Monthly Archives

August 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

حديث بولس عن القيامة / الأحد 30 آب 2009 / العدد 35

في هذه الرسالة يدور الحديث عن قيامة الرب. لماذا هذا الموضوع؟ هل ان بعضا من أهل كورنثوس كانوا يشكّون بحقيقة القيامة أم انهم رأوا ان القيامة تمّت بالمعمودية. هذا ما زعمه بعض كما ورد في 2 تيموثاوس 18:2؟ لا نعرف. قوله “أُعرّفكم بالانجيل” معناها أُذكّركم بالإنجيل. هنا لا يشير الى الأناجيل الأربعة التي لم تكن مكتوبة بعد. هو يعني بشارته هو.

يقول انهم قائمون او ثابتون في هذه البشارة التي هي تحمل لهم الخلاص.

بعد هذا يقول لهم: “قد سَلّمتُ اليكم ما تَسلّمتُه من المسيح”. يشير هنا الى انه استلم تعليمه مباشرة من السيّد. وقد سبق له ان قال الشيء عينه في حديثه عن سر الشكر (المناولة) لما قال: “فأنا من الرب تسلّمت ما سلّمتُه اليكم” (1كورنثوس 27:11).

“سَلّمتُ اليكم أولًا” تعني اولًا بالأهميّة. يذكر الرسول ان الرب قام في اليوم الثالث “على ما في الكتب”. لا يعني بذلك الأناجـيـل الأربـعـة اذ لم تــكن مكتوبة بعد، ولكنه يعني النبوءات القديمة الّا انه لا يذكرها بالحرف.

الظهور الأول الذي ذكره الرسول كان لصَفا اي لبطرس. نجد تأكيدا لهذا الظهور عند لوقا عندما تحدّث عن تلميذي عمواس عند عودتهما الى الرسل الأحد عشر ورفاقهم المجتمعين في اورشليم الذين كانوا يقولون: “قام الرب وظهر لسمعان” (وهو نفسه بطرس). هذا لا بد انه حدث في الجليل.

“ثم تراءى ليعقوب”. لماذا يعقوب؟ لأنه كان أوّل أسقف على أورشليم. ثم يقول: “وآخر الكل تراءى لي انا أصغر الرسل”. لا بد انه يتكلّم هنا عن ظهور الرب له على طريق دمشق الوارد في الإصحاح التاسع من اعمال الرسل. سمّى نفسه السقْط (بالعامية الطرح) لأنه ما كان يرى نفسه مستحقا نعمة المسيح. لماذا يقول انه ليس أهلا ان يُسمّى رسولا؟ يجيب لأني اضطهدتُ كنيسة الله. يقابل هذه الخطيئة بقوله: “لكني بنعمة الله انا ما أنا”. هو لا يرى نفسه شيئا. يرى انه ثمرة النعمة.

ومع كونه أحس بأنه لا شيء يقول: “تعبتُ أكثر من جميعهم”. لا شك انه كتب أكثر من الجميع وتجوّل في كل العالم المتحضّر آنذاك. الجلْد، الضرب، السجون، الرجم، الغرق، الأخطار المتعددة، الكدّ، التعب، السهر، الجوع، العطش، الصوم” ذاقها جميعا (2كورنثوس، الإصحاح 11).

لا ينسب صبره على كل ذلك الى قوته، ولكن الى نعمة الله التي معه. غير انه يختم هذا الفصل من رسالته بقوله: “هكذا نكرز (انا وبقيّة الرسل)، ونتيجة ذلك انكم آمنتم”.

إيمان المؤمنين يسبقه الاستماع الى البشارة، ثم ينزل الإيمان على المستمع بالنعمة. هذا يفرض علينا ان نقوّي ايمان المؤمنين بالوعظ اذ لا يجوز ان نتركهم على ما سمعوه في الطفولة، فالإيمان يتقوّى بالتعليم والوعظ، بقراءتنا الدائمة للكتاب المقدّس والكتب الروحية التي تصدر في كنيستنا. هذا هو سهر الإنسان على ذاته. وكلما امتلأنا من الفكر المستقيم، نعطيه الآخرين. الرعية كلها تنمو بالمعرفة المتجددة ابدا.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الصيام / السبت 29 آب 2009

يفرحني دائما إقبال رمضان لأن المسلمين يتطهّرون فيه وعظماؤهم في التقوى لهم فيه مقامات من عند ربهم وما من شك انهم الى عمق الصلاة أدنى ويطلبون في التلاوات قرباهم من الرحمان.

الحقبة هذه خلوة فضلى للتواصي بالحق والتواصي بالصبر واذا صبرت على جوعك وعطشك فأنت ايضا قابل للناس ولاسيما انهم يسيرون المسيرة التي تسير. ولعل بهاء هذا الالتزام ما جاء على لسان الله في الحديث: «الصوم لي وأنا أجزي به». هذا حج روحي ليس الى البيت بل الى رب البيت كما قالت السيدة رابعة العدوية. رياضة تبتغي وجه الله الذي لا يثبت سواه وتبطل أمامه رغباتنا الدنيا وفي هذا يقول الرسول: «ان الله تعالى يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: ايها الشاب التارك شهوته لأجلي، المبذل شبابه لي، انت عندي كبعض ملائكتي».

السالكون الواجبات والسنن ولوازم الإفطار يعرفون ان هذه ليست آخر المطاف. من الناس من هم أهل يقين ونضال روحي أعمق من الظاهر. المهم الغاية من هذا الذي يمكن اعتباره من الجهاد الأكبر. هو التخلق بخلق من أخلاق الله وهو الصمدية. ذلك لأن من اعتصم في طهارة قلبه غدا في أفق الملائكة ومن تشبه بهم يقرب من ربه فينعكس عليه نورصمديته.

فيما كان شوق المؤمن الى ذروة هذه الرياضة الروحية لا بد ان نلحظ حقيقة القول للإمام الغزالي: «الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص». اما صوم العموم فهو التقيد بالواجبات المعروفة وهي الكف عن شهوة الطعام والعلاقات الزوجية (في ساعات الإمساك). اما صوم الخصوص فهو كفّ الحواس جميعا عن الآثام وحفظ اللسان وكف السمع عن الإصغاء الى المكروه «لأن كل ما حُرم قوله حُرم الإصغاء اليه». ومن جميل قول الغزالي: «ان لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض الى الله عز وجل من بطن مليء من حلال». وفهم هذه القاعدة عند الغزالي ان يأكل الصائم أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم. والسامي من أهل الخصوص هو الذي لا يدري بعد الإفطار أيقبل صومه ام يرد. القضية ليست آلية في الإسلام.

أما خصوص الخصوص فصومهم «صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية والكف عما سوى الله… ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر عما سوى الله عزّ وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا الا دنيا تراد للدين». هذا الكلام يرشدنا الى ان كلّ ركن من أركان الإسلام قائم بالنيّة والإخلاص. لذلك لا يجوز الإحباط اذا ظننا ان هذا او ذاك يكتفي بالظواهر. فالله وحده يدين القلوب. نحن ندعو لمن نحسبهم شكليين في رياضاتهم حتى يمنّ الله عليهم بعمق تقواه حتي يصير العامي في دينه من أهل الخصوص وربما من خصوص الخصوص. لعل صيامه يصير شبيها بصوم مريم المرتبط بالصمت والهدوء فهي القائلة: «اني نذرت للرحمان صوما فلن اكلم اليوم انسيا». وفي هذا تتجلى حقيقة القائل:

اذا ما المرء صام عن الدنيا فكل شهوره شهر الصيام.

