني ان نتعاطى شؤون هذه الدنيا كأن الله لا يلهمنا شيئا في الحياة الدنيا ولا يسوس حركتنا الداخلية، حركة القلوب في القلوب.

                      لك ان تتعاطى اي دين لك بلا صدام وبلا كراهية والا تحشر أخاك في النار والا تحتكر الجنة لأنك اذا فعلت ذلك تكون قد قمت بدينونة استباقية والدينونة عمل الله وحده. مارس ما شئت من فرائض وآمن بما تريد ولا تغضب على احد ولا تعزله عن قلبك فاذا فعلت لا يكون الله ساكنا فيك ولا تكون في الحقيقة من خير امة أخرجت للناس والنفس المبغضة مائتة قبل ان يقبضها الله.

                      نحن جميعا في حاجة الى تطهر وما من تطهر بالإلهام  المجتمعي فقط. انه توبة الى وجه الله الذي لا يحصر في كتاب. والكتاب بين يديك ليقودك النص الى الحياة التي في الله.

                      على ضوء هذه البركات وعلى حبنا لأهل التوحيد الإسلامي والمسيحي في كل مكان واستلذاذنا الروحيات في كل صوب لا شيء يمنعني ان أستطيب المسلم اللبناني بخاصة بسبب من هذا العيش الواحد الذي يجمعنا واحس انه يؤثرني شعوريا على اي مسيحي أجنبي. البلد ومناخه والفكر الحديث الخلاق فيه واستيطاب الجمالات الروحية اذا انعقدت الصداقات الشخصية والعائلية من الأشياء التي تكون لبنان. ثم عند هذا وذاك تبدد اللغة الانسانية واحدة بما في ذلك لغة الطيبين في الحياة الوطنية. هناك اسلام في الخطابة بما فيها الخطابة السياسية وفي الشعر متأثر بخير ما في المسيحية وهناك مسيحيون كثر يحبون المسلمين بسبب الإنجيل وبسبب الفضائل التي يشاهدونها عند ابرار المسلمين .

                      قد لا تجد مثل هذا في البلدان التي لا اختلاط فيها. هذا تداخل ودي وفكري معا والتعصب تلمسه عند الذين لا عمق روحيا عندهم ولا انتظار لرحمات الله. هؤلاء نرأف بهم ونرجو خلاصهم من الضيق العقلي والوجداني. قاعدة التقارب حتى التناضح واضعها الله الذي قال عنه العهد الجديد انه محبة حتى تنتقل المحبة من كونها كلمة الى كونها وجودا داخليا.

                      هل يأتي جبريل ويبشّر كل نفس عذراء حتى تخرج منها فقط الكلمة الصافية على صورة كل كلمة تخرج من فم الله، حتى يكللنا الرب جميعا بالفرح الأكبر الواحد لنصير مشابهين للإله الجميل.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الرئيس القائم او المرتجى / السبت ٢٤ تشرين الثاني ٢٠٠٧

كتبت هذه السطور قبل أمس وأنا  في حالة ارتقاب لانتخاب رئيس الجمهورية والارتقاب مخيف وقد أسس قبلي الصديق الكبير غسان تويني على الفكر السياسي اليوناني القديم وعلى معلّمنا الفارابي. واذا انتخب لنا أمس رئيس لشعبنا أو أرجئ انتخابه أقدم له تأملاتي بتواضع وقد يكون على المواصفات التي ذكرها رأس الكنيسة المارونية البطريرك مار نصرالله صفير وإخوته المطارنة او يكون دونها او فوقها ورجائي ان يفوق كل توقّعاتنا. فلكوني لا أعرفه حتى لحظة تدبيجي هذا المقال فأنا أتكلم هنا على الذي أتى او الذي لم يأتِ بعد وقلوبنا اليه.

                      اكتب وأنا خائف عليه من أزماتنا وأحاول ان أتجاوز خوفي بالايمان بأن الله لن يترك هذا البلد. واذا صوّر من هو أكبر مني ملامح الرجل فنحن اليه اذا ما جاء أمس او كان سيجيء بالرضاء الإلهي مكافأة لنا. ومن وضع نصب عينيه البهاء الذي ينبغي ان يتمتع به الرجل فلا بد ان يدفعه المقام الى التمتع بالخصال التي نرجوها اليه.

                      كل مقام متعب ولهذا ندعو الرئيس الذي ظهر او سيظهر بكل الحسنات المعقولة عند البشر ولست أغالي اذا قلت ان لبنان سيجمَل بالرئيس اذا كان على الطهارة التي هي صفة كل قائد. ونقاوة الخلق مبتغاة في اي مسؤول اية كانت درجته في سلّم المسؤولية. وسوف يحيطه الأبرار اللبنانيون بأدعية لهم موصولة لأن الرب سوف يمده بنشأة من عنده حتى لا نقع في التفتت وحتى نؤمن بمصير بلدنا الذي يستحق الحياة.

