Category

2012

2012, جريدة النهار, مقالات

الأيام القادمة / السبت 29 كانون الأول 2012

تنصرم السنة بعد يومين ونرجو ان تزول بهذا الأزمنة الرديئة وان تطل علينا أوقات مباركة نرى فيها لكل الناس العدل والسلام تفتتحها النعمة حتى نضع جهدنا في إطار النعمة لتجيء قلوبنا من قلب الله وهذا حاصل في الكيانات القادرة على رؤية الكيان الإلهي.

لا تنفع الحسرة على ما فقدناه من خيرات في السنة التي فاتت. انّما تقدّسنا فيها كل منا بقدر إخلاصه. والقداسة هي الخير الوحيد الذي يبقى من الزمان الفائت لأنها هي نفحة الرجاء وبه نسير الى المحبة. الزمان يطوي السيئات اذا ما تبنا ويترك لنا الصالحات التي نزلت عليه. فاذا ما كرهنا السيئات تزول واذا تذكرنا الصالحات تبقى في الآتيات من الأيام والله يخزن في قلوبنا ما أحبت ويمحو منها ما آذت نفسها به.

ان ذاكرة الخيرات تهيئنا لحياة جديدة. اما الخطايا فلا يجوز ان نذكرها خوف عودتها فاذا ما سكن الروح الإلهي فينا يطرد المعاصي ويربينا على ذوق الجودة الإلهية. والذوق والجودة يتآلفان في نفوس تتجدد في اشتياق وجه الله. وليس من توليف في النفس بين الخطايا والإحسان الإلهي الى ان يهبنا الرب من بعد موت حياة جديدة.

في جو هذا التأمل توق الجديد النازل علينا من فوق وليس من جديد سواه وهذه هي الجدّة انك لا ترث العتيق الذي ليس من الله ولكن من العالم البالي. انت وريث الله والا كنت من الفانين والجديد لا يعني الحاضر ولكن المنسكب مما فاض عن الحياة الإلهية. القصة ليست قصة زمان انقضى او زمان جاء. انها قصة اللازمان فينا اي قصة انسياقنا الى الأبديات الحالة علينا في أزمنتنا ولكنها ليست من أزمنتنا.

على هذا المعيار تعيش ما جرى لك او معك من العام المنصرم. كان فيه الجديد الذي ألبسه الله إياك وفيه العتيق الذي حلّ فيه بالخطايا. الانسان تارة مرقع وطورا جديد. والتجديد الأخير يبدأ بالموت وتتم الجدّة اذا انقرض الموت عند انصباب الرضاء الإلهي اذ يساكننا الله فيه.

على هذا الضوء تحاكم نفسك على ما كانت عليه في العام الذي انصرم. هذا لا يعني انك تدينها. ربك وحده يدينك كل يوم واذا كنت من التائبين يكشف لك دينونته قبل ان تموت لأنه يريدك ان تموت حسنا.

#   #

#

لا بد ان تقع اذا واجهت كل ما يؤتيك زمانك اذ يعسر عليك ان تتحمّل كل ما يواجهك من صعاب النفس. ولكن اذا كنت انسان الله ينتشلك هو بسبب حنانه وقد جئت  من حنان لما ولدتك امك وذقت الكثير منه بعد سقطات وتجلى الله بين الرفعة والرفعة.

الرياضة التي يطلبها الآن ربك منك ان تفيد دائما من الحسنات التي ذقت فهذا الذوق يربيك. ومعنى هذا في العمق ان تبني على الحسنات هذه لتشكر الرب اولا وتعاهده ثانيا على الاستمرار بها من اجل صدقك في الاخلاص. هكذا فقط تعرف الجدة في الأزمنة الآتية اليك. ولكن لا تنسَ ان الزمان بحد نفسه لا يخلق الجدّة. ربك وحده ينعم عليك بها فتعرف انه هو وحده قوّة وجودك وارتقائك الى وجهه.

ولكن اذهب الى ربك مع الأحبة. خدمتك لهم في ان تحبهم حتى يشكروا الله اذا عرفوا انهم قائمون في محبته لهم ومحبتك لهم. لا تستطيع ان تصل الى الرحمان ما لم تكشف لأصدقائك رحمانيته فيصيرون له. انت لا تستطيع ان تسير اليه وحدك. فاذا اصطحبتهم واصطحبوك تعرفون معا انكم سائرون اليه. ان وجه الله لا يمكنك ان تراه ما لم ترَه على وجه الإخوة. ربما كان من قبلت ان تراه يكشف لك وجه الرب.

هذه مرافقة لك ولهم وليس فيها زمان ولو جرت في الأزمنة. انها الأبدية فيكم ضمن الزمان الرديء او الزمان الطيب. الله يبيّن لك انه هو وحده الجودة فيما يأتي إليك كل وقت من اوقاتك. ليس التاريخ هو المهم. انه لا شيء ان لم يحل الله فيه، ان لم يصر فيك زمان الله.

هذا يعني ان الأبدية ليست آتية عليك من المستقبل. ان هي نزلت على حاضرك والآتي يصيران كلاهما مقام الله فيك. الأبدية النازلة على الزمان تجعله زمان الله. لذلك كان الله هو الجدّة.

#   #

#

واذا كان الأمر فينا هكذا يتطلّب منك هذا ان تملأ، السنة القادمة، نفسك من الحضور الإلهي ليكون لها معنى. اما حشو الأيام والأسابيع والأشهر فيها بلا حضور إلهي فيجعلها بلا مضمون والمضمون هو الله نفسه.

اقول تملأ نفسك ونفوس من تحب. هلى هذا انت قادر والآخرون تدعوهم بحلاوة نفسك الى ان يطلّوا على الله فيطلّ عليهم. انت تشغل الأيام الآتية اليك. انك تجعلها اليك ان طلبت لها الرحمة العظمى.

ليس شغلك ان تهتم باليوم. كل يوم هو للرب اذا ظهر فيه للكنيسة او للإخوة الأبرار. شغلك ان تطلب اليه ان يحضر في كل ايامك وان تجعل كل وقت عندك افضل مما سبقه لأنك ان تجددت انت يمنحك ربك ان تجدد الآخرين. حياة الرب فقط تطهرك من وطأة الأزمنة السيئة عليك فتصبح خليقة جديدة فيمسح الله من عينيك كل دمعة.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

عطاء الأبرار / السبت 22 كانون الأول 2012

الكنيسة الأرثوذكسية تبدو أحيانًا ضعيفة في بشريتها واذ بها تنهض بافتقاد إلهي حسب قول الرب لها: «واخطبك لنفسي الى الأبد أخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم» (هوشع 2: 19).

الموت الروحي رفيقنا كجماعة. يشدنا الى خارج المسيح حتى يدعو من اختارهم ليطلقهم في التوثب. ويحيينا بما يهبنا من افتقاده. المسيحيون بشر وتعتريهم ضعفات كل البشر فيما هم يشتهون ان يجددهم انسكاب الله فيهم. الكنيسة المجيدة الوضاءة وعد وبعض تحقيق يدوم قليلا او كثيرا. ان المجد لا يسطع كاملا فينا ما دمنا في هذا الجسد والخطيئة ساكنة فينا الى ان تكف في الموت ونذوق به وعود المجد للتائبين.

الكنيسة مجيدة بالوعد وهذه حقيقة أخروية. فالخطيئة معششة في النفس التي يسكن فيها نداء المجد وطاقتنا على ذوق الملك الآتي. معنى الكلام اننا نشتهي المجد وهذا الاشتهاء بعض مجد ولكن كماله محقق في اليوم الأخير.

انت تعيش في كنيسة هشة بسبب من سقوطنا وعظيمة بسبب من النعمة وانت تتوق الى القداسة فتعطاها على الرجاء ولا تكمل فيك. ليس من نصر في هذه الدنيا ولكن ليس من يأس لأن الخطيئة لا تقضم نفسك بكاملها لأنها قائمة بالوعود الإلهية والوعد الإلهي.

ما يصح على كل الإخوة في رؤية واقعهم النفسي هذا لا يمنع ان المؤمنين في السباق على دروب الخلاص وان تفاوتوا قدرا وجهدا. وليس من مؤمن في السماء وفق العقيدة الأرثوذكسية الا مريم القائمة من الموت والشهداء. اما القديسون الآخرون فهم قائمون مثل أهل الأرض على الرجاء.

