Monthly Archives

April 2004

2004, مقالات, نشرة رعيتي

تقاليد الناس/ الأحد 25 نيسان 2004 / العدد 17

بسبب غياب التعليم والوعظ خلال أجيال سابقة أو لأسباب اجتماعية، تنشأ عادات في وسط الشعب المسيحي هي مغلوطة بالمقياس الكنسي. فقد لاحظت المجامع القديمة أن بعض الناس يطلبون عمادة أولادهم في البيوت ومنعت ذلك. ومع هذا استمرت هذه العادة في بعض الأماكن حتى الجيل السابق حتى جدّدنا المنع. فالناس نسوا أن العمادة هي الانضمام إلى عضوية الكنيسة وتاليًا تتمّ في كنيسة الرعيّة. وبهذا المعنى خاطب السيد الفريسيين وقال لهم: “لماذا تتعدّون وصية الله حسب تقليدكم؟” (متى 15 :3). وقد سمى بولس الرسول هذه المخالفات “تقليد الناس” (كولوسي 2: 8).

            كذلك منذ جيل في كثير من الأماكن كثير من الناس اخذوا يقيمون أعراسهم في البيوت مع أن الإكليل سرّ كنسي. قبل هذا الانجراف كان يقام في الكنيسة. الآن يظهر في هذه الأبرشية ميل لإقامة الإكليل في الفنادق أو في ساحاتها في الهواء الطلق، وحجّة الناس أنهم نظموا الاستقبال بعد العرس في الفندق. إذا كان الإكليل وقفة في حضرة الله والقديسين، لا بد أن يكون في الكنيسة، وليذهب العريسان بعد ذلك حيث شاءا. أنا أتمنى على المؤمنين ألا يطلبوا فيما بعد تدبيرا استثنائيا.

            مثل الإكليل في الهواء الطلق بدأ بواحد منذ سنوات قليلة ثم انتشر. هذا لأقول ان هناك عادات اجتماعية تصبح تقاليد ويقولون لك: الكنيسة عملت كذا وكذا، والواقع ان امرا كهذا لم يأت من روح المسيحية.

            هناك شيء كان شائعا في كل هذا الكرسي الأنطاكي وهو ان المؤمنين كانوا يأتون صباح الخميس العظيم ويعترفون ويتناولون كل بمفرده بلا قداس ويذهبون توا إلى بيوتهم. أتمنى ألا يقع كاهن في هذه الغلطة إذ ليس عندنا مناولة لا تكون الجزء الأخير من القداس الإلهي. المناولة عمل جماعي يتم في الخدمة الإلهية. فلا مانع من إقامة قداس الخميس العظيم باكرًا جدًا ليتسنى للمؤمنين الاشتراك به ولا يتناولون من ذخيرة المرضى أو الكأس المحفوظة منذ يوم الأربعاء العظيم.

            ثم كنت قد أشرت على كل الكنائس ان تقتني “إبيتافيون” اي ايقونة المسيح في القبر التي نطوف بها يوم الجمعة العظيم مساء وذلك بعد ان اكتشفت ان بعض الكنائس تستعمل محملا وضع فيه صليب وزهور. لست اعلم كيف دخلت هذه العادة إلى الكنائس. ولكن ليس لها أساس كنسي، فكتبنا تتكلم على الابيتافيون ويكون محاطا بالزهور، وفي آخر الخدمة يقبله المؤمنون ويدفع اليهم الكاهن زهرة علامة على فرح القيامة.

            يجب على الكهنة تعليم المؤمنين الأصول لأن هذه الأصول بُنيت على منطق لاهوتي. نحن يهمنا ان نعود بالمؤمنين الى التقليد الكنسي الصحيح لئلا تضللهم العادات المستحدثة. قد تكون تسربت الينا منذ مئة سنة او اكثر، ولكن الخطأ الشائع لا يصير شرعيا بتقادم الزمان عليه.