                      ركزت على نقاوة قلبه ولسانه وعمله اذ منها يتحدر كل شيء وفي لغة الإدارة هي رديفة الحكمة. وهنا يحضرني حديث نسكي قديم دار في دير كان رهبانه يستعدون لانتخاب رئيس فقال شيخ بينهم: ان كان من تريدون رجل صلاة فليكمل صلاته في عمقها وبها ينفعنا  اما اذا كان عظيم الثقافة فيملأنا بها اما اذا كان حكيما فهذا ننتخب. والحكمة ليست بهلوانية معهودة في بعض الاوساط لأنها تقوم على الصدق ولئن قامت على اللين ايضا. المسؤول له احيانا بالكلمة الحلال ان يرضي احدا ولكن ليس عليه ان يكسر القصبة المرضوضة لأنك في الحب تشفي كل شيء.

                      غير ان الحكمة الطاهرة عند المسؤول ان يكون مثقفا اي ان يكون عقله قويا ومتجليا بآن. وهذا هو العمق الذي يميز الثقافة عن مجرد تكديس المعلومات فالدماغ ليس فقط خزانة ولكنه حركة بحيث يتداخل فكر الرئيس وأفكار الناس إن كانوا مخلصين والرئيس لا يرث المحيطين به ميراثا ولكنه يختارهم اختيارا ليكونوا على صورة طهارته وصورة حكمته.

#               #

#

                      كيف يتصرف الرجل في بلد متعدد الثقافات والأديان ومذاهبها؟ التعدد الذي يتغنى به اللبنانييون ليس كله حسنات اذ لا قيمة له الا بالتحرك نحو الوحدة والوحدة ليست في ان اكون مثيلك في كل شيء ولكن أن أصبو الى محبتك في النقاش الذي تقوم عليه الحياة السياسية بغية ارتقاء الجميع الى وجه لبنان الجديد.

                      في هذه الرؤية انت اخي ولست مثيلي. كيف نتلاقى على ما يجمعنا في الحق وليس في الخطايا التي تُباعد بيننا. في مقاربات الوجود واذا نأينا عن التباسات الوضع الحاضر وظروفه هناك بشر صالحون وبشر طالحون وهذا في كل طائفة. أليس أساسيا أن تنشأ «الأمة البارة» كما يقول الكتاب المقدس المؤلفة من كل فرد جميل في اية طائفة، وهذه الأمة البارة تخترق كل الطوائف لتكون قلبها المحيي؟

                      الطوائف تتلاقى بالناس الطيبين ولا تقوم الحياة المشتركة بمقابلة كتب مقدسة ولكن بتلاقي الحُسْن والحُسْن من كل شرائح الأمة. لم ألحظ ان شعبنا يتساجل بسبب من كتب ولكن بسبب من التحام القلوب. انت تستقي الخير انّى وجدته وتتعامل. انا لا أعرف حدثا جرى بسبب من مقابلة الأديان. المشاكسة تفرزها المنافع الخاصة او الجماعية ومن تسييس الفكر الديني، والطوائف عند المصلحة تنقلب احزابا. وقد تكون هذه راقية ولن يقنعني احد بأن الاختلاف ينقلب خلافا يصل بنا الى العداء او القتال. انه من نافل القول ان نذكر بأن هناك مَن تَقاتَل في الدين الواحد والمذهب الواحد. انت لا تعادي احدا ما لم تقتلك شهوة السلطة لأن هذه هي عشق الأنا الساعية الى إلغاء الأنا الأخرى حتى الإبادة.

                      وهنا أتوجّه الى المسيحيين الذين اقرأ على أقلامهم انهم في تهميش. ربما كان هذا صحيحا الى حد بعيد ولكنه خطاب سياسي. ان محبة المسيح عند هؤلاء الإخوة تصحح الوضع السياسي او تعطيه نفحات. واذا صارت الكتلة المسيحية عظيمة في حبها للإنسان اي لكل انسان في هذه الأمة فهذا يغير الوضع السياسي. المسيحي دائما ينطلق من المسيح لا من حساباته. تهمه نوعيته الخلقية التي تغيّر كل شيء. انا لا أنكر على الجماعة المسيحية في المقولات او الاوضاع السياسية ان تضرب التهميش وتحل العقد المرتبطة به. السياسة لها رتبتها في الحياة ولكن هناك حياة الحياة التي هي الخالق العظيم الذي نرتقي به في الصالحات وطيب الأماني لكل مخلوق.