الطريق كلها طريق الاسترحام حسب هذا الدعاء «الهي ربح الصائمون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجد علينا بفضلك ومنتك، واغفر لنا أجمعين برحمتك، با أرحم الراحمين». اذا تحقق هذا في المرء يغدو نافذة على الحب الإلهي الشامل.

# #
#
كل الشعوب المؤمنة التي تحس بأن لها في الصوم التماسا لتجليات الحقيقة تمارس الصوم. البوذيون يتعاطون نسكا وتطهرا وقمعا للرغبات وهي عندهم تقود الى الموت. في الإنجيل هو توصية وليس أمرا إلهيا. في عدة مواضع في العهد الجديد يقترن الصوم بالصلاة لا ينقطع الصوم عن الصلاة وكأنه داعمها. يستمر هذا التراث في الكنيسة الأولى اذ نقرأ في اعمال الرسل ان الروح القدس كلّم كنيسة أنطاكية فيما كانت تقيم القداس الإلهي وتصوم ويطلب منها إرسال بولس وبرنابا ( أعمال 1:13-6).

في هذه الرحلة الأولى لم يكن من قانون يحدد الأطعمة التي يمتنعون عنها ولكن ابيفانيوس القبرصي في القرن الرابع يقول بالإمساك عن اللحم ومشتقاته ولكنه يقول بوجبة واحدة في اليوم ويتكرّس هذا في مجمع ترولو في اواخر القرن السابع. الإفطار كان عند المسيحيين الى زمن أدركته انا بعد أداء صلاة الغروب.

ولكون الصيام ترتيبا كنسيا اعتبره أباؤنا الزاميا. كانت الكنائس تختلف في شكل انضباطه. يبقى إمساكا اليوم في ساعات محددة وامتناعا عن اللحم والألبان في الكنيسة الأرثوذكسية. غير ان هذه لم تبقَ على شدتها الأولى فأباحت في القرون الوسطئ فاكهة البحر لعدم توفر الخضار والأعشاب في بعض المناطق. وتوسعت كنائس أخرى في مدة الإمساك وأنواع الأطعمة. الإنجيليون وحدهم عندهم صوم طوعي فردي غير مرتبط بحقبة زمنية.

تعددت الأصوام في كل كنيسة. الأرثوذكسيون عندهم أربعة أصوام بالإضافة الى يومَي الأربعاء والجمعة وفي بعض الأعياد. غير ان الواضح ليس فقط في شكل الإمساك ولكنه أولا في تكثيف الصلوات في ما يسمى الصوم الأربعيني المهيء للفصح.

يبقى هذا الصوم أهم الأصوام بمعانيه وجهاداته لأنه مرتبط بالاستعداد لما نسميه الأسبوع العظيم او اسبوع الآلام الذي ينتهي بعيد القيامة التي هي «عيد الأعياد وموسم المواسم». ومن حيث المعنى كل تعييد هام مشتق منها.

من حيث الرؤية يتركّز الصوم عند اليهود على التوبة وهي طلب الله وعند المسيحيين والمسلمين هو التماس وجه الله وهذا يتضمّن التوبة. بهذا يتميّز صوم الموحدين هؤلاء عن صوم البوذيين الذين ليس عندهم ايمان بالله ولا شك عندي ان الإله الواحد الأحد يتقبّل صوم البوذيين كما يتقبّل صوم «ملّة ابراهيم«.

واذا قرأنا الصوم في هذا العصر نراه احتجاجا على الإفراط بالطعام المتفشي في عصر الاستهلاك هذا. انه تأكيد لقول المسيح: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» (متى 4: 4).

الإنسان يحيا بكلمة الله اولا والباقي يُعطاه زيادة.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

ختم رسالتي/ الاحد 23 آب 2009/ العدد 34

في هـذا المقطع من الرسالة الأولى الى أهل كورنـثـوس يـقول بـولس لمسيحيـي كورنـثوس في اليـونـان “ان ختم رسالتي هو أنـتم في الرب”. الكلام الإلـهي الذي جاء بـه الرسول يـجعل المسيحيين خـتما في الرب اي مخصَصين ليسوع، وهذا هو ردّه على الذين يفحصونه.

هنا يـتكلّم عن حـقوقه. سمّى منـها اثـني: أن يكون مصحوبـا بـزوجـة اولا، وثـانـيا ان تـسنده الكنائس ماليا. وبـعد ان تـحدث في الإصحاح السابـع عن الرغبـة في عـدم الزواج تـرك الحق في الـزواج. امـا الحق في ان تـساعده الكنـائـس مـاليـا فرآه صليـبا لا يـقدر ان يتحمّله.

يؤكّد حقوقه كرسول ولكن لا يستفيد من هذه الحقوق. كفاه ان يحرث كرم الرب على الرجاء وان يكون شريكا في الرجاء. يؤكّد من جديد: “قد زرعنا لكم الروحيّات أفيكون عظيمًا أن نحصد منكم الجسديّات” اي المعونة المالية، ولكنه لا يريد هذه المعونة. ثم يعرض قـضيـة السلطـان على الرعـية ويـقول ان له هذا السلطان.

“لكـنّا لـم نـستـعمـلْ هذا السلطان بل نحتمل كلّ شيء لئلّا نسبّب تعويقا ما لبشارة المسيح”.

يحيا فقيرا طوال حياته، لا يريد من الرعيّة سوى ان تكون خاضعة للراعي العظيم ربنا يسوع المسيح. انسان مجرّد من كل شيء ويكفيه رضاء الله عنه.

هو نموذج للكاهن الفقير الذي على فقره لا يشترط شيئا على من يرعاهم. يحبّهم فقط، واذا احسّوا يكرمونه. غير ان بولس لا يسعى الى أي إكرام ولا الى أي سلطان. سلطانه من حبه فقط ومن تعليمه، واذا تعرّض للجوع، وقد تعرّض، لا يهمّه الأمر.

فقر الكاهن القابل بفقره لا يعفي الشعب ان يساعده. ليس الشعب مبررا ببخله او بتقاعسه عن مساعدة راعيه. هو حرّ ان يكون منزهًا عن كل شهوة من المال، ولكن ليس الشعب مبررا ألا يساهم بمعيشة راعيه أكان الدخل ناتجا من العطاء الفردي او من مال الكنيسة. الكثيرون يعفون أنفسهم من العطاء اذ يعتقدون ان في الوقف مالا وقد لا يكون فيه الا القليل. منّا من يذهب الى الكنيسة قليلا ويصرّ على وكلاء الوقف أن يتحمّلوا نفقات الراعي، ولعلّهم لا يعلمون ان الوقف ضعيف في هذه الرعيّة او تلك.

بـصرف النظر عن الأوقاف، انت مسؤول ماديا عن الذي خصّص حياته لك وتعب من اجلك وترك مهنة كان يعيش منها لأجلك محتـسبا ان الكنيسة أمّه وانه يغتذي منها هو وعائلته. واحيانا كثيرة تخزن الكنيسة ما يرد اليها ولا تنظر الى الكاهن ظنا ان هذا الرجل يـحيا مما يجمع في القداس وقد يجمع قليلا. لا تدعوا الكاهن يـلتصق بالأغنياء كي يتحننوا عليه. اعطوا مما عندكم اذ لا يجوز ان يتـألّم الكاهن وعائلته من عوزه. لا يجوز ان ينصرف خيـال الكاهن الى المال، فهاجس المال يؤذيه اي يؤذي حياته الروحيّة وقد يـؤذي استقامته. وتتهمونه انه محب للمال. لا تضطرّوه الى هذا لئلا يسقط في التجربة.