            ما يساعد الكاهن ان يبقى في افضل تقويم ان يتقيد بما عنده من كتب طقسية وان يقرأ ويسأل زملاءه الأكثر اطلاعا.

            لا تلح على الكاهن كي يسايرك. ليس عنده مصلحة ليأمرك بما يمر بخاطره اذ يقول لك ما تريده الكنيسة المقدسة وانت تخلص بتعاليمها وتراثها. ولا تقل     له انك رأيت هذه العادة او تلك في كنيسة اخرى او عند الكاهن الفلاني. اجل يتفاوت الكهنة بالعلم. انت تتقيد بمن هو أعلم.

            مرارا كتبت الى مجالس الرعية ان يتقيدوا بتعليماتنا لأننا نحب ان تكون الرعية مثالية، مستقيمة في شأن الطقوس على الأقل. والكتاب يقول: “أطيعوا مدبّريكم”. والرئاسة الروحية ليست مزاجية لتفرض ما يمر بخاطرها. هي تميز بين التقليد الصحيح والعادات الدخيلة.

            لا تتمسكوا بأنفسكم. تمسكوا بالمسيح وما تقوله كنيسته. بسبب محبتكم للسيد استقوا معلوماتكم من الذين يعلمون، ولا تصبكم صدمة اذا قال لكم مرشدوكم شيئا ما كنتم تعرفونه لأنهم يسهرون على خلاص نفوسكم. نفوسكم تخلص بكلمة الله وما استلمناه من القديسين. “لتكن اموركم بلياقة وترتيب” (بولس الرسول) اي بالترتيب الذي وصل الينا ويحافظ عليه الأساقفة. وتابعوا مجيئكم الى الكنيسة ولا تكونوا موسميين فالله يريدكم دائما في بيته المقدس. هذه هي الطريقة الوحيدة لتكونوا ليسوع.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

هذا الأحد (أحد التجديدات أو أحد توما)/ الأحد 18 نيسان 2004 / العدد 16

جاء الفصح كشفًا لقوة المسيح ولكنه جاء ايضا لبث هذه القوة فينا، لجعلنا قياميين نحيا بنفحات السيد، واذا كنا غير منتصرين بعد على الموت الجسدي وعلى المرض فعلى الأقل نحن منتصرون على الخطيئة او قادرون بالفصح ان ننتعش ونعود الى وجه يسوع الذي يطرد كل مشهد خبيث من امامنا وكل إغراء ساحر او يقيمنا من نشوة الإغراء. فالأحد الجديد هو الأحد المجدد ايانا. ولذلك تقرأ الكنيسة من قداس الفصح انجيل يوحنا حتى نهايته وهو المتركز بنوع خاص على ألوهية السيد وعلى قوى التجديد التي يمدنا بها، على ذكر خبز الحياة وعلى إعلان السيد نفسه “الطريق والحق والحياة”.

         كذلك تقرأ الكنيسة في الرسائل اعمال الرسل الذي هو كتاب عن الروح القدس وآثاره في كنائس عن طريق البشارة، والبشارة تجديد للشعوب باقتبالها كلمة الله والمعمودية. وتكرار “المسيح قام” اربعين يوما حتى الصعود شهادة على ان المسيحي يحيا بمسيحه او انه يريد ذلك.

         فكما ان السيد قام وأراد ان يحتفظ بأثر المسامير في يديه وأثر طعنة جنبه بالحربة، يبدو الانسان المتجدد بالمسيح غير مكتمل او غير منزه عن كل الشهوات ما خلا قلة من الكبار. غير ان الحركة التي تسيّره هي حركة الفصح. انه ناهض اساسا ونهضوي مع انه يتعب من الخطيئة. لا تزول الخطيئة آليا بمجرد قيامنا بالأعياد ولا حتى اذا اعترفنا بخطايانا لدى الكاهن. هناك شروش تبقى او ميول تعود او لا تكون التوبة عميقة. ولذلك كان لا بد من العودة باستمرار، بجهاد كبير مضنٍ الى وجه يسوع الحي.