هذا الوصف ليس تراضيا مع التراضي. ولكنه حث على رؤية الجمال الروحي على بعض من الوجوه. اذا تكلمنا عن القديسين فليس لننسب اليهم القيام في المجد. هذا لمريم فقط مع الذين بذلوا دماءهم في الشهادة.

كل ما أعطانا الله اعطانا اياه بالوعد والوعد بعض تحقيق. لهذا كانت المسيرة باقية الى ان ينقلنا الرب الى رحمته من بعد موت.

#   #

#

ومسيرة بعض النفوس وثابة الى درجة انك تراها وكأنها في السماء. الملكوت آت مع المسيح الآتي ابدا وهو في بعض من بشر راسخ بحيث تحس انهم حضرة المسيح فأنت تدركه إدراكا مباشرا في الكلمة وكثيرا ما تلتقطه على وجوه استنارت ولا تستطيع ان تباعد في الرؤية بينها وبين وجه الإله.

البشرية تعيش بهؤلاء وبهم يشهد الله لنفسه. بفضل هؤلاء لا ينحصر الرب في سمائه. ينزل على الأرض فتغدو هذه سماء اخرى يسكن فيها البر.

نفسك تطلب هؤلاء الناس لتنتعش. لا يحيا امرؤ وحده ولكنه يحيا في شراكة الحب. هذه تسمى في المسيحية كنيسة. هذه ليس شيء مثلها لأنها سطوع التجسد الإلهي الذي يزورنا بعد ايام معدودة. كل المسيحية قولها ان الانسان بات مسكن الله. فاذا رأينا من كانت نفسه عظيمة البهاء نكون قد رأينا مجد الله على الأرض. ولما صُلب المبارك بدا الله آتيا الينا بدمه فأصعدنا بهذا الانسكاب الى السماء.

الى هذا الضياء دعيت الانسانية كلها. غير ان هذا لا يتحقق فيها كلها. النور يختار لنفسه مواضع مميزة. انت لا تحدد للرب أماكن حضوره. هو ينتقيها كما يشاء. وعليك انت ان تفتش عن أماكنه في البشر.

هناك من نستطيع ان نعرفهم بجمالاتهم وان نغض النظر عن نقائصهم او الا نراها لكوننا ابصرنا الرب يتراءى فيهم اي في النهاية يقر فيهم. المخلّصون مقار الله. كيف يستمر التجسد بلا رؤيتنا اياه في الطيبين الذين يجودون علينا بحلاوتهم والدماثة والشفافية. ليس التجسد معطى محدودا الى كل مدى، انه لأفراد جعلوا الله نصيبهم وانت لا تجد ربّك فقط ان سعيت اليه. هذا طريق. ولكنك تجده عند من عاشره بالطاعة اي بالزهد بالأنا واستقبال الرب في بذل ذاتك. ليس الله في الآخر بانغلاقه عنك. هو في الآخر وفيك اذا استطعتما ان تتلاقيا لتتشاركا. الله في هذا النوع من البشر.

#   #

#

تتطلّب الحياة الروحية ان يلتقي الروحانيون في المدى المنظور. لا ينبغي ان يكتفي الروحاني بذاته. اجل هذا يؤمّن إشعاعا ما ولكن اذا رمت ضوءًا كثيرا لا بدّ ان تتكاتف والأبرار. تكتل الصالحين يعطيهم فعالية ناتجة من مشاركتهم. هناك تراص يساعد على الفاعلية الروحية. والتراص يقوي الرسالة كثيرا.

لست من أنصار التكتلات في الحياة الروحية. ولكن اجتماع الأبرار يمد بعطائهم ويكثر العطاء. صح ان الأبرار ليسوا حزبا ولا يتحزبون ولكن التلاقي بينهم موقع من مواقع الله. الأشرار كثيرون وفاعلون على طريقهم. يصدمهم الأبرار في فهمهم وعمقهم وصدقهم واذا تجمّع الصالحون تقوى شهادتهم.

والأشرار لا تبيدهم الا الشهادة وعدد الأشرار لا يخيف. واحد يبيد فعلهم إبادة كاملة. لذلك لا بدّ للأنقياء ان يتعاونوا ليس فقط بنقائهم ولكن بثقافتهم وصمودهم واجتماع بعضهم الى بعض لأن هذا الاجتماع حضور الله في العالم.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

البطريرك إغناطيوس / السبت 15 كانون الأول 2012

الكبار قلّة. واحد منهم بطريرك الروم الأرثوذكس إغناطيوس الرابع ذهب عنّا إلى اللّطف الإلهي. شعرت لما ووري الثرى انه يقر في ملكوت الآب. كنا نشتاق بقاءه بيننا. إلى اللامدى، إلى الإقامة في سكينة ربه وافتقادنا اياه.

اذا ذكرت كاهنا ترى نفسك مرفوعا إلى تقواه لتسكنك وإلى ما حققه بهذه التقوى في أعماق من رعاهم. هذا ما ينتظره الرب ومحبوه من الراعي. وفي هذا أعطى من نذكر ذاته إلى كل الناس أكانوا من كنيسته أو من غير كنيسته أو من أهل العالم.

أعطى إلى العقل ما أخذه بالعقل وبه التمع ويزين لي انه في هذا كان الأقوى. قلت ما قلته هنا في أسقف كانت له إطلالة عظيمة على الدنيا. في هذا الجانب يذكرني بالروحانيين القدامى الذين لم يفصلوا بين ما استلهموه الله وما أبدعته أذهانهم فأعطوا مما نزل عليهم.

كان السيّد إغناطيوس الرابع يجمع بين الحكمتين الإلهية والبشرية والبشرة ركيزة فعلية للإلهيات التي تنزل علينا. اظن ان أهميّة هذا الراحل الكبير تكمن في انه قدر ان يلج باب المعرفة الإنسانية ليوحي للمشككين انهم لا يحتكرون الذهن الحر الصافي وان أهل الايمان يملكونه أيضا.

بفضل هذه المسيرة كما أراها لا يستطيع الخارجون عن الإيمان ان يروا الإدراك حكرا عليهم. من حيث الفهم ليس الخارجون عن الايمان اعظم ذكاء من أهل الإيمان. ان البطريرك إغناطيوس في تحركه الفكري ثبت هذا.

#   #

#

لقد استطاع هذا السيد الكبير ان يبيّن ان العقل الصافي لا ينفصل عن البساطة. هناك بساطة انجيلية أو عيسوية كانت تلتحم عنده مع الذكاء. اذا اردت ان أكون حادا أقول انه حافظ على اتّضاع القرية وعلى فذلكة الإنسان الأكاديمي. أحيانا كانت تصبح بساطته مذهلة وتتساءل امامها كيف يجمع هذا الرجل المفرط في الذكاء بين العقل المتقد وتعبير يشبه أحيانا كلام الأطفال. ثم تتساءل عن طبيعة تقواه أو على لونها فتراه أحيانا شفاف اللغة الدينية وعالي التفلسف. واذا اردت ان تصنف طبيعة ذهنه تقول انه نشأ على المنهاج الفلسفي دون ان يهمل بسيط الكلام.

يخفي البساطة بأسلوب تعبيري يحتجب وراءه احتجابا اظن انه كان يأتيه من حياء قديم موروث من مناهج النسك.

في هذه البيئة كان يؤلمه الذين ليس عندهم لهب ولو كان يصبر كثيرا. جاءه الصبر من معاناة طويلة في أوساطنا الدينية، من رؤيته لضعفاتنا ومنها ان الكنيسة لم تصل بعد إلى مرتجاها ان تكون عروس المسيح. كان يرى الوهن عندنا ومع ذلك كان في آن »رجل أوجاع« كما قال الكتاب وانسان الرجاء الكبير.

ربما بسبب غير المحقق والتماسا للمرجو صار رجل المؤسسات. هل اعتقد ان المؤسسة هي الثبات، أو الحلم المحقق؟ اظن هذا. كان هذا تعبيرا عن الجانب البراغماتي في طبعه. ما جعله يرجح التطبيق على النظري البحت.