ما قلت أن اجعلوه غنيّا. قلت ألا تجعلوه متـسولا. أكـرمـوه تـُكرمـوا أنـفسكـم. تـرتـفعون اذا ارتفع وتسقطون اذا سقط. أعطوا تُحرروا أنفسكم من سيطرة المال عليكم. تكونون هكذا قد أقرضتم الله.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الله وأهل السياسة / السبت 22 آب 2009

لما سأل القضاة سقراط قبل أن يحكموا عليه بالموت: «ما دليلك على انك مع الحقيقة» أجابهم: لأني فقير. لذلك شدّد تلميذه أفلاطون على أن الحكام يؤخذون من الفلاسفة وبتعريفه عن الفلسفة يقول انها معرفة الحق والخير والجمال. ولما تحدّث المفكّر الليبي العظيم ابراهيم الكوني عن فهم السياسة في حضارة الشمس التي ورثها الطوارق في الصحراء الكبرى قال: «فأبناء الشمس (اهل رغ) هم الذين يحكمون، ولكنهم برغم ذلك لا يملكون، ليقينهم بأن الامتلاك نجاسة لا تليق بأصحاب سلطان ينتمون بسلالتهم الى الإله الذي يملك كل شيء لأنهم لن يستطيعوا ان يعصموا أنفسهم من الدنس الدنيوي القرين بأي ملكية» (انظر كتابه: بيان في لغة اللاهوت، الجزء الأول ص 100 و101).


ربما كان حكام الدنيا احيانا اغنياء وليس لي ان أرفضهم بالكلية. ربما كان بعضهم تقيا. ولكي لا اثقل على احد لاسيّما اني لا اعرف الحكام ولا أعاشرهم اقول انهم لا يقدرون ان يعدلوا في الرعية اذا ابتغوا المال هدفًا او وسيلة وما استعملوه مختلطا بالحكم اذ الحكم من العقل فقط ومن القلب النقي وليس فيه تجارة.

التجارة بحدّ نفسها شريفة قائمة على اني أبيعك سلعة لتعطيني مالا. ليس عن هذه انا متكلّم فقد لا يكون فيها غشّ او خداع او كذب فأتقاضى منك ما هو معروف عند الأخلاقيين بالربح المشروع اي ما يتناسب وثمن البضاعة. اعرف ان ليس من تعريف قانوني للربح المشروع. هناك حسب الأسواق كم من المال ليؤمّن معيشة التاجر بشيء من البحبوحة ولكن ليس بالغنى الفاحش اذ الشاري يكون، اذ ذاك، مغبونا. والمفروض في التبادل الاقتصادي الا يكون طرف من طرفين مظلوما.

اما السياسة فليست من عالم الاقتناء ولا من عالم اليسر. هي فقط خدمة اي من عالم الحب. وعندما تقول انها تعاش في عالم المؤسسات من حيث هي إدارة فالمراد بهذا انها ليست علاقة الفرد بالفرد ولكن من العلاقة الموضوعية القائمة بين المواطن والدولة. والدولة جسم او هيكليّة او آلة في خدمة المواطن. وهي لا تعظم نفسها ولكنها تنعش ابناء الوطن اذا كانت داخلية وفي وجهها الخارجي انها علاقة نديّة بين دولة ودولة وهنا ينتفي الظلم. السياسة اذًا دنيا روابط في اختلاط الأحياء في ما بينهم. تأتي من كيان الحاكم وكيان المحكوم اي انها في الصميم وجدانية تقوم على التساوي في الكرامة والإكرام بين من تسلّمها وبين الذي تُسلّم نفسها له اي ليس فيها من هو فوق ومن هو تحت فينتفي فيها عنصر الدونية اي عنصر المستغِل والمستغَل والاستغلال يكون بالمال او بالاستبداد.

# #
# وما من استبداد بلا مال وروحية الاستبداد غالبا ما كانت قرينة بالابتزاز تغذي نفسها به وفي ذلك استكبار اكيد من جهة وذلّ اكيد من الجهة الأخرى. وهذا ما يعزّز الفوقيّة من جهة والدونية من جهة مقابلة. وهذا ممكن في الديموقراطية الظاهرية. الديموقراطية ممكن اقترانها بعدم الحرية وتشكيل طغمة تقوم على الكسب وطغمة تقوم على الحرمان وهذا فيه مرارة للمحروم وبذرة لتمرده وتشكيل جماعة ناقمة تتغذى بالحسد وبطاقة كبيرة على الفتنة. من يكون، عند ذاك، زارع الفتنة؟

في الديموقراطية الزائفة من يكون مسؤولاً عن الثورات وعن الدم الذي يرافقها عادة؟ من هو صانع الثورات الحقيقي، الظالم أَم المظلوم؟ كل بحث عن تقديم البلد خارج العدل بحث باطل. متى تفسد السياسة؟ تفسد في الشرخ القائم بين اهل الحكم ومن يسودون.

لست أنكر الطهر في الجماعة الحاكمة في هذا او ذاك. منهم قديسون ما في ذلك ريب والسياسة احتراف ممكن في عالم النقاوة. ولكنها احيانا يكون فيها لعنة. ويل لمن يلعنهم المواطن الفقير لأن هذا الله يستمع الى شكواه ويرى شقاءه وبكاء بنيه. إشعياء النبي يقرن الظلم بالمعصية والاغتصاب، ويرى بطرس في رسالته الأولى ان المظلوم متألّم كما يشهد حزقيال ان الإنسان يظلم بكثرة آثامه.

أليس من الظلم الا يستطيع اولادك ان يقتاتوا او ان يتعلّموا او ان يستشفوا؟ أليس هذا من مسؤولية الدولة؟ أهو من العدالة ألا يشرب الناس بما فيه الكفاية او ألّا تُضاء منازلهم.

ان أتى الناس بك نائبًا او جيء بك وزيرا أفليس لتصير خادما للشعب اي ان تنسى ما يعود عليك بالنفع او بالنفوذ. اما سمعتم ما قاله المسيح: «ما جئت لأخدَم (بفتح الدال) بل لأخدُم (بضم الدال) وأبذل نفسي فداءً عن كثيرين»؟

انا أفهم ان يشتهي احدنا النيابة او الوزارة ولكن غاية هذا المشتهى عطاء نفسه لأهل بلده وقد يبقى بعد بلوغه المنصب على عسر او شبه عسر لأنه، سياسيا، راهب ولا يملك احدا ويكتفي براتبه. كل ما زاد عن الراتب سرقة. عليك اذًا باليقظة حتى لا تموت روحك.

انا أرجو القادرين الموهوبين ان يدخلوا عالم السياسة ليقوم البلد بهم، لنصير جسما واحدا في الوطن الواحد. كم أحلم بأن يصبح النواب ساجدين لله فيما هم يشترعون. اذ ذاك يصبحون أهل دين وساسة من أجل الآخرة. اذ ذاك تسد الهوّة بين الدنيا والآخرة.

