Monthly Archives

December 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

2007 / الأحد 31 كانون الأول 2006 / العدد 53

أوّل يوم في السنة ليس عيدًا كنسيًا. هو يوم من كل الأيّام جعلت فيه الكنيسة عيدين: عيد ختانة الرب يسوع، وعيد القديس باسيليوس الكبير. نعيّد لختانة الرب كما نعيّد لكل الأحداث التي عاشها في البشرة. هذه الأحداث في تراكمها وتتابعها قادته إلى الموت. أما باسيليوس فهو أحد عظمائنا في اللاهوت والنسك والأسقفيّة والعمل الاجتماعي، وما من شك في انه جمع في ذاته كل فضائل الأسقفيّة، ومات وهو في الـ 49 من عمره السنة الـ 379.

وحيث اننا من هذا العام ننقلب إلى عام جديد نرجو ان يكون حقا آتيا لنا بما يجعلنا جددا في عيني الله. ولعلّ صورة الختانة تنفعنا هنا إذا منعنا العين ان ترى ما يؤذيها أو قباحة الناس، ونحول دون ان تسمع الأذن ما يسيء إلى العفة، وبكلمة بسيطة ان نحيا في النسك فنكون بريئين من كل عيب استرضاء للمسيح.

ويحق لنا إلى هذا السلام الداخلي ان نطلب السلام في كل العالم، في لبنان أولا والعراق وفلسطين وفي أيّة بقعة. الحرب مشتعلة حولنا، ونجدد أنفسنا بطلب السلام والصحة غير متناسين قول الرب: «اطلبوا أولا ملكوت الله وبرّه والباقي يُزاد لكم». وعلى ذلك ان قول العامة: «صحتك بالدني» كلمة غير صحيحة. تأتي بعد جهادك في سبيل القداسة. ولم يمنعنا الرب من طلب المال مع انه ألحّ ان نحترز منه وان نخشى سلطانه علينا. ليس علينا من ممنوع إذا كان ضمن الشريعة.

لعلّها مناسبة ان أذكّر المؤمنين بأنّ يوم رأس السنة نقيم فيه القداس الإلهي بحيث إذا قضينا العشيّة في سهر طويل أو لعب كثير لا نكون مهيَئين للصلاة في أول كانون الثاني. ولعلّ بعضًا منكم لا يزالون على رغم الفقر يلعبون القمار. وهذا مال ينبغي ان يبقى للعائلة أو ننفقه في العائلة أو نقوم فيه بإحسان. وهذه هي الأسباب الوحيدة التي تبرر تصرّفنا بالمال. أنت مؤتمَن على المال. أما أن تعطي مالك بسبب ورقة لعب فهذا تبديد للمال. ادخل إذًا هذه السنة الجديدة واثقًا بالربّ. وسلّمه نفسك وعائلتك ولبنان.

التجديد عندنا هو بالروح القدس ولا علاقة له بالأيام، ولكنه يتطلّب جهدًا كبيرا لأنه عمل مشترك بيننا وبين الله معطى في نعمته. لا تتكل فقط على النعمة بل جاهد. لا تبقَ مرتاحًا إلى جهدك واطلب النعمة. هذا ما نسمّيه المشاركة بينك وبين الله، وبهذا تكون كل أيامك جديدة.

وكما تبتدئ السنة المدنيّة، ابتدئ أنت حياتك مع المسيح إن كنت متباطئًا حتى الآن. هل عندك هذا العزم، هل تحب المسيح؟ هذه عمارة تعمَّر. اقرأ الإنجيل في بيتك. تعال إلى القداس. صلِّ مساءً ترَ ان الأشياء تغيّرت في نفسك وتغيّرت حولك. عندئذٍ هذه الأيام تكون رأسَ تَجدّدك في المسيح وبداءة مشوارك إليه. قبل ذلك كل شيء روزنامة. صرْ أنت روزنامة يقلبها الله ويقرأها بحيث يرى كل يوم شيئًا جديدًا ويرى كل عمرك جديدًا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

السنة الـ 2007 / السبت 30/12/2006

الزمان خط واحد لا انقطاع بين ذراته. هو مدى الله بحكمه ومدى الانسان بين خطيئته وآماله. ولما قال صاحب المزامير: “وخطيئتي امامي في كل حين” لم يرد ان نستغرق في حسرتنا ولكن ان نجعل التوبة شوقنا الاساسي. فبعد اليومين الاخيرين من هذه السنة واليوم الاول من السنة المقبلة لحمة كاملة ولا ينفع السهر الذي لا يؤتينا املا”.

نرتمي اذاً في احضان الله الذي يعطي للسنة المقبلة مضمونها او ليست هي بشيء والى هذا لا يريد لها سوى بر الابرار اولا ثم سر المبدعين كي لا تكون سوداء في عينيه. مع ذلك يحلم الله ببياضها كي تعود اليه كما خلقها على ان تختار النصوع كالثلج الذي على قمم لبنان. ولا يحالف الله الا الابرار كي يجعل هذا الزمان مليئا. ورجاؤنا ان ينقذ الانسانية في يوم رضاه. يأمل ان نتعلم العدل وان يكون كل منا في ايام المحن “ام الصبي”.

الدنيا من اقصاها الى اقصاها رجّة كبرى. وعند الرجات تخاف اذ تخشى ان تأتي زلزالا، اذ لا يمنع الانسان الا يرى ما حوله وانه يجيء الى حد كبير مما حوله. يجيء اولا من جسده ومن كبوات هذا الجسد التي تجعلنا على طريق الموت. ويجيء من زوجته ومن اولاده والانسباء والاصدقاء والاعداء الذين يطبعون احساسه. نفسه اذاً هي تجيء ايضا مع ما يدنيها الى الارض وما يرفعها الى السماء او ما هو بينهما فاذا سقطنا فالى الوجع وان ارتفعنا فالى التعزيات.

ما قلته يعني اننا لسنا وحدنا في الالم او في الفرح ولكن نحن دائما مع الآخرين يكسروننا ونكسرهم او يصلّون من اجلنا ونصلي من اجلهم، واذذاك يكونون ونكون. ومع ان الانسان في دعوته الالهية اعظم من الكون كله الا انه في هشاشة نفسه وجسده مرمي في هذا الكون يذوق في آن مره وحلوه ولا يعرف دائما انه اذا توخى البهاء لنفسه فلهذا مصدر واحد هو هذا الاله الذي اختار القلب البشري مسكنا له. غير ان الانسان يؤثر ان يؤجر قلبه لوجودات اخرى يحسب انها تعطيه السعادة ويقلب صفحات التقويم الجديد مفتشا عن تسليات يظن ان الفردوس ينزل بها عليه.

كل الناس مساكين ولو قلبوا صفحات التقويم. وهم في حاجة الى اللطف بهم وهم يستشفون من غفراننا لهم غفران الله. ولا يعني اللطف ان تكون ليّناً حتى الميوعة لأن اهم ما في العلاقات البشرية ان تصلح الآخر اذ قال ارسطو: “انا صديق افلاطون ولكني صديق الحقيقة”. غير ان الحقيقة لا تعطى دائما توبيخا اذ الافضل ان تعطى انسيابا. فكما تلطف انت بجرح يعتريك تلطف بالآخر ولو كان جرحك وهكذا يعرف ان يوما من ايام السنة الجديدة كان موضع رأفة به وانت لفت اليه انسانا اقام في مقام الحب.

•••

لا يستطيع من لم يكن محترف السياسة او الصحافة او التاريخ العصري ان يمشي في كل زواريب الدنيا وليس هذا شرطا ليقوم سلوكه ولكنا بتنا نعرف ان الاقسام الهامة من الدنيا عندنا ونعرف ان هذه الدنى التي تلعب على ارضنا لم تصر بعد مناطق للاله. وغالبا ما نترقب ان يستفحل الشر الذي يهب علينا وان يكوينا اذ نعرف ان هذا العالم ليس بين اجزائه إخاء كبير وان انطواء الدول هو القاعدة العامة وليس مطلوبا منك ذكاء كبير لتعرف ان الحب المجاني قائم في الزواج او ما يهيئه وانه قائم بين الاصدقاء. ولكن ليس من دولة عندها مشروع عشق. ولعل حذق الدول ان تجعلك تعتقد ان بلدك معشوقها وهي تتكل على سذاجتك وتتوسع على ارضك استرضاء لعظمتها او تفاخرها او غناها. وهذا ما يسمى عند الفرنجة Hegemonie وهي مشتقة من اليونانية وتعني السؤدد والسلطان والتسلط من دولة او طبقة على اخرى. وهي فعل المهيمن الذي ورد اسما من اسماء الله الحسنى في سورة الحشر. فكل الدول او القوى التي تحاول الهيمنة انما تنسب الى نفسها صفة من صفات الله تعالى وتبارك.