         نحن نحيا على الرجاء. المسيح يفتتح الحياة الأبدية فينا بالإيمان والأسرار، غير ان الحياة الأبدية لا تكتمل الا بالقيامة العامة. ولذلك لا معنى لقول كل الحركات المعمدانية بما فيها من يسمون انفسهم المتجددين انهم خلصوا. الخلاص يعني ان المسيح هو المخلص وان اساس الخلاص موضوع وانت تبني على الأساس الموضوع. ولكن هناك بناء. عندما يقول بولس: “تمموا خلاصكم بخوف ورعدة” انما يتوقع ان يكون للمؤمن دور وهو ان يستلم هذا الخلاص كما تستلم انت طعاما على مائدة وانت لم تأتِ بالطعام من عندك. هناك عمل دشنه يسوع على الصليب ووزعه على التلاميذ والمجتمعين معهم بالروح القدس ولا يزال يوزعه بالكلمة والأسرار، والا فما معنى الكلمة والأسرار؟

         انت تقرأ الكلمة فتصير فيك ومنك واياك، اي لك معها مشاركة ولا تتغنى فقط بها. الكلمة موجودة فيك لترافقك من الحضور الاول للسيد حتى الحضور الثاني.

         نظام وجود الكلمة وامتدادها الى الخدم الإلهية يعني اننا مخلصون على الرجاء وان فصحنا هو امنية. فمع انك تقيم العيد كل سنة وتجدده كل احد، ليس لك في الحقيقة الا الفصح الأخير اعني تمتعك بظفر المخلص وحياته في الملكوت السماوي.

         عندما يقول الرسول: “اننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته” يريد اننا بالمعمودية نسير الى موته والى انتصاره. ولكن هذه مسيرة تبدأ ولا تنتهي بمجرد نزولنا الى الماء وخروجنا منه. كل شيء في المسيحية حركة لأن المسيح حركة بالروح القدس. وفي الملكوت ننتقل “من مجد الى مجد” فيبدو لنا الله اجمل واجمل.

Continue reading
2004, جريدة النهار, مقالات

العداء للمسيح / السبت 17 نيسان 2004

أوساط أوروبية وأميركية مسيحية وعلمانية يهمّها كثيرًا ألاَّ تثير اليهود وألاَّ تخالفهم بشيء يقولونه عن نشأة المسيحية وعن فرادة المسيحية وعن اعتبارها تيارًا من التيارات اليهودية، تلك المسيحية التي أفسدها أو أسسها في نظرهم بولس الرسول. والحديث عن ذلك يطول إذ بدأ منذ أن كتب كارل بارت تفسيره للرسالة إلى أهل رومية السنة الـ1914 واعتبر اليهود من أهل البيت بل أصحاب البيت الأصليون ونحن قد دخلنا عليهم فإنهم «الإخوة الأبكار» كما قال عظيم أحبار في الغرب بمعنى انك أنت المسيحي محضون في هذا البيت الواحد. ومن الواضح لكل من اطلع على تراث الآباء القديسين أن الكنيسة هي إسرائيل الجديد وأن الميثاق الشرعي بات الآن بين الله والكنيسة بدم يسوع.

هذا الخط الجديد منذ تسعين سنة أضحى بناية بعد مذبحة اليهود في العهد النازي في الحرب العالمية الثانية وهي دمغت العقل اللاهوتي الغربي كما طبعت اللاهوت اليهودي. اجل كانت المجزرة فاجعة لا توصف ويذهلني تفجع الكنائس التي لم تشترك لا من قريب ولا من بعيد في هذا الجرم. كيف تنسحب خطيئة هتلر مضطهد الكنيسة الكبير على الضمائر المسيحية في الغرب وكأنها هي التي حبلت بالنازية والبابا آنذاك كان قد كفر التفريق بين الأعراق. وإذا فهمت سيكولوجيا أن يحمل مسيحيو الغرب الإثم الهتلري فما دخل هذا في اللاهوت ولماذا يجب بناء هيكلية لاهوتية وتفسيرية على حادثة مهما عظمت بشاعتها. طبعا هذا غريب عن المنهج اللاهوتي الشرقي الذي يستمد نفسه من الكلمة الإلهية وما بنى قولة لاهوتية واحدة لا على انتصارات البيزنطيين أو الروس أو اليونانيين ولم يحرف لاهوته بناء على سقوط القسطنطينية أو على اجتياح الصليبية الرابعة إياها. نحن، في حوار طرشان منهجيًا.