#                   #

#

                      ليست مهمة الرئيس ان يرفع وضع المسيحيين وحدهم وهذا ما لم يفعله رئيس، ولكن عليه ان يرفع الغبن الذي يحل في كل شريحة، كما ليس عليه ان يحيد عن ابناء دينه ليتظاهر بالعدل. هو رجل العدل لكل قوم ولكل فرد.

                      ومع العدل له ان يتحسس وضع المسيحيين في الشرق العربي بحيث يرفع عنهم كل ظلم او تجاهل اذا حلّا وبحيث يبقون خميرة كما اوصاهم بذلك المعلّم. وكما أسهموا إسهاما كبيرا في بناء الحضارة العربية من بدئها حتى عصر النهضة وربما الى ايامنا، يريدهم الطاهرون في الاسلام اليوم ان يظلوا عاملين في تقدم الشعوب الإسلامية او في هذا التناضح الحقيقي في الهلال الخصيب.

                      ومن باب تدعيم المسيحيين رفع شأن الموارنة الذين يحملون في عروقهم وأعصابهم التعلق بلبنان. لا أريد مقارنة بعد ان تلبننت عائلاتنا الروحية كلها منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب بخاصة. هذا لم يبقَ موضوع نقاش او شك. ليس لي انا ان أصف حسنات الموارنة. انا منتصب في الصلاة من أجلهم حتى يُبعد الله عنهم كل شقاق في المجال الوطني ويحميهم في التقوى التي أعرفهم عليها منذ طفولتي. وهذه يشددهم فيها مقدسون ليسوا قلائل. غير ان دعائي من أجلهم هو ان يتراصّوا في الحق والبعد عن الفرقة لنحلو جميعا بما يصيرون اليه من بهاء.

                      هل كانت هناك مارونية سياسية أصابت شرائح من أديان مختلفة ام لم تكن؟ ليس المجال للتحدث عن هذا، ولكني لم اسمع برئيس تحزب للموارنة. هو رئيس لبنان وكلنا حوله اذا جاء، وشخصيته إن كانت قوية لها ان تملأ الفراغ الذي أحيط به وليس عندي صيغة لإحقاق ذلك. الأقوياء لا يحتاجون الى صيغة.

                      ايها الرئيس المنتخب امس او الآتي احكم بهذا او بما تراه صحيحا فيما قلت بهذه السطور، ونحن وراءك لنشدّ أزرك ونجمّل أنفسنا بالخصال الحميدة التي نرجو ان تتسربل بها. تكلل بمجد لبنان حتى نفرح بك كما نفرح بلبنان. كن عاليا جدا جدا فيحاول اهلنا ان يقتدوا بك وينجوا من خطاياهم فيصبح بلدنا عروسا يختارها الجمال.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

خيبات / السبت ١٧ تشرين الثاني ٢٠٠٧

الرجاء المنتظر مني إبداؤه رجاء الى الله وليس أملا في مخلوق. فهذا يهبط ويرتفع وقد تعرفه بمقدار يجعلك تقول هذا الرجل يتلو هبوطه هبوط وغالبا ما سيقع على الصخر ليتفجّر رأسه. هذا حساب تقديري او ترجيحي ما لا يجعلك تيأس من الأعجوبة. وما من خيبة في هذا الدنيا الا لكونك تحب ان تأخذ النقاوة بيتها في كل نفس. واذا لم تجدها كاملة في ذاتك تراها تطلع من الجانب الخير في نفسك وهي تحاول ان تضرب السيئات ولا تفلح.

                      والخيبة تبدأ بأهل بيتك. كنت تحس في طفولتك ان أباك قوي، مثال الرجال واذا أدركت شيئا من الوعي تعرف ان صورته في نفسك اجمل من واقعه ولكنك تبقى محبا لأن هذا في الحشا ولا تستطيع ضد أحشائك شيئا ولكن عقلك لم يقتنع بأبيك. وكذا تكشف ان امك ليست مثل مريم كما كنت تظن في مطلع شبابك وانها امرأة عادية. ومثل ذلك اخوتك وأخواتك ولكنك أسير الحشا. غير ان تحليلك يرتطم بالمشاهدة الصارخة فتحزن ثم تفرح للطهارة اذا بدت من الشخص عينه وتنتقل بآن من خيبة الى خيبة ومن غبطة الى غبطة على رجاء قيامة القلوب جميعا من سوئها اي على رجاء دفق الحياة الرلهية في كل النفوس لأن المعلم قال لنا: «ان ملكوت الله في داخلكم».