#   #

#

كنت ترى هذا في توليه البلمند وكل مدى تربوي في كنيستنا واذا اردت ايضاح شخصيته ايضاحا اكبر اقول انه كان مربيا في كل المجالات التي تعاطاها في التعليم وفي معالجته الشأن الرعائي في الكنيسة. بات يخشى ان نستغرق في النظريات الكبيرة ولا نصل إلى المعالجة الحقيقية لمشاكل معهد اللاهوت من جهة ولمشاكل الكنيسة من جهة. في الحالتين كانت الرعاية تطغى عنده على الذهنية الأكاديمية. المهم في رأيه الخلاص والنتائج العملية لكل ما نقوله أو نفكر به.

المؤكد ان الرعاية تعني الشدة وليس فيها تحير وكان هذا باديا في كل تحرّك له. والرعاية تنطلق من القلب إلى الذهن.

من هنا ان البطريرك الراحل كان يشرف على قلبه من ذهنه. هذا يجعل الكاهن أو الأسقف المفكر في توتر بين قناعاته النظرية وضرورة التطبيق أو بين الحقيقة ومعاملة الناس. كيف تقود بالنصوص الدينية شعبا قليل الاطلاع عليها؟ كيف تجعل رعيتك في الوحدة وفي الحقيقة بآن؟ وبعبارة اخرى كيف، معلما، تملي على الناس العقيدة وراعيا ترسخها في عقولهم على قدر قوتها وتهيئها لاقتبال الحق.

في جانب من جوانب إحساسه أظن انه لم يخرج من بساطة العيش. هو ما كان يرى تصادما بينها وبين الثقافة العليا. يذهلني فيه هذا الجمع بين الفكر البسيط والفكر المعقّد. كنت تراه شخصية غنية بجمع الأضداد إلى حال واحد كما نقول في أيام الصيام الكبير.

كان يريد ان يكون عقلانيا وحساسا في آن. العقل والشعور يمتزجان عندنا في العبادات وهذه كان يتقنها. ربما تركزت ديانته على ما فيها من فكر ولو عرف بساطة المسيح وهنا أصرح ان الرتب ما كانت تغريه وما كان يتقبلها ليعلو بها. الكنيسة الأرثوذكسية في كل العالم تحب صورة الشماس المثقف الذي لا يتوق إلى المراتب. يدعوك اليها الرؤساء للحاجة وتضطر إلى الطاعة. تصير بطريكا أحيانا ويبقى لك قلب شماس يؤثر أداء الترتيل وبهجة العبادة. الأرثوذكسيون قداس والباقي يعطى لهم كزيادة.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

قداسة أم قديسون؟ / السبت 8 كانون الأول 2012

«قدوس واحد، رب واحد، يسوع المسيح». نأخذ من هذا ان القداسة اذا نُسبت الى انسان نسبية قليلا او كثيرا ولا يمكن ان تكون كاملة في مخلوق. القديسون المطوبون انفسهم رأينا عندهم إشعاعات إلهية ومواهب وإطلالات على البر او برّا كبيرا ولكن لم نر فيهم برا مطلقا. كان لهم في دنياهم مقدار من القربى الى الله كبير. فإذا خاطبناهم في صلاتنا كما ترى الكنائس القديمة فهذا لشعورنا انهم يشاركوننا توجهنا الي الله وتوبتنا اليه. ولكن اذا سمينا عظماءنا مسحاء فهذا على سبيل رؤيتنا اليهم مقربين ومجالسين إياه بقدر ما فيهم من النعمة والحق.

فإذا سميناهم وسطاء لا ننسى ان «الوسيط الوحيد بين الله والناس» (1تيموثاوس2: 5) هو السيد المبارك الذي جعل في نفسه اللاهوت والناسوت وان من سميناهم قديسين يتوسطون من ضمن الوساطة الوحيدة التي ليسوع المسيح.

لذلك لا مكانة إطلاقا لهذا القول الشعبي المغلوط اننا نتوسط البقديسين لكونهم بشرا أقرب الينا من السيد فمن رأى الى المسيح وجد عنده الطبيعة البشرية الكاملة في طهارتها.

الى هذا يدلك الباحثون على الضعف الذي كان عليه على الأرض هذا او ذاك من الذين نستشفعهم. وحدهم الشهداء مقبولون في المجد الكامل. هم لا يقيمون في الغبطة الكاملة قبل القيامة العامة والدينونة وان سطع فيهم نور فهذا نورالثالوث. ليس لمخلوق نور من ذاته وانت لا تطلب من انسان سماوي نعمة من عنده. كل نعمة تحل في انسان أبقي في حدود جسده ام انتقل نزلت عليه. انه اقتبسها من إلهه اذا كان ربه قد استبقاه على الأرض ام نقله اليه.

لذلك لما اختلف بعض من المسيحين في أمر بعض من القديسين المحبوبين اليهم وفاضلوا بين باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس اللاهوتي أقامت الكنيسة عيد الثلاثة الأقمار في يوم واحد لتوحي لهم ان تقييم القديسين امر احتفظ به الله لنفسه وان هذا يظهر فقط في اليوم الأخير.

#   #

#

هذا لا يمنع الباحثين ان يتبينوا جوانب البر المختلفة عند السماويين كما لا ينفع احدا ان يقترب بالمعرفة من هذا اكثر من اقترابه من ذاك. هذه أذواق روحية مسموح بها اما قول بعض الناس ان من اهل السماء من اختص بهذا النوع من العطف او ذاك او يلجأ اليه في هذا الظرف او ذاك فهذا لم يكشفه الله لأحد.

لا ينفعك في شيء ان تقارن بين القديسين. ما ينفعك كثيرا ان تتشبه بهم وان تعرفهم. المصيبة اننا نعرف القليل او لا نسعى الى المعرفة. في هذا الباب لفتني ان الكثيرين عندنا قريبون عاطفيا من ايليا النبي. يستشفعونه كثيرا ويبنون الكنائس على اسمه ويخاطبونه بالأدعية اذا مرض اولادهم. ويقيني انهم لا يعرفون غير وجاهته عند الرب. ولكن من من المؤمنين العاديين يعرف انه من العهد القديم؟ من يعرف شيئا يسيرا عن سيرته وعن مخاصمته للملك آخاب وللملكة إيزابيل؟ من يتقدس بهذه المعرفة؟ تصدمني هذه الديانة الشعبية الفارغة من المضمون.

لست أدين ديانة احد ضمن استقامة الرأي التي ينتمي اليها نظريا هذا المؤمن او ذاك ولكن يصدمني ان موقف الكثيرين من القديسين لا علاقة له أحيانًا باستقامة الفكر والعقيدة مما يوحي ان هناك كنيسة شعبية قائمة على خيال الناس ولا علاقة لها بالكنيسة الحقيقية التي أسسها يسوع المسيح.

ويحزنني على صعيد الرعاية اننا نعرف هذه الانحرافات في شعبنا ويقول بعض الأعلين: «اتركوا الشعب على إيمانه». هذا كلام مرفوض كليا لأن ما وصفناه آيمانًا ليس بإيمان. انه الخرافة عينها ونحن علينا ان نضرب الخرافات كما ضرب الأقدمون الأصنام. الصنم كثيرا ما كان في العقل والنفس وانت لا يحق لك ان تحافظ في الكنيسة على عبدة الأصنام.

#   #

#

ليست الكنيسة طائفة البشر الذي يسمون انفسهم مسيحيين. انها مجموعة الذي استقام رأيهم فقالوا بكلام الله كما صدر عنه وكما فسره أكابر الإيمان واللاهوت عندنا. انت تؤمن بالوحي فقط واذا آمنت ترجو وتحب.

انت تتوق الى القداسة التي هي صفة الله الكاملة وانت وصحبك سماكم الله آلهة وقال: «كونوا قديسين كما انا قدوس». انت وان وطئت قدماك هذه الأرض جالس في السماويات اذا صار عقلك سماويا. الله يصفك في سجل الحياة انسانا مألوها وانسانا ساعيا. لعل القداسة سعي الى القداسة.

انت تبتغي ان تكون رفيق المسيح في كمال انسانيته. لا ترتضي ان تصبو الى ما كان أقل من المسيح لأن ما كان اقل منه هو من العالم وأنت تجاوزت العالم لتسكن السماء. انه هو ردم الهوة التي أقامتها الخطيئة بين هذا العالم والعالم الآخر. يدفعك هذا الى ان تنتمي منذ الآن بالرجاء الى العالم الآتي فالمسيح أتى ويأتي الآن وسوف يأتي.

انت في كل تحركاته لأنك له. الخطيئة هي ان ترتضي ان تلبس ضعفك بعد ان قال الرسول: «يا جميع الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم».

