الحكام المترهّبون / السبت 26 حزيران 2006
«إنها محبة جمال العدل التي تجعل الإنسان السياسي خصبًا، منتجًا خير المدينة».
(أفلاطون في كتابه «المائدة»)
أعرف رجلاً قيل له: شركة الطيران الفلانية ترغب في أن توظف أخاك في وظيفة عليا. ولما سأل عن مواصفات العمل قال إن أخي ليست عنده كل هذه المواصفات فلا أوصيكم به. لقد أستطاع صديقي هذا ألا ينظر الى منفعة أخيه بعدما رأى ان آخرين أولى من أخيه بالعمل.
ان تخرج من ذاتك ومن عائلتك وقبيلتك ووطنك لتشاهد الحق وتحكم له قاعدة من قواعد الاستقامة اساسية: فمن أهم مسالكنا الخيّرة ان نعتقد اننا لسنا مركز الوجود اذ لا يقوى الانسان ان يكون حكمًا على نفسه أو حرًا من رغباته اذ يحكم حسبما يظهر له من شخصيته وكثيرًا ما تبدو له جميلة ليجد في ذلك استقرارًا ويحصل على اطمئنان.
لن يعدل الانسان بينه وبين الآخرين ما لم يتخذ الله حكما. والله ليس عنده محاباة وجوه (رومية 2: 11) لكونه يحبنا جميعا بمحبة واحدة اذ تبدأ محبته بالانصاف وليس لك عليه شيء اذا اغدق على أحد أترابك ما لم يغدقه عليك، ليس لأحد منا حق في ان ينال فوق الانصاف. لهذا كان الحاسد خاليًا من كل عذر.
تتنازل المحاكم في حكمتها الى الضعف البشري فلا تقبل شهادة نسيب مخافة من الكذب ولكن اذا كنت مليئا من الحق تشهد له أوتشهد عليه ولك في حديث ود خال من النميمة ان تكون كامل الموضوعية في الكلام على أقرب صديق. ذلك ان العقل عند بعض من الناس حر من الشهوة وله ان يحكم دون الرغبات فتخرج الحكمة على لسان العادلين.
غير أن هذا يتطلب زمنًا طويلاً من النسك وتطهّرا من التحزب لا يحصل الا عند الذين يرون الله دائمًا عن يمينهم فلا يتزعزعون. والفرق كلّه في دنيانا بين من يرون انفسهم في رؤية الله لهم ومن يشاهدون أنفسهم في عيون الناس. المؤمن يعرف نفسه مفحوص الله فيقترب اليه ليقوى فحص الله له وتزداد تنقيته. أما الجاهل على المستوى الروحي فلا يؤمن بنفسه في التكوّن الالهي. لذلك يريد ان يأتي ممن له منفعة منهم لأن الوجود عنده مال يجنيه أو سياسة ينتهجها. انه يملك من هذه الدنيا لأنه منها. يوجد هذا بما يملك ولا يوجد بما هو عليه.
# #
#
واذا صحّ هذا في كل الناس فمن باب أولى انه يصح في أهل السياسة لأن هؤلاء هم مترهّبون أو ليسوا بشيء. فاذا استعرنا صورة الراهب فلكونه لا يرى الا الله أمام وجهه أوكما يقول الياس النبي: «حي هو الله الذي أنا واقف أمامه» بمعنى اني ليست مسؤولاً أمام سواه ولأن الأمر كذلك يجعلني مسؤولاً عن كل الناس وهذا لا يحصل الا اذا كنت بالحقيقة فقط. فعندما يقول أفلاطون ان الانسان السياسي يحب جمال العدل فهو يعني انه يحب الحقيقة التي يدل العدل عليها اذ ليس في فكر افلاطون من فرق بين الحقيقة والجمال.
والعدل عنده كما عند أهل أكابر اليونانيين عدل من أجل المدينة. وعنده أن خير المدينة يأتي من العدل لأنها مدينة أحرار التي اذا ظلمها الحاكم يحولها الى مدينة عبيد ولا عقل بلا حرية. تفقد طبيعتها كمدينة يسوسها الحكماء وهؤلاء يسوسون أشخاصًا والعبيد ليسوا بأشخاص أو ما كانوا كذلك قبل نزول الوحي. فمن أجل العدل لا يتعاطى الفيلسوف – الحاكم شأن المال. والقضاة في الاسلام فقراء لأن الفقر الكبير كالغنى الكبير يؤمّن لك الحرية.
العدل عند القضاة أصعب من العدل عند الحكام لأن الأدلة قد تأتي مغلوطة أو الشهادة كاذبة. والمشهد في الجزاء كثيرًا ما يؤثّر في العاطفة. والهدوء الداخلي يحتاج الى ترويض كبير. واستقلال القاضي عسير اذا خشي المؤثرات السياسية التي يريد اصحابها إخضاعه. إن عدل القاضي – اذا تغلب على معاثر حياته – يحررك من الخوف ويجعلك تؤمن بأن الفضيلة ممكنة وبأنك قادر على تجاوز الخصام الحقوقي. بينك وبين آخر تشادّ. لا تستعمله، تحوله حالة نقاش أمام القوس. فالمنازعة لها أن تجري في سلام وتسلّم من الأمة حقك وكثيرًا ما تقتنع انه هو الحق اذ قالته أفواه لا يرقى الشك الى صدقها. لا تحيا أمّة بلا طمأنينة.