مرة سألت كبيرا في إدارة احدى الجامعات في بيروت وكان صديقا لي: ما الإدارة؟ ظننت انه سيقول انها مكاتب وملفات ومحاسبة وما الى ذلك. ذهلت لما أجابني: الإدارة محبة. السياسة نوع من الإدارة او فيها إدارة. هل يكون مستغربا ان نقول ان السياسة محبة؟ القوانين الوضعيّة وحدها لا تجمع الناس. هي تقمع الأشرار وتهذب الأخيار او تدعمهم وتدفع الجميع الى بعض رجاء. ولكن العمل السياسي هو قبل كل شيء ان يحب الحاكم شركاءه في الوطن وكما غسل المسيح ارجل تلاميذه ان يؤمن السياسي بأنه غاسل أرجل. بهذا وحده يعظم.
معنى ذلك ان السياسة لا تقوم فقط على الأحزاب ولو كانت هذه ضروريّة ولا تقوم على علم السياسة او احترافها ولكنها اولا ذوبان في الآخرين. هذا لا يبطل الجانب التقني فيها ولكن ليست كلها تقنيات وليست فقط تآزرا او تخاصما بين الكتل. وان خاصمت فغايتك الوحدة. الأنظومات الشمسيّة والنباتات والحيوانات كلها تقوم معا على وحدة الكون لأن الكون منسق وبلا حكمة فيه يزول.

ونتنافس او نتسابق في دنيا السياسة لنصير الى اتحاد، ذلك الذي يجعلنا في البلد جماعة عظيمة مترابطة في الداخل وطامحة الى تعزيز الحضارة في العالم.
كل الوطن وكل تاريخه ومسعاه مسيرة الى السماء بوسائل الأرض وما فيها من فضائل وقوة فكر وبهاء قلوب. ليس الجهد السياسي منتهى. انه تطهير النفس للجالسين في المقامات ولكل أهلنا في سيرهم الى الخير والوئام والعطاء في كل مجالات الإنتاج. هذا يتطلّب ذوقا روحيا مرهفًا. من لم يكن ذواقة للقيم العليا لا يحق له ان يتنطح للإسهام في بناء الأمة. والأمة العظيمة ثمرة عملنا الواحد في المجال الوطني حتى تصير الناس جميعا الى الفرح.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

آلام بولس / الأحد 16 آب 2009 / العدد 33

يفتتح الرسول هذه الرسالة بقولـه ان الرسـل مجعولون للموت وقد باتوا مشهد عـذاب لأهـل العـالم والسماء. اعتبـرهم النـاس جهّالا وقبلـوا هذا من أجـل المسيـح. وهذا حصة المسيحيـيـن جميعا. بولس اذ يتـوجـّه الى أهـل كورنثـوس يقـول بسخـريـة للمسيـحييـن انهـم ظنّـوا أنفسهـم حكمـاء وأقـويـاء وهـذا لا يكـتمـل قبـل القيامة.

ثم يعـود بـولـس الى ذكـر الآلام: “نحن نجـوع ونعطش ونعـرى ونُلطـم ولا قـرار لنـا”، ثـم يتـابـع متكـلما عـن تعـب الرسـل واحتمالهم الاضطهادات وتعييـر الناس إياهم بأنهم أقـذار العالم وأوساخ يستخبثها الجميـع. ويؤكـّد أنه يكتب هـذا لهـم لأنهـم أولاده الأحبـاء. يعتـرف ان لهـم مرشـدين كثيـريـن في المسيـح (بطـرس وأبلـوس، وكان قد ذكرهما في مطلع رسالتـه الأولى الى أهـل كـورنثـوس)، الا انه يـؤكّد ان ليس لهم آبـاء كثيرون “لأني انا ولدتُكم في المسيـح يسوع بالإنجيل”، هذا الإنجيل الذي بشّرهـم به وهو يقصـد بالدرجـة الأولى تعليمه عن صلب المسيح وقيـامتـه اللذين ابرزهما في مطـلع الرسالة ايضا.

ولكــونهم اهتـدوا بالإنجيـل، تجـاسـر ان يقـول لهـم: “فأطـلـب اليكـم ان تكـونـوا مقتـديـن بـي” وهـو يـعـرف انـه قـدوة اذ قـال فـي مـوضع آخـر “تشبّهـوا بـي كما أتـشـبـّه انـا بالـمسيـح”. انـت تسـتـطيـع ان تـدعـو النـاس اذا دعـاك اللـه ونحتـك كـي تكـون علـى مثـالـه.

هذا درس لنـا جـميـعـا. تعـليـمـك عـن المـسيـح وشهـادتـك لـه غـيـر ممكـنـيـن مـا لـم تـكـن مثـالا للجميـع فـي الصـدق والتـواضـع والـوداعـة والعفـاف. ومـن كـان كـذلـك فـقـط يـأتي بـه الأسقـف ليكـون أبـا لـلرعيـة. الأب هـو مـن لـه اولاد مـن ذاتـه. الأب الـروحـي مـن كـان لـه وجـود روحـي امام الله ويعـمل مـن وجـوده هـذا وجـودات اخـرى. الكـاهـن لـن يتـمكـن مـن رعـايـة الشعـب بـمجـرد نـدائـه لـه ان يكـون شعـبـًا صـالحـًا. امـا اذا كـان الـرئـيس صـالحـًا فـيـشـعّ مـنـه الصــلاح وهـو صـامـت. أنـت مِـن تعـامُـلـه مـع الشعــب تعـرفـه أيقـونــة للسـيـد وتـنـجـذب لـيس اليــه ولـكـن الـى سيـده.

اما اذا سقط الكاهن او الأسقف او الشمـاس فيجـدّف النـاس علـى الـلـه ويتـركـون الكنـيسـة او يهـمـلـون صـلاتـهـم.

عنـدمـا قــال السـيـد لتـلاميـذه: “تكـونـون لـي شهـودًا” مـا عـنـى فـقـط الشـهـادة بالكـلام. هـذه أســاسيــة ولا يـمكــن إهـمـالهـا إذ قــال السيـد: “تَـلـمِــذوا جـمـيـع الأمــم وعلّمـوهم ان يحــفــظـوا جـمـيـع ما أوصيـتـُكـم بـه”. هنـاك تعـلـيـم مـولــج الكـاهـن بـه، وإن لـم يعـلّم فكيـف يعرفـون؟ غيـر ان التعـليم لا يصـل الـى الأذن فـقـط ولكـن الى القـلب اي ينـبثّ من القـلـب الى القــلـب ويُحـدث فيـه تغيـيرا.

الإيمـان يأتـي مـن روح الكـاهـن وعقـلـه معـًا. هكـذا تـنـمـو الجمـاعـة.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

سرّ مريم / السبت 15 آب 2009

اليوم تعيّد الكنيستان الشرقيّة والغربيّة لرقاد مريم. الرقاد مصطلح مسيحي يدلّ على الموت. هذا العيد أيّا كان السبب التاريخي الذي أنشأه لا نفهمه الا صدى لموت المسيح وانبعاثه اذ أرادت الكنيسة ان ننظر الى المدى المريميّ على انه حضور للمسيح في شخص أمّه.

في الكنيسة الكاثوليكيّة فرق بين صعود المسيحascension  وإصعاد مريمassomption . المصطلح المريميّ هذا لا يعني اذًا حركة قائمة على انتقالها من ذاتها ولكن على حركة نقل الله اياها الى السماء بالنفس والجسد دون ذكر لموتها كما في العقيدة الكاثوليكيّة (منذ السنة 1950) أَم اتخاذ الله اياها الى المجد من بعد موت كما في الموقف الأرثوذكسي الطقوسي دون دخول في تحديد عقدي. غير ان خلاصة الموقف الأرثوذكسي ان مريم قائمة في المجد هذا الذي أدركه الشهداء. هي وهم في حالة استباقية للقيامة من حيث انهم -منذ الآن- تجاوزوا المحاكمة والدينونة.