هذه هي القداسة الا يفرق شيء بين كيانك وثوبك الذي هو المسيح. المسيح يرتضي ان يجعلك انت ثوبه بعد ان قبلت ان يصير هو ثوبك.

القداسة ان ترفض ان تجعل لنفسك حيزا غير المسيح. ان تقيم فيه هو ان يجعلك اياه. اذ ذاك وجهك وجهه وجسمك جسمه وعيناك عيناه وتبصر بعينيه كل الوجود.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

عناد الله / السبت أول كانون الأول 2012

انت لم تخلق الناس ورماك الرب في أيديهم فانه ما نجاك من الوحوش وهي بطبيعتها كاسرة وانت في غابة ولو اشتهيت ان تعيش مع حملان. ولو شاء ربك ان تحيا في هناء دائم لجعل لك مجتمعا على هواك قائماً على الهوى ولم يفعل وتسربت الخطيئة الى تعاريج دماغك وتفاصيل فكرك وثنايا قلبك وستبقى كذلك لأن البشر لا يتوبون أو التائبون قلة ولهم من معاصيهم منافع لأن الكثيرين منا عبدة مال وعبدة سلطان وقتال وهم لا يؤمنون ذلك الايمان الذي قذفه الله في النفس. لا يؤمنون ولو مارسوا فإن الدنيا أفقهم والآخرة تفرض عليهم تكاليف وتعبا كثيرا وصدامات مع أهل الأولى ولا يتعب أهل الأولى الصدام.

وليس لك أن تخرج من الدنيا ولو رغبت ويريد أهلها أن تلازمها حتى يسيطروا عليك فهم بالسيطرة يسكرون ويجعلون معاشك متعبا جدا ويحاولون كسبك الى ضلالاتهم ليهنأ لهم العيش فيها وهو متنفسهم إذ يحسبون أن الفضيلة مختنقهم ليس أنها لا تجذبهم أحيانا فالفضيلة جذابة كالرذيلة وإذا جذبت الانسان يذوقها ذوقا كثيرا.

أن تسبر غور الخطيئة هو أن تسبر كثافة العتمات وفي العتمة المكثفة تأبى النهوض وقد لا تخامرك فكرة النهوض لأن هذا يعني أن تعيش في النور لئلا تعيش نفسك كما آلت اليه أي وكرا للأفاعي وإذا تآكلت الافاعي أو عضتك الواحدة تلو الاخرى تحسب أن شفاءك يأتي بإعجوبة وتفهم أن غير ذلك تكاثر الذنوب.

والعالم كله تحت الشرير لأن كل ما في العالم «شهوة العين وشهوة الجسد وكبرياء الوجود». الذين استغرقوا فيه، احبوا شهواته، صار مضمونهم. خلاصهم يبدأ إذا استلذوه. يريدون الحياة الجديدة. «ماذا اعمل لأرث الحياة الأبدية؟». احيانا تلمس عند كبار العصاة شوقا الى الحياة الجديدة النازلة من الرب والقادرة أن تجعل الانسان جديداً وكأن الذنوب لم تلمسه او كأنها لم تعشش فيه. الانسان لا يستطيع أن يستخرج من ذاته حياة جديدة. انه ميت. لا يقدر أن يحيي نفسه. يجب أن يحييه آخر. يجب أن يقيمه آخر من بين الاموات. ووسوسة
الشيطان الكبرى أن يقول له: أرجئ هذا فحياتك في أن تكره الحياة الابدية، في الا تشتهيها. انها تكلفك جهدا كبيرا لا لذة فيه تشبه اللذات التي كنت تسبح فيها.

#   #

#

النهوض من الموت الروحي الى حياة مشكلة. بعد أن اسودت صورة الله فينا. من يمحو هذا السواد؟ كيف؟ الكيف أن يعود الله نفسه الى الانسان فيبيد الموت. المسيح قام من بين الاموات لأنه عاد هو نفسه أي حياته التي لا تفنى الى جسده الذائق الموت. هذا اعجوبة. لا يحيا الانسان من جديد الا باعجوبة والاعجوبة تعني تحديدا هذا الشيء الذي لا يأتي منك. الذي ينزل عليك. ولهذا كانت التوبة خلقا جديدا. انت لا تصنع التوبة. تهبط عليك نعمة. تتقبلها وتعترف انها نعمة فإذا ظننت انك فاعلها تموت بكبريائك.

ما تقدر عليه أن تستقبلها. انها هي التي تفتح نفسك لتحل فيها. يحدث فيك خلق جديد. تغدو خليقة جديدة. هذا ما قاله بولس لأنه هو القائل: «بالنعمة انتم مخلَّصون». أنت كنت لا شيء وما أحييت نفسك. الروح القدس هو وحده المحيي.

إذا سقطت في الذنوب مرة أخرى السؤال هو كيف تستنير. لم يوضح الرسول كيف يكون النهوض. اضطرب لهذا اضطراباً كثيرا. خشي الا يبقى لنا سبيل الى الخلاص. ما كان عنده الا ان يلتمس النعمة، الى أن ينادي الروح القدس ليحل من جديد في النفس البشرية. عند بولس حيرة وجودية امام مشكلة النهوض بعد السقطة. لم يكن ليفهم حقيقة كيف يعيش الانسان خارج المسيح. كيف يبقى المسيح عائشا فيك بمعمودية واحدة؟ أين تذهب المعمودية بعد أن سقطت؟ كيف تحيا من جديد في قيامة المخلص؟ هل لك من وجود خارج الاقامة في المسيح؟ أسئلة تعاش في الألم. فإذا كانت لك أعجوبة الخلاص لا يكون لك تفسير للأعجوبة. يبقى لك فقط تلقيها.

#  #

#

الى هذا عندنا تراث من باسكال القائل اركع وصلّ (ان احسست بشعور ديني أم لم تحس). لم اجد كلاما كهذا في تراث الشرق النسكي ولكنه رعائيا مفيد او معقول أو قابل للتجربة. اطلب من المتحير ايمانيا او من كفر بالله ان يرافقك الى الكنيسة. قد يسمع صوتا جديدا او يلمس نعمة نزلت عليه.
بعض الذين كفروا يحدثون من تحول حدث معهم وما كانوا ملتفتين الى الله. في الحقيقة هو الذي يلتفت اليك ويتخذ الوسائل التي تحلو له. تروض على تقبل النعمة. لا يعني هذا انك تأمر الله ان ينزلها عليك ولكن تروض ما استطعت.

آباؤك قالوا ينبغي ان تفهم كل كلمة من كلمات الصلاة. غير ان هذا لا يعني بالضرورة تحس بالكلمات. قلها قد تكون «آمرا» الله أن يأتي اليك. إرم نفسك عليه. إرتمِ في احضانه. ربما لمّك واحتضنك. انه دائما يشعر ببنوتك. دائماً الرب يخترع وسائل لتقترب انت اليه. وإذا رآك من بعيد وكان عارفا أنك ابن ضال ينسى ضلالتك لأنه متأكد أنك ان انضممت الى صدره تسمع نبضات قلبه وتفهم ان قلبه ينبض من اجلك. انه متعطش الى رجوع قلبك.

يحركه بطريقة عجائبية لم يدلك عليها مسبقا. هو دائما صانع العجائب. «عجيب في قديسيه» نقول. عجيب في خطأته أقول. الخطأة هم له وقال هذا بقبوله أن يعلق الخطأة مسيحه على الخشبة. وإذا قبلوا دمه خلاصا يذهب عنهم عنادهم ليحل «عناده» هو أي المحبة.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

محبّة الله ومحبّتنا / السبت 24 تشرين الثاني 2012

الدنيا خيبات ان كنت تتوقّع ان ترد لمحبّتك محبّات. ما طلب الله في كتابه ان تسعى إلى ان يحبّك احد. أمرك أنت ان تحبّ كما أحبّ ابنه حتى الموت. أنت، زارعًا تزرع على الرجاء ولكن ما قال الرب في هذا المجال انك تزرع لنفسك. انه هو الحصاد للخير الذي أنت تعطيه. قد لا يرد احد لك جميلا وليس عليك ان تنتظر ذلك. أنت تتعزّى بما تعطي لا بما تنتظر اذ قد يرد لطاعتك رفض.

