أوساط أوروبية وأميركية مسيحية وعلمانية يهمّها كثيرًا ألاَّ تثير اليهود وألاَّ تخالفهم بشيء يقولونه عن نشأة المسيحية وعن فرادة المسيحية وعن اعتبارها تيارًا من التيارات اليهودية، تلك المسيحية التي أفسدها أو أسسها في نظرهم بولس الرسول. والحديث عن ذلك يطول إذ بدأ منذ أن كتب كارل بارت تفسيره للرسالة إلى أهل رومية السنة الـ1914 واعتبر اليهود من أهل البيت بل أصحاب البيت الأصليون ونحن قد دخلنا عليهم فإنهم «الإخوة الأبكار» كما قال عظيم أحبار في الغرب بمعنى انك أنت المسيحي محضون في هذا البيت الواحد. ومن الواضح لكل من اطلع على تراث الآباء القديسين أن الكنيسة هي إسرائيل الجديد وأن الميثاق الشرعي بات الآن بين الله والكنيسة بدم يسوع.
هذا الخط الجديد منذ تسعين سنة أضحى بناية بعد مذبحة اليهود في العهد النازي في الحرب العالمية الثانية وهي دمغت العقل اللاهوتي الغربي كما طبعت اللاهوت اليهودي. اجل كانت المجزرة فاجعة لا توصف ويذهلني تفجع الكنائس التي لم تشترك لا من قريب ولا من بعيد في هذا الجرم. كيف تنسحب خطيئة هتلر مضطهد الكنيسة الكبير على الضمائر المسيحية في الغرب وكأنها هي التي حبلت بالنازية والبابا آنذاك كان قد كفر التفريق بين الأعراق. وإذا فهمت سيكولوجيا أن يحمل مسيحيو الغرب الإثم الهتلري فما دخل هذا في اللاهوت ولماذا يجب بناء هيكلية لاهوتية وتفسيرية على حادثة مهما عظمت بشاعتها. طبعا هذا غريب عن المنهج اللاهوتي الشرقي الذي يستمد نفسه من الكلمة الإلهية وما بنى قولة لاهوتية واحدة لا على انتصارات البيزنطيين أو الروس أو اليونانيين ولم يحرف لاهوته بناء على سقوط القسطنطينية أو على اجتياح الصليبية الرابعة إياها. نحن، في حوار طرشان منهجيًا.
غير أني أريد أن أعرّج الآن على فيلم «آلام المسيح» لميل غيبسون. لماذا اتُّهم هذا الشريط بالعداء للسامية في الولايات المتحدة ورفضته صالات العرض منطلقًا في فرنسا حتى تبناه مسلم تونسي وعرضه. السبب، يقولون، انه جعل أحبار اليهود مسؤولين عن قتل السيد وما كانوا كذلك إذ لم يكن لهم حق القضاء بالإعدام. ومع أن هذه المسألة خلافية لا يقول الإنجيل أنهم أعدموه ولكن إنهم أرادوا قتله وإنهم اعتبروه مستوجب الموت وجاء في الكتاب أن بيلاطس الوالي قضى على الرجل بالموت. غيبسون لم يقل غير ذلك وكان مجرد ناقل للأناجيل في جوهر القضية. المخرج استعمل الوثائق التي هي الأناجيل. الوالي الروماني ما ادعى على الناصري كمحقق عدلي ولا أرسل عسكرًا للقبض عليه إذ لم يكن مهتمًا للأمر وبقي حتى آخر لحظة مترددًا مهما اختلفت صورة طبائعه بين هذه الرواية الإنجيلية وتلك. أن تكون في الغرب معاديا للسامية فجريمة لا تغتفر. أما أن تكون معاديا للمسيحية فأمر فيه نظر.