على رغم أهمية العذراء ليس من عقيدة حولها في الكنيسة الواحدة غير إطلاق لقب «والدة الإله» عليها. استعملت هذه العبارة في مجمع أفسس المنعقد السنة الـ 431 دحضا لموقف نسطوريوس الذي قال انها أُمّ المسيح بسبب من انه نسَب اليه اعتقاده بفصل الألوهية عن البشريّة في المسيح. بهذه الصيغة شاءت الكنيسة ان تقول فقط ان الصبي الذي كان في أحشاء البتول هو إله وانسان معا ولا يعني إطلاقا انها والدة الألوهية فيه. العقيدة لا تتعلق في الواقع بشخص مريم. انها كلام عن شخصية المسيح فقط. ليس عندنا كلام عقائدي عن مريم. كل ما جاء عنها هو ما ورد في سرد البشارة والميلاد وزيارتها لأليصابات في روايتَي متى ولوقا. والبهاء العظيم في قولنا عنها هو تَقرّبنا منها في الإكرام والتعظيم في لغة شعرية، حميميّة، حارّة تسمو كل القوالب العقليّة التي يستعملها محترفو اللاهوت.

عند متى لم يكن من اتصال بينها وبين يوسف قبل إيلادها يسوع. متى أراد الكلام عن المولد البتوليّ ولم يقل شيئا عن علاقة بينهما بعد الميلاد. هذا ما يعنيه الأصل اليوناني بقوله «انه لم يعرفها حتى وَلدت ابنها» لفظة ابنها البكر غير واردة في الأصل. أضيفت بخطأ في النسخ، لعلها استعارة لعبارة «البكر من بين الأموات» التي جاء بها الكتاب عن المسيح في سياق الحديث عن كونه منقذ البشر من الموت. اما عبارة «إخوة يسوع» الواردة في الكتاب فتسمح اللغة العبرية باعتبارهم أنسباء له. كانت هذه تسمية جارية في المجتمع اليهودي آنذاك وعبارة «الدائمة البتوليّة» معروفة في الأوساط المسيحيّة في افريقيا منذ القرن الثاني فكانت من التراث قبل ورودها في المجمع المسكوني الخامس.

# #
#
رائع الحديث عنها في كنائس الشرق. ولكني غير مطّلع بالقدر الكافي على التراثات السريانيّة والأرمنيّة والإثيوبيّة لأقارن بينها وبين العبادات البيزنطيّة. في هذه العبادة لا تخلو صلاة عن ذكرها واستشفاعها الى درجة تجعلني أقول ان عدد الصلوات المتحدّثة عنها قد لا تقلّ عن الربع او الخمس من مجموع رتبنا الطقوسيّة. واذا أردت الاختزال أشير الى خدمة مدائحها في الكنيسة البيزنطيّة المكتوبة شعرا يونانيا والمستمدّ عمقها من العهد الجديد. هذه الكثافة كثافة حب لا تُضعف إطلاقا مركزية المسيح. من هنا ليس من مجال لتأليه مريم. هذه بدعة لم تقع كنيسة واحدة فيها طوال الأزمنة الغابرة. والكنيسة الرسميّة ليست مسؤولة عن استغراق الشعب الأمّي دينيا في غلوّ الإعلاء لمقامها.

يبقى مقامها الحقيقي اذا تجاهلتَه تكون مقاوما للكلمة. في التسبحة التي نطقت بها عند زيارتها لأليصابات قالت: «ها منذ الآن تُطوّبني جميع الأجيال» (لوقا 1: 48). هي ما ألغت التركيز على المسيح ولكن ضمّت نفسها اليه. في توازن روحيّ وفهم لاهوتيّ صحيح انت قادر أن ترى المخلّص وتراها الى جانبه. في تطويبك اياها لا شيء يضطرّك الى تقوى منحرفة. في هذا السياق أدركت الكنيسة انك تخاطب العذراء، والكنائس الحافظة لتراث الأقدمين تحسّ ان هذا يدفع الى التحدّث اليها لكونها حية في صلاة.

كلامها الى نسيبتها أُمّ يوحنا المعمدان مؤَسّس على لقائها بجبرائيل عند البشارة. قال لها الملاك: «لا تخافي يا مريم لأنك وَجدتِ نعمة عند الله». تفهم هذا بالاستناد الى اليونانيّة: انك محظيّة عند الله.

اخيرا يقول لها: «الروح القدس يحلّ عليك ونعمة الله تُظلّلك». اللفظة الأخيرة من المظلّة في العهد القديم التي يسكنها المجد الإلهي. انتِ غدوت الهيكل الحقيقي للحضرة الإلهيّة بعد زوال هيكل سليمان. ولما أكّد لها الملاك انها في عذريّتها ستلد القدوس أجابته بنَعم اذ قالت: «هوذا انا أَمة الرب، ليكن لي حسب قولك».

هذه أطاعت فيما لم يكن واضحا لديها كيف تتم فيها المعجزة. كان جوابها صورة لكل سلوك بشريّ يتضمّن طاعة لله غير شرطية بفهم او بغير فهم. من كان هكذا مريميّ النفس يلد المسيح في العالم من جديد على ما قاله مكسيموس المعترف. والطاعة الكاملة انسحاق كامل اذ تقيم الله امام عينيك ولا تعتبر نفسك شيئا. مريم قائدة في مملكة المتواضعين.

بعد البشارة والميلاد ذكرها الكتاب قليلا. بانت في عرس قانا الجليل خادمة للفرح وواثقة بأن يسوع سيحوّل الماء خمرًا. اما المشهد الأخير فهو وجودها عند الصليب مع التلميذ الذي كان يسوع يحبه واقفا. اذ ذاك قال لأمه: «يا امرأة هوذا ابنك، ثم قال للتلميذ: هوذا أمك. ومن تلك الساعة أخذها التلميذ الى خاصته».

نحن لا نعرف على وجه التدقيق مَن كان هذا التلميذ. التقليد الكنسي يقول انه يوحنا الإنجيلي، ولكن هذا لا يهمّنا إن أردنا ان نسبر غور النص في الانجيل الرابع. عندنا التلميذ الذي اصطفاه المعلّم من المصفّ الرسولي وهو منعوت فقط بأنه حبيب. لنا ان نفهم من الأسلوب الرمزي الذي يستعمله الإنجيل الرابع ان هذا التلميذ نموذج لكل تلميذ حبيب من ذلك الزمن الى منتهى الدهر. هذا مريم أُمّه ويأخذها الى خاصته اي الى بيت قلبه. ما معنى هذه الأمومة؟ واضح المعنى اننا اذا أحببنا يسوع نصبح محضوني مريم. هذه معايشة روحيّة لا أعرف كل مداها ولكني -قارئا للنص- أفهم انها حقيقيّة وان أقلّ ما فيها ان بيني وبين مريم حديثًا.

ما يؤيّد تفسيري انها كانت في عليّة العنصرة على ما ورد في سفر الأعمال (1: 14) اي انها كانت في الكنيسة التي كانت كلها مجتمعة في العليّة. اذا أكملت التلاوة تقرأ ان الروح القدس حلّ عليها اذ «امتلأ الجميع من الروح القدس» (اعمال 2: 4). واذا عمّقت فهمي أدرك تاليا ان مريم قائمة حيث الكنيسة قائمة وانها في الكنيسة حاملة للروح القدس. أهي مغامرة في التفسير إن قلت انك كلما تقبّلت الروح القدس تكون العذراء الى جانبك وتصبح روحا بتوليا؟ هذا سرّها وسرّ الروح.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

يسوع على المياه / الأحد 9 آب 2009 / العدد 32

كان يسوع يقرن في كثرة الأحوال بين الأعجوبة وإيمان أصحابها او الذين حولهم. قال للمخلع “مغفورة لك خطاياك”. كان يريد البصيرة وليس فقط البصر. فالأعجوبة كانت تحمل عنده رمز الشفاء ليس فقط للجسد ولكن للنفس. هناك اذًا وحدة بين وظيفة التبشير التي كان يقوم بها ووظيفة الشفاء.