غير أني أريد أن أعرّج الآن على فيلم «آلام المسيح» لميل غيبسون. لماذا اتُّهم هذا الشريط بالعداء للسامية في الولايات المتحدة ورفضته صالات العرض منطلقًا في فرنسا حتى تبناه مسلم تونسي وعرضه. السبب، يقولون، انه جعل أحبار اليهود مسؤولين عن قتل السيد وما كانوا كذلك إذ لم يكن لهم حق القضاء بالإعدام. ومع أن هذه المسألة خلافية لا يقول الإنجيل أنهم أعدموه ولكن إنهم أرادوا قتله وإنهم اعتبروه مستوجب الموت وجاء في الكتاب أن بيلاطس الوالي قضى على الرجل بالموت. غيبسون لم يقل غير ذلك وكان مجرد ناقل للأناجيل في جوهر القضية. المخرج استعمل الوثائق التي هي الأناجيل. الوالي الروماني ما ادعى على الناصري كمحقق عدلي ولا أرسل عسكرًا للقبض عليه إذ لم يكن مهتمًا للأمر وبقي حتى آخر لحظة مترددًا مهما اختلفت صورة طبائعه بين هذه الرواية الإنجيلية وتلك. أن تكون في الغرب معاديا للسامية فجريمة لا تغتفر. أما أن تكون معاديا للمسيحية فأمر فيه نظر.

***

هذا الهاجس متّصل بقضية تبرئة اليهود من دم المسيح. فقد ورد في الوثيقة المجمعية Nostra Aetate «ما ارتُكب أثناء آلامه لا يمكن أن يُنسب imput بلا تمييز إلى كل اليهود العائشين آنذاك ولا إلى يهود عصرنا». عند صدور القرار كتب صديقي وائل الراوي في «لسان الحال» ما مفاده أن الموقف الإنجيلي ما كان موقف قانون جزائي ليبحث عن مسؤولية هذا الفرد أو ذاك وما كان ليورث يهود اليوم مسؤولية قانونية. كان موقفًا نبويًا يتكلم فيه الله ضد شعبه ويؤثمه كما أثَّم هذا الشعب أنبياؤه قديمًا. كل العهد القديم في الجانب النبوّي منه هو تاريخ تأثيم الأنبياء لإسرائيل وما كان مطروحًا موضوع توزيع المسؤولية على أفراد. فلماذا حشر المجمع الفاتيكاني نفسه في منطق قانون عقوبات؟ وتبرئة اليهود لا تتم بقرار مجمع كنسيّ. القضاء الإلهي وحده يبرئ عن طريق التوبة فقط. اليهود وغير اليهود بمن فيهم مسيحيو كل العصور لا براءة لهم إلاَّ إذا انضموا إلى يسوع بالحبّ. حقّ لكلّ يهودي بعد هذه الوثيقة أن يقول: «أنا حبّوب وطيّوب» إذ قالت لي أعظم كنيسة في العدد أنا لا أزال من شعب الله ونزلت عليّ كل البركات ودفعت هي إلى أجدادي صك حسن سلوك وتدفع إليَّ صكًا مماثلاً إذ لم تبق كنيسة في الغرب تتحدث عن تبشير اليهود وباتت جميعًا تتكلم حصرًا على الحوار مع اليهود. تبرئة اليهود من دم المخلص لم تكن بلا سابقة فقد قضى المؤرخ اليهودي جول اسحق Jules Isaac سنوات يحاور البابا بولس الثاني عشر لتلاطف الكنيسة الشعب اليهودي. ومع أن الأسقف الروماني ساعد يهود روما في الحرب إلاَّ أن الكثيرين شنَّعوا ذكراه لأنه لم يكن بالغ الوضوح في تقبيح النازية في هذا المجال.