                      في المجال العلمي الخيبة كبيرة في لبنان. المحزن ان الشعر والأدب تتحكم فيهما الدعاوة الى حد فتهدى كتاب قيل عنه العظائم وتقرأه وتراه تافها. الكاتب لا يعرف العربية والركاكة تتموج من صفحة الى صفحة ثم تلحظ احيانا ان فلانا يكتب لك اهداء فيه إطراء كبير وتحس من طرف اللسان انه لا يرفض معونة مالية ليغطي ثمن الورق والطباعة وان ناقدا اذا نقد لا يصل الى الأعماق ولا يطلع عليك بجديد وينشر مراجع لم يقرأها وقد يأتيك بمرجع الماني لم يطالعه قطعا ولكنه كان مذكورا في كتاب فرنسي. قال لي مرة قسطنطين زريق: لا يحق لك ان تذكر مرجعا لم تقرأه كله ومباشرة. هكذا يكون الصدق في الكتابة. ومن ضعف الجدية ان شاعرا فتيا طلب اليّ ان اكتب له مقدمة لشعر واضح الإباحية فقلت له: يا صاح، كيف يمكنني وانا مسيحي ملتزم ان أقدّم لهذا الكتاب؟ لعلّ أعظم خيبة عندي تأتي من ان ثمة من يعرف موقعك وما تدين به من قناعات ومع ذلك يطلب اليك غير المعقول وكأنه لا يعرف انك انسان تحاول ان يكون ظاهرك مثل باطنك.

#                #

#

                      الصدمة كثيرا ما أتت من انك ترث بعض البشر فهم حولك وقبلك وهم معك في تعاون ويعاملونك بما وصلوا اليه من وجدانيات مختلفة وتلحظ ليس فقط ان وجدانياتك سليمة على قدر البشر فلا تكتشف لغة بينك وبينهم. انت عندك مرجعيّة في نفسك وهم بلا مرجعيّة ولكن عليك ان تعايشهم وفي الحقيقة انكم لا تلتقون. المجتمع الذي حولك معظمه ناس يتراكمون ويعيشون باللفظ وانت عندك الكلمة تحمل معناها وهم لا تهمهم المعاني ويقولون ما يفيد منافعهم على الأرض. وليس همهم ان تلتقي فيهم السماء والأرض.

                      كثير من الناس أكتشف بعد فترة أنهم أتفه مما ظننتهم. وربما كان عندي بعض من الكبرياء ما يجعلني أتحمّل بصعوبة الأغبياء ولكن لا بد من التقائهم لأنهم بعض ممن انت عنهم مسؤول. فترى نفسك مضطرا ان تغيّر لغتك وتنزل الى مستواهم في الكلام والفهم. ولا تستطيع ان تقصيهم ان شعرت انه لا بدلك من هذه المخالفة وتبقى حيث انت مقيم وغالبا ما لا يصبون الى الحقيقة التي هي مالكتك واذا عظمت الثقافة عندهم تضطر ان تقضي كثيرا من وقتك معهم لتخلصهم وما جاؤوك هم للخلاص ويصلبونك على ما هم عليه وتحيا انت على رجاء انبعاثك منهم بعد ان حاولت النزول اليهم فلا انت تنزل في الحقيقة ولا هم يصعدون. ولكنك تسعى الى ان تحفظ نفسك من الشرير الى ان تكشف النعمة الحقيقية في اليوم الأخير.

                      لعل الخيبة الكبرى عند رجل يتعاطى الشأن الكنسي العام ان اناسا يصدمونك وهم لم يروك إطلاقا والعدوانية ظاهرة في كلامهم. ولست تفهم محبتهم ولا سبب غضبهم. طبعا تنقل اليهم صورتك وطبائعك وتكون عندهم حاجة يقضونها تتعلق دائما بمنافع لهم في الأرض. وعلى ذلك يجب ان تحفظ هدوءك وطول أناتك لئلا يستفحلوا في خطيئتهم وقد يتركونك او يعودون اليك وصورتك هي هي قبيحة عندهم او على شيء من القباحة ويبقى بينكم حديث أحيانا ولكن لا يدخل اليهم معنى ولا يصغر فيهم السوء ولكنهم من مجتمعك ومفروض عليك لقاؤهم  وكثيرا ما تحس اذا ما كثروا انك وحدك في بيئة مفروض فيك انك على اختلاط في العمق ومع ذلك ليس من اختلاط وكأن محبتك لهم لا يشعرون بها او كأن ضياء عينيك التقى بعتمات عيونهم الى ان يمسح الله عنا كل دمعة.

                      وعلى رغم توالي الخيبات يوما بعد يوم أعاشر كل يوم عددا قليلا من الأبرار. وكنت مع قوم منهم عشرات من السنين ولم يحدثوا فيّ خيبة واحدة. الى جانب العزاء الإلهي المباشر هؤلاء هم تعزيتي وملكوتي وما ذلك الا لأن البركات نزلت عليهم وهي تصدر عنهم ولا تنثني السيئات في طيات قلوبهم وينسونك الأشرار والأغبياء الى ان يعود هؤلاء اليك ويجرحوك واذا كان المسيح جريحا الى الأبد «فالعبد ليس افضل من سيّده» كما قال هو. وتدخل الصدمات في روزنامتك اليومية حتى ترقد الرقاد الأخير.