يسوع معلّم او مبشّر وصانع عجائب. في كل هذا كانت بشريته المقدسة متصلة بألوهيته. بقوة الطبيعتين كان يتكلّم ويعمل.

معظم سنوات البشارة قضاها السيّد حول بحيرة طبريّة اي على الضفّة الغربيّة اذ كان يسكن كفرناحوم. الحركة التي قام بها يسوع اذ كانوا في البحيرة انه صرف التلاميذ الى العبر اي الى هذه الضفّة، وصعد الى الجبل ليصلّي. لا يذكر متى اسم الجبل. وقد صلّى الرب عدة مرات في تلك المنطقة وحده.

أخذت الأمواج تلك السفينة لأن الريح كانت مضـادة لهـا. وعنـد آخـر الليل مضـى يسـوع ماشيـا على البحر. فلمّا اقترب اليهم، رأوه فاضطربوا وقـالوا انه خيال اذ لم يخطر على بالهم ان بشرا يمشي على المياه، ومن الخوف صرخوا، فطمأنهم يسوع انه هو، فأجابه بطرس قائلا: ان كنت انت هو (اذ كان صعبا عليه ان يصدّق) فمرني ان آتي اليك على المياه. بطرس كان مؤمنا بأن المخلّص يمدّه بهذه القوّة أن يمشي على المياه. فقال له: تعال. فنزل بطرس من السفينة ومشى على المياه نحو يسوع. فلمّا رأى شدّة الريح خاف، واذ بدأ يغرق صاح قائلا: يا رب نجّني.

معنى هذا ان الرسول ما دام يحدّق بيسوع ويسمّر على عيني المخلّـص عينيـه كان قويـا وقادرا على ان يمشي على الميـاه. ولكن لما “رأى” شدّة الريح خاف. والانسان لا يرى الريح ولكن يسمعها. متّى استعمل كلمة “رأى” ليقابلـها بالرؤيـة الأولى التي كانت لبطرس. أن تهتم لشيء غير يسوع يجعلك تضيع وبلا قـوّة. واذا رأيت الى يسوع تتغلّب على عناصر الطبيعة وأوضاعِك الجسديّة والنفسيّة.

لما قال يا ربّ نجّني، للوقت مدّ يسوع يده وأمسك به كما يمسك بيد الساقطين جميعا اذا استنجدوا به. ثم قال له المخلّص: يا قليل الإيمان لماذا شككت؟ ايمان صامد، صلب، غير متزعزع، غير مشروط، هذا ما يريده يسوع منّا.

ثم دخـل بطـرس السفينـة مـع يسوع فسـكنـت الريـح لأن يسـوع يأمـر الطبـيعـة ويريـد ان ينـقـذ تلاميـذه مـن الخـطـر. عنـدئـذ قـالـوا: انـت ابن اللـه. هذا إيمان كامل، مطلق جعـل كل من تفـوّه به صخـرةً تُبـنى عليهـا كنيسـة المسيـح. الكنيسـة تمـرّ بتجـارب كثيـرة، بـويـلات واضطـهـادات ومخـاوف وأخطـاء في كل أعضائها وخطـايـا. ولكنـها تـثـبـت لأن “أبـواب الجـحيـم لـن تقـوى عليـها”. تبـقى صامـدة ولـو قـلّ عــددهـا فـي مكـان او عـُذّبـت فـي مكـان لأنـهـا جـسـد المسيـح.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الكيان والاقتناء / السبت 8 آب 2009

الروحانيون يقيمون تضادا كاملا بين كيان الإنسان وما يقتنيه، تضادا يصل الى حدّ التناقض والتصادم الفعلي. انت لست ما تملك. ما تملك مقتناك اي خارج عن شخصيّتك ولا يزيد شيئا على وجودها ولا على فعلها. في طفولتي في الأوساط المتأثّرة بالتجارة كان يُقال: «شو بيسْوَ هذا الرجل» والجواب ألف ليرة عثمانية ذهب او مئة او عشرة آلاف. اي انهم كانوا يرون قيمته بما في حيازته. ولست أظن ان السؤال كان مجرّد اصطلاح. كانوا يعتقدون بأن المال وجود يزيد على الوجود. وكان من المألوف ان المالك يصبح من الذوات. لم يكن الفقير ذاتا. وكانوا يقولون ان لهم وجاهة اي ان لهم وجوها اذ الفقير محجوب الوجه لا يظهر الانسان الا بما بين يديه. اجل، المال مصدر طمأنينة. خسارة المال اذًا خسارةُ للطمأنينة عند من قال هذا القول. والواضح ان ثمّة من يطمئن الى كونه محبا واو محبوبا ومن الكبار في الجهاد الروحي من اطمأنّ الى فقره او اذا ربح يفرح لعطاء قرره. هذا لا يفرح اذًا بما جنى ولكن بما ينفق.

الوجيه الفطن، المراقب تبدل سلوك الناس يعرف ان من يتملّقه قد يكون كاذبا ويعرف ان من قال عنه وجيها انما يبتغي المنفعة ومن قال هذا القول يريد نفسه منعما عليها وكثيرا ما لاحظ الوجهاء نفاق من يدور حولهم. كبار القوم كثيرا ما لم يكونوا كذلك حقا. انما جُعلوا كذلك بشبكة من الأكاذيب. انهم يصدقون الأكاذيب. ليستعلوا على المحتاجين والسذج.

المال لا تتقي به شرّ المرض او شرّ النميمة والعداء والموت. وبمالك يكثر حاسدوك ولا تستطيع ان تزيد على قامتك ذراعا واحدة على قول الناصري واقتناؤه لا يحثّك على الكرم فاذا حزته وكنت كريم النفس فنفسك تمارس الكرم وتدنو من الله وحده ولا يدنو اليك من أحسنت اليهم لأن فقرهم يبقى قامعهم فلا يعودون لشكرك. انت اذًا لا تنمو بهم ولكن عطاءك أنماك.

# #
#

الى المال الجمال حيازة وقيمتك عظيمة بما انت عليه من فضائل جميلا كنت ام قبيحا. والقبيح اذا سمت أخلاقه حتى حدّ الانبهار يعتبره الناس أجمل من الجميل الفارغ. الموضوع مثار عند النساء بخاصة لأنهن العنصر الأخّاذ في الجنس البشري. ليست هذه هي الحال في مملكة الطير. كثيرا ما تباهت المرأة بحسنها كأنها هي أتت به ومن أتى به حصرا الوراثة على تعقيداتها.

# #
#
والموروث يزداد بهاء بالطعام والتروّض على الكياسة والأناقة. الحسن اذا تستمده الحسناء والقليل فيه من تحسينها. اذًا هو ليس منها. تقتنيه وتاليا هو مجرّد صورة لا وجود. الاعتداد اذًا سخافة. وتتعالى الجميلة اذا فرقت بينها وبين وجهها واذا تساوت فيها وقفتها امام المرآة او انحجابها دون المرايا. وتتعالى الى ذروة الفهم اذا اقتنعت بأن كل هذا ذاهب الى التراب. ولعلّ شيخوخة الحسناء هبة من السماء لأن تكاثر الغضن على محياها يوحي لها انها في صباها كانت على ضلال وهنا يصعقنا بولس اذا قال: «من افتخر فليفتخر بالربّ».