وعند الكبير ليس الصغير كالكبير ويريد الاستيلاء عليه لان الصغار ليس لهم وجود في تاريخ الناس والعظام لا يصدقونهم لو ادعوا ذلك. فالاقتناع بك فضيلة نادرة ان لم تكن من الاقوام العظيمة ولذلك انت مردود ابدا الى الحزن ما لم تظهر دولة فاعلة عندها شيء من الاحساس. كيف تخرج من هذا المأزق؟ ماذا تعطي الذين تستجدي عطفهم ولاسيما ان كنت فقيرا؟ هذه اسئلة ليس عندي اجوبة عنها ولا سيما اذا آمنت بفرادتك وان هذه الفرادة قادرة على العطاء.

صرت استمع منذ ايام الى احدى المحطات يقول فيها واحد من الناس: “لا تقل شيئا، نحن نقول عنك. لا تفهم شيئا. نحن نفهم عنك”. ولكن على المرء ان يسعى وان يرجو ان يأتي يوم يفهم فيه الكبير دنيويا ان الاصغر منه يمكنه ان يفهم وان له الحق في ان يقول. حتى يفهم العظماء ان الدنيا مشاركة وان التاريخ كله يصنعه المبدعون وان اعظمه ما يأتي به المتواضعون الذين كثيرا ما كانوا فقراء. غير ان هذا يتطلب رجاء كبيرا وايمانا بان الله قادر على ان يزيل الازمنة الرديئة حتى تعيش الشعوب معا في اسهام كل منها في حضارة العالم.

قبل الابداع يجب ان يعيش الفقير. ويبدو ان هذا مستحيل في استفحال الازمنة السياسية على رجاء ان تبقى سليمة. الاستقرار شرط العيش لانه شرط الانتاج. انا لا اطلب تربيع الدائرة. هذا مستحيل في الحياة السياسية. ولكن خذوا مسافة من الغرباء الذين تحبونهم لان اهل البيت ابقى لكم وانا لا اناقشكم في من تحبون ولكني ادعوكم الى ان تنظروا الى اللبناني على انه الاخ الثابت وانعتوا غيره ما شئتم بنعوت القربى بعد ان تعاهدتم على ان لبنان وطنكم بكل ما فيه من خلافات او مباينات.

•••

اعرف ان الاعمال بالنيات ولكني اعرف ان احدا لا نحاكمه على نية لم تثبت في الواقع. معنى ذلك في الواقع ان احدا ليس عبدا لاسرائيل الآن وانكم تاليا متساوون بعداوتها. كونوا ما شئتم في المودات ولكن لا تكونوا زبائن ولا تحالفوا احدا الى الابد لان احدا لا يحالفكم الى الابد. نحن اللبنانيين ليس احد يختنق ان لم نحالفه فظلوا اذاً على الهدوء الذي تعطيه المسافة الواحدة من كل من هم خارج الحدود.

لن ادلي برأي ادعي به اني احل مشكلة. هذا فوق طاقتي وفوق معرفتي. عندي شيء واضح مع ذلك ان الذين قتلوا رفيق الحريري وباسل فليحان حتى بيار الجميل يجب ان ينكشفوا. السؤال – ايا كانت النصوص الاخيرة لقانون المحكمة – هو هل نريد ان تعاقب العدالة المجرمين باقرب ما يسمح به القانون الاجرائي لهذه المحكمة. واذا لم يجمع اهل الحكم واهل المعارضة بالقوة نفسها والوضوح نفسه على ذلك فالمعنى الوحيد لذلك ان كل هذه الدماء البريئة التي سُكبت ليست غالية علينا واننا نساوي بين القتلة والاطهار وان الاقتصاص لا يشكل عنصرا من عناصر الدولة وتاليا اننا لا نريد دولة. اما قرأتم جميعا: “يا ايها الذين آمنوا عليكم القصاص في القتلى”. (سورة البقرة 178). ولئلا يشك احد في واجب القصاص اتبع الوحي هذه الآية توّاً بعدها بقوله: “ولكم في القصاص حياة”.

ايا كان التفاوت في الالحاح على ضرورة المحكمة ذات الطابع الدولي فهي واجبة الوجود ليس فقط على صعيد القضاء ولكن على استمرار لبنان خارج شريعة الغاب. انا لست اتهم احدا انه يريد ذلك ولكن لا يتصرفن احد وكأنه يريد ذلك لان هذا يعني ان الموت والحياة سيان عنده.

هذا عندي اننا بعد ان اقمنا العيد لمن سمّته كتبي رئيس السلام اطلب الى الآب ان يقيم سلامه في قلوبنا مع الطمأنينة الى الآخرين. الفتنة في القلوب اشد مضاء من السلاح. سلموا نفوسكم الى الله المهيمن وحده عليها حتى لا يكون السؤدد للانسان. “النفس أمارة بالسوء” لانها أمارة بالسيطرة. وكل احتكار سيطرة من الشيطان. واذا علمتم ذلك تنفتح لكم آفاق البهاء في السنة المقبلة علينا. وارجو ان يتم الله نوره عليكم في هذا الضيق حتى تتّسع صدوركم بعضكم لبعض وتستضيء كل ايامكم في السنة المطلة علينا باذنه تعالى.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

أحد النسبة/ الأحد 24 كانون الأول 2006 / العدد 52

أحد النسبة ونحن فيه هو السابق مباشرة لعيد الميلاد وقسم أساسي منه ان يبيّن الإنجيلي ان يسوع هو ابن ابراهيم ليدل على ان السيّد يختم العهد القديم الذي أقامه الله مع ابراهيم وانه ايضًا ابن داود وملوك يهوذا وزربابل رئيس الشعب اليهودي بعد سبي بابل.

الكثير من العائلات اليهوديّة كان عندها شجرة العائلة لأغراض مختلفة. عندنا في هذه الشجرة 27 شخصا وهم ليسوا كلّهم ملوكًا بل أشخاص عاديون. وغالبا ما أخذ متى اللائحة من أحد المصادر.

المسيح هو صفة يسوع وتعني الممسوح من الله. الشيء الرئيسي في اللائحة اسما ابراهيم وداود. في اللائحة أسماء ثلاث نساء ـ راحاب الزانية احداهن،ّ و “التي كانت لأُريّا” أخذها داود من زوجها ـ. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم ان ذكر هاتين المرأتين وراعوث إنما يعني انّ يسوع ينحدر من الجنس البشري كما هو.

هناك أربـعـة عشـر اسمًا فـي كل من المجموعـتيـن الأولـيــين، امـا المجـموعـة الثالثة ففيها 13 اسمًا. ولكن ربما قال متى ان في كل مجموعة 14 اسمًا لأن هذه هي القيمة الرقميّة لاسم داود الذي يُكتب بالعبريّة “دود”، وحرف الدال هو4، وحرف الواو هو 6، ومجموع هذه الحروف الثلاثة 14.

اما موضوع مولد المخلّص فهو ان مريم كانت مخطوبة ليوسف اي زوجته الشرعيّة ولكنّها منفصلة في المسكن. وسمّاها الملاك “امرأتك مريم” لأنها كانت كذلك وهي عزباء، والمعنى: خذها الى بيتك. ما عند متى ولوقا ان هذا المولد بتولي اي بلا مشاركة رجل. الولد اسمه يسوع ويعني ان الله مخلّص.

فأخذ امرأته (اي الى بيته) ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. البكر تعني اول ولد. ولا تعني بالضرورة ان له إخوة. “لم يعرفها” عبارة تنفي العلاقـة قبل الميلاد ولا تؤكّد العلاقـة بعده. لأن الذي يهم متى ان يؤكّد الميلاد البتولي، وهو لم يكتب سيرة مريم ليقول ما حصل لها بعد الميلاد. كونها “دائمـة البتوليـّة” غير وارد في الانجيل. انه وارد في المجمع المسكوني الخامس، وتقولـه الكنيسة في طقوسها، ووردت عنه شهادة الآباء منذ القرن الثاني . هكذا اعتقد المسيحيون منذ البدء وقالوا إنها بتول “قبـل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة”. كيف كان هذا في الولادة؟ لا نعـرف. ان هذا معتقدنا. همّ متى الانجيلي ان يؤكّد ان المسيح ليس ابن رجل. انه فقط ابن مريم.

اما لماذا تنتهي شجرة العائلة بيوسف؟ ذلك ان الانسان عند اليهود وعند معظم الشعوب اليوم منسوب الى أبيه او المظنون (في هذه الحالة) انه أبوه.

لماذا أقمنا في الكنيسة أحد النسبة؟ الفكرة الأساسيّة ان يسوع بَشَرٌ كما هو إله، وكان يجب تأكيد انه بشر بتبيان ان له آباء أهمهما ابراهيم وداود، والانجيل قال في غير موضع انه ابن داود.