***
هذا الهاجس متّصل بقضية تبرئة اليهود من دم المسيح. فقد ورد في الوثيقة المجمعية Nostra Aetate «ما ارتُكب أثناء آلامه لا يمكن أن يُنسب imput بلا تمييز إلى كل اليهود العائشين آنذاك ولا إلى يهود عصرنا». عند صدور القرار كتب صديقي وائل الراوي في «لسان الحال» ما مفاده أن الموقف الإنجيلي ما كان موقف قانون جزائي ليبحث عن مسؤولية هذا الفرد أو ذاك وما كان ليورث يهود اليوم مسؤولية قانونية. كان موقفًا نبويًا يتكلم فيه الله ضد شعبه ويؤثمه كما أثَّم هذا الشعب أنبياؤه قديمًا. كل العهد القديم في الجانب النبوّي منه هو تاريخ تأثيم الأنبياء لإسرائيل وما كان مطروحًا موضوع توزيع المسؤولية على أفراد. فلماذا حشر المجمع الفاتيكاني نفسه في منطق قانون عقوبات؟ وتبرئة اليهود لا تتم بقرار مجمع كنسيّ. القضاء الإلهي وحده يبرئ عن طريق التوبة فقط. اليهود وغير اليهود بمن فيهم مسيحيو كل العصور لا براءة لهم إلاَّ إذا انضموا إلى يسوع بالحبّ. حقّ لكلّ يهودي بعد هذه الوثيقة أن يقول: «أنا حبّوب وطيّوب» إذ قالت لي أعظم كنيسة في العدد أنا لا أزال من شعب الله ونزلت عليّ كل البركات ودفعت هي إلى أجدادي صك حسن سلوك وتدفع إليَّ صكًا مماثلاً إذ لم تبق كنيسة في الغرب تتحدث عن تبشير اليهود وباتت جميعًا تتكلم حصرًا على الحوار مع اليهود. تبرئة اليهود من دم المخلص لم تكن بلا سابقة فقد قضى المؤرخ اليهودي جول اسحق Jules Isaac سنوات يحاور البابا بولس الثاني عشر لتلاطف الكنيسة الشعب اليهودي. ومع أن الأسقف الروماني ساعد يهود روما في الحرب إلاَّ أن الكثيرين شنَّعوا ذكراه لأنه لم يكن بالغ الوضوح في تقبيح النازية في هذا المجال.
لك أن تكون شتَّامًا للمسيح في السينما وغير السينما وهذا من باب حريَّة الفكر أي حريَّة السبّ. ولك أن تُراكم كل ما ارتكبه المسيحيون في حقّ اليهود ولكن مسؤوليتك كمؤرخ أن تستر أي شيء ارتكبه اليهود في حق المسيحيين أو في حق أنفسهم (وشاية اليهود باليهود في العصر الهتلري مثلاً) لان هذا يكون عداء للسامية.
هذه الحملة على المسيحية تجلّت في برنامج تلفزيوني في Arte منذ بضع سنوات عنوانه Carpus Christi دُعي إلى القيام به قُسس كاثوليك وإنجيليّون وعلماء يهود حتى يُوضع البرنامج في إطار البحث التاريخي. لماذا لم يؤتَ بمسلمين أو ببوذيين ومن بين هؤلاء علماء في المسيحية؟ لماذا الإيحاء بأن فكر المسيحيين وفكر اليهود مُتقاربان؟ واللافت في هذا البرنامج التشكيك في المسيحية وتهميش «العلماء» المسيحيين أنفسهم عن تراث الكنيسة واعتبارهم الفكر النقديّ المغاليّ والتاريخيّ الضيِّق الافتراضيّ مرجعيّة المعرفة بحيث لا يبقى من المسيحيّة إلا بعض العِظام كالتي ترميها من طعامك للكلاب.
واليوم تطالعنا Arte ببرنامج آخر مرت منه بعض حلقات عن نشوء المسيحية ما رأيت منها إثارة الشكّ في جماعة التلاميذ وعلى الأخص بولس وهذا أيضًا بمشاركة أساتذة من الجامعة العبريّة. مثال ذلك الشكّ في لوقا الذي تحدّث عن أسفار بولس ولم يذكر إحدى رسائله، قالوا. السؤال البسيط الذي يُطرح عليهم هو هذا: لماذا تريدون أن يذكر الرسائل في سفر أعمال الرسل وذِكرها لا يدخل في تصميم كتابه؟ كان هذا منهجه الأدبي. ثم إن لوقا مشبّع في إنجيله بفكر بولس فلم يحتج إلى تكرار ذلك في كتابه الآخر أعني أعمال الرسل.
