Monthly Archives

June 2006

2006, جريدة النهار, مقالات

الحكام المترهّبون / السبت 26 حزيران 2006

«إنها محبة جمال العدل التي تجعل الإنسان السياسي خصبًا، منتجًا خير المدينة».

(أفلاطون في كتابه «المائدة»)

أعرف رجلاً قيل له: شركة الطيران الفلانية ترغب في أن توظف أخاك في وظيفة عليا. ولما سأل عن مواصفات العمل قال إن أخي ليست عنده كل هذه المواصفات فلا أوصيكم به. لقد أستطاع صديقي هذا ألا ينظر الى منفعة أخيه بعدما رأى ان آخرين أولى من أخيه بالعمل.

ان تخرج من ذاتك ومن عائلتك وقبيلتك ووطنك لتشاهد الحق وتحكم له قاعدة من قواعد الاستقامة اساسية: فمن أهم مسالكنا الخيّرة ان نعتقد اننا لسنا مركز الوجود اذ لا يقوى الانسان ان يكون حكمًا على نفسه أو حرًا من رغباته اذ يحكم حسبما يظهر له من شخصيته وكثيرًا ما تبدو له جميلة ليجد في ذلك استقرارًا ويحصل على اطمئنان.

لن يعدل الانسان بينه وبين الآخرين ما لم يتخذ الله حكما. والله ليس عنده محاباة وجوه (رومية 2: 11) لكونه يحبنا جميعا بمحبة واحدة اذ تبدأ محبته بالانصاف وليس لك عليه شيء اذا اغدق على أحد أترابك ما لم يغدقه عليك، ليس لأحد منا حق في ان ينال فوق الانصاف. لهذا كان الحاسد خاليًا من كل عذر.

تتنازل المحاكم في حكمتها الى الضعف البشري فلا تقبل شهادة نسيب مخافة من الكذب ولكن اذا كنت مليئا من الحق تشهد له أوتشهد عليه ولك في حديث ود خال من النميمة ان تكون كامل الموضوعية في الكلام على أقرب صديق. ذلك ان العقل عند بعض من الناس حر من الشهوة وله ان يحكم دون الرغبات فتخرج الحكمة على لسان العادلين.

غير أن هذا يتطلب زمنًا طويلاً من النسك وتطهّرا من التحزب لا يحصل الا عند الذين يرون الله دائمًا عن يمينهم فلا يتزعزعون. والفرق كلّه في دنيانا بين من يرون انفسهم في رؤية الله لهم ومن يشاهدون أنفسهم في عيون الناس. المؤمن يعرف نفسه مفحوص الله فيقترب اليه ليقوى فحص الله له وتزداد تنقيته. أما الجاهل على المستوى الروحي فلا يؤمن بنفسه في التكوّن الالهي. لذلك يريد ان يأتي ممن له منفعة منهم لأن الوجود عنده مال يجنيه أو سياسة ينتهجها. انه يملك من هذه الدنيا لأنه منها. يوجد هذا بما يملك ولا يوجد بما هو عليه.

#  #

#

واذا صحّ هذا في كل الناس فمن باب أولى انه يصح في أهل السياسة لأن هؤلاء هم مترهّبون أو ليسوا بشيء. فاذا استعرنا صورة الراهب فلكونه لا يرى الا الله أمام وجهه أوكما يقول الياس النبي: «حي هو الله الذي أنا واقف أمامه» بمعنى اني ليست مسؤولاً أمام سواه ولأن الأمر كذلك يجعلني مسؤولاً عن كل الناس وهذا لا يحصل الا اذا كنت بالحقيقة فقط. فعندما يقول أفلاطون ان الانسان السياسي يحب جمال العدل فهو يعني انه يحب الحقيقة التي يدل العدل عليها اذ ليس في فكر افلاطون من فرق بين الحقيقة والجمال.

والعدل عنده كما عند أهل أكابر اليونانيين عدل من أجل المدينة. وعنده أن خير المدينة يأتي من العدل لأنها مدينة أحرار التي اذا ظلمها الحاكم يحولها الى مدينة عبيد ولا عقل بلا حرية. تفقد طبيعتها كمدينة يسوسها الحكماء وهؤلاء يسوسون أشخاصًا والعبيد ليسوا بأشخاص أو ما كانوا كذلك قبل نزول الوحي. فمن أجل العدل لا يتعاطى الفيلسوف – الحاكم شأن المال. والقضاة في الاسلام فقراء لأن الفقر الكبير كالغنى الكبير يؤمّن لك الحرية.

العدل عند القضاة أصعب من العدل عند الحكام لأن الأدلة قد تأتي مغلوطة أو الشهادة كاذبة. والمشهد في الجزاء كثيرًا ما يؤثّر في العاطفة. والهدوء الداخلي يحتاج الى ترويض كبير. واستقلال القاضي عسير اذا خشي المؤثرات السياسية التي يريد اصحابها إخضاعه. إن عدل القاضي – اذا تغلب على معاثر حياته – يحررك من الخوف ويجعلك تؤمن بأن الفضيلة ممكنة وبأنك قادر على تجاوز الخصام الحقوقي. بينك وبين آخر تشادّ. لا تستعمله، تحوله حالة نقاش أمام القوس. فالمنازعة لها أن تجري في سلام وتسلّم من الأمة حقك وكثيرًا ما تقتنع انه هو الحق اذ قالته أفواه لا يرقى الشك الى صدقها. لا تحيا أمّة بلا طمأنينة.

غير أن العدالة التي يتوقّعها المواطن هي الصادرة عن الحكام في حدود صلاحياتهم. أفهم ان السياسة مذاهب أي اتجاهات ومواقف وانها كثيرة التعقيد. غير ان أهم ما يهم المواطن فيها الإدارة وعندما يقول الفرنسيون: «الوزراء يعبرون وتبقى المكاتب» ويريدون بذلك الموظفين الكبار، يفهمون ان الادارة أكثر استقلالاً عن السياسة من الوزارة وفي بعض محطاتها هي تصريف أمور الحياة عند المواطنين وقد يكون اقوى عنصر في الادارة الاستقامة واستقبال أصحاب المعاملات بتهذيب وربما ببشاشة وهنا أيضا لا محاباة للوجوه لأن المعاملة اذا ما تلت غيرها فلصاحبي المعاملتين الاهتمام الواحد عند الموظف. ولكون هذا قائمًا في الملاك ولا يحتاج الى رضاء أحد في حكومة تحترم نفسها وتمسك بالترقية حسب الاستحقاق. هذا ممكن تسميته الأمن الإداري الذي تفرضه الديموقراطية، وجوهرها ألا نذبح بعضنا بعضًا وان نتفاهم بالحسنى ونتناقش بالحسنى. فإذا حمى النظام الديموقراطي تنوع الأفكار والتزام المواقف المختلفة فمن ثمار ذلك ألا يُحرم مواطن حقه في تسيير معاملته. من باب صفاء نفسه ان يثق دائما بأن الدولة قائمة لتمنع عنه الظلم وتوصله الى مطلبه الحق. بكلام آخر هكذا ينبغي ان تكون دوائرنا سليمة بحيث لا تأتي صعوبة حياتك من الحكم ودوائره. ينبغي ان تكون الدولة حاضرة بحيث لا تجعلك تحس بوطأة تأتي منها أو تنغيص معيشتك. فاذا حصل نتوء بينك وبين القابضين على زمام الأمور فقد تيأس ليس فقط من أولي الأمر ولكن من كيان البلد. وهذا حافز للهجرة ما في ذلك ريب.

