العيش الواحد في لبنان / السبت ٢٧تشرين الثاني ٢٠٠٧
لبنان واحد ومتعدد الأطياف معا. في هذه الكلمات لن أحدثكم في السياسة حتى تنجلي صعوباتها وتطلع العقول النيّرة والقلوب الطيّبة الى حلها. ليس من لبناني لا يتوق الى تلاقي هذه الأمة في محافظة كل شريحة على تراثها وفيه خصائصها بغية الحلم بوحدة لا تزيل الخصائص ولكنها تتخطاها الى اجتماع واحد بلا ذوبان بحيث تقدّم كل شريحة اجمل ما عندها واجمل ما فيها وبحيث نقدر ان نقول يوما عندنا مع الحفاظ على عبقريات الطوائف واجب تشكيل أمة واحدة وهذه العبارة لا أفلسفها ولكني ألحظها ولاسيما انها في الدستور.
انا لا أبحث في الهويات. بعد ان تبيّن لنا بصورة خفرة مع البيان الوزاري الذي وضعه المغفور له رياض الصلح اننا عرب وقيل هذا بأوضح صورة في وفاق الطائف والدستور المنبثق عنه بات هذا واقع تحسسنا وأصل وحدتنا مع العرب ما لا يبطل الوحدة الوطنية. بلا تفلسف قومي لا يلقي احد علينا درسا في عروبة التعاون والثقافة والنضال الواحد ابتغاء انتمائنا الى الحضارة العالمية. لا أقرأ منذ سنين ان احدا يسائل هويتنا اللبنانية الملوّنة عربيا. ومن سمي عربيا في الحديث الشريف هو من تكلّم هذه اللغة ويريد اعلاء شأنها وتبيان حركيّتها في العالم المعاصر اذ تشرع ابوابها ونوافذها على العالم المتمدّن فيما تحافظ على لونها الخاص ومن لا لون له لا إسهام له في مسيرة الحياة. لبنان ليس إزاء العرب ولكنه مع اولئك العرب الذين يحبونه.
مرة كنت في موسكو في معية السيّد البطريرك اغناطيوس (هزيم) وانتدبني الى مؤتمر جمع صحافيين سوفياتا وعربا يمثلون جرائد عربية من عندنا. وسئلت: هل انتم مع السوفيات او الاميركيين؟ فأجبت: نحن مع الذين هم معنا وانتهى المؤتمر بهذا الكلام. نحن اذًا في كل طوائفنا مع الذين هم معنا صادقين. مع ذلك نرعى المودات كما قال ـ على ما أذكرـ ابو فراس الحمداني الذي طالب سيف الدولة الحمداني ان يخلصه من منفاه الرومي ولامه لعدم الاكتراث به. التماس الشاعر الكبير ما نريده الا نكون منفيين عند احد.
انا لا انفي حق كل شريحة بموداتها الخارجية اذا لم تأسرها هذه المودات وذاكرتها التاريخية لأن هذه الذاكرة مبنية على تواصل تاريخي وربما كان احد عناصرها التجانس الديني مع هذا الشعب او ذاك ولكنا لسنا ذراع احد لئلا يتخدش شعورنا بالوحدة اللبنانية ولا تفنى فينا العروبة الأصيلة. هذا الحنين الى هذا وذاك لا يشكل هوية اخرى لأن الهويات المتعددة قتالة كما يقول امين معلوف في احد كتبه.
واذا نظرت الآن الى المسيحيين فهم كنائس شقيقة وهذه واحدة في الأصل وفي الجوهر ولو كانت منفصلة في الشركة التنظيمية على الصعيد الكنسي. لذلك لا يشكل المسيحيون صفا واحدا بالضرورة على المستوى السياسي. فلكل كنيسة مساهمة ثقافية متميّزة وتاريخ مستقل وليس المسيحيون أمة صغرى ضمن الأمة الكبرى وان اعترف ائمة المسلمين الأحياء منهم والذين استدعاهم ربهم الى رحمته. كلهم اجمعوا على ان هذا البلد لا قيام له بلا مسيحية، كلهم يحزن لهزالة عدد المسيحيين بالهجرة. والحق ان الجميع يهاجر.