لقد ظهر أوطيخـا وقال إن المسيـح كان إلهًا ولم يكـن انسانًا، وكفـّرت الكنيسة بدعته لأنـه، إن لم يكـن انسانًا، كيف يكـون قد مات؟ مهم جدًا ان يكون بشـرًا وان يكون الله وحده أبـاه حتى لا يحمل وزر خطيئـة آدم. ابن اللـه هو نفسـه ابن الانســان او ابن الإنسانــيّـة كلها التي سبقـته. بهاتين الطبيـعتيـن الإلهيّـة والإنسانيـة نعبـده مخلّصًا لنا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

السيّد آتٍ / السبت 23/12/2006

أهمل التأمّل قليلاً في أحوال البلد لأرى الى يسوع الناصري المولود في فلسطين الجريحة والذي نقيم ذكرى ظهوره بيننا بعد يومين وبين يديّ كتاب طريف الخالدي عن “الانجيل برواية المسلمين” وكنت قد قرأته في ترجمته العربيّة لاعرف ما قاله الزهّاد والمتصوّفون المسلمون عن عيسى، هذا الذي أحبوه وأتى كلامهم عن عشقهم له كأن قلوبهم كانت تدمي وجاء كلامهم أحر من جمر حبّهم. ورأيت أنهم لا يختلفون عني في العيسويّة ورأوا المخلّص في بشريّته. أظن ان الشيخ عبدالله العلايلي قال مرة عن عيسى إنه المخلّص كائنا ما كان مدلول اللغة. ما هو الحب سوى الخلاص. ان يتطهّر قلبك حتى البلوريّة فيرى الله مَن فيه ويضمّهم الى قلبه هو فيصبحون أمّته.


أمة الله التي يؤلفها الأتقياء الموحدون تعيش في هذا السلام الذي أنشدته الملائكة عند مولد السيّد اذ قالت: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام”. معنى ذلك أنك تجيء الى السلام الحقيقي اذا مجدت الله. وان تمجده تتضمّن انك لا تمجّد نفسك ولا المحازبين بحيث تعترف انه ملك السموات والأرض هو الله. واذذاك يحل سلام الله فيك وفي الناس الذين وضع الله مسرته فيهم. هذه الذكرى التي نقيمها بعد يومين نلتمس فيها السلام لكل منا وللبلد على ان نكون في ذلك صادقين ولا يطغى أحدنا فيها على الآخر لأن هذا من مجد الدنيا وهو زائل بزوالها. ومع ان محبيّ الله لا يؤمنون في العمق الا بهذا السلام الذي يحله ربهم في قلوبهم الا ان الفكر السياسي المجسّد بشرعة الانسان يريد ألا يكون بين البشر احتراب يأتي لهذه الفئة أو تلك بمنافع دنيويّة. لذلك كانت حياة كل امرىْ وحياة الجماعات أمرًا جميلاً وعلى الانسان ان يبذل كل مسعاه تحقيقًا لقول التنزيل القرآني: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”. وفي فهمنا نحن أتباع المسيح انه مات لكي يحيا كل انسان على رجاء الديمومة لمحبّته للبشر جميعًا. فلو كان محبو السلام من غير عشيرتك فهم أقرب اليك من أهل عشيرتك اذا كانوا يهوون إراقة الدم. لذلك نصلّي مع صاحب المزامير: “نجني من الدماء يا الله”. نجنّي أيضًا من التشنّجات التي من شأنها ان تعرض سواك للخطر. وأقول أكثر من ذلك. لا تترصدهم ولا تبعدهم عن داخلك خشية ان يتحوّل هذا الى غضب.


طبعًا المسيح الذي هو في كلام إشعياء رئيس السلام كان عارفًا بأن الشر قائم في الدنيا حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولكن اذا عرفنا – بطريقة أو بأخرى – ان السلام قيمة أبديّة ومطهر للنفس نحاول ان نزيل من النفوس ما يجعلها قاتلة. والكلمة المفصليّة في هذا ان نتغذى من المحبّة ليس فقط للعشيرة ولكن لكل العشائر. ذلك ان المحبّة رفق وانها الوحدة بالرفق حتى ينشأ في قلوبنا اننا معًا أمة الله في لبنان والعالم.


• • •


الى هذا ولد يسوع فقيرًا وعاش زاهدًا. لم يسعَ الى أيّة حاجة من حاجات الجسد ولكنه سهر على الحاجة الوحيدة ان يغذي البشر من الله وجعل الفقراء أهله. والكلمة البليغة في هذا انه شارك البشر في كل أحوالهم ما خلا الخطيئة واستطاع لطهارته ان يغفر للعشارين والزواني اذ كانوا روحيًا فقراء وجعلهم لا يستغنون عن الله.
وما كان يسوع يتقرب من أهل السلطة ولو اعترف بوجودهم ولو تحداهم بكلمات ذهبيّة أسقطت غطرستهم جيلاً بعد جيل ولكونه ما كان يحتاج اليهم ولا الى سلطانهم مكّننا نحن المؤمنين به من ان نراهم لا شيء حتى فهم الانسان به انه يصير شيئًا بالتواضع حتى درجة الانسحاق وكان فقره ضروريا لإتمام رسالته اذ مكّنه فقره من ان يقول لكل انسان كلمات يحيا بها فيدخل ملكوت الله النفوس فيوهَبون سلاما من فوق. وأدرك بعضنا انهم يبرزون أمام وجه الله اذا صاروا مساكين بالروح أي عارفين انهم ينالون الغنى الحقيقي الذي يأتيهم اذا عاشوا من كل كلمة تخرج من فم الله. فاذا كان الله فيك كل شيء كما يقول بولس فأنت حر من المخلوق فتلازمه بالعطاء المجاني الذي يزكيك ويرفعه الى السموات فيصير على هذه الأرض مقرًا للكلمة.

واذا علمنا ذلك لنا ان نترجم سلام الله فينا سلامًا في دنيا السياسة. واذا لم نعلم فالعلاقات بيننا تسوية أي استرضاء للآخر بما هو دغدغة لشهواته فنكذب بعضنا بعضًا ونتراكم ولكن لا نتلاحم. وهذا من شأنه ان يقيم مجتمعًا ظاهره هادىء وحقيقته استعداد لإلغاء الآخر. هذه هي الأنا المقيت الجاحدة لأهميّة الآخر التي تعيش بتوترات التعصب أي التي تعيش حقيقة في البغضاء مكتفية بعزلتها والبغضاء والصائرة في داخلها والتعامل الى التهلكة. وأما من تبنى الناس جميعًا فيحييهم ويحيا بما أعطي.


الإنسان هو المشارك أي الباذل نفسه في سبيل الآخرين والذين يؤلف معهم شعب الله وهذه هي الهويّة الحق. انت لا هوية لك اذا اعتصمت بنفسك وتكتسب هوية الحب اذا قررت ان تكون مبذولاً وتاليًا راعيًا مشاعر الآخرين وعاملاً على تنميتهم بما أمدهم الله به من مواهب. انت تقوم بالآخرين أي انهم قيامك وقيامتك من بين الأموات. وما قدر الناصري ان يقوم من الموت الا بعد ان اقتبله راضيًا ومحبا. فاذا أمتّ أنت نفسك المشتهية تنهض وتُنهض الآخرين معك اذ يحسّون انك بهم وانهم بك.


• • •


وهذا في عالمنا يعني ترفّعك عن كل ما فيك من شهوة ليصير النور مشتهاك الوحيد فيغدو كل امرىء فوق رأسك لأنك بذا فقط قد اعترفت بالله انه رأسك الوحيد وانه يمدّك بالفرح.


وهذا يعني محدوديّة السياسة ومحدوديّة الفرديّة وصغر التحزّب الذي تظن انك تنوجد به ولا تنوجد. لم يكن المسيح رجل سياسة فلو كان ذلك لما مات. كان الرومان وأحبار اليهود يظنّون انه كان سياسيًا بامتياز لعلمهم بأن كلمته كان وضوحها أنه يغلب عروشهم. لذلك قال عظيم الأحبار آنذاك: “لا بد ان يموت رجل عن الأمّة” اذ كان مدركًا انه اذا توطد نفوذ يسوع الناصري فلا مكانة لشعب مختار ولا لأمّة منغلقة.


كان لا بد له ان يموت لتحيا البشريّة حرّة من البغض ومن امتيازات اصطنعتها لنفسها. كان لا بد له ان يموت لكي يصير العطاء وحده شعار الإنسانيّة. لكن أعداءه ما كانوا مؤمنين انه جاء ليحب. الذين لا يعرفون الحب يفسرون كل شيء سياسيًا. أنا لست أقول إن السياسة ليست شيئًا جميلاً ويمكن عند الكبار ان تكون طاهرة ولكن لها أسلوبها ولها حدودها وتقوم على حسابات الأرض. السؤال الذي يطرحه على نفسه رجل السياسة هو هل أبقى وتبقى جماعتي في السلطة أي قادرة على الأمر والنهي وعلى الغلبة؟


أجل لا بد من تدبير هذا العالم حسب مقاييسه. ولكن الذي تبتل للمحبّة لا يسعى الى سلطان ولا يستعمل وسائل الحكم بما فيها من شدّة ولا يأمر ولكنه يدعو. “فذكر انّما انت مذكر، لست عليهم بمسيطر” أو “مملكتي ليست من هذا العالم”. هذا ما عنى به السيد ان ليس في هذه الدنيا ممالك. ولكنه عزل نفسه عن منطق الممالك وأساليبها وعزل نفسه عن الانحياز الى فريق ولو كان أصلح من فريق آخر. كان يعرف سلطان الحب وكفاه ان يقيم على هذا السلطان وان يغير البشريُة به.


وقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” نفهمه انه يقترح على أحبائه كنوز السماء وعرف ان الفقراء الى هذا الكنز قادرون ان يغيروا العالم. انت تستطيع ان تكون عظيمًا في الأرض واذا اعتبرت هذا مجدًا حقيقيًا تلغي في نفسك ما يمكن الكبير في قومه ان يذوق أي التواضع.


جاذبيّة يسوع الناصري انه كان دائمًا على فقره الى الآب. وهو القائل: “اعمل في كل حين ما يرضيه” ولم تغره ذرة من هذه الدنيا وعلم تلاميذه ان يتركوا كل شيء ويتبعوه لأنه ما كان يأخذهم الا الى الله واذا مشوا معه على ضفاف بحيرة طبريّة كانوا عالمين انهم في الحقيقة سائرون الى كل كلمة تخرج من فمه ليعيشوا بها. وهكذا ساد الأعظمون ممن تقدمنا على معارج القداسة والشهادة ودبرت الدنيا نفسها.


وستدبّر الدنيا نفسها ولكنها لن تحيا إلاّ بوجهه واذا فعلت هذا لا تختلط فيها الأشياء اذ “اية شركة للنور مع الظلمة” ما يقوله الانجيل انك بالله تستغني عن كل شيء ويبقى دائمًا أذكياء هذا العالم والمتذاكون ليحكموا في الأرض وأنا لا أنكر هذا. لكن قلة تقبل ان تموت حبًا. هذه لا يهمّها المجد ولا الجمال ولا تطلبهما.


انت تصير انسانًا سويًا اذا كنت قادرًا على ان تدخل بعد يومين الى هذا الطفل المضجع في مذود البهائم فترى الى مريم التي كانت تعتبر نفسها فقط أمة للرب قابلة كلامه في كل حين وترى الى بساطة الناصري والى كل الفضائل الكامنة فيه لتأخذها اليك وتقيم العيد في قلبك الى ان يستدعيك ربك الى مراحمه يوم يشتاق اليك عند آخر مطافك على الأرض.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

محاسن الإنجيل/الأحد 17 كانون الأول 2006 / العدد 51

الرسالة الى أهل كولوسي (آسيا الصغرى) ينتهي القسم اللاهوتي منها بقول الرسول: “متى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فأنتم تُظهرون حينئذ في المجد”. واضح ان الكلام هنا يدور حول المجيء الثاني للمسيح الذي يؤكد بولس انه كل حياتنا. اذ ذاك، يظهر اهل الملكوت معه في مجده ويكتمل مجدهم وتبدأ رؤيتنا لله في السماء.

توا بعد هذا ينتقل بولس الى القسم الأخلاقي فيذكر الخطايا. في لائحة اولى يذكر الزنى الذي هو علاقة بين ذكر وأنثى أحدهما متزوّج او كلاهما متزوّج. ثم يذكر النجاسة التي هي اعمّ، ثم الهوى الذي يريد به ايّ تعلّق مخالف للطبيعة ثم الشهوة الرديئة. كل هذه مفاسد مرتبطة باستعمال الجسد بخلاف الشريعة. اما الرذيلة الخامسة فهي الطمع، وهذا متعلّق بالنفس او بالفكر، ويعني طبعا شهوة المال، ويعتبرها بولس عبادة وثن اذ يجعل الانسان فيها المال ربّا.

وفي نهاية هذه اللائحة يقول: “لأجل هذا يأتي غضب الله على أبناء العصيـان”. الخطيـئـة السمجـة  تُغضب الله. وفي هذا يؤكّد بولس ما قاله في الرسالة إلى أهل رومية: “لأن غضب الله معلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم” (18:1).

ويذكّر بولس أهل كولوسي انهم لما كانوا وثنيين، كانوا عائشين في هذه الخطايا، وكأنه يقول انكم لما عرفتم المسيح اخذ يطهركم من هذه المفاسد لأنه هو الطهارة ومصدر الطهارة في المؤمنين به. مع ذلك يخشى الرسول أن يقع المؤمنون من جديد في السقطات، فيدعوهم الى ترك كل خطيئة. ولم يكتفِ بهذه اللائحة الاولى اذ يدعو المؤمنين الى أن يتركوا “الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح والكذب”.

الغضب هو ثورة الأعصاب المفاجئة مع الكلام الجارح. ان الغضب دائما جارح. ومن عاش في هدوء المسيح تبقى أعصابه هادئة. اما السخط فهو أعمق من الغضب. انه الاستعداد الداخلي لكي نؤذي الآخر.

اما التجديف فيريد به السبّ والشتم وهو شتم العزة الالهية ايضا والغضب على الله. وبصورة عامة ينهانا الرسول عن صدور اي كلام قبيح من أفواهنا مهما أثارنا الآخر او أساء الينا. وينهي الرسول لائحة هذه المعاصي بنهينا عن الكذب حتى يصحّ كلام السيّد: “ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا”. ولا تردد بين النعم واللا، فإذا قصدنا النعم فلنقلها، او قصدنا اللا فلنقلها، لأن الآخر له الحق ان يعرف الحقيقة ليشاركنا فيها.

ثم يرتفع بولس لاهوتيًا اي انه يؤسّس الفضائل المعاكسة لهذه الرذائل بقوله: “اخلعوا الانسان العتيق مع أعماله، والبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة على صورة خالقه”. اخلعوا عنكم انسان الخطيئة والبسوا بياض الفضيلة واذكروا انكم فور المعمودية قد لبستم ثوبًا ابيض، وهكذا تتجدّدون بالنعمة وتبقى المعموديّة فعّالة فيكم، ولا ترتكبوا شيئًا يمس الطهارة التي نلتموها بالمعموديّة فتظهروا انكم على صورة الخالق الذي خلقكم على صورته ومثاله.

واذا صرتم على هذه الصورة لا يبقى بينكم خلاف بين يوناني (اي وثني) ويهودي، وهذان كانا دائمًا على خـلاف، وفـي الكـنـيـسة يـمحي كـل خـلاف. ثـم يقـول (والمعنى ذاته) لن يكون فرق بين الختان (اي اليهود) والقلف (اعني الوثنيين الذين لم يكونوا يختتنون). وقد أمرت الكنيسة في مجمع اورشليم الرسولي ان الوثني الذي يقبل المعموديّة ليس عليه ان يختتن كاليهودي اذ لم يبقَ عليه نير الناموس.

كذلك لا فرق بين بربريّ واسكيثيّ. البربر كانوا المصريين والفرس وعندهم شيء من الحضارة. اما الاسكيثيون فهم من البدو غير المتحضّر الذين كانوا يعيشون في مناطق من روسيا الحالية.

طبعا لا عبد ولا حر. فالعبد اذا اقتبل المسيح يصبح حرًا في المسيح وأخا للحر الذي كان يملكه حسب الشريعة الرومانيّة. كل هذه الفوارق تزول لأن “المسيح هو كل شيء وفي الجميع”. الفوارق الاجتماعيّة لا تعني لنا شيئًا اذ يمحوها السيّد بالمعموديّة.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

لبنان الممكن / السبت 16/12/2006

أنا مستغرق في قراءة كتاب “لبنان” لصلاح ستيتيه الموضوع بفرنسية عظيمة البلاغة وذات اناقة ساحرة. لست اعلم اذا كان الكتاب بسبب من هذا الجمال، قابلا للتعريب ولكني دهشت من حب الرجل للبلد الذي وصفه قبل تمزقه الحاضر وعلى رغم مآسينا – وعسير عليّ التكلم عليها لكني اود ان ألحظ الاصرار على وحدة هذا البلد الغارقة قدماه في البحر والناطح السماء بقممه المرمي الثلج عليها الى الابد. وهنا لستيتيه كلمات شعر يغطيها ظاهر النثر.


لم يبق احد مهتما لنشوء هذا البلد حقوقيا عند انتهاء الحرب العالمية الاولى. فبعد سجالات طويلة لمسنا ان من تعلّق بالبلد عشقا ومن تراءى له عقلا ثم ارتضى العقل ان ينسكب في القلب باتوا واحدا في الاخلاص له ولو لم يتفقوا على صداقاته. هذا امر مفهوم لان بلدنا يتكئ على آسيا بما فيها من تباينات ويغنج عند البحر ويسلك البحار منذ اقدم العصور ولكنه يعود الى نفسه من هجرة فيبني انسان بيتا في قريته ولو لوقت استجمام قصير كأنه يأخذك دائما من صحارى الشرق ان كان اليها حنينك او من اغراء اوروبا اذا جئت من ثقافتها ولقّحت بها العروبة. ومن اقتصر على تشريق بلدنا او تغريبه بات فقيرا.