#                #

                      ويبقى لبنان وطن الخيبات والتعزيات معا. عندنا حب الغريب والجار والغيرة على طهارة الاولاد والسعي الى ارتقائهم العلمي وخصال حميدة كثيرة وجميلة نحن شعب طيّب ولو كنا خالين من هيكليّة حضارية. نتعايش على اختلافنا على الأغلب في مودة. والحب عندنا لا يخدشه التنوّع الديني ونرتفع ذوقيا بجمالات لبنان ولكن لا أعرف مما تتولد السياسة. لماذا فيها سقطات كثيرة جعلتني في السنة الأخيرة -بلا تعميم- اقول ان بين اهل السياسة من لا يحب لبنان.

                      اليوم (الاربعاء الماضي) قلت لمحدث عندي: النائب الطاهر هو من وقف في المجلس ليقول كلمته ويعرف انه بذلك يخسر نصف ناخبيه. انت تحمل ولايتك في صدق من اجل اعمار البلد ورقيّه وجعله يتنطح لأن يكون من العالم الاول وتتراجع عن موقف بدا لك الخطأ فيه من حيث لا تتحزّب لنفسك ولا لرفيقك في الكتلة النيابيّة. انا أفهم التحالفات الكتلوية التي تخدم البلد وافهم الانفصال عن زملائك اذا كان انفصالك هذا التصاقا بلبنان.

                      في الحد الأدنى تحرر من الكيد والحزبية الضيقة الهدامة لكيان البلد وافهم ان ولاية واحدة كافية لأن تجعلك انسانا عظيما بناء للتاريخ. واذكر كلمة معلّمنا الغزالي: «لا يعرف الحق بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق». اذا كان وجه كل انسان هباء تذرّيه الريح عن وجه الأرض اذا لم تكن معالم الوجه الإله عليه فاترك وجهك الذي صنعته مصالحك الى الوجه الإلهي. اذا كنت صرت انت حامل الحقيقة فلا تخشَ احدا ويخشاك معظم الناس وقد تبقى فقيرا. كثير من الفنانين ماتوا فقراء وبقوا في التاريخ. الذين يتركون مؤسسات استغرقت معظم ثروتهم يظلون احياء في ذاكرة البشر والذين لم يتركوا للناس شيئا لا تُذكر عطاياهم.

                      امام كل هذه الجراح يبقى المشرقون الذين أشرق الله عليهم بنوره. صلِّ لكي يأتي اليك هؤلاء لتفرح وتقرع باب الملكوت منذ الآن فيتحول هو اليك. وقد لا تقل الخيبات ولا تصغر ولكن يعظم فيك الفرح.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

إبداع الله وإبداعنا / السبت ١٠ تشرين الثاني ٢٠٠٧

«في البدء خلق الله السموات والأرض». لم يكن هذا فيضا إلهيا بمعنى امتداد الذات الإلهية حتى لا نقع في الحلولية. ولكنه كان فعل محبة كما قال أوغسطين وأراد بذلك ان يصنع الله مخلوقات تكون حاملة حبه او دالة عليه. انها قوة خرجت منه. ألقى الرب وشاحه على العالم واحتضن العالم ولا يزال هذا يعيش من الدفء الإلهي. بهذا المعنى كان الخالق دوما في حالة تنازل ترتفع به البريئة الى بارئها. هناك لحمة ما بينهما لا ندرك طبيعتها وهي في قابليّتنا الكينونة وليست في تصوّرنا العقلي.

                      على هذه الصورة نحن مبدعون. والفرق بين إبداعنا والإبداع الإلهي هو انه لم يأخذ مادة ليصنع منها الكون. اما نحن فنأخذ من مواد الطبيعة والفكر والخيال ونرتبها ترتيبا جديدا لم يقم به آخر وعلى صورة التشبّه بالله نسمّى مبدعين. الحجارة القديمة موجودة وتبني بها قصرا جديدا.

                      بعد حب الله اياك بالخلق الاول يحبك باستمرار وينشئك نشأة جديدة وتصبح خليقة اقوى وأبهى وتنير بالنور الذي قذفه في قلبك فتنشئ الآخرين اذا وعوا محبوبيتهم. لا يوجد الإنسان الا اذا أَحبه آخر. ما عدا ذلك هو لحم وعظام وتشوش فكر وعواصف قلب. غير ان كل حب في الدنيا ناقص اذ تشوبه شوائب المحب وشوائب المحبوب. اما اذا شعر المحبوب بأن مَن أَحبه صافٍ، براق، يعطي نفسه ولا ينتظر مقابلا اي اذا احس بأن المحب مسكوب يفهم ان هذه العاطفة إنْ هي الا جسر للحب الإلهي وانه تاليا حبيب الله من خلال خلقه. واذا أفنى ذاته بالمحبوب يكون الله نفسه مسكوبا في مخلوق اختاره مخلوق آخر.