لك أن تكون شتَّامًا للمسيح في السينما وغير السينما وهذا من باب حريَّة الفكر أي حريَّة السبّ. ولك أن تُراكم كل ما ارتكبه المسيحيون في حقّ اليهود ولكن مسؤوليتك كمؤرخ أن تستر أي شيء ارتكبه اليهود في حق المسيحيين أو في حق أنفسهم (وشاية اليهود باليهود في العصر الهتلري مثلاً) لان هذا يكون عداء للسامية.

هذه الحملة على المسيحية تجلّت في برنامج تلفزيوني في Arte منذ بضع سنوات عنوانه Carpus Christi دُعي إلى القيام به قُسس كاثوليك وإنجيليّون وعلماء يهود حتى يُوضع البرنامج في إطار البحث التاريخي. لماذا لم يؤتَ بمسلمين أو ببوذيين ومن بين هؤلاء علماء في المسيحية؟ لماذا الإيحاء بأن فكر المسيحيين وفكر اليهود مُتقاربان؟ واللافت في هذا البرنامج التشكيك في المسيحية وتهميش «العلماء» المسيحيين أنفسهم عن تراث الكنيسة واعتبارهم الفكر النقديّ المغاليّ والتاريخيّ الضيِّق الافتراضيّ مرجعيّة المعرفة بحيث لا يبقى من المسيحيّة إلا بعض العِظام كالتي ترميها من طعامك للكلاب.

واليوم تطالعنا Arte ببرنامج آخر مرت منه بعض حلقات عن نشوء المسيحية ما رأيت منها إثارة الشكّ في جماعة التلاميذ وعلى الأخص بولس وهذا أيضًا بمشاركة أساتذة من الجامعة العبريّة. مثال ذلك الشكّ في لوقا الذي تحدّث عن أسفار بولس ولم يذكر إحدى رسائله، قالوا. السؤال البسيط الذي يُطرح عليهم هو هذا: لماذا تريدون أن يذكر الرسائل في سفر أعمال الرسل وذِكرها لا يدخل في تصميم كتابه؟ كان هذا منهجه الأدبي. ثم إن لوقا مشبّع في إنجيله بفكر بولس فلم يحتج إلى تكرار ذلك في كتابه الآخر أعني أعمال الرسل.

ثم تؤتى طرحًا آخر. المسيحية لم تكن كما كانت أي ديانة مستقلّة إلاَّ بعد سقوط أورشليم في السنة السبعين وانهيار الهيكل. هذا خطأ لأن الانفصال كان واضحًا منذ يوم العنصرة في خطاب بطرس ولو تردَّد الرسل إلى الهيكل. الانسلاخ لم يكن فوريًا وما كان يمكن أن يكون. لكن التلاميذ، حسب النصوص الأولى، كانوا واعين أنهم يقولون شيئا جديدًا، وان الوضع كان مهيأ للانفجار. أجل ساعد سقوط أورشليم على اتخاذ الكنيسة استقلالها الكامل عن أمة اليهود. قبل ذلك التوتر بينهم وبين بولس في الشتات كان بليغًا.