#  #

#

من المؤكد طبعًا ان الإنسان ضعيف لكن واجب الأمة نحو القائمين على الإدارة تأمين معاشهم حتى لا يصيبهم اغراء أو يكونوا بلا عذر اذا وقعوا فيه. حقيقة هذه القولة في العهد الجديد: «محبة المال أصل كل الشرور». وصراع هذه الشهوة رهيب. لكن الإداريين كالمتدرجين في المحاماة ينبغي ان يتلقوا دروسًا في اخلاقيات الادارة وان يترقوا من دراسة. أعرف ان الخطيئة لا تموت ولكن ويل لدولة لا تريد ان تصير ينبوعًا روحيا يطارد الخطيئة. ان الدولة لمن العناصر التي يتنقى بها المجتمع. القديسون وحدهم لا يحتاجون الى الدولة.

متى يسمع الحكام عندنا كلمات كهذه من العقلاء؟ هل تعلم الطوائف عندنا ان تعليم الاخلاق المتعلّق بالحكم جزء أساسي من توجيهها؟ أفهم ان الزهد صعب وان الانسان يخشى الموت ولذلك يشتهي المال الذي يحصنه من المرض ويغدقه على تعليم أولاده وما الى ذلك. المؤمن الكبير هو من يتعلّم ان يموت وان يكون صغيرًا في أعين الناس وهاربا من المجد لأن مجد هذا العالم هو العائق الكبير بينك وبين الله.

هنا يأتي الكلام عن الوزراء وهنا يجب ان نعين الناس في ضعفهم. النواب سيشتهون الوزارة لكونها تزيدهم مجدًا ولو أتعبتهم. وما من شك في ان فصل النيابة عن الوزارة يدل للوهلة الأولى على انه ضد المجد الباطل وأدنى الى الشفافية من اختلاط الأشياء بعضها ببعض. لكن هذا كله يفترض انك لن تبلغ جمال العدالة الذي اشتهاه افلاطون لأهل السياسة ما لم تكره أمجاد هذا العالم وتصمد أمام اغرائه وان تقرر ان تصير راهب البلد. ماذا لو وقف وزير مسلم تقي قرأ كتابا في الأدعية وليس مثله كتاب عشق إلهي وقرأ على الزملاء دعاءً طويلاً وأقاموا بينهم ميثاقًا على ان يكونوا جميعًا رهبانًا مع احتفاظهم بأزواجهم وأولادهم وسيارة واحدة وأثوابهم الأنيقة ولا يشتهوا شيئًا آخر. هكذا يكونون قد قرأوا كتاب «المائدة» أو الحب لأفلاطون ومزقوا كتاب «الأمير» لمكيافيللي حتى أحج اليهم كما أحج الى أديرة مدينة الله انطاكية العظمى.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

العائلة/ الاحد 25 حزيران 2006 / العدد 26

لم أعثر في العهد الجديد على كلمة عائلة. ولكن لها مرادف وهي لفظة “بيت” كما في قول بولس: “وعمدت ايضا بيت استفانوس” (1 كورنثوس 16:1) ونقلتها الترجمة اليسوعية الحديثة: “قد عمدت ايضا أسرة اسطفاناس” ويقول المفسرون ان المراد بهذا الكلام انه عمد اسطفاناس وأولاده. ويكتفي العهد الجديد في الكلام عن الزوج والزوجة اي ان عنده رؤية الى قدسية الزواج. ولكن الرسول يحصر كلامه عن واجبات الأهل نحو الاولاد، عن تربيتهم وعدم إغاظتهم.

ولكن ما من شك في المسيحية ان الأب والأم اللذين لم يرزقا اولادا يشكلون عائلة، واذا لم يظهر اولاد فالعائلة كاملة والمحبة كاملة. وفي الارثوذكسية لا نقول ان غاية العائلة الإنجاب، ولكنا نقول ان الإنجاب اذا تم هو ثمرة التقديس الذي يجمع الأبوين. الى هذا نقول ان العائلة هي الكنيسة الصغيرة، ويقول الكتاب ان كل ابوة على الأرض هي صورة عن ابوة الله لنا.

تبـدأ العـائلة التي فيـها اولاد مـن المعمـودية وهي الولادة من فوق وبها يصير الطفل ابنا لله على صورة الابن الوحيد المولود من الآب. ولكن من الواضح انك لست ابن ابيك ان لم يكن ابوك مؤمنا. الولادة الجسدية عندنا فرصة لزرع المحبة لله اذ لا يقول الكتاب: أحبب اباك وامك ولكنه يقول: اكرم اباك وامك. ولهما منك المحبة لكونها معك من عائلة الآب. لذلك قال الرب يسوع: “لا تَدْعُوا لكم ابا على الأرض لأن لكم ابا واحدا هو الآب السماوي” (متى 9:23). ويصرّ السيد على ان نحب الله اكثر مما نحب اهلنا اذ يقول: “من أتى الي ولم يُفضّلني على ابيه وامه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته، بل عن نفسه ايضا، لا يستطيع ان يكون لي تلميذًا” (لوقا 26:14). فاذا اصطدمت مع اهلك لكونك تحب المسيح وهم لا يحبونه فلست انت منهم. فالرابط الوحيد بينك وبينهم انهم يرشدونك الى المسيح وانت ترشدهم اليه.