ثم تؤتى طرحًا آخر. المسيحية لم تكن كما كانت أي ديانة مستقلّة إلاَّ بعد سقوط أورشليم في السنة السبعين وانهيار الهيكل. هذا خطأ لأن الانفصال كان واضحًا منذ يوم العنصرة في خطاب بطرس ولو تردَّد الرسل إلى الهيكل. الانسلاخ لم يكن فوريًا وما كان يمكن أن يكون. لكن التلاميذ، حسب النصوص الأولى، كانوا واعين أنهم يقولون شيئا جديدًا، وان الوضع كان مهيأ للانفجار. أجل ساعد سقوط أورشليم على اتخاذ الكنيسة استقلالها الكامل عن أمة اليهود. قبل ذلك التوتر بينهم وبين بولس في الشتات كان بليغًا.
مثلٌ ثالث في هذا البرنامج يتعلّق بالخلاف الذي وقع بين بطرس وبولس في أنطاكية. ضخّموا الخلاف تضخيمًا يتجاوز المعقول. كانت المشاجرة إذا صحّ التعبير بين بولس وبطرس أن هذا امتنع عن أن يأكل مع الأمم (المتنصّرة) مع أن مجمع أورشليم قرر أن الأمم لن يفرُض عليها ناموس موسى بل تتنصّر بالمعمودية فقط. بولس وبَّخ بطرس على ضعفه وريائه (والكلمة لبولس) ولكنَّه لم يتهمه بأنه خرج على إجماع القرار في مجمع أورشليم. قضيَّة مسلكيّة صنعوا منها قصّة كبيرة ليبيّنوا أن وحدة الفكر لم تكن في البدء بين الأتباع الأوائل. السؤال هو أن اختلاف الآراء يبطّن انقسامًا جوهرياً بين الرسل. كتب العهد الجديد لا تُنبئ بذلك. ولكن كل برنامج Arte يدلّ على أن نشوء المسيحية الأولى لم يكن كما صوره العهد الجديد ولكن كما يقرأه مؤرخون ليبيراليون على آخر حدود التطرّف وكما يقرأه معهم زملاؤهم في الجامعة العبريّة في أورشليم – القدس.
هناك تهوّد حقيقي في اللاهوت الغربيّ لا يُنقذنا منه سوى العودة إلى انتمائنا إلى الأقدمين الذين نُسمّيهم الآباء القديسين وهم عندنا في إجماعهم مرجعيّة في الإيمان. هؤلاء طووا صفحة اليهوديّة إلى الأبد ولا يعترفون بدوام شرعيّتها. ولم يقم الدليل كما تدّعي المراجع الغربيّة على أن نصوص الإنجيل هي التي تؤسس العداء للسامية. المسيحي الشرقي على اعتقادهم بأن اليهودية ولّت لم يضطهد اليهود. واعتداء بعض رعاع الروس على اليهود شجبته الكنيسة الروسيّة شجبًا شديدًا. لقد تخدّر اللاهوت الغربيّ بسبب تعديّات القرون الوسطى والموقف النازي على اليهود ومنعًا لقمعهم ظنَّ لاهوتيو الغرب أن عليهم أن يتحرروا مما كتبه آباؤنا وما جاء في عباداتنا وقد استغلّ اليهود ذلك سياسيًا أيما استغلال. لقد التقيت شخصيًا يهودًا في الجمعية العموميّة لمجلس الكنائس العالمي في أوبسالا (أسوج) السنة الـ1968 وطلبوا إليّ أن تعدل الكنيسة الأرثوذكسية طقوس الجمعة العظيمة المعتبرة عندهم معادية للسامية.
هاجسنا الوحيد في هذه العجالة أن يؤمن مسيحيو الغرب بفرادة العهد الجديد وأصالة الكنيسة متميزة عن العقيدة العبريّة. نحن أمام شرخ جديد بين مسيحيي الشرق كلهم على اختلاف مذاهبهم والمسيحية الغربية المتهودة بوضوح إلى أن يتجلى لها مسيحها ببهائه وقيامته. كفانا الكلام على أصوله العبريّة في جسده. نحن لا نعرف المسيح حسب الجسد كما قال بولس. إننا نعرفه حسب الروح من حيث هو كلمة الله الأبدي الذي يفوق كلّ عرق وكلّ جنس. مركزيَّة المسيح ليست في بشريَّته ولكن في انه أتى من عند الآب.
Continue reading