مثلٌ ثالث في هذا البرنامج يتعلّق بالخلاف الذي وقع بين بطرس وبولس في أنطاكية. ضخّموا الخلاف تضخيمًا يتجاوز المعقول. كانت المشاجرة إذا صحّ التعبير بين بولس وبطرس أن هذا امتنع عن أن يأكل مع الأمم (المتنصّرة) مع أن مجمع أورشليم قرر أن الأمم لن يفرُض عليها ناموس موسى بل تتنصّر بالمعمودية فقط. بولس وبَّخ بطرس على ضعفه وريائه (والكلمة لبولس) ولكنَّه لم يتهمه بأنه خرج على إجماع القرار في مجمع أورشليم. قضيَّة مسلكيّة صنعوا منها قصّة كبيرة ليبيّنوا أن وحدة الفكر لم تكن في البدء بين الأتباع الأوائل. السؤال هو أن اختلاف الآراء يبطّن انقسامًا جوهرياً بين الرسل. كتب العهد الجديد لا تُنبئ بذلك. ولكن كل برنامج Arte يدلّ على أن نشوء المسيحية الأولى لم يكن كما صوره العهد الجديد ولكن كما يقرأه مؤرخون ليبيراليون على آخر حدود التطرّف وكما يقرأه معهم زملاؤهم في الجامعة العبريّة في أورشليم – القدس.

هناك تهوّد حقيقي في اللاهوت الغربيّ لا يُنقذنا منه سوى العودة إلى انتمائنا إلى الأقدمين الذين نُسمّيهم الآباء القديسين وهم عندنا في إجماعهم مرجعيّة في الإيمان. هؤلاء طووا صفحة اليهوديّة إلى الأبد ولا يعترفون بدوام شرعيّتها. ولم يقم الدليل كما تدّعي المراجع الغربيّة على أن نصوص الإنجيل هي التي تؤسس العداء للسامية. المسيحي الشرقي على اعتقادهم بأن اليهودية ولّت لم يضطهد اليهود. واعتداء بعض رعاع الروس على اليهود شجبته الكنيسة الروسيّة شجبًا شديدًا. لقد تخدّر اللاهوت الغربيّ بسبب تعديّات القرون الوسطى والموقف النازي على اليهود ومنعًا لقمعهم ظنَّ لاهوتيو الغرب أن عليهم أن يتحرروا مما كتبه آباؤنا وما جاء في عباداتنا وقد استغلّ اليهود ذلك سياسيًا أيما استغلال. لقد التقيت شخصيًا يهودًا في الجمعية العموميّة لمجلس الكنائس العالمي في أوبسالا (أسوج) السنة الـ1968 وطلبوا إليّ أن تعدل الكنيسة الأرثوذكسية طقوس الجمعة العظيمة المعتبرة عندهم معادية للسامية.

هاجسنا الوحيد في هذه العجالة أن يؤمن مسيحيو الغرب بفرادة العهد الجديد وأصالة الكنيسة متميزة عن العقيدة العبريّة. نحن أمام شرخ جديد بين مسيحيي الشرق كلهم على اختلاف مذاهبهم والمسيحية الغربية المتهودة بوضوح إلى أن يتجلى لها مسيحها ببهائه وقيامته. كفانا الكلام على أصوله العبريّة في جسده. نحن لا نعرف المسيح حسب الجسد كما قال بولس. إننا نعرفه حسب الروح من حيث هو كلمة الله الأبدي الذي يفوق كلّ عرق وكلّ جنس. مركزيَّة المسيح ليست في بشريَّته ولكن في انه أتى من عند الآب.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الفصح/ الأحد 11 نيسان 2004 / العدد 15

يذكر الإنجيل الصلب فالإنزال عن الصليب فالدفن ويتحدث عن القبر الفارغ من الجسد ويقول ان الحجر قد دُحرج وان المخلص شوهد بعد هذا مرات عديدة وتكلم مع التلاميذ. اذًا “انه لقد قام”. يؤكد الكتاب انه مات وان العسكر تأكدوا من موته. كذلك اصحابه والتلاميذ والنسوة حاملات الطيب. وعندنا على ما ورد عند يوحنا أثر الحربة في جنبه والمسامير في يديه. اي عندنا هذا التأكيد الكبير ان الإنسان الذي ظهر للتلاميذ والإخوة هو ذاته الذي عُلق على الخشبة. عندنا انتقال من حالة الميت الى حالة الحي المتحرك المتكلم المشارك الرسل طعامهم على بحيرة طبرية والمرافق تلميذي عمواس الى قريتهم والكاسر لهما الخبز.