لم يبق واحد منا اسير التاريخ ولو ذاقه. اخفاء لحقيقة مشاعرنا أسندنا أنفسنا الى هذا المد او ذاك من زماننا الغابر لكوننا كنا ضحايا ذاكرات جماعية مختلفة واما الآن فقد جمعناها بلا تذويب في حاضر لبناني نريده فاعلا تهيئة لمستقبل يدعم وجودنا معا في اسهام الروحانيات الدينية المختلفة التي نسميها خفرا ثقافات تردادا للغة علمانية هي من تراث آخر.


لست اقول ان التلاقي بيننا على رغم مشاهد التلفاز غدا كثير العمق او عظيم التدقيق على صعيد المعرفة العالية ولكن يبدو ان الحياة تضطرك الى ان تضع لنفسك معرفة جديدة تذهل الاكاديميين وهي الآتية من القلب اولا والاولى انها آتية من ضرورة الحياة المشتركة التي يفلسفها بعد حصولها اذكياء القوم. هذا يتطلب اكثر من ثقة. هذا يفترض ان تعترف ان الآخر ينبوع تشرب منه وانه اساسي في تكوينك لئلا تبقى ملاقاتنا مجاورة لا انصهارا على مستوى الوجود. لذلك اخشى تعدد الجماعات المذهبية وأطمح الى توق توحيد ضمن التعدد ولست اعرف لهذا التوحيد الفكري صيغة جاهزة لكني اشتهي ان نصنعه معا وهذا ليس فقط على صعيد الابداع الفكري ولكن في ما سماه الدستور العيش المشترك بمعنى التناضح الخلاق بين الاديان والمذاهب. ان ثمة مسكونية لبنانية لنا الحق في ان نحلم بها لان التفسخ شر مطلق ولاننا قادرون على ان نصبح شهودا لالتحام المسيحيين والمسلمين في بلدنا.


وهنا واستقلالا مني عن العاصفة القائمة ادعو اللبنانيين الى رؤية مسافة بين الوطن والسياسة. السياسة في النهاية لعب او شيء كاللعب لكن الوطن لا تلاعب فيه. هذا ليس استعلاء مني على السياسة لكنها من باب العابر والافتراض والتذاكي احيانا ومن باب الشهوات كثيرا وتحليل اوضاع العالم المتقلبة ابدا والنافعة احيانا والضارة كثيرا. وهي كالامواج التي تحت اقدامنا لكنها ليست كالجبال التي يزين لنا اننا نصعد بها الى السماء، لا بد لك من وطن شامخ ولو داعب بقدميه البحر. الجبل يشد البحر اليه لا العكس.


ذلك انك من البحر تذهب ثم تؤوب الى البر الذي وراءه. هكذا كنا وهكذا سنكون. ويلاحظ صلاح ستيتيه حذقنا في ذلك منذ اقدم العصور. وكنا نبيع ما ننتجه من ارجوان او ما نستورده من الهند عبر اليمن وعبر مكة ونشتري ما يسره لنا الاغريق ولكن ما اكتفينا بالاتجار اذا استطعنا معه ان نصدّر الابجدية من جبيل وسماها اليونان بيبلوس التي نحتوا منها بيبليا اي الكتاب.


وغالبا ما نشأت الابجدية في اوغاريت شمالي اللاذقية التي كانت آنذاك مدينة كجبيل وصور وصيدا. هذه المدن القديمة التي صارت منها واحدة في سوريا الحديثة وباتت اخرى في لبنان كانت تقوم معا على العقل، وما قام على العقل لا يفترق على ما كان مثله عليه. والحدود يضعها الانسان كما يناسبه في تطور حياته التاريخية والعوامل التاريخية التي ينشئها.


في زمن الاستقلال الذي ارتضيناه نهائيا – اي على قدر ما نستطيع ان نستشرف المستقبل نحن اللبنانيين – بتنا هنا واحببنا هذا المبيت وانتجنا حضاريا في البيت اللبناني الواحد وهذه هي ارادة الاستقلال عندنا ليس لاننا نحب الاعتزال ولكن لاننا نحب بيتا لنا يوافقنا وارتضيناه وطنا صغيرا يساعدنا على ان يمدنا الله بكبر من عنده وان نثمر بنعمته ونعضد الآخرين بها. فنحن لسنا بكماً وما غيرنا بأبكم.


وما سميناه استقلالا ما عنينا به الا صمودا لا انحناء يمحو قوامنا. وهنا تحضرني مواقف من ائمة المسلمين ومفكريهم ان لبنان بلا مسيحيين لا معنى له. واضيف في مقاربتي ان مسيحيي لبنان أخذوا الكثير من نكهتهم الخاصة من اللغة العربية التي هي لغة القرآن وابدعوا فيها.


اليوم كنت اقرأ ابن بطوطة كما اقتبسه ستيتيه وفهمت ان هذا الجغرافي العربي الكبير اعجب برهبان لبنان. وما من شك عندي في ان رابعة العدوية اخذت حرفيا عن القديس اسحق السرياني وكلاهما من العراق. وهذه حياة نعيش في عمقها او على ما هو دون العمق بعضا مع بعض. دائما تساءلت منذ الطائف لماذا ارتضوا ان يؤلف مجلس النواب مناصفة بين اهل الديانتين. ورأيت في ذلك تسامحا من المسلمين من اجل وحدة وطنية يؤيد هذا التنظيم قوتها. وان المسلمين يريدون بوعي كامل ان يعايشوا المسيحيين بكرامتهم.


لبنان ملتقى اللبنانيين بكل ما يجري في العالم. ولهم مصالح مع هذا او ذاك وفي اختلافها اذواق. ويمكن ان يحول هذا الملتقى بوتقة حضارية وليس ما يضطرنا الى ان نصير زبائن احد وان نتخلى عن هويتنا بحيث لا يستمد فريق هويته من احد ولكن نتفاعل نحن بعضنا مع بعض ونحافظ على هذه الهوية المتنوعة الالوان والواحدة بآن كلوحة فنية. قد نكون ساحة لمصلحتنا على الا نكون ساحة للآخرين اذ نفقد بذا فرادتنا.


ويبدو اننا بتنا نفهم ان العدد عندنا لا ينبغي ان يكون حاسما في العلاقات او في الحكم وألا يختلط اي تفوق باعتبار ديني او مذهبي. شيء من الاستقلال المجتمعي عن المعتقد الديني بحيث نتقارب وطنيا ويبقى المؤمن مؤمنا. وعند ذاك ينشأ فعلا مجتمع مدني. وهذا لا يمنع التقارب مع اهل ديننا في بلدان اخرى على الا يمس هذا وحدتنا. لقد ظهر شيء كهذا قبل الحرب العالمية الاولى عند الارثوذكس الذين كانوا يحبون الشعب الروسي لكن هذه القربى الروحية لم تؤثر على ولائهم العثماني ولا على عروبتهم عندما ظهر الوعي العربي في حدود السلطنة. انت يأمرك ولاؤك اللبناني وحده على صعيد النضال الوطني ولا تؤلف وحدة سياسية شعورية مع بلد آخر. تقف على مسافة ليس من معتقدك الديني ولكن من الذين يدينون به في الخارج ولا تستضعف نفسك وضرورة لصوقك بأهل الوطن.


غير ان الوطن يُبنى في الفكر وفي العمل اي بالكدح ولا يقوم على ايديولوجيات كان من شأنها ان تباعد بيننا وان تجعلنا قبائل على ظاهر تمدننا. الايديولوجية سقطت في الاتحاد السوفياتي وفي اوروبا الغربية سقوطا عظيما وبقيت بعض الشيء في البلدان الضعيفة التواقة الى استقلاليتها. نحن لا يمكنننا ان نتوحد الا بالوطنية اللبنانية القائمة على تهذيب لشعبنا كبير وعلى اكتساب فضائل المجتمعات المتمدنة من حيث احترام كل مواطن للمواطن الآخر بصرف النظر عن انتمائه المذهبي فنتعاون وكل المواطنين بالقوة نفسها والثقة نفسها فنبني الوطن بمعطيات الارض، اي بالدرجة الاولى من الاقتصاد فيكون لنا وطن غني وافر الانتاج لا بؤس فيه ويضمن فيه كل واحد منا الآخر فلا تبقى منة من شريحة على شريحة ولا تبقى طائفة فقيرة فيما يتمتع سواها بالبحبوحة. ويزدهر الاقتصاد في كل المناطق على السواء وترعى الدولة كل المحافظات على السواء ونستنبط وسائل انتاج جديدة. لقد اثبت العلماء وعلى رأسهم غسان قانصوه ان لنا في بطن الارض وتحت سطح البحر كنوزا. وقد زرعنا ثمارا جديدة ونجحنا. كل هذا يعني الدخول في عالم البحث.