فليس لهم الحق ان يزوجوك على من لا تحب. هم ليس لهم الا المشورة، ونحن نزوج الراشدين كما شاؤوا ونقبل في الرهبانية من الراشدين من شاء. لأن الانضمام الى يسوع خير من الانصهار في القبيلة. ولا يعترف الإنجيل بالقبيلة لأنها تنزع عن الانسان حريته في الطبيعة او حريته في المسيح.

اجل هناك فوائد معنوية ووجدانية ان تتحسس بالقرابة على الا تصير هذه المشاعر عصبية تفصلك عن العائلات الأخرى فتناصر عائلتك ان كانت على حق او كانت على الباطل. انت نصير الحق، ومنه تولد، ولا تولد من اللحم والدم اللذين يفنيان في التراب.

غير ان اهمية العائلة الصغرى او الكبرى انها تمرين لك على المحبة. انت تحب اولادك طبيعيا ولكن لا غنج ولا دلع لئلا يفسدوا. تحبهم في المسيح اي تهذبهم بالإنجيل وتصحح العاطفة التي يمكن ان تسترخي. الشوق بدء والمحبة في المسيح هي القوة الحقيقية التي تنمي شخصية اولادك فلا يكونون لك لأنهم ليسوا لك. هم لله فقط وعليك ان تكشف لهم محبة الله لهم بالإنجيل وترويضهم على قراءته وفهمه وان تصطحبهم الى الكنيسة لأنها هي امهم الحقيقية وهناك يذوقون لطف الله بهم ويتمرنون على محبة إخوتهم في المسيح.

الى هذا ففي بلدنا تدعوهم الى محبة غير المسيحيين الذين هم ايضا ابناء الله وإخوة لهم فيه، وافهم جليا ان ليس لنا نحن تكتل طائفي بازاء الآخرين ولكن لنا اصطفاف كنسي لنذوق المسيح وننقل اخلاقه الى كل الناس. فالعائلة هي البيئة الاولى التي يتكون منها الوطن، والوطن عندنا مكان المحبة والخدمة لكل البشر.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

أولادكم في الصيف/ الأحد 18 حزيران 2006 / العدد 25

قد يحس الولد في العطلة المدرسية انها فترة فراغ لطولها، فراغ من الدرس وراحة من الانتظام المدرسي الذي قد يكون عند بعض وطأة عليهم. أنْ يقضوا هذا الوقت دون ان يكون مجرد اضاعة لهم ودونما ضجر هذا هو السؤال الذي يواجه الأهل تربويا. ما لا ريب فيه ان الراحة يجب ان تكون نسبية لا كاملة لأن الولد اذا كان بلا انشغال انما يحلو للفكر السيء ان يدغدغ خياله.

المسألة الأولى هي هل سيبقى ابنكم او ابنتكم مع رفاق المدرسة وقد يتفرقون، ام انه يختار رفاقا جددًا ينبغي ان تعرفوهم ولا يجوز ان يدخل في عشرة طارئة لا تعرفون انتم اخلاقها. فإذا كان الولد في الموسم الدراسي في عهدة مدرسية، ففي هذا الموسم انتم وكلاؤه وحدكم. وهذه فرصة نادرة لتعرفوه ويزداد تعلقكم به. فالعطلة الصيفية ليست عطلة لكم. هي تجعلكم أكثر انشغالا بأولادكم وأقرب الى الحديث معهم فلا تستسلمون لمشاهدة التلفزيون معا فهذه ليست بتربية ولا تستسلمون للخـليوي طـوال السـهرة اذ تكونون بـذا غائـبين.

ثم تطرح مسألة البحار والجبال والنزهات. هنا لا أريد ان أضيّق حرية أولادكم. الأمر خطير أو دقيق ويجب معالجته بحكمة. مع من يسرح أولادكم ويمرحون. الصيف خطر ويحتاج المراهق فيه الى رعاية دقيقة. معاشرة الرفاق مسؤوليتكم فتدبروها.

والأهم من كل ذلك الا يكون الصيف عطلة للعقل. ليس لأولادكم فرصة ليتابعوا مناهج دراسية. ولكن عقولهم ينبغي أن تتروض كما أجسامهم. أنا لا أعرف الآلات الجديدة (الحاسوب، الانترنت) لذلك لا أستطيع أن أرشدكم كثيرًا. ولكن حذارِ أن يسهر الاولاد بعد ان تكونوا انتم ذهبتم الى الرقاد. يقال لي ان في هذا خطرًا شديدًا. وبعامة ليس من الصحة الأخلاقية ان تنهزموا من أمام حضارة الصورة ولو كانت سليمة. لا يمكن للصورة في السينما او غيرها ان تعوض عن المادة المقروءة. الموسيقى السليمة -كلاسيكية كانت ام شرقية- رياضة طيبة وتؤثر في تكويننا الشخصي. ولست أقصد بالمقروء الجرائد والمجلات السليم مضمونها، فهذه كلها لا تقوم مقام الكتاب.

الانسان المثقف وليد الكتاب من أفلاطون الى يومنا هذا. وغالبا ما يقرأ أولادنا الى العربية لغة أجنبية أو أكثر. فاذا كنتم أهلا لإرشادهم في ذلك فافعلوا هذا. ربما دلهم أساتذتهم الى بعض الكتب. وقد يكون عندكم كتب جيدة يقدرون على فهمها. وربما قدرتم ان تشتروا كتبا تليق بأعمارهم نظيفة المعنى والمرامي. ان مراقبتكم لمطالعاتهم من مسؤوليتكم. لا يتثقف الإنسان حقيقة الا اذا عرف تراث الانسانية المثقفة. لا تكفي الشهادات والامتحانات والدراسة في معاهد التدريس. المهم ان يصل كل منا الى المفكرين الكبار. وان كان هذا عمل الحياة كلها فبالدرجة الأولى يتم في سن المراهقة والشباب.

وخير الكتب ما تركه لنا الله مباشرة من فمه اي الانجيل. فليبدأ الشاب أن يتأمل فيه اي ان يدرسه كل يوم. المسيحية بلا انجيل غير عميقة، غير حارة. طالعوه مع أولادكم. هذا أنفع.

الى هذا لا تناموا صباح الأحد بل أفيقوا ورافقوا أولادكم الى الكنيسة لأن الكنيسة غذاء القلب وليس للقلب اصطياف. هكذا تحفظون اولادكم للرب وتتقدسون أنتم برعايتهم.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

أحد جميع القديسين / السبت 17 حزيران 2006

أحد جميع القديسين يقع غدًا في كنيستي. وقد وضعناه في هذا التاريخ أي اسبوعًا بعد حلول الروح القدس على الانسانية لنقول ان القديس ينزل من السماء على معرفته بما قاله الرسول: «لنا هذا الكنز في آنية خزفية…» (2كورنثوس 4: 7). الموهوبون من أهل الأرض رتب: «اهل السياسة وأهل الأدب وأهل الفكر». كل هؤلاء يأتون من الأرض ويعتبرون أنفسهم شيئًا. وحده القديس يرى نفسه لا شيء ويرى ان الله الذي يلامسه هو كل شيء.