            عندنا ما هو قبل الدفن وما بعد الدفن ما لا يدع مجالا للشك في ان هذا الذي دُفن هو اياه الذي قام وجعل توما يلمسه ويفتش جنبه ويوآكل التلاميذ. هذا التحول من حالة ميت حقيقي الى حالة حي حقيقي هو ما سمّاه الكتاب قيامة. القيامة اذًا واقعة وقعت. وهذا القائم لم يشاهده فقط الأحد عشر وحاملات الطيب. ثم “ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمئة اخ اكثرهم باقٍ الى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل اجمعين. وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي انا -اي بولس- (1كورنثوس 15: 6-8). عندنا اذًا اكثر من خمسمئة شاهدٍ رأوا الرب حيًا. ونقل الينا بولس شهادتهم وهو وضع هذا في الرسالة الاولى الى اهل كورنثوس المكتوبة حوالى 11 سنة بعد قيامة المخلص، الأمر الذي يجعلها حدثا تاريخيا مؤكدا.

            صح اننا نؤمن بأن القيامة حدثت، ولكنا نؤمن بها بناء على شهادة شهود عيان. انها اذًا ليست مجرد رواية اتصلت بالاوائل بمجرد نقل متواتر. ودُوّن الحدث في الأناجيل الأربعة واعمال الرسل وكتابات بولس، ولا نجد حدثا في التاريخ اقوى منها من حيث عدد الشهود. من هذا ننطلق لنؤكد ايماننا بها.

            اما كيف كان جسد الرب؟ لم يكن شبحا وقد جاء انه تكلم وان به جراحا وانه اشترك في موائد. عندنا جسم حقيقي. ولكن هل صار على نوعية تختلف عن اجسادنا الترابية هذه؟ يقول الكتاب انه دخل على التلاميذ والأبواب مغلقة اي لم يكن امام يسوع حواجز تحول دون حضوره حيثما شاء، بمعنى ان يسوع الظافر لا يخضع لقوانين التنقل في المكان. هو لا ينتقل. انه يحضر. لقد تجاوز بقيامته نواميس الطبيعة التي تجعلنا نحن خاضعين للمدى.

            عندنا شيء من توضيح هذا في ما قاله الرسول عن اجسادنا الممجَّدة اي التي نكون عليها بعد القيامة العامة. هذه الأجساد كانت فاسدة هنا. يقول بولس عنها: “يقوم الموتى عادمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لا بد ان يلبس عدم فساد، وهذا المائت ان يلبس عدم موت” (1كورنثوس 15: 15-53). بقي يسوع في عدم فساد كما كان، ولكن جسده “لبس عدم موت” اي لبس الخلود. وهذا ما يؤكده الرسول في موضع آخر: “ان كنا قد متنا مع المسيح نؤمن اننا سنحيا ايضا معه. عالمين ان المسيح بعدما أقيم من الأموات لا يموت ايضا. لا يسود عليه الموت بعد” (رومية 5: 8 و9).

            لذلك لا محل للسؤال: اين المسيح الآن؟ لا محل لهذا السؤال لأن السيد ليس خاضعا لقوانين الزمان والمكان. هو جالس عن يمين الآب، وليس لنا ان نهتم بحدود مكانية له. نحن نحيا مع يسوع ونحيا به ومن أجله. وقيامته فعالة بكلمته والكنيسة وسر القرابين المقدسة والشهداء وحياة القديسين المغبوطين وحياة المؤمنين كل على قدر طاعته للآب. القيامة مشعة ونفرح بها في العيد وفي كل يوم، وهي التي تنقذنا من الخطيئة ومن الموت لنكون في اليوم الاخير على صورة المخلّص الظافر.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الأسبوع العظيم/ الأحد 4 نيسان 2004 / العدد 14

يسوع يدخل المدينة القاتلة ملكا ولكن ملكه لن يعلن الا على الصليب الذي أراده اليهود أداة إذلال للسيد وجعله هو مطرح مجده. “الآن (في الموت) تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه”.