أنت تعطي مجانا وترجو ان يرد المعطى له شكرًا لله. لا ينبغي ان يكون سعيك ان يرد لك احد جميلا. أنت تعطي الآخر ليحسّن علاقته بالله. تعطيه لخلاصه وهذا يزيد نصيبك بالخلاص. أنت تنتظر من عطائك خلاصًا لك ولمن أعطيت وهذا يأتيك من مجانية الهبة الإلهيّة التي نزلت عليك وأوحت لك ان تحب.

أنت تفهم من كل هذا انك فقير إلى الله وحده لأن احدا لا يستطيع ان يعطيك الا ما عنده وقد لا يكون عنده الا القليل. ما قاله يسوع الناصري ان المحبّة فيها تبادل. هو تكلّم عن أجر لك في السماء بمعنى انه هو الذي أخذ ما ظننت انك تعطيه بشرا ورأى ربّك انه هو الآخذ.

ان لم تبقَ فقيرا إلى الله تغرق في الخيبات. الناس يعطون، حقيقة، في حالة واحدة اذا أحسّوا انهم معطون ربّهم في ما يعطونك. أنت لست غنيا بحد نفسك. أنت تستغني بالله فتبدد نعمته على الآخرين. مَن وهبك ولم يحسب انه يهب الله أو لم يحسب انه يوزع لك الثروة التي اقتناها من ربّه يصبح مستعبِدك. ليس لأحد شيء ليبدّده. انه مؤتمن على ما استودعه ربّه. الانسان يلتمس غنى ربّه فاذا جاءه يشرك الناس فيه وعلى من قدّم للناس عطايا ان يشعرهم بأنه وكيل الله لتوزيع هباته وان ينقلهم إلى شكر الله حتى اذا شكروه. مَن بذل من ماله أو فكره أو حبه مجرد جسر بين الله ومن افتقدهم. الشعور الوحيد الذي لنا الحق فيه ان نذهب بمن نسكب عليهم حنانا إلى ربّهم الذي يعاد إليه بالشكر ما نقدّمه للناس بسبب من محبّته لهم ولنا.

#   #

#

ما لم نبق فقراء إلى الله لا نستطيع ان نأخذ منه شيئا. لذلك كانت علاقاتنا بالآخرين ترجمة لعلاقتنا بالله.

غير ان ارتباطنا بالله لا نمتحن حقيقته أو صدقه الا اذا ارتبطنا بالبشر. انهم هم وجه الله الينا. فإن ارتضيناهم نكون قد ارتضيناه وان رفضناهم نكون قد رفضناه. لذلك أهل الطقوس ليسوا بالضرورة أهل الله. أجل كل حب الهيا كان أو بشريا يتطلّب تعابير وتعبيرنا لله عن محبّتنا له تلبس تعبيرنا عن محبتنا للناس. عندهم نلتقيه. انهم مذبح عبادتنا الحقيقيّة له. هذا المذبح يقول يوحنا الذهبي الفم أهمّ من المذبح الذي قدّمنا عليه القرابين. الحب هو القربان.

#   #

#

حب البشر للبشر يمكن ان ينعكس فيه حب الله لنا. فاذا ارتقيت أنت على معارج حبك لربّك أمكنك ان تحبّ الناس في صفاء تؤتاه من فوق وفي تجرّد عمّا يمكنك ان تكسبه منهم. اذا صارت مودّتك لهم صورة عن مودّة الله لخلائقه تكون مودّتك لهم غير مختلطة بمنافع لك أو استلذاذ بمشاعرك.

محبة البشر للبشر ان كانت إلهيّة يمكن ان يخامرها تأثّر عاطفي. ليس باطلا ان تطهّرت. والمحبة المبذولة منك إلهيا لإنسان دون ان ترجو منه ما يقابلها كثيرا ما خالطها لهب بشريّ. ليس هذا بمحرم. فاذا احببنا الهيا يمتزج هذا بالبشرة ولا أذى من ذلك. ليس الحب الالهي النفحات فينا لبشر لحميّ الاندفاع فقط. ان التلاقي بين الألوهة فينا واللحم سرّ من أسرار الوجود. علينا ان نحاول ان نجعله على صورة التلاقي بين الألوهة والبشرية في المسيح. التلاحم بيننا وبين الربوبية الكامنة فينا يبقى سرا نتلقاه ولا نفسره. ولكني أيقنت اني أستطيع ان استخدم لفظة التلاحم التي تشير، لغة، إلى لقاء اللحم واللحم. هكذا يكون تداخل الألوهية المتأنسنة فينا والبشرية في ارتقائها إلى هذه الإلهية القابعة فينا.

هذه هي خبرة القديسين التي حاولت في رؤيتي لها من بعيد ان أترجمها لنفسي وللقارئ بلغة البشر. يا ليت ربي يهب كلاّ منّا ان يتلقاها في نفسه كما تريد له النعمة ذلك. مَن حاول يذيقه، بمقدار صدقه، ربه شيئا من ذلك.

في هذا نستقر اذا اردنا ان نفهم. القديسون يستعملون لغة العقل بعد ان رأوا الرؤية. ان العقل الا مجرّد ترجمة لخبرة القديسين الا في المجالات التي تخصّه وحده.

من صار إلى هذه الرؤية لا تحجبها بالضرورة عن أبصاره خطيئاته ولكن ان تكشفت هذه تذهب عنه الرؤية ويعود بشرا من تراب والتراب لا يرى شيئا. والرؤية مسكوبة على من سعى وجاهد نفسه جهادا شرعيا طويلا حتى لا يبقى فيها الا الله أثرا.

هذا المسعى ليس الاعتزال قوته. أنت لا ترى الله الا اذا رأيت الإخوة وضممتهم إلى صدر المسيح ليسمعوا نبضات قلبه والكلمات التي لا يسوغ النطق بها. واذا انضمّ الناس إلى صدره يأخذون إخوتهم إليه حتى يبدأ الملكوت على الأرض ونفرح به معا. اذ ليس الملكوت مرجأ لأن الملكوت هو المَلك وقد جاء ليبشّرنا بأن الله محبّة وان المطلوب ان نقرأ محبّته لنا وان نستمدّها ليقرأ الناس ربّهم اذا انحنى عليهم وأذاقهم حنانه فإنه بهذا يظهر غناه وانحناؤه لنا.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

البغض / السبت 17 تشرين الثاني 2012

«انهم أبغضوني بلا سبب» (مزمور 29: 15) وفي ترجمة حديثة «بحماسة يبغضونني». هل كان صاحب لسان العرب واعيا وعيا عميقا لما عرّفه على انه نقيض الحب. أليس هو أسوأ من ذلك بكثير؟ فإن للحب مراتب او كثافات. اما البغض فهو العداء بالذات بحيث لا تبقى عند المبغض ذرّة واحدة من المحبة.

انه بدءًا، فصل الآخر عن نفسك وعيشك موته فيك ولو كنت لا تريد إماتته الجسديّة خوفا من عواقبها في دنيا الجزاء او لكونك لم توهب شجاعة الإبادة للآخر. ولكن شهوة القتل قائمة فيك. ليس هناك نصف بغض او ربع بغض. هناك ذوق قتل انت خائف من اتمامه. الذات فيك اعني أعمق كيانك نافرة من ذاته ولا تلتقيان في الخيال لأنك في خياله غير موجود. المقولة الداخلية فيك هي محو الآخر.

هناك نفوس مبغضة. لا تتأثر بالمحبة المسكوبة عليها. هناك مطويون على الكراهية ونفوس منفتحة على الحب. هذا سر الإثم كما يقول بولس ولا نعرف كيف انغلق ناس على عتمات نفوسهم ولماذا رحّبوا بالظلام. نلاحظ احيانا ان بعضا تأذّوا من كلام او معاملة ولم يقدروا على تحمّلها. كأن الآخر قتلهم او قرأوا معاملته قتلا فوضعوا في وجوده سلبية رهيبة فهموها انها تلغيهم.

في هذه الحال سبب ولكن المسبب ضخم جدا لا يفهم بخلل نفساني على ما أرى ولكنه يفهم بأهواء كثيرة معششة انفجرت بلا معادلة بين من آذى ومن تأذّى، هناك خروج عن العقل الطبيعي او المألوف للدخول في عواصف لا نفهمها بالتحليل بحيث لا نستطيع ان نلمس صلة بين الضربة التي حدثت وردّة الفعل عليها. عند غياب الصلة بين ما قام به المعتدي وما قام المعتدى عليه لكوننا قد خرجنا عن المألوف من المعقول ودخلنا في عالم الجنون.