وفي البدايات أقول إن هذا الانسان يتشبه بالله فهو مألوه مع كون جزء منه مصنوعًا من تراب. هذا ما هو يراه. لكن الرب يقرأه نورًا أي يقرأه على انه منه. الأبطال يجيئون من الأرض. لذلك لا يعرف القديس نفسه بطلاً. واذا اتفق على انه شاعر كبير أو مفكر كبير يعرف ان هذا لا علاقة له بالقداسة وان انضم اليها. ويعرف انه يدان في اليوم الأخير. وان رصفناه مع أهل السماء فهؤلاء كلهم سيدانون إلاّ من أهرق دمه حبًا فدماؤهم هي الصك الذي يجعلهم ملتصقين بالعرش في ذبحهم اذ ليس من دليل على الحب مثل الدم المراق. والى جانبهم مريم الجالسة على يمين المستوي على العرش اذ لم يكن عندها شيء لنفسها بسبب من اندماجها الكامل بالحبيب.

الاكبرون عندنا يعيشون شعور الخوف من الدينونة لعلمهم بخطاياهم. والقديسون كبار لأنهم يعرفون خطاياهم. وهذه من اولى درجات السمو. ونحن طلاب التاريخ الكنسي نعرف ضعفاتهم لما كانوا في البشرة. وهم مع علمهم بما أوتوا من مواهب لا يستكبرون ويهبهم ربهم معرفة تقصيرهم والمعرفة هذه أولى خطوات تقربهم وتكشف لهم الرؤى النازلة عليهم من أبي الأنوار.

المحبة هذه تبين لهم بعدهم عن الله اذ يعرفون ان القربى تأتي من تنازل الله عليهم ولا تأتي اليهم من جهودهم. والقربى في فهمهم هي قرباه لا قرباهم. ولا يقولون عن أنفسهم انهم متحدون به ولكنهم يتركون لله وحده ان يكون القريب. واذا أعلنت الكنيسة قداستهم فهي لا تحكم على درجات القربى لان هذا متروك للدينونة. وتكون قد كشفت أنهم أرادوا هذه القربى على قدر ما للإنسان ان يقترب وتقول إنها تعرف مقاصدهم لما كانوا على الأرض وتعرف جهودهم وانها تسعى الى تقليدهم لانهم كانوا شركاء الله في قداستهم.

ونقول هذا لنعني ان الرب جاء الى هذه الارض لنكون شركاء مجده ونحن في هذا الجسد بعدما علمنا ان الملكوت هو في داخلنا وان ابن الله أمسى عشيرنا في الجسد ليردم الهوة التي أقامها الفكر الديني بيننا وبين الله عندما جاء المخلص. نحن لا نقول بالاختلاط بيننا وبين الله لاننا لن ندرك طبيعته لا هنا ولا فوق ولا نخترقها ولكنا نعرف انه هو تجاوز الهوة بين جوهره وجوهرنا لما تنازل الينا وكشف لنا اننا مدعوون الى ان نجلس في احضانه.

وهذا متاح للعالم والجاهل فالعلم والجهل مقولتان لا يهتم الله لهما ذلك لان كلاً منّا امّي في حضرته وكلنا عدم أمام ظهوره. والعلم زينة وليس عند الله زينة. و«العلم سيبطل: كما قال الرسول ويبقى الحب وحده بهاء هذا العالم وبهاء الملكوت.

#  #

#

أنا لا أنفي عن أحد سعيه الى الالتماع والنجاح الدنيوي. ففي هذا شيء من الخدمة. وهذه الدنيا يجب ان تكتمل على صعيدها. ولله سرور بكل لمعة وبالمعرفة غير المنتفخة. فالمواهب البشرية ترشد الى الله أحيانًا. غير ان هذه المواهب ليست بشيء في حد نفسها واذا أنت وضعتها عند قدمي الرب فقد ينهضك الى القداسة. وان لم تضعها فأنت مستكبر أي تظن نفسك شيئًا ولست، اذذاك، بشيء.

واذا عدنا الى عبارة جميع القديسين فلكي نقول إن المختارين عند الله هم أكثر مما نعرف أي ان القديسين ليسوا جميعًا في التقويم ولنقول إنهم يشفعون بنا على الدوام وان الفردوس غير مغلق وانه هو وطننا الحقيقي ومن كان فيه يستضيء بنور لا يعروه مساء.

أفهم ان هذا الكلام لا يعني شيئًا لكثيرين وان الله غير مطلوب عند كثيرين لأن انسان هذا العصر يعبد نفسه ويعبد ملذاته وربما اتبع أخلاقًا اجتماعية وعادات مألوفة فاطمأن اليها وظن انها تصنع له توازنًا يعيش فيه. قلت عبد الانسان نفسه فأسلم الى العواصف التي تهب في نفسه وجعل منها شعرًا وفنًا وربما جعل منها فكرًا وحسبها المطلق لانها هي فيه أي اعتبر ان ما يتخبط فيه شيء عظيم لمجرد ان هذا التخبط هو فيه وان له ان يكشفه للناس لكي يدخلوا هم أيضًا في العاصفة ولذلك لم تبق من ضرورة ان يترجم هذه العاصفة بكلام مفهوم لانه منذ سقراط هو سبيل التواصل ولكن الحقيقة عنده ان ينقل العاصفة اليك حتى تماثله بالتخبط.

هذا الغاء لله بمعنى انه الغاء للوضوح وتاليًا كان هذا الغاء للوجه البشري فيرسم لهم قامة أو ما يشبه القامة بلا رأس وليس لك بالضرورة ان تتحسس برأسك أو تؤمن انه ضرورة لاكتمالك لينظر وجهك الوجوه الأخرى وتتكامل بما فيها من ضوء، واذا غاب وجه الانسان فآليا يغيب وجه الله وقراءتك للأشياء من خلال الله. كل هذا طبعًا نقض لمفهوم القداسة.