البلدان يمكن ان تنبعث ولكن شرط هذا الطهارة في القطاع العام وفي القطاع الخاص بحيث تصبح الدولة كأنها هيكل يعرف الناس فيه انه لا يعتريه فساد. ولكن هذا يتطلب انضباطا يذهب بالمسؤولين الى حد الشدة.


قال الرومان: نعيش اولا ثم نتفلسف. علينا نحن اللبنانيين ان نتعلم هذا لنبقى معا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

افهموا مشيئة الله/ الأحد 10 كانون الأول 2006 / العدد 50

يقول لنا بولس في رسالته الى أهل أفسس “اسلكوا كأولاد للنور”. المعنى كأولاد للسيد الذي قال عن نفسه: “انا نور العالم”. ويوضح ان هذا السلوك يؤتيكم اياه الروح القدس، ثم يبيّن ان من تعابير هذا السلوك “الصلاح والبر والحق”.

يتناقض مع النور اعمال الظلمة التي لا يسمّيها بولس اذ يعتبر ان المؤمنين يعرفونها ويطلب ان يوبّخوا عليها بسبب محبتهم لإخوتهم الذين يرتكبونها ويجب ان يكفّوا عنها لنكون واحدًا في الكنيسة يجمعنا النور. فإذا انكشفت للإنسان خطيئة واضحة بسبب اللوم الأخوي ينتقل توّا الى النور.

وبعد ان يكون بولس قد شدّد على اللوم الأخوي الذي يعيدنا الى النور، يذكّرنا بالنور الذي يطلع من قبر الخلاص فيقول: “استيقِظْ ايها النائم وقُمْ من بين الأموات فيضيء لك المسيح”.

هنا يستعمل على سبيل الترادف لفظة النائم ما يعني المائت. هي نومة الخطيئة. فاذا تحركت نحو المسيح فإنه يضيء قلبك ويمنحك محبة الفضيلة التي أنت

تحتاج اليها.

فبعد ان يكشف الرسول قوّة القيامة يدعو مسيحيي أفسس ألا يسلكوا كجهلاء بل كحكماء. وهذه هي حكمة الإنجيل التي تجعلنا نميّز بين الخير والشر ولا نكون أغبياء. ما يريده الرسول ان نعرف مشيئة الرب التي هي في الكتاب. يريد ان نفهمها جيدا.

من بين الأعمال المناقضة لمشيئة الرب في هذا المقطع الرعائي يذكر السكر. اجل تبيح المسيحيّة الشرب المعتدل، ولكنها شديدة في منعها السكر اذ يقود الى الدعارة. طبعا هو فقدان العقل او غيابه، ولكنه اذا كثر الشرب فيحدث في الجسد حرارة تقود الى انتهاك العفة.

مقابل الامتلاء من المشروب يدعو الى الامتلاء من الروح القدس الذي هو سكر بالله وتاليا هو الصحو الحقيقي. “واذا امتلأتم بالروح القدس تكلّمون بعضُكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحيّة مرنمين ومرتلين في قلوبكم للرب”. ما من شك ان الممتلئ من روح الرب تستحضر ذاكرته كلمات من الكتاب المقدّس لمنفعة المؤمنين كما يتذكّر كلمات من أناشيدنا. يتضح من هذا الكلام انه كان استعمال تعليمي للموسيقى. التسبيح بصوتٍ عالٍ كان معروفًا. ففي السجن “كان بولس وسيلا يصلّيان ويسبّحان الله والمسجونون يسمعونهما” (أعمال 25:16). مواضع مختلفة في العهد الجديد تدل على انه كان هناك ترنيم وترتيل على ان يرافق هذا مشاركة في القلب.

لذلك يجب ان يكون المرتل متخشعا حتى لا يترنّح ويتباهى بصوته ولا يجذب الى صوته بل الى المعنى، اي ان اللحن هو الذي نطوّعه للكلمة ولا نطوّع الكلمة للحنٍ تضيع فيه.

والترتيل غايته مساعدة المؤمنين ان يفهموا الكلام ولم يوضع للطرب. وهذا محرّم في الكنيسة حتى لا يختلط الترتيل الكنسي بشهواتنا. المهم ما قاله بولس ان الترنيم هو في القلوب وهو للرب. المرتّل التقيّ وغير المتكبّر يوصل الإنشاد الى القلب.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

إلى دولة الرئيس نبيه بري / السبت 9 كانون الأول 2006

ليس هذا كتابًا مفتوحًا اليك ونحن على تعارف وجداني قديم ولكنّه تأمّل متواضع مجروح في حال الأمة. أخاطبك اليوم ليس لكونك قطبًا لبنانيًا كبيرًا آتيًا من جراح الجنوب متكئًا على الشعر الذي لولاه لما كلّمتك على السياسة اذا صحّت التسمية في هذه السطور.

أكون كاسرًا كل قواعد المعرفة لو اخترقت العرفان الشيعي الذي يجيء الخيّرون من طائفتك منه. ولكن أجرؤ على دخول العاصفة الحاليّة لأكلّم قادرًا على ان يتقبّلني بخفري.

ذهولي ان قومك حلموا ان تتسع أرائك جلوسهم في ساحة السياسة الواسعة بعد ان رفضوا خلال قرون مديدة كل حكم في الأرض ما خلا فترة واحدة من التاريخ الإسلامي لأيمانهم بأنّ الإمام المطهّر عند انتهاء غيبته سيحكم الأرض. غير أنكم تلبننتم وسعيتم مع الآخرين الى مصالح الدنيا (وما قلت مصالحكم) وأردتم أن تشاركوا. وهل المتميّز مشارك أم الاشياء تأتي كما تأتي وأنتم حاضرون فيها بالشهادة لكي تقوم كربلاء شاهدة على الناس؟

مرة قال لي الإمام محمد مهدي شمس الدين: «لماذا كتبت ان الشيعة فاجعيون»؟ فأدركت أن الإمام تلبنن وان السياسة لا تصنعها الذاكرة الجماعيّة فحسب ولكن يصنعها النضال في معطيات الوجود السياسي وفهمت أنّ المتلبننين قد يفقدون شيئًا من صفة أهل الآخرة. ولكني لن أعلم قومك شيئًا آخر وأنا من أهل الكلام المسيحي. غير اني سمحت لنفسي بهذا التجاوز العلمي ان أطمع بأن أهلك يغفرون لي هذا التدخل الفقهي في شؤونهم لمعرفتهم بمحبتي.

نتلبنن اذًا جميعا ولا سيّما ان قوة العدو تغري والعدو هو من الدنيا. لقد أراد قبلكم مسيحيون كنيستهم رهبانيّة نسكيّة أي تطلب الملكوت قبل كل شيء ان يصيروا من هذا العالم وان يصيروه في لبنان الذي اصطنعوه وتبعناهم جميعًا زمنًا بعد زمن ظنّا منا ان هذا قد نجعله معًا وطن التجلّيات وأراد هؤلاء المسيحيون ان يجعلوا بلدنا فردوسًا بعد ان أنكروا الطموح الفردوسي عند الماركسيين فأوصلوا البلد الى ما أوصلوه اليه وغابوا ولن يعودوا كالمهدي. غيّبت الحرب الموارنة أو هم هكذا يقولون ويريدون العودة الى السيادة من طريق الدنيا لأنها أكثر محسوسيّة من الملكوت. وانتم الملكوتيين عن طريق المهدية جلستم في أماكنهم وبعد ان انكر الجميع على الموارنة امتيازاتهم وسموها هم ضمانات لئلا يستكبروا قبلتم انتم ان تكونوا من الأرض والذين اشتهوها قبلكم قالت لهم كتبهم ان هذه أيضًا ستنزع منهم لتُعطى لأمّة أخرى.

#  #

#

شيئًا قريبًا من هذا يا دولة الرئيس أقوله لك وهو ان مرشدك الروحي الإمام المغيّب السيد موسى الصدر عرف ان يجمع بين ما هو للآخرة وما هو للدنيا. وقد رأينا. أنا وأنت، ذلك معًا مع كونك كنت فتيًا. وما كان يطلب لقومه سوى العدل على رجاء ان يتحقق في كل لبنان وما طلب لكم تمايزًا لأنه كان يقيم في الرقة ويتجاوز التكتل الطائفي مع محافظته الشديدة على الفرادة الشيعيّة في كل أبعادها. أقام في السياسة سيدًا ولم تسحره وما اشتهاها. غير ان مواهب الكثيرين منكم جعلتكم طائفة ناهضة في فكرها وإنتاجها العلمي على المستوى العالمي وفي القضاء والشعر. ولن أوغل في الإطراء فهذا ممنوع عند آباء كنيستي. ولكني أحببت ان أتعزّى بكم، اثبتوا في الحق الحاضر كما يقول عهد الحب في كتابي.