                      والانسان لا يحب عبده ولكنه يحب ابنه. هذا يبدأ من البدء. لذلك رفعنا الله من منزلة العبيد الى منزلة الأبناء. ان يكون الإنسان ذا لحم ودم وفي الوقت ذاته ابنا لله لا يغيّر شيئا في فعل الحب الإلهي. فعلاقة الألوهة بنا ليس فيها جنس لأن الرب ليس فيه جنس. الألوهة تعمل فينا على صعيد آخر.

                      الانسان ليس عبدا لله لأن صاحب العبيد مسيطر والمحب لا يسيطر. الله يشتاق ويشدّك بالشوق اليه فاذا قبلته ترد عليه باشتياقٍ ظاهره بشري ولكن قوّته نازلة عليك من فوق.

#                     #

#

                      واذا زرع الله تاريخيا في البشرية كلمات منه فما هي الا تعبير لإدارة الفهم البشري الى عمق الله. واذا سمعت من الله كلمات فهذه لا يسوغ النطق بها لأن اللسان ليس قعر العمق بل سطحه. الكلمة التي تنزل عليك تربية اي ارتقاء الى فوق. عند ذاك لا فرق بين الله القائل والكلمة المقول او لا فرق بين كلمات الكلمة والأذن التي تنتصت والقلب الذي يعي.

                      على هذا الأساس تبني الصداقة. هذه لا يمكن ان تكون تبادلا اذا كنت وصديقك في علاقة الرق لله. انت حر وهو حر. والحر فقط يعطي والحر الآخر يأخذ، وتعطي الآخر كل ما فيك، واذا اعطيته فقط قسما مما عندك فأنت عبد للقسم الآخر الذي لم تعطه.

#                     #

#

                      ما يصح في الصداقة يصح في الزوجين. كل منهما اذا أحب الآخر من منظار إلهيّ اي في العطاء المجاني ينشئ الآخر. وهذا ما عبّر عنه بولس أن تكونوا أزواجا «خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله» (أفسس 5: 21). هذا هو التراحم بتعبير آخر. العلاقة هي دخول الشخص في الشخص، هو تقبّله وانسكابه فيه. هو عمل الانسكاب ليموت الواحد في الآخر. عندئذ لا تنطرح قضية من يأمر ومن يأتمر. وما من ريب ان هذا التلاحم بين روحين وجسدين هو التحام الله بذاته لأن الله اذا كان غائبا في العلاقة لا يكون هناك الا اتحاد بيولوجيّ وسكنيّ وماليّ. الوحدة ليست تراكما. هي موسيقى. في الحب كل يُمَوْسق الآخر ويبدو متجليا ليس في كل واحد منهما على حدة ولكن في الاثنين في وحدة الكيان التي تتغذى كل يوم بالعطاء.

#                     #

#

                      الصعيد الأخير الذي يفرض عليّ نفسه هو علاقة الدولة بالمواطنين. الدولة ليست فوق والمواطنية تحت. هذا نظام الرق. الدولة ليست الا المواطنين مرتبين او متناغمين حسب بناء معيّن فرضته الدساتير والقوانين. طبعا الرئيس والوزراء والنواب ليسوا في حالة عشق مع اهل البلد لأن في الدولة عنصرا قسريا ولو لم تكن فيه نكاية. غير ان الذهنية القانوية والإجراء القانوني لا ينفيان الرحمة ويتطلّبان سهر المسؤولين الدائم والسهر لا يأتي الا من الحب.

                      كان دوستويفسكي يقول: الدولة يجب ان تصبح كنيسة. والمعنى عنده أن تقلّ القوة الإجبارية لحساب المحبة. انا طبعا أتوق الى ان يصبح اللبنانيون عائلة واحدة مع مراعاة الأنظمة حيث الموالاة والمعارضة وشرطيّ او عسكريّ ومدنيّ ما لا ينفي الانتماء الديني الذي هو بيئة حرارة. لا بد من أنسنة العلاقات بين طبقات الشعب والحكم بلا عشوائية ولا فوضى.

                      في المنطق نفسه، في الطوائف التي تقوم على انتداب مسؤولين روحيين كما في المسيحية او تلك المرتبطة بالعلماء كما في الإسلام، لا بد بين كل المؤمنين من علاقات محبة تشفي كل العلاقات الأخرى.