#  #

#

العصر الحديث، بناء على كل هذا، يقول لك إن الموجود هو ما يجب ان يوجد اذ ليس عندنا معيار لتحسين الموجود. فما من شك في انه إذا غاب الله يغيب معه المعيار. واذا أراد الإنسان إظهار ذكائه يقول لك ان العقل هو الإمام. سؤالي انه إن لم يكن إمام غير عقلك انت اذ ليس من عقل خارج العقول. وعقل اينشتاين غير عقل بائع الخيار. ولو كان العقل لا يخطىء لا تدربه انت بالمعارف. فاذا اجرمت كثيرًا وذبحت عشرة أشخاص يكون لك عقل ذابح أي مبرر لذبح آخرين. واذا سرقت حتى اليسر فتسرق الأكثر لتصل الى غنى أكبر. العقل زئبقي لانه ذاتوي يتأثر بشهواتك وهي ترشده كما يرشدها. هو قوة معطوبة ككل القوى التي فينا. ومن قال بالعقل بصورة حادة مفرطة وبأنه المطلق فلكونه أيضًا يعبد ذاته ولا يعبد الذي تكلم مرة واحدة بالأنبياء وأخيرًا بابنه كما يقول أنصار ابنه اذ السؤال هو ما المرجع الله أم انت.

هنا – وعلى هذا الصعيد – تأتي مقولة القداسة التي تقول الرب هو المرجع وانت تسمع اليه. واذا واليته أو آمنت به يدفعك هو ان تقول قوله وتقتدي به ولك بكلامه ان تخلص وبلا كلامه ان تهلك. واذا اصغيت اليه حسنًا فلك الحظ ان تقوّم مسلكك ليصير مسلكك كلمته فتهذب قلبك وتنزهه حتى لا يقول فيه عقلك المعطوب ما يلطخ هذا القلب فيزداد عقلك سوءًا وطريقك اعوجاجًا.

واذا سلم قلبك من الخطأ والخطيئة ينمو ايمانك اذ يصبح عقلك سليمًا بالله ومعافى ويبدأ مشوار القداسة. هذه تبدو مسعى عسيرًا جدًا لان الانسان غير صادق ولا يريد لنفسه جهدًا كبيرًا. الله يريدنا ان نتعب لانك ان لم تحمل صليبك لتتبعه فلا تصل الا الى خطاياك أي الى عبادة نفسك. اما اذا رأيت نفسك تتكون من القاء نفسك على صدر المسيح فتسمع كلمات لا يسوغ النطق بها تجعلك انسانًا جديدًا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

وكلاؤنا/ الأحد 11 حزيران 2006 / العدد 24

لا يمارس المطران سلطة من نفسه اذ ليس لمخلوق سلطة. يمارس سلطان المسيح في إقامة الأسرار وإدارة الكنيسة. هذه أقوال آبائنا منذ البداءة. ولك ان تبدي رأيك في شخصه ورعايته في أوساط المؤمنين وبكل محبة بنوية. وإذا كان لك عليه شيء فتذهب إليه وتأتي بالأدلة، وله من رحابة الصدر ما يجعله يدافع عن نفسه أو يعتذر ويعترف بالخطأ ويقوّم الاعوجاج. وإذا عاند الحق فاذهب إلى البطريرك، وعند ذاك يحاكمه المجمع. أما إذا أشهرتَ ما تعتبره أنت خطاياه، فمعنى ذلك انك تعتبر نفسك قاضيا. وهو عنده من الحشمة والأبوة ما يمنعه من الرد عليك بالوسيلة ذاتها وأمام جمهور لا يعرف احد هويته.

ان تكشف أنت ما تعتبره عند المطران معصية أو خطيئة لإحداث بلبلة باتخاذ الجمهور حكما يعني انك تبغض الرجل. ليس هكذا يسلك أهل الكنيسة. الكنيسة فيها مراجع وليس فيها ثرثرة. بالثرثرة تهبط العزيمة ويتعرض الإنسان إلى الشك بالآخرين، وإذا أطلق المفتري افتراءه فهو يذهب بنفسه وبالآخرين إلى حكم الشيطان الذي هو الكذاب وأبو الكذاب.

الأمر الآخر الذي أود قوله اليوم وقلته غير مرة تذكير المؤمنين بقول الكتاب «لا تَمَسّوا مسحائي يقول الرب» وبالكلام الآخر: «رئيس شعبك لا تَقُلْ فيه سوءًا» (أعمال 23: 5) لأن هذا يزعزع ثقة الناس بالناس ويزرع الفتنة في الكنيسة وروح الانشقاق إلى جانب الحزن الذي تزرعه في نفس من تفتري عليه.

الشيء الثاني الذي أود قوله أننا ولو كنا لا نستعمل الآن عبارة وكلاء الكنيسة، ونحتنا عبارة مجلس الرعية، يبقى أعضاء المجلس وكلاء للمطران. وحتى لا يكون المطران مزاجيا ويعزل من يشاء، جعلنا له قانونا وهو ان يعيّن المجلس لأربع سنوات، وكان من الواضح في التشريع ان هذه المجالس مؤقتة. والقانون قبل تعديله لاحظ ان ثلث الأعضاء يترك بعد سنتين. والفكرة إذًا كانت ان أحدا لا يبقى إلى الأبد حتى يتدرب العدد الكبير من أبناء الرعية في إدارة شؤونها بإشراف الكاهن. وهذا أردناه حبا بالمؤمنين لا بغضا بمن أنهينا خدمته.

قد نستبقي عددا عند التغيير ليستفيد الجدد من خبرة القدامى، ولكن لا قبول عندنا لبقاء أي كان إلى الأبد. هذا ليس فيه نكران لصلاحه للخدمة. هذا فيه فقط تأكيد أننا نريد عناصر جديدة. في الكنيسة إنسان واحد يبقى حتى موته وهو المطران والكاهن. مع ذلك يعزل المجمع المقدس أي مطران ولكن بعد محاكمة. كذلك يعزل المطران الكاهن بعد محاكمة.

أما العلماني في مجلس الرعية فيذهب عن هذه الخدمة عندما يبتّ المطران ذهابه. ولا يتضمن ذلك انه مشجوب. يبقى أخا محبوبا، حياته المسيحية هي خدمته للرعية. هناك مسؤولية عظيمة لكل منا تأتيه من معموديته، ولكن ليس لأحد حق بأن يكون مسؤولا ماليا أو كاتبا أو ذا وظيفة في مجلس رعية.

وإذا صار خبيرا في شيء فيُطلب رأيه دون ان يحمل لقبا. الشغل لا يتوقف على انتماء شخص إلى مجلس رعية. ونحن لا نكون ذممنا أحدا أو أنقصنا أهميته عندما نضع أحدا آخر مكانه. نكون فقط تأملنا خيرا من الإنسان الجديد الآتي.