أما بعد، فنحن في الخوف وان كنا ثابتين على الرجاء. هنا يأتي دورك يا دولة الرئيس اذا لم تنحل الأزمة حين صدور هذه السطور. وشعور الكثيرين انك انت منقذ ممكن ان لم أقل انك المنقذ اطلاقا لأرعى تواضعك. فكما جمعت كبار الساسة حول طاولة ثم حول أخرى، لك من القوة والنفوذ لتجمعهم للمرة الثالثة عسى لا ينهار البلد. انتم كنتم دائمًا على الصعيد الثقافي الروحي على علاقة وثيقة بإيران وليس من فهيم يعترض على ذلك لأن الإيمان يجمع وهذا دفع للمؤمنين. ولكنكم ما كنتم تنصاعون لأحد وما أغرتكم متعة الدنيا. وشاء تطوّر شعبنا وشاءت وطنيّتكم ان تكونوا في طليعة العاملين في السياسة وصار هذا الآن حسنا على ان تحفظوا وحدة البلد مع الذين يريدون حفظه. ومن هذه الزاوية قيض لكم ان تدخلوا التاريخ.

أدرك ان أحدًا منا لا يقرأ التاريخ مثلما يقرأه سواه. صعوبة مهمتك يا دولة الرئيس ان الخلافات ليست سطحيّة أي تبدو مسابقة على النفوذ ولكن على نظام التقية التي يدين بها كل اللبنانيين ولكن الخلافات أعمق من ذلك. السياسة في وضعنا ظاهر المرض وأما الباطن الذي من التاريخ وفوق التاريخ فلا أطلب اليك ان تعالجه. القلب لا يعالجه إلاّ ربّك.

لم يبق الآن من مجال ليحاكم فريق فريقًا. الحكومة لم تهمل المعارضة لقراءة مسودة القرار المتعلّق بالمحكمة. هذه حجة سقطت الآن جزئيًا ولن يهمل مجلس الأمن لبنان بأبيه وأمه ويقر النص. لم يبق في الواقع اذًا صدام بين اللبنانيين في هذا المجال وأحسب ان الجميع يريدون ان يعرفوا القتلة. يبقى موضوع عدد الوزراء من هذا المعسكر وذاك. بربكم حلّوا هذه المشكلة بالتي هي أحسن ويقال ان غير حل قد عُرض. أفهم من جهة اخرى ألا يعني تساهل الحكومة ما يقوله الفرنسيون: «اترك مكانك لاجلس فيه».

إن ما أدعوك اليه اليوم أن تجعل من حيث المنهجيّة العمليّة لا من حيث القناعة بينك وبين أمل مسافة مؤقتة من أجل تطهّرك الروحي لتقيم في مجلس لبنان كله وتضطر زعماء البلد الى أن يجالسوك في قلب لبنان ناسين مواقعهم الى حين لنخرج من الموت. هذا من باب الترتيب وما هو بكتاب موقوت لنحل مشكلة طارئة ولو ضخمة ولا نتذابح وما هو أعمق من هذا يترك للقناعات الايديولوجية التي هي عند حلفائك على عمق وتاليًا على حدّة ليس عليهما الآخرون.

في كل فئة من فريقكم شرعة ومنهاج لا يتسع الوقت لمناقشتهما. نريد فقط الآن ان نسعى الى حل الأمور البادية أو التكلم عليها ولو تعرضت لبعض خسارة في دنياك لأنك تعلو في ان تؤثر لبنان على نفسك. ادع زملاءك. أرجوك، الى الهدوء، الى كون السلام أفضل من الصراع لأن في الصراع شهوة والسلام اسم من اسماء الله الحسنى عندكم وعندنا.

فلنبدأ بهدنة بين الشوارع ووقف الإعلام التحريضي لنلازم منازلنا ومحالنا ونعمل ولا نفتقر ولنفهم المشاركة على انها ليست تعطيل فريق لفريق وانها تلاق صادق بين أهل السياسة ولو كان ذلك في احتدام.

أظن ان لم يحترق البلد بين اليوم الإثنين الذي اكتب فيه ويوم صدور هذه الأسطر ان مشاعر اللبنانيين اليك. انت الشاعر اجعل ترؤسك طاولة الحوار شعر لبنان حتى يبقى شعور فينا اننا قادرون وحدنا في معيّة طيبة مباركة على ان نواجه وضع البلد في صدق وحماسة ليكون الله في عقولنا وقلوبنا حميدًا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الفضائل من الروح القدس/ الأحد 3 كانون الأول 2006/ العدد 49

من روميـة حيث كان بـولس سجينًا يكتـب الى المسيحيين في أفسس اي في آسيا الصغرى، وأفسس خرائبهـا قائمـة الى الآن في تركيـا. يلـح الرسـول على ان يسلك المؤمنون “كما يحـق للدعـوة” التي دُعوا بهـا وهي حق الإنجيـل عليهـم كمـا بلّغهم إيـاه بولس. والسلـوك فيمـا بينـهم هـو التواضع والوداعـة وهما الفضيلتان اللتـان نسبهما السيّد الى نفسـه، ثم بطـول الأنـاة اي الصبـر، والواضح طبعــا ان كل مجتـمع لا يتـوحد الا اذا صبر أحدنا على الآخـر واحتملـه بالمحبّة فهذه تغطّي العيوب والنرفزة الطبيعيّة في كل مجتمع بشري.

والقمّة في كل هذه الجهود “حفـظ وحدة الروح برباط السلام”. والروح هنـا ليس الروح الطبيعي او الطبائع لأن هذه لا يمكن ان تكـون واحدة. انها وحدة الروح القدس الذي يجمع طبعك الى طبعـي. والسلام هو بالتأكيد ليس اتفاقـًا بشريًا. انه ربـاط المسيح الذي سمّاه بولس في موضع آخر سلامنا.

لمـاذا السلام ممكـن والوحـدة ممكنـة؟ لأنكـم جسد واحد وروح واحد. والجسد هـو الـكنيسـة الـتي هي جسد المسيح اي كيان المسيح وامتداده في الروح الواحد الذي يكون في الكنيسة الروح القدس. الجماعة المسيحيّة ملآنة اختلافات بين الأفكار والمشاعر. الروح القدس الذي يصلح فكري وفكرك هو يجعلهما مالكين لفكر المسيح.

طبعا هناك اختـلاف شرعـي في الفكر في الكنيسة وهو ما لا يتعلّق بالعقيدة. وهناك مواقـف مختلفـة ممكنة إزاء موضوع طارئ. ولكن بين الموقفين ما كان أكثـر موافقـة لروح يسوع. وانت تلجأ عنـد ذاك، الى الحكماء الذين يستلهمون الروح الإلهي ولا يتكلمون عن انفعال.

ويؤكّد بولس هذه الوحدة على اساس انّ الرب واحد وهـو المسيـح، والإيمان به واحد عنـد الجميـع، والمعموديّة واحدة لأنها قائمة على الإيمان الواحد. وكان شرح الإيمان للبالغين شـرطا لاقتبال المعموديـّة. ثم بعد أن يكـون قد بسط ذلك ان الإلـه الآب واحد كما نقـول في دستـور الإيمان: “اؤمن بإلـه واحد آب” ومنه يولد الابن الإله وينبثـق الروح القدس. عندنا هنا عن طريق ذكـر الروح والرب والإلـه الآب إعلان بولس للثالـوث المقـدس.

الآب هو فوق الجميع ولكنــه في الجميـع اي في كل واحـد لإتمام فضائلـه من جهـة ولإعطائـه الخدمـة مثل خدمة الكاهن او المعلّم ويوزّعها في الجميع كل واحد حسب الدعـوة التي دُعي اليها في الجسم الكنسي الواحد “ولكل واحد أُعطيت النعمة على مقـدار موهبـة المسيح”. فأنت لا تجعـل نفسـك كـاهـنًا او معلّمًا او صاحب ادارة او تدبيـر ولكن النعـمـة تختـارك ويبلّغـك اياها الأسقـف الذي يـرى أن المـوهبة جُعلـت فيـك ويلحـظ انك تهيـّأت بالـروح القـدس للقيـام بالوظيفـة التي دعـوك اليها.

اجل هناك استعداد يأتي من الإخوة الذين احتضنوك ومن المواهب الطبيعيّة ومن الدراسة، ولكن الروح القدس هو الذي يكلّل هذه المواهب الطبيعيّة بالموهبة الإلهيّة التي ينفحك إياها.

فباجتمـاع الجهـد الطـبيعـي والعـطاء الإلـهي تكون الخدمة صالحة. “في البدء كان الانسان الطبيعي ثم الانسان الروحـي”. فليس الاستـعداد يكـفي ولكـنه مندمـج بالنعمة النازلة عليك تكون الخدمة حسب قلب الله.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

سلام هذا البلد / السبت 2 كانون الأول 2006

بين الجماعات المسيحية المختلفة طائفة «الكواكرز» او جمعية الاصحاب التي اسست المدرسة الانكليزية في برمانا احدى خصائصها انه اذا تعذر اتخاذها قرارا في الاجتماع تنهي الاجتماع ويذهب كل واحد من المؤمنين الى الصلاة لان كل قرار مبني على تصويت قهر للفريق المخالف.