                      في بلدنا عبيد كثيرون في بعض المجالات، في المال، في السياسة، في  الحياة العائلية، في ارتباط بعض الزعماء والتابعين. هذا لا ينتهي الا اذا أحلّ الله نعمته على هذا الشعب وتستضيف القلوب طوعا ربها. شرف انسكاب الله في النفس ان يؤمن الانسان انه قائم بالرضاء الإلهي وانه مستقل عن كل انسان آخر. أخذْنا استقلال البلد ولم نأخذ بالقدر الكافي استقلال الأشخاص لأننا عبَدنا الأقوياء والقاهرين. من هذه المقهورية يجب ان نسير الى الخلق الثاني الذي يتم في روحنا المتجددة ابدا والمحبة ابدا. اذ ذاك ينتشر الإبداع الكوني ويضمّنا الملكوت الى عمقه.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الى نواب الموالاة والمعارضة / السبت ٣ تشرين الثاني ٢٠٠٧

هذه الزاوية ليست سياسية بالمعنى التقني والدقيق. تطوف حول الوطني احيانا او تخترقه. ولكني فيما نقترب من المواعيد التي قد يحف بها الخطر أحببت ان أخاطبكم ببساطة وبما لي من محبة وتقدير لبعض منكم وقلت البعض لكوني لا أعرف الأكثرين.

                      انا الذي أحسّ بقوّة الله فيّ اعترف اني خائف بهذا الخوف الذي يعتري البلد جميعا المرمي على المجهول وانتم بعض من مسؤولياتكم ان تنقلوا شعبنا من الجهل الى المعرفة ومن الخلل الى الاستقامة. وهذا الاضطراب ضارب الجميع وعلى الرغم من تدنّي مستوى المعيشة الذي أخذ يفتك بغالبية الناس الا ان القوم يخشون اولا ان يتدهور لبنان كله بحيث يتساوى في المخافة الميسور والمحروم.

                      البلد اليوم محوره انتخاب الرئيس قبل ان تتوالى المواعد الأخرى وتنحل العقد المستعصية. هناك من يريد إرجاء الموعد ليتغير تركيب المواعيد حالما بنصر يؤمنه تقديم موعد على موعد وهناك من يريد التتابع المقرر في نصوصنا.

                      انكم لقد ابتدعتم الديموقراطية الوفاقية وهاتان كلمتان متنافرتان في علم الدستور. الديموقراطية قائمة على الخلاف والاختلاف والتنافس الذي ينتهي الى قرار يذعن له المجلس لأن المجلس يؤلفه القانون ولا تؤلّفه اللحمة المرادفة للتوافق. الوفاق نتيجة النقاش ولا يبدأ به. في القبائل شيخ القبيلة يلاحظ الوفاق ويعلنه. وعند انتقال القبائل البريطانية الى مفهوم الأمة اجتمع البريطانيون في مجلس تباينت فيه ااراء لاحظوا انك في هذه الدنيا لست على حق ناصع الهوية قائم على مواجهات فكر ابتغاء للوصول الى تشريع وموقف من الحكومة ليسا هما الحق المطلق والكلام البشري فيه خصومة لأن كل عقل له إقباله على هذا المشروع او ذاك ولا يدعي احد انه يحمل تفويضا من السماء.

                      والمتعاهَد عليه ان النواب مستقيمون ومحبون للبلد ونحن العاديين نفحص مزاعمهم ونقبلهم او نرفضهم بعد انتهاء ولايتهم بناءً على اقتراب ما نراه قريبا من الحق او القانون الوضعي اذ ليس في هذه الدنيا اذا اختلفت أديانها الا القانون الوضعي. على مستوى القانون الوضعي او الدستوري كل توافق كامل يعني ان أمورنا تجري في الدهاليز .

#           #

#

                      نحن أمام أطروحتين متعارضتين بصورة كاملة من الناحية النظرية او القانونية. هل ننتخب رئيسًا حسب الأصول الدستورية ثم هو يأتي بحكومة تضع مشروعا لقانون انتخاب المجلس ام «نشقلب» هذا الترتيب فنأتي بحكومة انتقالية تفترض ان الحكومة الحاضرة تستقيل وتشرف الحكومة الجديدة على انتخابات جديدة تأتي برئيس.

                      تعقيد الأطروحة الثانية ان عندنا حكومة صفها كما تشاء من حيث شرعيّتها وميثاقها ولكنها لا تذهب الا اذا ارادت ويصفها رئيس الجمهورية انها غير شرعية وغير دستورية وغير ميثاقية. هي اذًا غير موجودة بنظر القانون. فكيف يطرد فخامته هيئة غير موجودة، كيف يطرد العدم؟

#              #

#

                      أما وقد خرجنا على كل معقولية قانونية لا بد من ان يُدعى النواب الى المجلس في الموعد المعين. وبعد دخولهم يُغلق الباب من الداخل حسب قول الإنجيل: »اضطررهم على الدخول«. وجلوسهم على مقاعدهم شرف لهم ورجاء لنا حتى لا نموت في انفجار معنوي. لا يسوغ إطلاقًا، على الصعيد الأدبي، أن يتخلّف مسؤول عن محفله. في كنيستنا المطران الذي يغيب عن المجمع المقدس بلا عذر يُطلب الى المحاكمة. انت لا تستطيع الغياب لكونك تهرب من موقف قررته في تحزبك. انت تحمل حزبيّتك الى الندوة البرلمانية وتطرحها. هذا هو الفرق بين الحضر والبداوة حسب تقسيم الناس عند ابن خلدون.