فسَّرنا هذه الأشياء قديما، وأرجو الا يجلب احد عليّ اتعابا كما قال بولس الرسول. جاء الوقت لكي لا يتعبني احد. لماذا لا تسير أمورنا كلها «بلياقة وترتيب» كما يقول الرسول أيضا حتى ننصرف إلى الأشياء العظيمة ولا نبقى في التذمر؟ ماذا يمنع ان نكون جميعا ودعاء، لطفاء على صورة المعلّم الإلهي؟

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الروح القدس / السبت 10 حزيران 2006

غدًا يعيّد الارثوذكسيون لحلول الروح القدس على الإنسانية. يقول صاحب «محيط المحيط» ان العنصرة التي هي العيد عبرانية معناها اجتماع أو محفل. وفي الأصل اليوناني هو عيد الخمسين لوقوعه خمسين يومًا بعد الفصح. وعبارة الروح القدس وردت دائما معرّفة ولو قال بعض أدباء المسيحية العرب في العصر العباسي روح القدس ليجعلوا كلامهم مفهومًا في المحيط الذي كانوا يخاطبونه. مدلول اللفظتين معًا انما يؤخذ من الكلام في الثالوث ويعني الأقنوم الثالث فيه. وهو بحسب دستور الإيمان منبثق من الآب وهو في الكتاب روح الابن أيضًا.

هذا على مستوى الأزل. وأما على مستوى الزمان فالروح يرسله الابن الممجد بالقيامة بعد صعوده الى السماء أي انه ينقل اليك فحوى المسيح وقوة فعله لمّا كان بيننا في البشرة كما يبث فيك حركة كلامه في الإنجيل فيحييك به. فالمسيح ولو تجلى في زمن مضى انما يأتيك بزمانك أنت. وهذا ما اصطلحنا على تسميته بالعربية تأوين الخلاص ونحتنا مفردة تأوين من آن ومعناها ان نلتمس من الله ان تصبح فاعلية الخلاص ساكنة في الوقت الذي نعيشه. فعندما نسرد كلام المسيح «اصنعوا هذا لذكري» اللاحقة لقوله: «خذوا كلوا هذا هو جسدي» و«اشربوا منه كلكم هذا هو دمي» لا تعني الذكرى ان تنتقل بالخيال الى حدث مضى ولكن كما يوحي اللسان اليوناني ان حققوا اليوم والآن الحدث الذي انقضى من طريق التأوين بحيث نحيا الحدث كأنه واقع اليوم. لذلك تقول الكنيسة الارثوذكسية: «اليوم عُلّق على خشبة» أو تقول: «اليوم يوم القيامة» فتوحد الزمن الذي يعيشه المؤمن بالزمن الذي عاشه المسيح.

فاذا قال بولس اننا في المسيح أوقال ان المسيح فينا فهذا كلّه فعل الروح القدس. أي انه هو الذي ينقلنا اليه أو ينقله الينا فيجعلنا. من حيث نحن جماعة، جسد المسيح أي كيانه أو حضوره أو مداه. من هذا القبيل لما حل الروح على التلاميذ يوم الخمسين جعلهم كنيسة. طبعًا الكنيسة ولدت بحب المسيح لها على الصليب. تلقت هذا الحب وجعله الروح نارًا وبهذا المعنى تعمدت بالروح والنار.

ولما نزل الروح «ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرّت على كل واحد منهم». الكنيسة صارت واحدة واقتبل كل واحد منهم معمودية النار ونشأت فيه موهبة روحية أو مواهب. هي وحدة في اختلاف أو في تعدد المواهب. فهذا يصلي بحرارة وذاك يفهم ويعلّم والآخر يرعى الرعية جيدًا أو يدير حسنًا أو يرفع شأن الفقراء. كل هذا من الروح على تنوع. فاذا تمسحنت لا تدخل في قالب. ولو كنت على الايمان الواحد فلك تعبيرك وللآخر تعبير.

هناك من فوض اليه الرب ان يجمع مواهب الناس ويجعلها تتفاعل وتتكامل وهو الأسقف. له موهبة الوحدة أو توحيد العطايا. يعظ ويهذب ويؤدب لتتكامل العطايا الالهية في الجماعة. هو ليس عنده كلمة من نفسه. هو مطيع للكلمة الالهية ويحييها الروح فيه لينقلها في زمان الناس الى رعية مصابة بالامراض الروحية فيعالجها لتصبح على صورة المسيح.

لذلك يقول الرسول: «لا تطفئوا الروح» فاذا اخضعتم الناس لقوالب وكررتم ما قاله الأسلاف تكرارًا تكونوا مخضعين الرعية لمزاجكم الخاص أو لكلمة رغباتكم وليس لكلمة المسيح. وتنشأ الانقسامات في الكنيسة لأن كل واحد يقول كلمته كما تنفثها فيه شهواته أو يتكلم عن حسد وغيرة وبغض وكبرياء فتظهر كلمات من بشرتنا وليست من الروح.

ازاء كل هذه الشرور تقول عباداتنا غدا: «ان الروح القدس نور وحياة وينبوع… مطهّر للهفوات. اله ومؤلّه. نار من نار بارزة». هو حياة بمعنى انه يفجّر فيك «أنهار ماء حي» فتمسي انت كالروح. ذلك ان المسألة التي تطرح نفسها هي ما علاقة الكلمة (المكتوبة) في الوحي الروح. عندك انجيل ثابت. هذا ليس حكرًا على العلماء. أجل هناك منهج علمي لدراسته قائم على معرفتك النص الأصلي وتحليله اللغوي واضاءته بمعطيات التاريخ وعلم الآثار وما الى ذلك. ولكن هناك أيضًا عبور الكلمة الى قلبك، الى كيانك، لتصير انت بدورك كلمة ليس بمجرد ترداد المعقول الأصلي ولكن بحيث تصبح كلمة حية ومحيية. هذا ممكن فقط اذا ألهمك الروح الالهي المعنى الذي تحتاج اليه نفسك لتنتعش فيلهمك الروح معنى من الجملة الواحدة ويلهم سواك معنى آخر ويأخذ بيدك ليقودك الى القداسة.

أجل الروح مفسر الكلمة بمعنى انه يكشف غناها لك قارئا. ولذلك قال بولس: «لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى». ومع ان الروح أمين للمسيح الاانه يعطيك اليوم غنى بالقولة الواحدة وغدًا غنى آخر. هناك شيء مستند الى تفسير آبائنا وبحث العلماء ولكن هناك شيء غير التفسير وهو الإحياء.