نحن في انعدام المحاكمة، في غياب العقل، في الانفعال الكامل، ولذا قال الكتاب: «انهم أبغضوني بلا سبب» وتضخم السبب الى حجم يزيد كثيرا عن سبب انفعالي حتى صحّ قول المزامير «انهم ابغضوني بلا سبب».

#   #   #

ما المسيرة التي توصل الى البغض؟ في هذا يسعفني القديس دوروثيوس الغزاوي وكان ناسكا من غزة في القرن السادس للميلاد. هذا يقول: الضغينة شيء والبغض شيئ آخر ثم السخط واخيرا الكدر. نساكنا كانوا يعرفون الخطيئة في جزئياتها. جاؤوا الى ما يشبه علم النفس من علمهم بالخطيئة.

في العهد القديم الغضب والبغض متلاقيان او متلازمان وكأن الغضب تعبير خارجي للبغض. الغضب يشبه بالنار. يحرق صاحبه وقد يحرق من انصبّ عليه. هناك ايضا حديث عن غضب الله وهذا من باب التشبيه. على هذا هناك رجاء على ان يعبّر الغضب. ما من شك عند الأبرار ان ثمّة إمكانا للتحرّر من الشهوات والبغض في قراءتي شهوة رهيبة لا تضربها الا عاصفة من المحبة تنزل برضاء الرب فقط لأن القلب على طبيعته يقصفه البغض قصفًا شديدا.

كثيرا ما وقع علينا بغض المبغضين من حسدهم بلا كلمة جارحة. فهناك من لا يريدك موهوبا او ناجحا او جميلا او فصيحا او طاهرا او متقدسا. لذلك يصبّ عليك كل المساوئ بعد ان يخترعها اختراعا ليقتلك ادبيا. وكثيرا ما استعمل النميمة لكي يلطّخ سمعتك فيجعلك سارقًا وناهبا او كذوبا ولا تعجب ان قال هذا ولم يكن فيك شيء منه. هناك ناس عندهم رغبة التحطيم وقد لا تنتشر الكذبة انتشارا رهيبا. من يرد الكذب والناس بسطاء او أغبياء وتلصق بك التهمة عشرات من السنين ولا يقطعها احد.

كثرة من الصادقين لا يصدقهم احد لأن الآهون ان يصدّق الكاذبون. احيانا كثيرة انت ذبيح الى الأبد ويراك الله وحده وهو وحده يزكيك، وقد لا يعرف هذا ابدا في هذه الحياة الدنيا. ويجب ان تكون مكتفيا بتزكية الله حتى لا تحزن فتبكي وحدك والرب وحده يمسح كل دمعة عن عينيك.

#   #   #

انت تحمل مبغضك بقوتك الوحيدة التي هي الغفران. لا شيء يؤكّد ان الغفران يشفي العدو ولكن لا حيلة لك فقد كتب: «احبّوا أعداءكم. باركوا لاعينيكم. أحسنوا الى مبغضيكم… لأنكم ان احببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم» (متى 5: 44-46).

رجاؤنا شفاء المبغضين حتى يستقيم العالم. «العالم واقع كلّه تحت الشرور» (1يوحنا 5: 19). هذا لا يقودنا الى اليأس ولكن قد يقودنا الى ألم شديد اذا كنا نحب خلاص الناس.

خلاص العالم سعي من المتقدسين وصلاة لهم لا تنقطع. المحبة في الأخير تنتصر ولكن قد لا نعرف في حياتنا نصرها. الرجاء هو ايضا سعي. ونحن مخلّصون على الرجاء.

لا ينبغي ان تذهب نفوسنا ضدّ الخطأة. لا نكرههم. نكره خطاياهم. ولا نبغض المبغضين. لا نيأس من توبتهم واذا عادوا الى ربّهم لا شيء يفرحنا مثل توبتهم لأنها وحدها تنقذ نفوسهم من شرورها. متى يصبح المبغض قياميا؟

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الجمال / السبت 10 تشرين الثاني 2012

الجمال قائم بذاته وانت تحس به موضوعا خارجا عن عينيك او أذنيك فتلتقطه. يصبح فيك بعد ان كان موضوعا في الكون. لماذا يصبح لك ثم فيك ولا يدركه آخر؟ واذا لم يدركه آخر وكان هذا فيك ممكنا معنى هذا انه كان بينك وبين الموضوع افتراق. لماذا شيء فيك أحدث هذا الافتراق؟ أادراك الجمال محتوم عليك ان كنت سويا واذا اختلفت مع القادرين على تأمّله فبمَ تفسّر هذا الاختلاف؟

اذا اخذت رائعة ليوناردو دافنتشي الجوكوندا يتفق الناس كلّهم على جمالها. قد لا يرون جميعا انها الأجود في مصنوعاته ولكن لم أقرأ أن احدًا رفض اعتبارها تحفة من تحف الدهر. فيها اذًا سطوع يفرض نفسه عليك الا اذا كنت اميا في مجال الفن. بهاؤها يفرض نفسه لأنه قائم فيها ولا مجال للتأويل او التفسير ولا سيما انها ثابتة او غير متحركة بمعنى انها هي التي تأتي اليك وانت تتلقاها وليس لك في ذلك تحيّر او تردد.

هذا يعني ان للجمال الكلاسيكي قواعد استنبطها علماء الجماليات لكونهم شاهدوها في الموضوع الذي تأمّلوه وتحرّكهم العاطفي او الانفعالي بالموضوع كان قليلا وتمسكوا بالأسس التي اتفق عليها اهل الفن او اهل تفسير الفن هذا اذا تبنينا قول ارسطو ان الفن يقلد الطبيعة.

من هذا المنظار اظنّ انه يصح اعتبار ان مثقفي الفن الكلاسيكي والجاهلين به ليسوا بعيدين بعضهم عن بعض في تقديرهم. انهم يقيسون العمل الفني بالطبيعة التي يعرفون وقبولهم بالطابع الجمالي للمنتج يفرض نفسه عليهم. اجل إحساس العارفين أقوى من إحساس غير المتدربين على الرسم وهذا ما يوحي لهم تفسيرا غير وارد عند العامة. هناك درجات من القبول او تفاوت في كثافة الحس ولكن الفنّ الكلاسيكي يفرض نفسه كالطبيعة التي جاء منها.

اما الفن المعاصر لكونه مفلسفا منذ الانطباعيين فليس امامه الناس واحدا. ذلك ان الناس مختلفو الفلسفة وتاليا مختلفو الأذواق. الفن المعاصر وراءه كلام او يترجم كلاما او خيارا فلسفيا.

هذا لا يمنع المختارين ان يخترقوه لاقتناعهم بالفكر الذي جاء به او لقدرتهم على تحسس الطاقات عند الفنان المعاصر او تحسس نفسه الذي يقول هو انها تمخضت بالمنتج الفني، اذا استطعت انت ان تصل الى ما كان في نفس المبدعين اذا ابدعوا يقال انك التقطت الرسالة. هذا لا يعني انك فهمت. فالفن الحديث يستغني عن الإدراك العقلي. يجب ان يدخل الفن اليك دخولا فيه من التلمّس الداخلي، الوجداني ما لا يفرض تماسا عقلانيا.

#   #   #

مناصرو الفن الحديث وذائقوه لا يرون ضرورة ان يتصور بعض الجمال بالعقل او ان يعبر به. لا يقلقهم ان يرسموا قامة بلا رأس. يريدون ان ترى قامة ما التي نعرفها بعيوننا. يريدون ان ينقلوا احساسهم اليك كما تكون في نفوسهم بحيث تتحسس القطعة الفنية كما تستطيع وتخرجها لوحة كما تعرف بلا قاعدة فتأتي القطعة من تحسس غامض عند صانع الشيء فينتقل منه اليك ما ينتقل وليس همّ الفنان ان تكون متفقًا معه بما يمكن تفسيره وهو لا يناقشك بما تحس ولكنه يريدك ان تقبل.

الفن لم يبقَ لغة متفقا على مكوناتها، لغة قابلة للتفسير. المتأمّل فيه يعترف لك انه اقتبل شيئا او لم يتقبل. بعض من الناس مَن يرى ان هذا الفنّ لغة تواصل. هل من تواصل بالإحساس فقط بلا واسطة العقل اي خارجا عن الوضوح؟ يبقى انسجام الألوان الذي هو نوع من الموسيقى ولكن لا موضوع.

