بين الجماعات المسيحية المختلفة طائفة «الكواكرز» او جمعية الاصحاب التي اسست المدرسة الانكليزية في برمانا احدى خصائصها انه اذا تعذر اتخاذها قرارا في الاجتماع تنهي الاجتماع ويذهب كل واحد من المؤمنين الى الصلاة لان كل قرار مبني على تصويت قهر للفريق المخالف.
طبعا هذا حلم في السياسة والدستور قال به مثالا لكنه لم يقل بالصلاة. اظن –وهذه الاسطر كُتبت ليل الثلثاء، اي خمسة ايام قبل نشره– لا يستطيع احد ان يطمئننا الى مصيرنا ليس فقط لان المستقبل لله ولكن عبثا لان المستقبل تصوره قوى متصارعة وليس ما يجمعها الا رفض الآخر. وهذه الزاوية ليست سياسية الا عرضا. ولذلك لن اناقش اهل المواقف واهل الفكر السياسي وهم ادرى مني في مجالهم. ولان الابواب كلها موصدة ولم تحصل هزة لفتحها ليس لي الا ان ابكي وهذا لا يهم احدا لكني لا املك قوة على الكلام. شيء مثل الصلاة يجب ان يحصل في القلب علّ الحب الحقيقي للبنان يلهم المتصارعين (والكلمة ليست شديدة).
في هذه الخضة الشعورية التي انا ملقى فيها ذكّرنا الاعلام هذا المساء ان قد مر اسبوع على اغتيال الشيخ بيار امين الجميل. في حركة اولى في القلب كل اللبنانيين كانوا الى هذا الشاب والى ابيه وامه. في الحقيقة كنا الى النضارة والى رفض الموت العبثي والحسرة على ذبول الورد. احببت اني منذ فترة كنت اتلقى حماسة هذا الفتى يدافع بها عن فكره الوطني كائنة ما كانت قناعاتي. لكني كنت احس ان الانسان الصادق ملتهب داخليا وغير محترق كالعليقى التي كلّم منها الله موسى قديما.
الى جانب الدموع التي ذرفها اللبنانيون على الوزير المغدور وما وراء الحادث الكارثة كان المطلوب الامعان في قتل لبنان ومن أهم مكونات القتل كم الافواه لان لبنان كلمة يراد تحويله كيانا اخرس ولبنان على هزالته تبكيت. تبكيت لبعض من ابنائه وللغارقين في حضارة اللفظ اي الذين يعيشون خارج عالم المعنى. رأيت في بيار الجميل على الاقل رمزا للرافضين. لا فرق ان ترفض خصومك السياسيين او احيانا بعضا من معسكرك. لكن الحياة هي قبل كل شيء رفض. وبعد هذا تكون قبولا ولكن لله. بيار الجميل في سنوات قليلة كان مسعى ولعل غيره سيحمله كائنة ما كانت تشكيلات الدنيا السياسية.
ان ننتصر سياسيا قد يضمن شيئا من الحقيقة والخير ولكن ليس دائما ولذلك كان الشك في مواقعنا الدنيوية احيانا منقذا من الضلال. الخطر في السياسة ان نتكلم فيها وكأنها الحقيقة المطلقة. نحن تبنينا من زمن طويل كلام قائد كبير في حكومات الاستقلال المتتابعة ان لا غالب ولا مغلوب. افهم هذا شعوريا في بلد دقيقة فيه العلاقات بين اهل الاديان ولكن في مجالسة الشورى التي اسمها ديموقراطية هذا غير معروف ولا حياء في ان نكون مغلوبين ان لم نكن مظلومين.
# # #
لا غالب ولا مغلوب تعني الا يكون شهيد. وانا افهم ان المسيحية والاسلام قائمان على الشهادة وهي وصول المغلوب ظاهرا اي المهراق دمه الى نصر الهي غير مسجل في عالم السلاح. فقط المقهورون هم الذين حاكوا الحب وبنوا الحضارة. عندنا نحن المسيحيين ان نصر يسوع الناصري تم فقط لما رفعه اعداؤه على خشبة وطعنوا جنبه بحربة.
اذا كنت تجيء من الموت اي كان هو اباك وامك فتربح يوما في الحدث السياسي وتخسر يوما وتعود الى الشورى في سلام لان خصومك في الحلبة السياسية هم ايضا يجيئون من لبنان وتشاربهم جميعا اذا كان الحين كأس الفرح بهذا الفردوس الذي يدعى لبنان. ولكن اذا كنت في احتراب او استعددت للفتنة فتتصحر الجنات في هذا البلد.