# #
#
وقد قال الرسول العربي في «دستور المدينة» بعد ان هاجر اليها ان المؤمنين اي المسلمين واليهود امة واحدة. واذا كان هذا صحيحا آنذاك فمن باب أولى اذا استوحينا هذا الدستور في لبنان ان يقول المسلمون انهم مع المسيحيين امة واحدة. هذا لا يمنع المسلمين ان يوردوا قول كتابهم: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» (آل عمران، الآية ١٠٤). فالمعنى الواضح ان الجماعة الإسلامية ليست خير أمة بتكوينها المجتمعي ولكن بصفتها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر. هي خير أمّة بحركيّتها الى الإيمان والبر والطهارة. والمسيحيون بوصفهم يقيمون الإنجيل هم أيضا أمة صالحة وليس باعتبارهم كتلة مجتمعية تعتريها المعاصي كما تعتري غيرها. ليس عندي اية عثرة اذا استعمل المسلمو عبارة الأمة الإسلامية بمعنى التوحد في ما بينهم بالله. ولكن في الاستعمال الحديث نأخذ لفظة امة بمعناها المدني او الاصطفاف المدني كما قال الرسول في دستور المدينة.
كل منا قائم مع الآخرين في حضرة الله. كلنا إلهي او مألوه بهذا المعنى وهذا ينفي العصبية التي حددها ابن خلدون بقوله انها تناصر اهل الأرحام. الانتساب الى الأرحام لا يشكل هوية. والمسيحيون يسمون كتلتهم كنيسة وهي ليست قائمة بهم، لتجمعهم. انهم مدعوون في المسيح. واذا اتفقنا اننا واحد في المدينة الجديدة التي هي مجموعة المدن والقرى اللبنانية فليس بيننا فرق ولو بقيت فروق في العقيدة. العقيدتان ليستا الى تخاصم في هذه الدنيا ان عرفنا الله حق المعرفة وعرفنا الوطن واقعا تاريخيا وارضا نريد ان نلازمها في معيّتنا.
ليس علي انا ان اوحي للمسلمين انهم واحد. فالجامع الأزهر اعتبر في التدريس ان التشيّع مذهب خامس في الاسلام. ليس عليّ ان أتدخّل في هذا التقرير. ولكن ما يجمع السنة والشيعة اعظم بكثير مما يفرقهم. والمسيحيون اللبنانيون على مستوى الاجتماع يرونهم كذلك. وعلاقتهم بالمسلمين هي انهم كتلة واحدة تدين بالله وأنبيائه وسنة الرسول.
لنقل اذًا على اننا في هذا البلد مرميون روحيا على ان الإسلام واحد والمسيحية واحدة وانه كتب عليهم جميعا ان يجتمعوا على قيم روحية كثيرة واحدة وعلى أخلاق اساسية واحدة.
لست انا اليوم معنيا بالحوار الإسلامي المسيحي على صعيد الفكر اللاهوتي او ما يسميه المسلمون علم الكلام. الحوار له قواعده وذهنيّته وروحيّته وان لنا كلاما كثيرا متقاربا في اللاهوت ولو كنا على اختلاف في هذه العقيدة او تلك. هذا لا يمنع التلاقي الوجداني او التقارب الإنساني العميق. والاختلاف لا يقود الى العنف. ولست في حاجة اليوم الى استنباط ما يقرب بيننا في النصوص. ومن كان منا محبا للآخر يتقبّله في أصالته وفرادته وضرورة الأخوة بيننا والتلازم المدني في حكم مدني حسب عبارة المغفور له الإمام مهدي شمس الدين في خطب له كثيرة وفي الإرث الروحي الكبير الذي وضعه في كتاب وصايا. حيث رغب الى أبنائه ان تكون الآفاق اللبنانية وحدها آفاقهم. لا وحدة شعبية في العالم بالمعنى السياسي.