المدى الجمالي عند المعاصرين خارج عن المدى الفكري اي عن الكل الانساني المتماسك. قد لا يحس الانسان الحالي بضرورة الترابط بين العقل والشعور ويقبل ان يعيش بتفاعلات عاطفية او غريزيّة لا يشرف عليها الوجدان البشري المطهر.

#   #   #

لقد أخذنا عن افلاطون ان الكيان البشري كما كيان المدينة قائم على الجمال والخير والحق وهذا ثالوث غير قابل للتجزئة. فانهزام العقل امام الجمال هو انهزام الخير الذي ينقينا وانهزام الحق الذي لولاه لما قامت انسانيتنا اذ نكون قد اصبحنا عواصف داخلية تجعلنا في تخبّط داخلي غير قابل للتهدئة.

الجمال مرتبط بالأحاسيس مصدرا وتلقيا، هذا اذا أردنا الا نتحدث عن الجمال الروحي الذي هو في مدى القداسة. هذا يجعل التقاطنا للجمال معرضا للهشاشة او مختلطا بأهوائنا. الجمال عند وصوله الينا بالفهم والحس في حاجة دائما الى تنقية في وجداناتنا حتى لا يخامره عنصر ضدّ الخير او ضدّ الحق. وهذا طبعا دقيق جدا.

بكلام آخر اذا سعينا الى قبول الجمال فينا علينا ان نسعى معه الى دعوة الخير والحق الى قلوبنا فاذا انقسم الثالوث الذي اشرنا اليه وتبعثر الجمال والخير والحق نصبح على غير هدى. بلا التناسق الوجداني بين هذه العناصر الثلاثة يفنى التوازن البشري فينا ونقع في هذه المغالطة الرهيبة القائلة بإمكان فصل الجمال عن الخير والحق.

عبادة الجمال بدعة رهيبة اذا استقل عمّا يلازمه في الوجدان النقي اعني اللصوق بالخير والحقيقة. دون هاتين القوتين فينا يصبح الجمال إبادة للنفس فتصير هذه مقبرة للجمال نفسه.

القيامة من موت النفس هي في الجمع بين الوحدة بين الجمال والحقيقة والخير، هذا هو الثالوث الذي رآه الإغريق قبل ان يسكن الإنجيل قلوب البشر.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

المجانية / السبت 3 تشرين الثاني 2012

«مجانا أخذتم مجانا أعطوا» (متى 10: 8). اذا ارادكم ربكم ان تحبوه فهذه المحبة تتربون بها وتنعمون بها ولا يكسب الله منكم شيئا. هو يبادر بمحبتكم لتفيدوا انتم من استمرارها فيكم، لتصبحوا حبا اي قادرين ابدا على تلقي عطفه فإن حنانه كل شيء. انتم لكم صورة اذا سكن فيكم من حيث انه هو الذي يشكل كلا منكم بشرا سويا.

والرب يعرفكم ابناء له وهو اوجدكم بهذه الصفة وستبقون ابناء لأن ابوته باقية الى الأبد ولا يريد منكم الا ان تحبوا بعضكم بعضا لتنوجدوا بهذا الرباط ويراكم عقدا واحدا آتين من رضائه.

هكذا يعامل الخالق كل مخلوقاته بدءًا من الانسان. يعطي بلا حساب ولا يقدر الانسان ان يرد له شيئا سوى طاعته وتعود على الانسان نفعا له. »بماذا اكافئ الرب عن كل ما اعطاني؟« سؤال طرحه الانسان على نفسه بعد ان عامله الرب برأفاته. ولما أدرك الإنسان بعد السؤال انه لا يستطيع ان يعطي ربه شيئا قال: »كأس الخلاص أقبل وباسم الرب أدعو«. وكأس الخلاص من الرب الى الرب. والدعاء من قلب الإنسان الساكن الله فيه اي ان الرب يخاطب نفسه اذا دعاه الانسان.

واذا قال الكتاب: «الروح يشفع فينا بأنات لا توصف» (رومية 8: 26) معنى ذلك انك اذا خاطبت الروح القدس بصلاتك فإنما هو يخاطب نفسه. بتعبير آخر هو الذي يصلّي فيك ويأخذ ناسوتك الى لاهوته حتى لا يعلق في ناسوتيتك شيء من الفساد. بكلام آخر الرب يعيرك نفسه لتعود نفسك بك اليه فيستريح اليك وتقر فيه. انت لك ان تكون تاجرا في التقوى وهذا ما يقوله الكتاب ولكن الله ليس بتاجر. هو لا يبادلك بشيء. انه يبادلك نفسه. انت لا تسترضي الله بشيء. انك تسترضيه فقط بالايمان اي ترد له ما اعطاك ثم يكرر عطاءه كل يوم وانت تذوقه جديدا لأن ربك دائما جديد بالينبوع الذي فيه وانت، على قدر نعمته، تحس انك أمسيت كائنا جديدا كأنك مخلوق عند فجر كل يوم ، كأنك ترى ربّك محييك صباح مساء لأنه لا يريدك على حس العتاقة ولا يرضاك قابعا في الموت الروحي فيبعثك حيا وكأنك لم تمت في خطيئة فإنه ينساها ولا يسجلها في ذاكرته التي لا تحفظ الا عودتك اليه.

#   #

#

ويريدك ان تبذل نفسك للناس غير طالب منّة ولا شكورا حتى لا تكون تاجرا ان عاملتهم. فاذا كنت فقيرا الى الله فلست فقيرًا الى أحد واذا أعطاك احد شيئا فيكون معطيا مما وهبه الله. لك ان تشكر لكل مخلوق ما أعطاك. ولكن ان شكرته فليس لتعرف نفسك مدينا ولكن ليعرف هو انه مدين للرب. لا تنسَ ان تعيد الناس الى الرب. لا يسوغ ان يحسوا بفضل عليك. هذه تجارة. المهم ان يؤمنوا انهم بنعمة الله أحبوك وخدموك. فاذا عرفوا انهم أحبّة الله يكونون اذا اعطوك عائدين الى ربّهم.

نحن عند وصيته ان احببنا بعضنا بعضا وهذا يربينا. ولكن من نحب اذا احببنا؟ في الحقيقة نريد ان يصبح الآخر إلهيا. اجل نحن نؤلف مجتمعا من الذين يحبون الله. الله يمتد او ينتشر اذا صحت الصورة بمعنى انه يضع حضرته فيّ ويضعها فيك. انه لا ينتقل. انه يسكن حيث يرحب به. هو لا يقتحم، لا يغتصب. هو يتأنسن فيك ويتأنسن بمن اختار. هو خفي فيك ويجعلك تتكلم باسمه. ولكن حذار ان تنسى انك تستعير كلامه الذي يصير كلامك بمعنى واحد وهو ان تطيع. سلوكك البهي هو كلمته. والكلمات التي وضعها ما قامت في كتابه فقط لتقرأها ولكن لتصيرها. هو سيرى في اليوم الأخير اذا صرتها وان لم تفعل تكون بقيت أميا بالمعنى الروحي.

انه يريدنا ان نصير بالمحبة كلمة واحدة وان بدونا بسبب من رؤيتنا اجسادا مختلفة. واذا قلنا اننا أضحينا كلمة واحدة فلنعني اننا بتنا حياة واحدة في سر المشاركة التي تجعل المؤمنين واحدا. هذه الوحدة اذا قامت بيننا ينكشف الله واحدا لنا وانكشافه كذلك يجعلنا انسانية واحدة قائمة بحبه هذا الباذل لنا حبيبه الوحيد.

في هذه الرؤية يصبح العشق الإلهي فينا كيانا اي انه ينزل علينا من هذا الذي احبّنا اولا وجعلنا له. واذا استأثر بنا فلمنفعتنا نحن، لنموّنا به، لسيرنا اليه والأولى ان نقول سيرنا فيه.

نحن لا نصير فقط بنعمته ولكننا نصيرها. احد كبارنا قال اننا نكون بحبه بلا بدء. هذا طبعا سرّ لا كنه له عقليا ولكنك بمحبوبيّتك تدرك كل شيء وتفهم ان النعمة مبثوثة فيك ان انت أطعت حتى ينتهي عقلك كله الى قلبك.