في هذا السياق اللباس عند الرجال والنساء اذا أحسوا بأنهم بهذا يعظمون. واللباس قنية وهو يطغى عليك. كذلك التعري او شبهه طاغ لأن الكسوة خارجيّة وغيابها خارجي. انا لست أجهل ان «المجتمع الراقي» يجمع بين اللباس والمهن والوظائف. فللمحامي والقاضي ما يرتديانه والجندي واستاذ الجامعة في بعض الحفلات. ويبدو ان شيئا من التأثير على الخيال فاعل. غير ان الفرنسيين يقولون ان الراهب لا يكونه ثوبه. اجل هناك طقوسيات متعلّقة بهذا الترتيب تربّى عليه الناس. ولكن علم القاضي بذاته والأقمشة التي يلقيها على جسده لا تكسو فكره ومن المؤكّد ان الراهب من تبتّلت نفسه لله وخرقته لا تجعله متصوّفا. وانت تظهر امام ربّك في اليوم الأخير حافيا عاريا صامتا حتى الخجل ويقرأك ربّك بمحاسنه هو التي هي الحلّة الذهبيّة التي تدخلك الى الملكوت.

# #
#
وعندي ان الثافة نفسها حيازة لأن الأمي والمتأدّب عند الله واحد والميزة الوحيدة فقط للطاهرين والطهرلا علاقة لها بالعلم ويتنزل الطهر من عند ربّك على الجاهل والعالم. في هذه الدنيا وفي مسيرتها أعرف أن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. ولكن ليس في العلوم ولا الفلسفة ولا الشعر ولا اي فنّ من الفنون ما يوصلك الى الملكوت.

انا ما قلت سيّان أن تتثقّف والا تتثقّف لأن العقل أمر فخم وجاذبيّة كبرى ولأنك قادر أن تسخّره لخدمة الكلمة الإلهيّة ولأنه بهجة من مباهج النفس وارتياح وجود ولأن الذين قضوا حياتهم يتعلّمون نعمة قائمة بيننا فقد ترهّبوا ترهبا ساطعا. مع ذلك أصرّ على أنّ الذكاء زينة ولو أسكرتك. فكما أن الجمال موروث الذكاء موروث بمعنى ان شيئا حصل في أحشاء أمك فأتت تعاريج دماغك دقيقة وأتت عند سواك غليظة. هناك ركيزة عضويّة ينتصب عليها الذكاء. اجل تروضه بالدراسة والجهد الطويل ولكنك في المنطلق وارثه ويختفي احيانا في الشيخوخة حتى لا تتباهى بما لست انت صانعه.

قالت لي حفيدة أخي منذ أيام ولها من العمر خمس سنوات بعد أن رأتني ماسكا بكتاب: أنت تدرس حتى الآن؟ ندرس، هذا كل ما نستطيع عمله ولكن بدءًآ من إرث اي من قوّة خارجة عن إنسانيّتنا في أبعادها الروحية والخلقيّة. هنا يسعفني ايضا بولس بقوله: «انا ما أنا بنعمة الله». هذا كيانك الحقيقي.

لست أساوي بين المال والجمال. فالأول أكثر خارجية من الثاني ولا أساوي بين الجمال والذكاء فالاول أكثر خارجية من الثاني. والذكاء تستدخله بمقدار كبير. ولكن واحدًا من هذه الثلاثة لا يجلب الحق اليك. هذا ليس من الحيازة. هذا من الكيان حتى يعرّيك الله من كل ما اقتنيت فيراك نورًا ويسر هو وملائكته بك وتعرف في القيامة انك عطاء النعمة.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

وحدة الفكر المسيحي/ الأحد 2 آب 2009 / العدد 31

لاحظ بولس الرسول ان كنيسة كورنثوس في اليونان التي كان قد أسسها في رحلته التبشيريّة الثانية، لاحظ ان هذه الكنيسة فيها انشقاقات. كانت مؤلّفة من بعض اليهود، ولكن أكثريّتها كانت من الوثنيين. بعد رحيله عنها برزت فيها مشاكل.

وَضَع هذه الرسالة خلال سنوات خدمته في أفسس (تركيا الحالية) في رحلته التبشيرية الثالثة، وبلغه آنذاك خبر الانقسامات الداخليّة بواسطة خدام امرأة مسيحيّة تدعى خلُوي. ناشد الرسول المؤمنين ان يقولوا قولا واحدا. كانوا قد أخذوا يتحزّبون، فقالت فئة “انا لبولس” المؤسس، وقالت أخرى “أنا لأبُلّوس”. كان هذا يهوديا من اهل الاسكندرية، فصيح اللسان، قديرا في شرح الكتب المقدسة. هذا أرسله الإخوة من أفسس الى كورنثوس وتعلّق به ناس لفصاحته. ومنهم من قال انه “للمسيح”.

امام هذه الخصومات انتفض بولس لتعلّق النـاس بـه او بـأبلّوس. المهم هـو المسيـح الذي لا يـتـجزأ والذي بـه نعتمـد. هنـا شـرح الرسـول انه لم يُعمّـد احدًا الا “اهل بيت استفاناس”. ولا مبرر في كل حال ان يتمسّك مؤمن بمن عمّده او قدّم له أية خدمة كنسية اذ المراد بالخدمة ان نأتي بالناس الى المسيح.

تحصل في الكنيسة احيانا تحزّبات شخصيّة وتفاضُل بين هذا وذاك من القادة. الكاهن او الأسقف مجرّد جسر بينك وبين السيّد.

الى هذا شدّد بـولس انـه لا يـبشّر “بـحكمة كلام”، وقد كرّر فكره هذا في الإصحاح الثاني من الرسالة: “ما جـئتُ بـبليغ الكـلام او الحكمة”. يـوحي بأنه في تواصله مع المؤمنين لا يـستعمل البلاغة “لئـلا يـبطل صليـب المسيح”. هو كان يسعى ان يقتنعوا بفداء المسيح لهم، بـكشف سر الله. في مقطع يـلي يـؤكد ايضًا: “وكـان كـلامي وتـبشيـري لا يعتمدان على أساليب الحكمة البـشريـّة في الإقـناع، بـل على ما يُـظهـره روح الله وقوّته، حتى يـستـند إيـمانـكم الى قـدرة الـله، لا الى حكمة البشر”.

يبدو هنا فكر الرسول ان روح الله في المبشّر تنتقل الى السامعين بأسلوب بسيط، بكلام يحمل قوة الروح القدس. هذا لا يعني ان من كان بليغا في ما اكتسبه من آداب علماء اللغة وكان مبنيّا على فطرة الفصاحة يجب ان يُطفئ هذه الموهبة الطبيعيّة. ولكن عليه ان يفهم اولاً ان قدوته هي أفضل وسيلة تبليغ، وان كلمات الخطابة تأتي سندا لتقوى المبشّر، والكلمات الرنّانة بحد نفسها لا تعمل شيئا إن لم تعبُر بالكلمات محبة المبشّر لصليب المسيح وقيامته.