وهكذا لا يردد المؤمنون بيسوع الانجيل اسطوانة ولكن ينقلونه رسالة شخصية قد لا تحيي ناقلها بالقوة التي يحيا بها سامعها.

هذا ليس ضد تعليمنا ان الكنيسة خزانة المعرفة. ولكن يخطىء من قال إن كل آية لها تفسير واحد. علميًا وفي السياق التاريخي يصح هذا لكن الإثراء ليس واحدًا لي ولك. من هنا ان الكنيسة ليست هي خزانة معرفة بمقدار ما هي ينبوع روح يتدفق كل يوم من فوق علينا نحن الارضيين ليجعلنا آنية للروح القدس ولو كنا آنية من خزف.

أجل كنا نعرف ان أسرار الكنيسة كالمعمودية والقرابين والتوبة والزواج وما اليها كلها من عمل الروح لأنها كلها محتواة في شخص المخلص ولكل – على طريقته – اتحاد بالمخلص. هذه تجليات يمكن ان نعيشها في عمق كبير اذ تاثير السر الكنسي يختلف بين مؤمن ومؤمن. غير ان غاية الاسرار على تنوعها ان تنشىء فيه القداسة. والروح هو الذي يحدثها ويغذّيها فيك.

أجل، في كل سر إلهي كنسي ينزل عليك الروح. والكنيسة هي في تحققها كنيسة الروح. المهم ان تفتح نفسك للعطاء الالهي حتى تصير حاملاً للروح. هناك من كان الله لباسهم، من كان نور وجهه مرتسمًا على وجوههم.

هذا يضطرنا الى جهد عظيم، الى بذل للنفس لا يحد ولا يتوقف. وهذا الجهد نفسه يأتي اليك بالروح. انت بالقداسة تبلغ القداسة. انت منحوت الروح يوما فيوما حتى تحل عليك وعلى البشرية جمعاء العنصرة الأخيرة في القيامة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

قداس الأحد/ الأحد 4 حزيران 2006/ العدد 23

أنت مدعو الا تكون مزاجيا في موضوع القداس. قد لا تفهم كل ما يجري صباح الأحد في الكنيسة. قد لا تدرك كل المعاني. هذا أمر يمكن درسه في كتب تُفسّر القداس الإلهي أو إذا سألت كاهنا فهيما. إذا صرت محبا للخدمة الإلهية وكانت طيّبة لديك لا تتعب، وكلما زاد فهمك يقلّ تعبك ويزول ضجرك.

إذا كان لقاؤك مع المسيح ضعيفا فهناك يقوى اللقاء. قد تقول لي اني أصلي في بيتي، ولكن اللقاء الأعظم الذي يريده السيد هو الذي دعاك إليه بقوله لكل الأجيال وأنت منها: خذوا كلوا، هذا هو جسدي، واشربوا منه هذا هو دمي. وهو القائل: من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه. وأقوال كثيرة مثل هذه تدلنا اننا لا نحيا حياة عظيمة ما لم نشترك بهذه المائدة الإلهية المعدّة أمامنا صباح كل أحد.

لا تَقُلْ: القداس طويل. إذا لم تعتبر الصلاة السَحَرية، فيبدأ القداس بـ«مباركة هي مملكة الآب…». وإذا عرف الكاهن والمرتل ألا يمدّا الترتيل مدّا كثيرا، ينبغي ان ينتهي القداس في ساعة واحدة. أنت لا تتعب بسبب الامتداد. أنت قد تتعب بسبب الضجر الذي يمكن ازالته بالدراسة والوعي.

إلى جانب لقائك مع المسيح، لقاء مع الإخوة الذين يصيرون كيانا واحدا يوم الأحد باقتبالهم الأسرار الإلهية. وفي هذا قال بولس: «فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد» (1كورنثوس 10: 17). هذه مناسبة لتغفر لمن أساء إليك وتستغفر وتنمو في الطهارة وتقوى أمام المحن والصعاب.

قد تجد حولك من ليس عظيم التقوى، وقد لا تكون معجبا بالكاهن. أنت علاقتك مع المسيح وتتناول من يديه. في الظاهر يناولك الكاهن، وفي الحقيقة يعطيك السيد جسده ودمه الكريمين.

وإذا كنت متكاسلا في قراءة الإنجيل، ففي الكنيسة تسمعه وربما أثّر فيك كثيرا ونهض بك وحوّلك تحويلا جذريا. ولعلك سمعت تراتيل كثيرة ولكن قد تدخل جملة واحدة من الإنشاد قلبك للمرة الأولى. ربما تَحَّرك قلبك بكلمتين أو ثلاث وصرت إنسانا جديدا. لا تهرب من ان تصير إنسانا روحيا. ربما لم تحلم بهذا وأردتَ نفسك عاديا في الفضيلة. ربما صرت روحانيا كبيرا بانتباهك بعمق إلى المسيح كما لم تنتبه إليه في الماضي. هل تخاف ان تصبح قديسا؟

لماذا لا ترتمي في حضن يسوع كالتلميذ الحبيب في العشاء السري؟ طالما هو أراد ان يقربك إليه بهذه الوسيلة، لماذا تتردد وتقنع نفسك ان لديك وسائل أخرى لتتقرب إليه؟

إذا كنت موسميا كالبعض، فجرب ان تنتظم في الخدمة الإلهية عدة أسابيع تَرَ انك صرت محبا لكلمة الله ومشتاقا ان تتناول جسد الحبيب ودمه وتكون قد أحسست بمحبته لك فيرتفع مستوى محبتك له. اذا لم تأتِ إلى يسوع تكون قد تركته وحده. هو يريد كل أحبائه له. لا يريدهم ان يناموا في الكسل وفي تركيب ديانة لأنفسهم في خيالهم. هو قال لنا ما علينا ان نفعل لنكون شركاءه. ألم تقل بضع مرات في طفولتك: «اقبلني اليوم في عشائك السري يا ابن الله»؟ اذهب إلى كنيستك وقلها مرة أخرى.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

خميس الصعود / السبت 3 حزيران 2006

خميس الصعود الذي حل من يومين اصعب الاعياد فهمًا على المسيحيين لان الكتاب وضعه في لغة المدى اذ يقول سفر لوقا «وصعد الى السماء» ثم تقوى الصعوبة في الدستور النيقاوي القائل بعد ذكر القيامة «وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب». من الواضح ان هذا الكلام يقابل في الدستور عينه: «نزل من السماء وتجسد». ومن الاوضح ان كائنا روحيا لا ينزل ولا يصعد ولا يقاس بالأبعاد فالابن فيما كان في البشرة كان دائما في حضن الآب فان جسد مريم الذي اتخذه مسكنا له لم يحصره وبقي كلمة الله في العالم كله ولم يحده العالم. لما قال لي احد كبار الأئمة: «نحن نرفض التجسيم» (تلك كانت مفردته) لان التجسيم حلولية، اجبته: كان يكون حلولية لو ذاب الابن في احشاء مريم وصار العنصر الالهي فيه مادة. انه – حسب تعبيرنا – اتخذ المادة اتخاذا ولم يَصُرْها، لقيها وداخلها ولم يتحول اليها.