#   #

#

هذه كانت غاية الخلق واذا كان الله لا يحتاج الى خلق العالم والإنسان يكون قد برأك ليفيض حبّه عليك، لتصير كائن حب على صورته وحسب مثاله.

هل بعد هذا لك ان تتصور مجتمع حب؟ طبعا كان هذا هو مبتغاه في الخلق. انت ليس لك مبتغى آخر اذ ليس لك غذاء آخر او صورة بقاء وليس لك مع الآخرين صلة. الصلة انت تقيمها مع الآخرين بقوّة العطاء الذي فيك.

هذا مجتمع القديسين الذين اختطف بعضهم اليه والذين يقيم بعضهم على الأرض في ملكوته. ان الذين اخذهم اليه بعد ان ادركوا هذه الصورة والذين استبقاهم على هذه الأرض بعد ان نحتهم بالنعمة هم الأبناء الذين يؤثرهم والذين لم يدركوا جمال هذه الصورة يرحمهم حتى يفهموا ويصيروا. يصيرون اذا فهموا انه اعطاهم كل جمال فيهم مجانا فيشكرون وهو بأمانته الى نفسه يغدق دوما عليهم العطاء ليحسوا انهم اخذوا مجانا فتعلو قاماتهم اليه حتى يلامسوا عرشه ويظلوا هناك.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

القتل / السبت 27 تشرين الأول 2012

أول خطيئة ارتكبها الإنسان حسب السرد التوراتي انه عصى أمر الله بأكله من شجرة في الفردوس منع من أكل ثمارها. بعد هذا اختبأ من وجه الرب اذ فرّق العصيان بينه وبين إلهه وترسخ في استكباره وصار واحدا مع تراب الأرض. والاستكبار ابادة الإنسان لصورة ربّه فيه.

والخطيئة الثانية قتل قايين لأخيه هابيل. أليس كل قتيل أخا للقاتل. ولما عاتب الرب قايين قائلاً: «أين هابيل أخوك» قال «لا أعلم. أحارس أنا لأخي». تحجب الأخوّة عن القلب المبيد. يبدأ الانفصال أي التشتت عن الآخر. الوحدة كانت في الحياة. انها نازلة على الناس واحدة وتزرع فيهم سر وحدتهم.

أنت لا ترزق الآخر حياة. تلحظها فيه وتدرك ان سرها الأساسي في انها معطاة أي انك تلقيتها من واحد وهو الله الذي فوّض رجلا وامرأة بمدك بها إلى ان تعود إليه وقت تحدد حكمته ذلك. الحياة في الجنس البشري تنتقل انتقالا منذ مئة وخمسين ومليون سنة ليستمر تمجيد الله بنا فاذا اوقفتها عمدا في اخيك البريء تكون قد تنكرت لهذا التمجيد وأقمت نفسك إلها كما فعل آدم.

ثم جاءت الوصية: «لا تقتل» (خروج 20: 13). الحديث عن القتلى في العهد القديم طويل. غير ان الكتاب الإلهي لا يفلسف التمنع عن ابادة الآخر. هذا امر إلهي تحيا أنت به ويحيا به المؤمنون. في هذا الأمر لا يجدد العهد الجديد شيئا أو يأتي بتفسير اذ لا يزول حرف واحد من الناموس (متى 5: 18). غير ان السيد يذهب إلى ما هو أعمق من الوصية القديمة فيمنع الغضب الذي يأتي بها ويمنع الخصومة. إماتة الآخر تبدأ هنا.

وفي الإسلام «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (سورة المائدة، 22). كذلك يمنع القرآن الانتقام بقوله: «لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديّ اليك لأقتلك اني أخاف الله ربّ العالمين» (المائدة، 28).

#   #

#

بالمعنى نفسه: «لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق» (الأنعام، 151). كثيرا ما أتى القتل من الخوف، من الظن ان الآخر يحرض نفسه على قتلي. ألغيه قبل ان يلغيني. وفي هذا انا محتاج ان أنأى بنفسي عن الله لأتمكّن من تقرير ذبح الآخر. في حالة الفتنة كل امرئ عثرة لي. أنا سلطتي وهذه تأمر لتنبسط. وفي آخر تحليل مدى الدنيا لي. ومن لا استسيغه يعرقل بسط نفوذي على دنياي. ومن اريد اقتحامه يلغيني حتى لو لم يكن متعمدا أذاي. انا لا اشك في انه يريدني ان اموت. فلئلا يكون هذا يجب ان يموت هو.

لا يكون هذا اذا زال خوفي اما بقراءة لي جديدة لواقعي بحيث افهم بالتحليل ان خشيتي الآخر عنصر من عناصر قوته فإقدامه على القتل. والموقف الأعلى والأفعل ايماني بغلبة ايماني وقوة علوية تنزل عليّ وتمدّني بصمود امام الخطر فيحصل ما يحصل وأنا امجد الله في حياتي ومماتي. اكون في هذا قد بذلت نفسي لله الذي يرعاني في محياي ومماتي ويجعلني في اية حالة من الحياة في نصرة منه.

ان رؤيتك للحياة وإزالتها مرتبطة بإيمانك أو عدم ايمانك. أمام هذه المشكلة الكبيرة في بلدنا لا يبدو منذ اربعين سنة اننا على دين قوي فعففنا عن القتل أو اننا على دين ضعيف فقتلنا. يهون علينا ان نقول قاتلنا من أجل قضية. من قاتل لا يحمل الثأر ولا الكراهية أو بغض الذين انتموا إلى عقيدة دينية اخرى. والواقع اننا كنا نختبئ وراء ما نسميه ديننا لأننا نقتل خائفين من ذواتنا أولا ومما يبدو ضعفنا ثم خائفين من الآخرين معتقدين اننا محاربون ولسنا قتلة. مرة في الحرب بسبب خطأ مطبعي اتهمني احدهم اني اتهم ابناء طائفته انهم قتلوا ويبدو اني كتبتها مع اني كنت أود ان أقول انهم قاتلوا.

أنا غير مؤهّل جنائيا أو موضوعيا ان أدلّ على القتلة أو القاتلين وان افرّق بينهم. الفرد الذي عاش بعد الحرب وحمل السلاح يفحص قلبه أو ضميره ويعترف لنفسه عما اذا قتل أو قاتل. ولكني استقبلت مرة محاربا اعترف لي انه كان قاتلا وقرأت صفحات بالفرنسية كتبتها امرأتان اعترفتا بأن هذه الحرب كانت باطلة من البدء إلى النهاية. أنا هنا اشهد أو ابلغ ما سمعت.

ان السهولة الكبيرة في القتل في هذا البلد تدلّ على انّ الذين ارتكبوه وهم كثر لا يؤمنون حقا بالله أو لا يدخلونه في مجال الحياة والموت. قال لي طبيب كبير في الأمراض العقلية ان لبنان عنده اعظم نسبة من الجنون في العالم ولما سألته عن السبب قال ان كل من خرج من المصح يجب ان يكون عنده في الحي أو القرية مصح للأمراض العقلية لئلا ينتكس.

غير ان عددا منا قليلا دخل مصحا للأمراض العقلية. لماذا اذًا عندنا هذه النسبة الفظيعة؟ هل لأن ثمّة عوامل تصادم بيننا كامنة في تشكيلتنا المجتمعيّة؟ هل ان بغض الطوائف الأخرى ليس بغضا بالحقيقة بل خوف؟ هل الآخر من حيث هو مختلف مخيف؟

لعلّ السوال الأصعب هو هل نحن مؤمنون بالله معينا وحاضنا أو أبا أم اننا ننتمي بحسب قوانين الدولة إلى أديان لا يعنينا منها وجود إله حي يحيينا في نفوسنا ويدفعنا إلى السلام.

لماذا يقتني اللبناني سلاحا في بيته؟ هل لأنه يخشى الاعتداء أم يتوقع الاعتداء وعند ذاك هو خائف. ماذا يعمل الواعظ وهمّه الأول خلاص النفوس؟ هل معلّمو مادة الديانة في المدارس ينشئون شبابا شجاعا أم ينشئون مؤمنين بإله يزجّ الخطأة في جهنّم وهم تاليا يربونهم على الخوف.

ماذا يعني الايمان ان لم يعنِ الاطمئنان إلى الرب وإلى سلامه. حسرتنا ان يذهب الناس ضحايا قاتلين كانوا أم مقتولين. هل الأهميّة للاحتجاج أم للتوبة؟

Continue reading