على فكرة الصليب يجب أن تركّز سعيك الى نقل الايمان. المهم ان تعرف ماذا تبلّغ، والحماسة ليسوع بحد نفسها وبكلام قليل تبلّغ الرسالة اي تضمّ السامع الى المخلّص.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

النور / السبت ١ آب ٢٠٠٩

من الطبيعي ان يحتلّ حديث النور من حيث هو نقيض الظلمة مكانة كبرى في النص الديني: «وقال الله ليكن نور» (تكوين 1: 3). لم يقل ليكن النور بأل التعريف المطلقة وهذا وظيفته انه يبدّد الظلمة. لم يهتمّ الكاتب عن علاقته بالشمس. وفي تفسير الكون حدس العلماء ان العالم حسب نظريّة التفجر الكوني Big bang شعاع من نور فلق الكون الأول الذي غدا كرة كقبضة الإنسان فلما هتكها النور صارت العالم الذي نعرف. ولكن ما النور في الفكر الشامل للكتاب المقدّس؟ عندما نقرأ مطلع الإنجيل العائد الى مطلع التكوين نفهم ان «الحياة كانت نور الناس» (1: 4). والحياة التي يتحدّث عنها الإنجيلي هي في الكلمة الذي كان في البدء. نحن هنا مع حياة غير مخلوقة واذا كانت وظيفة النور المخلوق تبديد الظلام فالحياة التي في الكلمة الإلهي هي اياها الحياة الإلهية فينا، انها تنقلنا من العدم الروحي الذي نسقط فيه الى الوجود الروحي.

          في هذا السياق عندنا قولتان للمسيح اولاها «انا نور العالم» (يوحنا 9: 5) وجاء الحديث بالتضاد مع الليل. وثانيتهما: »انتم نور العالم« قالها للتلاميذ (متى 5: 14) وأتت في الشرعة الخلقيّة التي نسمّيها العظة على الجبل. اذا جمعنا الآيتين نرى ان المسيح يكشف نفسه مصدر النور ويدعو ان يستمد احباؤه ضياءه المنطلق.

          النور يسطع بحد نفسه واذا نسيت موضع انبثاقه تبقى في العتمات. نحن في حركة إضاءة واستضاءة واذا استعرضت العهد القديم في المزامير واشعياء وغيرهما ترى هذه الحركيّة كما في قوله: «بنورك نعاين النور» (مزمور 34: 4) ويبدو التأكيد هنا وهناك على نور الصديقين. الأبرار سكناه وخيانة الله هي الظلام. هذا هو ملكوت الفرح والحب.

          يتجلّى هذا في العشاء الأخير الذي أقامه يسوع مع تلاميذه فعندما سُئل المعلّم من الذي يسلمه قال: «هو الذي أغمس انا اللقمة وأعطيه فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الاسخريوطي… فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلا» (يوحنا ٢٦:١٣-٣٠). في احتسابي ان كلمة ليل يجب ان تؤخذ بمعناها المجازي ايضًا اي ان قلب يهوذا صار مظلما بدليل التضاد مع النور الروحي اذ ان يسوع قال توّا بعد هذه اللفظة: «الآن تمجّد ابن الانسان وتمجّد الله فيه». ويوحنا عنده كثيرا هذه الرمزيّة.

#                              #

#

          ويستمرّ هذا في النظام الطقوسي. الذهب الذي هو خلفيّة الايقونات دائما، الهالة حول رأس القديسين. الشموع المضاءة ، الاستعمال الخاص للشموع في القداس الذي يقيمه الأسقف في الطقس البيزنطي، حمل شمعة عند الطواف بالإنجيل وتلاوته وعند تناول القرابين. وفي خدمة تقام في الصيام في الكنيسة الأرثوذكسيّة يحمل الكاهن شمعة مضاءة امام المؤمنين ويقول: «نور المسيح مضيء للجميع» وهذا يأتي صدًى  لما يقوله في مطلع قداس الفصح: «هلموا خذوا نورًا من النور الذي لا يعتريه مساء». وهذا يتمّ اليوم في النهار حيث لا حاجة الى إنارة. في الكنيسة اللاتينيّة شيء مشابه يوم السبت العظيم الذي يسميه الشعب سبت النور. الأعين شاخصة الى الضوء الحسي فيما القلوب قائمة في النور العقلي الذي هو الحياة.

#                         #

#

          من أحب الايات إليّ في القرآن في هذا السياق قوله: «الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الصباح في زجاجة كأنها كوكب دريّ يوقَد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء» (سورة النور، ٣٥). يؤكّد الوحي هنا نورانيّة الله بحدّ نفسه ثم يشبه هذه النورانيّة بنور حسيّ هو نور الزيت ويصعد بحركة حب من جديد الى الله بقوله: «نور على نور». اجل الخالق نور بحدّ ذاته  ولكنه ينعطف على السموات والأرض اذ يخرج الناس من الظلمات الى النور بصورة عامة ويأتي الى التخصيص بقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور» (المائدة، ٤٤). وفي الإنجيل ايضا هدى ونور (المائدة ٤٦). ويرفض القرآن من يدعي نورا لا يكون الله مصدره اذ قال: «ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور» (سورة النور، ٤٠).

          هذا يشير الى ان مضمون كلمة نور في الأساس في ديانات التوحيد الثلاث واحد اذ النور هو الله وحده من حيث هو مصدر ومنطلق وإنارة هي منه ولو كره الكارهون.

#                         #

#

          اذا كانت الجماعات الدينيّة كلّها تطلب النور واهتداءها به يبقى علينا جميعا واجب تجاه الحقيقة وهو قبل كل شيء ان نحبّ الله ليس فقط في ذاته ولكن في إشعاعاته على الآخرين في نصوصهم التأسيسيّة اذ المفروض على كل من علّم دينه لأبناء دينه ان يكشف النور في دين الآخر فإن هذا لا ينتقص من تعلقنا بديانتنا كما يبدو النور ساقطًا عليها. قبل خوض الحوار بمعناه العقلي الموقف الوجداني القائم على الصدق اولا هو ان نعترف ان هذا الجانب او ذاك من عقائد الآخر او اخلاقياته متصل نور بها او هو فيها وان خيطا من ذهب تاليا يربطنا بعضنا ببعض لأن الصراع هو بين النور والظلمة.

          اذا كنت تدين بدين فلست برافض تحديدا كل شيء آخر. «أدين بدين الحب أنّى توجّهت ركائبه». ان رأيت أنوارا خارج سورك فأنت منها لأنك تطلب الحب الذي يبث رسائله هنا وهناك. هذا هو الانفتاح الحقيقي الذي ينجي نفسك اليوم وفي القيامة. وهذه البركات يمكن ان تحل على عامة الناس وليس فقط على العلماء. فالقلب المستنير يرى ما لا تراه أحيانا عقول عظيمة.

#                        #

#

          قبل ولوج باب الانفتاح الوجداني على الآخر المبتغى ان تجعل نفسك دائما في إشراف الله عليك بحيث يكون وحده سيّد قلبك وتكون باستمرار في حالة التوبة اليه. ما عدا ذلك ليس من نور. ما عدا ذلك انت أسير اللفظ الديني والمعنى اللغوي للكلمات وأداء طقوس لا تحس بدفئها.

          هؤلاء الذين يسيرون في قلوبهم وراء الله، الحاجون الى وجهه المبارك هم جماعته وأحباؤه فإنهم قد استناروا بضيائه كاتنة ما كانت مسالكهم. انا لست أوحّد بين الأديان ولا أقول انها تقول القول الواحد ولكني أرى الله في أتباع الله أنّى كانوا وأتبرّك بهم. من حجّ الى الله، الى كيانه، الى أضوائه فهذا أخي وليس عند المحبّين حدود. ليس المهم فقط ان الله نور ولكن المهم ايضا ان الرب ينير مَت يشاء والنور فيّ يحنّ الى النور فيك.

Continue reading