فاذا تكلمت عن الصعود الالهي فيعني هذا صعود جسد المسيح الى الله من بعد القيامة اي صرنا في تمجيد ناسوتية المسيح ومعادلة الناسوتية واللاهوتية اذ ادركت الاولى الثانية بسبب من ارتضاء المسيح للموت ونهوضه من بين الاموات. الله لا يرفع اليه جسدا ترابيا. انه يرفع اليه ذاك الذي «فيه يحل جميع كمال الالوهية حلولا جسديا» (كولوسي 2: 9).

بالموت والقيامة تم اتخاذ الله جسد المسيح اتخاذا كليا وما نسميه صعودا انما هو التعبير عن هذا السر. صورة انتقاله الى السماء تعبر عن قوله: «انا ذاهب الى الآب». في الحقيقة انه لا يذهب ولا يأتي ولا ينزل ولا يصعد ولكنه يضم ألوهته الى الجسد والجسد الى ألوهته ويجب ان يقول هذا كلام بشري لان الانسان جعل السماء فوق والارض تحت واتت لغته من المدى والزمان ويبيت في مفهومه الاله ولا يقع الله تحت المفهوم لان المفهوم يحده. لقد استعمل الله اللغة واللغة تضعه تحت المعقول.

ويلتزم الله هذه المحدودية ليحبنا ويحيينا ضمن مقاييسنا لكن ذوي الحس الروحي يسعون الى تنزيهه والاتصال به في القلوب.

الديانات القديمة جعلت الآلهة على رؤوس الجبال والى هذا اشارت ايضا في العهد القديم. والشرائع الالهية تعطى من جبال وعليها تتجلى الآلهة. ويسمو الانسان من الارض الى الله لان الله ساكن العلو وهو في مقام السمو او السماء. وهذا كله لغة. ولكنك اذا تخلقت باخلاق الله او غدوت مألوها او متألها حسب المصطلح المسيحي فيتم لك هذا حيث انت ولا تضطر الى ان تذهب الى مكان آخر واذا احسست ان السماء نزلت عليك فما هذا الا لغة. لذلك لم يصعد المسيح الى مكان اذ ليس من مكان يصعد اليه. ولا نزل الى الجحيم نزولا لان ليس تحت الارض من جحيم. واذا قلنا انه نزل الى الجحيم فاننا نعني انه دخل نطاق الموت لكي يحطمه ويزيله ويجعل ما فوق الانسان وتحته نورا. انت ساكن النور وليس فوق النور وتحته وعلى جنباته الا النور.

لا يهمنا المكان الذي «صعد» منه المسيح. هناك تصوير اورشليمي او اطار اورشليمي لا بد منه. المسيح صعد بمعنى انه اجلس بشريته عن يمين الآب اي جعل بشرية الانسان اذا تمسحنت وصارت مثل بشرية يسوع مقترنة بالله وحاصلة على كرامته ذاتها. هذا هو معنى انها باتت عن يمينه.

كل من حد الله بحيز او حده بصعود او بنزول انما لا يقدر ان يصل الى حقيقته او طبيعته وتاليا يبقى هزيلا. انت لا تدركه باي صورة. تشير اليه باللغة. المرقاة اليه ليس اياه. ليس لله بيت. هو يسكن عراءه وانت اليه فقط من عرائك.

وعندما ارتفع المخلص الى السماء – اذا شئت تعبيرا – ضم بشريته الممجدة الى مطلق الله. المسيح في بشريته في السماء بمعنى انه يسكن المطلق في لاهوته وناسوته معا. انا لا احب كثيرا لفظة مطلق لانها غير محررة من الاغريق. الكلمة الانجيلية هي الكمال. ما حصل في الصعود ان السيد اعلن قيام بشريته في الكمال. ذلك المساوي للكمال الالهي.

واما نحن فمدعوون الى ضم بشريتنا الى بشرية المسيح. لهذا دعانا الرسول الى فكر المسيح. وهذا الفكر يتخذ بشريتنا اتخاذا وتاليا يشفيها فتصبح على صورة بشريته اي سالكة على طريق المجد. لذلك قال المسيح: «انا الطريق». فاذا احببته تكون عند بدء الطريق واذا ازداد حبك تمشي على الطريق على رجاء وصولك الى منتهاه.

وهذا هو كمالك ان تريد اكمال الدرب حتى لا يبقى لك درب تحيد به عما رسمه الرب لك من درب. وفي هذا قال الرسول: «فأما وقد قمتم مع المسيح، فاسعوا الى الامور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله» (كولوسي 3: 1). القضية كلها اذًا ان فكروا كما يفكر المسيح وهكذا تكونون في العلى. اذ يوضح بولس بعد دعوته هذه ان «ارغبوا في الامور التي في العلى لا في الامور التي على الارض، لانكم قد متم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله. فاذا ظهر المسيح الذي هو حياتكم، تظهرون انتم ايضا عندئذ معه في المجد».

الكلمة الاخيرة ليست صعوده بل ظهوره ولا ينحصر ظهوره في ذاته لانكم بعدما امتم ما كان فيكم للبشرة واتحدتم بالمخلص الظافر وسرتم اليه وعلى طريقه لتكونوا منه تكون النتيجة ظهوره وظهوركم معا. ما كان الصعود الا استعدادا لظهور المسيح وكنيسته العروس والانسانية الممجدة فحيث كان وكنا فهناك العرش والبشرية التي تغني الجالس على العرش «نشيدا جديدا» وهؤلاء سيملكون الى الابد وسيقولون: «للجالس على العرش وللحمل التسبيح والاكرام والمجد والعزة الى ابد الدهور» (رؤيا 5: 13).

ذلك ان الصعود هو صعودنا في هذا السكر الصاحي الى البهاء الاخير.

Continue reading