واظن اننا وسط هذا التشنج قادرون على ان نفهم – بلا انفصال سياسي – على رغم ذاكرتنا الجماعية اننا مهيأون حتى لا ننقسم طائفيا الى حد التقاتل. ما يدهشني ان مجموعات دينية مختلفة تستطيع ان تقول قولا واحدا. وهذا ما يدفعني الى التفكير في اننا ما كنا نختلف دائما لاسباب طائفية وان التواجه بيننا كان تواجه اطروحات سياسية مختلفة لا تعبر عقيدة دينية ولا تعبر احساس جماعات مختلفة المصالح. المأمول اذاً ان نجد لغة سياسية واحدة ولو اختلفنا في المواقع.
وقناعتي كاملة –مكره اخاك او بطل– اننا نستطيع ان نصير مجتمعا وطنيا واحدا ولو قال كبير في الصحافة اننا شعوب. ولكن هذا يقتضي ان نغير كليا تربيتنا السياسية فلا نظل عشاق نظريات لم تبق من هذه المرحلة ولكن نتبنى –للمرة الاولى في تاريخنا– المنهج البراغماتي نواجه فيه عمليا الامور بما ينفعنا كل يوم. كذا كانت سياسات دول كبيرة قبلنا وبقيت على هذه التجريبية المتواضعة التي لا تدعي تجديد الكون لكنها تكتفي بعيش كريم متواضع.
# # #
الى هذا هزني كلام السيد البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي قال ما مفاده ان المسيحيين باتوا غير قادرين على التفاهم. هذا الكلام يحز في صدري الما والبطريرك اب لهؤلاء المتخاصمين فإن المسيحيين الذين ليسوا تحت رايته ليس لهم فاعلية سياسية. واذا كان تحليل غبطته صحيحا فهذا يرمي الكثيرين منا في جب الحزن.
نحن نريد ان يكون الموارنة واحدا ما امكن ذلك لقوم يتخاصمون ديموقراطيا. وقد سبق للموارنة ان تخاصموا طويلا في منهاج غير ديموقراطي.
هم يعرفون دروبهم الى حق هذا البلد عليهم ولا سيما انهم انشأوه. الآخرون قالوا –وتبنينا قولهم– ان هذا البلد وطن نهائي. لكنك على قولك هذا انت قادر على ان تمزقه. وبعد ان ارتضينا جميعا هذا البلد وتردد في الارتضاء كثيرون تأتي طائفة كبيرة وهي افعل حضاريا من عددها ليقول ابوها الروحي انها ممزقة.
الموارنة كانوا عصبة واحدة في قبول البلد. اذا هم اصروا على بقائه يبقى. كل مجموعة بشرية تقوم على تسويات بما في ذلك الكنيسة في عنصرها البشري. اذا كنت مصرا على القيم العليا تستطيع فقط ان تطلب القداسة من نفسك وتقبل بالضعف عند الآخر حتى يشفيه الله.
لقد احس البطاركة الكاثوليك منذ بضع من السنين ان المسيحيين يهاجرون باعداد رهيبة وقد اسف لذلك كبار المسلمين. بقاؤنا هنا يستحق الا نختلف كثيرا، الا يكون في صفوفنا احتقان ولا سيما اني لا افهم اختلاف الاطروحات السياسية العميقة بين المسيحيين حتى زين لي اني ساذج كبير ولا ارى الفرق في الطرح بين هذا الفريق او ذاك من الموارنة الا في ما يتكتكون به أي في مجالات عابرة لا تستحق الخلف.
في الاخير ارجو ان يفهم المسيحيون ولا سيما الكبار في صنع سياسة البلد ان من هو اهم منهم جميعا هو المسيح وان هذا هو الذي يجب ان يبقى في هذا البلد وليس فقط في السماء. الموارنة اولا ثم الارثوذكس وغيرهم من الاقليات المسيحية ان لم يفهموا ان بهاء المسيح على ارضنا اهم منهم جميعا فليذهبوا هم وسياساتهم بسلام وهم احرار ان يتركوا البلد بلا مسيح.
يا ايها السيد البطريرك الحبيب المتمتع بمحبة الكثيرين من اللبنانيين وتقديرهم جميعا نلتمس منك باسم يسوع ان تستخدم هيبتك وجلالك اللذين لا يشك فيهما احد ان تأتي لبنيك القادرين وان تأمرهم بالمحبة ان يتحابوا. ويكون هذا ثقلا سياسيا كبيرا وتزول الصحراء ونتحول من جديد جنات وتصبح بيروت عاصمة الفكر العربي من جديد وتنطلق من لبنان حرية العرب الذين سيصيرون حضارة معنى. فاذا امتددنا الى هذه الآفاق بالحب سنكون حاملين الفكر الذي كان في المسيح يسوع كما يقول عظيمنا بولس.
Continue reading