                      سأماشيكم في ما يبدو فيكم بداوة. احيانا افهم انكم دخلتم التسويات واحيانا افهم انكم متشددون. البلد مهزوز منذ ان أوجده الانتداب. تسيرون حسب إيقاعه، لا مانع. في هذا السياق قرأت منذ أيام ان حزب الله أسلم أمره للبطريركية المارونية اذ نسب اليه انه يتبنى من يتفق عليه المسيحيون وفي اللسان اللبناني هذا يعني الموارنة. انا أرفض في داخل نفسي ان تتنحّى اية طائفة عن الإسهام الفعلي في اختيار الرئيس، اي من الرؤساء الثلاثة. كيف مَن جاهد في سبيل إلغاء الطائفية يتكلّم لغة طائفيّة؟ غير اني افهم ان المآزق تقودك الى تسوية هي الخيار الوحيد في ما سماه العرب حلف القبائل.

                      غير ان هذا الموقف الشيعي يفترض ان يقبله الموارنة. ولست أعلم من مراقبتي وسائل الإعلام المرئي لماذا يستصغر الموارنة أنفسهم ويقاربون اليأس في حديثهم عن أنفسهم. أفهم ان ثمة تغيرات ديموغرافية حصلت ولكني لا أفهم ان يتراجع الموارنة عن ديناميّتهم. لا مانع ان يقلدوا من ارتفع من الطوائف.

                      في هذه العاصفة واللاحضارة فلنحتكم الى البطريرك صفير اذا قبل الاحتكام اليه. ان نوعا من الانكفاء عن السياسة او الاستعفاف عند صاحب الغبطة مؤذ للبلد. واذا خشي نيافته ان يعيّن واحدا خوفا من «الفوضى الخلاقة» فليسمِّ اثنين او ثلاثة او اكثر بقليل حتى لا ينقسم الزعماء بعضهم على بعض وليعتبر هذا في العمل السياسي غير المنصوص عنه ترشيحا ويكون هذا تفويضًا من الأمة في هذا الذي نعيشه اي فيديرالية الطوائف الى ان يكتمل انتظامنا الديموقراطي.

                      هنا تنتهي السياسة ويلزمنا الرب بحيث يذكر غبطته الكبار الذين سمتهم الأخبار أنهم اولاده ويدعوهم بقوة محبته ورعايته ان يبقوا أخوة. متى يصير الموارنة أخوة؟ يقول لهم هذا ليس في البهو ولكن أمام المذبح ويتقبل وعدهم في حضرة الرب ان يكونوا متحابين ومتضامنين اذا وصلنا الى وضع «لتفصيل كلمة الحق باستقامة» (بولس الرسول).

                      ليس من صلب الديموقراطية ان يتفق الموارنة. لماذا يقولون عند بدء الصيام الكبير في احتفال كنسي انهم تراب والى التراب هم عائدون ولا يقبلون في السياسة انهم كذلك. الا يقدر البطريرك ان يقول لهم: انتم لستم بشيء بلا نعمة الله؟ يجب الا تضمحل الكنيسة المارونية بسبب من اختلاف زعمائها المدنيين. هي أهم من الكتلة المارونية السياسية فهذه زائلة. والمسيح الساكن كنيسته ومنها الجماعة المارونية باقٍ الى الأبد. ولكنه لن يبقى في لبنان اذا المسيحيون لم يريدوا ان يصيروا جسده. اذا تجلت عند الموارنة هذه الرؤية يكونون هم ايضا معنا وجه المسيح.

                      واذا تعذّر ذلك لرفض المرشحين الموارنة المثول امام مذبح الرب ويكون البطريق غسل يديه بالنقاوة كما تقول المزامير عند ذاك يجتمع كل النواب وهذا واجبهم الوجداني. ويمثل كل وجدان من وجداناتهم في حضرة الرب ولا حاجة عند ذاك الى نقاش حول النصاب. انهم في القاعة ويكون الرئيس بري قد آقفل الباب من الداخل. أريد أن اعتقد ان احدا من المجتمعين يحب لبنان في حريته ولأجل سلامته فيتزكى امام الله وامام التاريخ.

Continue reading