طبعا هذا حلم في السياسة والدستور قال به مثالا لكنه لم يقل بالصلاة. اظن –وهذه الاسطر كُتبت ليل الثلثاء، اي خمسة ايام قبل نشره– لا يستطيع احد ان يطمئننا الى مصيرنا ليس فقط لان المستقبل لله ولكن عبثا لان المستقبل تصوره قوى متصارعة وليس ما يجمعها الا رفض الآخر. وهذه الزاوية ليست سياسية الا عرضا. ولذلك لن اناقش اهل المواقف واهل الفكر السياسي وهم ادرى مني في مجالهم. ولان الابواب كلها موصدة ولم تحصل هزة لفتحها ليس لي الا ان ابكي وهذا لا يهم احدا لكني لا املك قوة على الكلام. شيء مثل الصلاة يجب ان يحصل في القلب علّ الحب الحقيقي للبنان يلهم المتصارعين (والكلمة ليست شديدة).

في هذه الخضة الشعورية التي انا ملقى فيها ذكّرنا الاعلام هذا المساء ان قد مر اسبوع على اغتيال الشيخ بيار امين الجميل. في حركة اولى في القلب كل اللبنانيين كانوا الى هذا الشاب والى ابيه وامه. في الحقيقة كنا الى النضارة والى رفض الموت العبثي والحسرة على ذبول الورد. احببت اني منذ فترة كنت اتلقى حماسة هذا الفتى يدافع بها عن فكره الوطني كائنة ما كانت قناعاتي. لكني كنت احس ان الانسان الصادق ملتهب داخليا وغير محترق كالعليقى التي كلّم منها الله موسى قديما.

الى جانب الدموع التي ذرفها اللبنانيون على الوزير المغدور وما وراء الحادث الكارثة كان المطلوب الامعان في قتل لبنان ومن أهم مكونات القتل كم الافواه لان لبنان كلمة يراد تحويله كيانا اخرس ولبنان على هزالته تبكيت. تبكيت لبعض من ابنائه وللغارقين في حضارة اللفظ اي الذين يعيشون خارج عالم المعنى. رأيت في بيار الجميل على الاقل رمزا للرافضين. لا فرق ان ترفض خصومك السياسيين او احيانا بعضا من معسكرك. لكن الحياة هي قبل كل شيء رفض. وبعد هذا تكون قبولا ولكن لله. بيار الجميل في سنوات قليلة كان مسعى ولعل غيره سيحمله كائنة ما كانت تشكيلات الدنيا السياسية.

ان ننتصر سياسيا قد يضمن شيئا من الحقيقة والخير ولكن ليس دائما ولذلك كان الشك في مواقعنا الدنيوية احيانا منقذا من الضلال. الخطر في السياسة ان نتكلم فيها وكأنها الحقيقة المطلقة. نحن تبنينا من زمن طويل كلام قائد كبير في حكومات الاستقلال المتتابعة ان لا غالب ولا مغلوب. افهم هذا شعوريا في بلد دقيقة فيه العلاقات بين اهل الاديان ولكن في مجالسة الشورى التي اسمها ديموقراطية هذا غير معروف ولا حياء في ان نكون مغلوبين ان لم نكن مظلومين.

#  #  #

لا غالب ولا مغلوب تعني الا يكون شهيد. وانا افهم ان المسيحية والاسلام قائمان على الشهادة وهي وصول المغلوب ظاهرا اي المهراق دمه الى نصر الهي غير مسجل في عالم السلاح. فقط المقهورون هم الذين حاكوا الحب وبنوا الحضارة. عندنا نحن المسيحيين ان نصر يسوع الناصري تم فقط لما رفعه اعداؤه على خشبة وطعنوا جنبه بحربة.

اذا كنت تجيء من الموت اي كان هو اباك وامك فتربح يوما في الحدث السياسي وتخسر يوما وتعود الى الشورى في سلام لان خصومك في الحلبة السياسية هم ايضا يجيئون من لبنان وتشاربهم جميعا اذا كان الحين كأس الفرح بهذا الفردوس الذي يدعى لبنان. ولكن اذا كنت في احتراب او استعددت للفتنة فتتصحر الجنات في هذا البلد.

واظن اننا وسط هذا التشنج قادرون على ان نفهم – بلا انفصال سياسي – على رغم ذاكرتنا الجماعية اننا مهيأون حتى لا ننقسم طائفيا الى حد التقاتل. ما يدهشني ان مجموعات دينية مختلفة تستطيع ان تقول قولا واحدا. وهذا ما يدفعني الى التفكير في اننا ما كنا نختلف دائما لاسباب طائفية وان التواجه بيننا كان تواجه اطروحات سياسية مختلفة لا تعبر عقيدة دينية ولا تعبر احساس جماعات مختلفة المصالح. المأمول اذاً ان نجد لغة سياسية واحدة ولو اختلفنا في المواقع.

وقناعتي كاملة –مكره اخاك او بطل– اننا نستطيع ان نصير مجتمعا وطنيا واحدا ولو قال كبير في الصحافة اننا شعوب. ولكن هذا يقتضي ان نغير كليا تربيتنا السياسية فلا نظل عشاق نظريات لم تبق من هذه المرحلة ولكن نتبنى –للمرة الاولى في تاريخنا– المنهج البراغماتي نواجه فيه عمليا الامور بما ينفعنا كل يوم. كذا كانت سياسات دول كبيرة قبلنا وبقيت على هذه التجريبية المتواضعة التي لا تدعي تجديد الكون لكنها تكتفي بعيش كريم متواضع.

#  #  #

الى هذا هزني كلام السيد البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي قال ما مفاده ان المسيحيين باتوا غير قادرين على التفاهم. هذا الكلام يحز في صدري الما والبطريرك اب لهؤلاء المتخاصمين فإن المسيحيين الذين ليسوا تحت رايته ليس لهم فاعلية سياسية. واذا كان تحليل غبطته صحيحا فهذا يرمي الكثيرين منا في جب الحزن.

نحن نريد ان يكون الموارنة واحدا ما امكن ذلك لقوم يتخاصمون ديموقراطيا. وقد سبق للموارنة ان تخاصموا طويلا في منهاج غير ديموقراطي.

هم يعرفون دروبهم الى حق هذا البلد عليهم ولا سيما انهم انشأوه. الآخرون قالوا –وتبنينا قولهم– ان هذا البلد وطن نهائي. لكنك على قولك هذا انت قادر على ان تمزقه. وبعد ان ارتضينا جميعا هذا البلد وتردد في الارتضاء كثيرون تأتي طائفة كبيرة وهي افعل حضاريا من عددها ليقول ابوها الروحي انها ممزقة.

الموارنة كانوا عصبة واحدة في قبول البلد. اذا هم اصروا على بقائه يبقى. كل مجموعة بشرية تقوم على تسويات بما في ذلك الكنيسة في عنصرها البشري. اذا كنت مصرا على القيم العليا تستطيع فقط ان تطلب القداسة من نفسك وتقبل بالضعف عند الآخر حتى يشفيه الله.

لقد احس البطاركة الكاثوليك منذ بضع من السنين ان المسيحيين يهاجرون باعداد رهيبة وقد اسف لذلك كبار المسلمين. بقاؤنا هنا يستحق الا نختلف كثيرا، الا يكون في صفوفنا احتقان ولا سيما اني لا افهم اختلاف الاطروحات السياسية العميقة بين المسيحيين حتى زين لي اني ساذج كبير ولا ارى الفرق في الطرح بين هذا الفريق او ذاك من الموارنة الا في ما يتكتكون به أي في مجالات عابرة لا تستحق الخلف.

في الاخير ارجو ان يفهم المسيحيون ولا سيما الكبار في صنع سياسة البلد ان من هو اهم منهم جميعا هو المسيح وان هذا هو الذي يجب ان يبقى في هذا البلد وليس فقط في السماء. الموارنة اولا ثم الارثوذكس وغيرهم من الاقليات المسيحية ان لم يفهموا ان بهاء المسيح على ارضنا اهم منهم جميعا فليذهبوا هم وسياساتهم بسلام وهم احرار ان يتركوا البلد بلا مسيح.

يا ايها السيد البطريرك الحبيب المتمتع بمحبة الكثيرين من اللبنانيين وتقديرهم جميعا نلتمس منك باسم يسوع ان تستخدم هيبتك وجلالك اللذين لا يشك فيهما احد ان تأتي لبنيك القادرين وان تأمرهم بالمحبة ان يتحابوا. ويكون هذا ثقلا سياسيا كبيرا وتزول الصحراء ونتحول من جديد جنات وتصبح بيروت عاصمة الفكر العربي من جديد وتنطلق من لبنان حرية العرب الذين سيصيرون حضارة معنى. فاذا امتددنا الى هذه الآفاق بالحب سنكون حاملين الفكر الذي كان في المسيح يسوع كما يقول عظيمنا بولس.

Continue reading