# #
#
من يسود ومن لا يسود تفاهة التفاهات. انا لا اسود أخي في الوطنية. هذا اشتراء الحياة الدنيا بالآخرة كما يقول في سورة البقرة. او كما جاء في سورة آل عمران: «وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور». وكذلك في الأنعام: «وما الحياة الدنيا الا لعب وغرور». من قال ان الإسلام ليس فيه نسك؟ وفي الإنجيل: «اطلبوا ملكوت الله وبره والباقي يُزاد لكم». وفي المسيحية البداءة والنهاية هي سيادة الله على القلوب. والسياسة التي لا قلب فيها ليس لها إله. ما يهمنا اذًا ليس سياسة المسلمين ولا سياسة المسيحيين ولكن سياسة الله فينا جميعا.
يؤسفني ان نتعاطى شؤون هذه الدنيا كأن الله لا يلهمنا شيئا في الحياة الدنيا ولا يسوس حركتنا الداخلية، حركة القلوب في القلوب.
لك ان تتعاطى اي دين لك بلا صدام وبلا كراهية والا تحشر أخاك في النار والا تحتكر الجنة لأنك اذا فعلت ذلك تكون قد قمت بدينونة استباقية والدينونة عمل الله وحده. مارس ما شئت من فرائض وآمن بما تريد ولا تغضب على احد ولا تعزله عن قلبك فاذا فعلت لا يكون الله ساكنا فيك ولا تكون في الحقيقة من خير امة أخرجت للناس والنفس المبغضة مائتة قبل ان يقبضها الله.
نحن جميعا في حاجة الى تطهر وما من تطهر بالإلهام المجتمعي فقط. انه توبة الى وجه الله الذي لا يحصر في كتاب. والكتاب بين يديك ليقودك النص الى الحياة التي في الله.
على ضوء هذه البركات وعلى حبنا لأهل التوحيد الإسلامي والمسيحي في كل مكان واستلذاذنا الروحيات في كل صوب لا شيء يمنعني ان أستطيب المسلم اللبناني بخاصة بسبب من هذا العيش الواحد الذي يجمعنا واحس انه يؤثرني شعوريا على اي مسيحي أجنبي. البلد ومناخه والفكر الحديث الخلاق فيه واستيطاب الجمالات الروحية اذا انعقدت الصداقات الشخصية والعائلية من الأشياء التي تكون لبنان. ثم عند هذا وذاك تبدد اللغة الانسانية واحدة بما في ذلك لغة الطيبين في الحياة الوطنية. هناك اسلام في الخطابة بما فيها الخطابة السياسية وفي الشعر متأثر بخير ما في المسيحية وهناك مسيحيون كثر يحبون المسلمين بسبب الإنجيل وبسبب الفضائل التي يشاهدونها عند ابرار المسلمين .
قد لا تجد مثل هذا في البلدان التي لا اختلاط فيها. هذا تداخل ودي وفكري معا والتعصب تلمسه عند الذين لا عمق روحيا عندهم ولا انتظار لرحمات الله. هؤلاء نرأف بهم ونرجو خلاصهم من الضيق العقلي والوجداني. قاعدة التقارب حتى التناضح واضعها الله الذي قال عنه العهد الجديد انه محبة حتى تنتقل المحبة من كونها كلمة الى كونها وجودا داخليا.
هل يأتي جبريل ويبشّر كل نفس عذراء حتى تخرج منها فقط الكلمة الصافية على صورة كل كلمة تخرج من فم الله، حتى يكللنا الرب جميعا بالفرح الأكبر الواحد لنصير مشابهين للإله الجميل.
Continue reading