غير أن العدالة التي يتوقّعها المواطن هي الصادرة عن الحكام في حدود صلاحياتهم. أفهم ان السياسة مذاهب أي اتجاهات ومواقف وانها كثيرة التعقيد. غير ان أهم ما يهم المواطن فيها الإدارة وعندما يقول الفرنسيون: «الوزراء يعبرون وتبقى المكاتب» ويريدون بذلك الموظفين الكبار، يفهمون ان الادارة أكثر استقلالاً عن السياسة من الوزارة وفي بعض محطاتها هي تصريف أمور الحياة عند المواطنين وقد يكون اقوى عنصر في الادارة الاستقامة واستقبال أصحاب المعاملات بتهذيب وربما ببشاشة وهنا أيضا لا محاباة للوجوه لأن المعاملة اذا ما تلت غيرها فلصاحبي المعاملتين الاهتمام الواحد عند الموظف. ولكون هذا قائمًا في الملاك ولا يحتاج الى رضاء أحد في حكومة تحترم نفسها وتمسك بالترقية حسب الاستحقاق. هذا ممكن تسميته الأمن الإداري الذي تفرضه الديموقراطية، وجوهرها ألا نذبح بعضنا بعضًا وان نتفاهم بالحسنى ونتناقش بالحسنى. فإذا حمى النظام الديموقراطي تنوع الأفكار والتزام المواقف المختلفة فمن ثمار ذلك ألا يُحرم مواطن حقه في تسيير معاملته. من باب صفاء نفسه ان يثق دائما بأن الدولة قائمة لتمنع عنه الظلم وتوصله الى مطلبه الحق. بكلام آخر هكذا ينبغي ان تكون دوائرنا سليمة بحيث لا تأتي صعوبة حياتك من الحكم ودوائره. ينبغي ان تكون الدولة حاضرة بحيث لا تجعلك تحس بوطأة تأتي منها أو تنغيص معيشتك. فاذا حصل نتوء بينك وبين القابضين على زمام الأمور فقد تيأس ليس فقط من أولي الأمر ولكن من كيان البلد. وهذا حافز للهجرة ما في ذلك ريب.
# #
#
من المؤكد طبعًا ان الإنسان ضعيف لكن واجب الأمة نحو القائمين على الإدارة تأمين معاشهم حتى لا يصيبهم اغراء أو يكونوا بلا عذر اذا وقعوا فيه. حقيقة هذه القولة في العهد الجديد: «محبة المال أصل كل الشرور». وصراع هذه الشهوة رهيب. لكن الإداريين كالمتدرجين في المحاماة ينبغي ان يتلقوا دروسًا في اخلاقيات الادارة وان يترقوا من دراسة. أعرف ان الخطيئة لا تموت ولكن ويل لدولة لا تريد ان تصير ينبوعًا روحيا يطارد الخطيئة. ان الدولة لمن العناصر التي يتنقى بها المجتمع. القديسون وحدهم لا يحتاجون الى الدولة.
متى يسمع الحكام عندنا كلمات كهذه من العقلاء؟ هل تعلم الطوائف عندنا ان تعليم الاخلاق المتعلّق بالحكم جزء أساسي من توجيهها؟ أفهم ان الزهد صعب وان الانسان يخشى الموت ولذلك يشتهي المال الذي يحصنه من المرض ويغدقه على تعليم أولاده وما الى ذلك. المؤمن الكبير هو من يتعلّم ان يموت وان يكون صغيرًا في أعين الناس وهاربا من المجد لأن مجد هذا العالم هو العائق الكبير بينك وبين الله.
هنا يأتي الكلام عن الوزراء وهنا يجب ان نعين الناس في ضعفهم. النواب سيشتهون الوزارة لكونها تزيدهم مجدًا ولو أتعبتهم. وما من شك في ان فصل النيابة عن الوزارة يدل للوهلة الأولى على انه ضد المجد الباطل وأدنى الى الشفافية من اختلاط الأشياء بعضها ببعض. لكن هذا كله يفترض انك لن تبلغ جمال العدالة الذي اشتهاه افلاطون لأهل السياسة ما لم تكره أمجاد هذا العالم وتصمد أمام اغرائه وان تقرر ان تصير راهب البلد. ماذا لو وقف وزير مسلم تقي قرأ كتابا في الأدعية وليس مثله كتاب عشق إلهي وقرأ على الزملاء دعاءً طويلاً وأقاموا بينهم ميثاقًا على ان يكونوا جميعًا رهبانًا مع احتفاظهم بأزواجهم وأولادهم وسيارة واحدة وأثوابهم الأنيقة ولا يشتهوا شيئًا آخر. هكذا يكونون قد قرأوا كتاب «المائدة» أو الحب لأفلاطون ومزقوا كتاب «الأمير» لمكيافيللي حتى أحج اليهم كما أحج الى أديرة مدينة الله انطاكية العظمى.
Continue reading