          أسلموه الى الموت حسدا غير عارفين ان هذا الموت يؤول الى خلاصهم اذا قبلوا يسوع مخلصا لهم. ولما أماتوه لم تبق لهم رسالة ولم يبق لهم معنى وصار المؤمنون بيسوع شعب الله.

          انه لقد افتدانا بدمه وجعلنا “امة مقدسة” وخلائق جديدة فنتجدد بالمعمودية ونغتذي بالقرابين الإلهية والغفران والمحبة. وكشف لنا قوة حياتنا الجديدة بالعشاء السري لما اخذ خبزا وباركه وكسره وقال لنا: “خذوا كلوا هذا هو جسدي” ثم اخذ الكاس وباركها وقال لنا: “اشربوا منه كلكم هذا هو دمي”. وبعد حلول الروح القدس على التلاميذ اخذنا نقيم القداس الإلهي لكي نحيا بجسد المسيح ودمه الكريمين اي نحيا بذات المسيح ونستمد حياتنا من حياته.

          وأدركنا بموت السيد انه هو معشوقنا وان الكنيسة ليست سوى هذه الجماعة التي تعرف انها محبوبة وتعيش بهذا الحب. اجل هناك عبادات وتنظيم كنسي وقوانين ولكن هذه كلها لباس للمسيح وتجليات له وهي ليست قائمة الا لكونها نفحات منه.

          وصرنا نعرف ان “الختن يأتي في نصف الليل” والختن هو العريس ويأتينا عريسا للنفس المؤمنة في ظلام خطيئتها ويمحو الخطيئة بدمه ونقترن به بلا انقطاع هذا اذا لم نقم بدور يهوذا خائنين او بدور بطرس جاحدين ولكنا نقوم بدور لص اليمين القائل: “اذكرني يا رب متى أتيت في ملكوتك”. اذكرني اي لا تنسني وانا خروف من خرافك. اذكرني باسمي حبيبا لديك لأحيا بهذا الحب الذي تدفقه علي.

          هكذا نقف امام الصليب ناظررين الى المصلوب وحده غير متلهين بشهواتنا وأطماعنا واحقادنا اذ لا شيء فيها يساوي المحبة التي انسكبت علينا. ونكافح ضعفاتنا لأنها تعطل رؤيتنا ليسوع واتحادنا به. فاذا ادركنا اننا نحيا برؤويته ايانا ورؤيتنا اياه نصير في النور الذي يغسل نفوسنا من كل دنس وتملانا من حضرة المسيح فيكون الكل في كل كياننا بحيث امكننا ان نقول مع الرسول: “لست انا احيا بل المسيح يحيا فيّ”.

          وحتى نتدرب على هذه المعاني لا بد لنا ان نشترك بالخدم التي تقام في الأسبوع العظيم فلا نبتعد عنها الا اذا كنا في اشغالنا. فالصلوات هذه تحوي كل معاني الخلاص ونصل بها الى هدوء النفس وسلامها. والطريقة المثلى لتنقيتنا ان نقتبل المناولة الإلهية في كل قداس في هذا الأسبوع الطيب حتى لا تبقى هوة بيننا وبين المسيح.

          والقرابين الإلهية هي فصحنا في الآحاد والأعياد لأنها قيامتنا حسب قول السيد لمرتا: “انا القيامة والحياة”. فاذا كان العيد ذكرى لنهوض السيد من بين الأموات ففي المناولة الإلهية تتحقق قيامة النفس. نحن قوم فصحيون نستبق القيامة العامة بتطهر القلب ورجوعه الى الآب والابن في الروح القدس.

Continue reading