من الطبيعي ان يحتلّ حديث النور من حيث هو نقيض الظلمة مكانة كبرى في النص الديني: «وقال الله ليكن نور» (تكوين 1: 3). لم يقل ليكن النور بأل التعريف المطلقة وهذا وظيفته انه يبدّد الظلمة. لم يهتمّ الكاتب عن علاقته بالشمس. وفي تفسير الكون حدس العلماء ان العالم حسب نظريّة التفجر الكوني Big bang شعاع من نور فلق الكون الأول الذي غدا كرة كقبضة الإنسان فلما هتكها النور صارت العالم الذي نعرف. ولكن ما النور في الفكر الشامل للكتاب المقدّس؟ عندما نقرأ مطلع الإنجيل العائد الى مطلع التكوين نفهم ان «الحياة كانت نور الناس» (1: 4). والحياة التي يتحدّث عنها الإنجيلي هي في الكلمة الذي كان في البدء. نحن هنا مع حياة غير مخلوقة واذا كانت وظيفة النور المخلوق تبديد الظلام فالحياة التي في الكلمة الإلهي هي اياها الحياة الإلهية فينا، انها تنقلنا من العدم الروحي الذي نسقط فيه الى الوجود الروحي.
في هذا السياق عندنا قولتان للمسيح اولاها «انا نور العالم» (يوحنا 9: 5) وجاء الحديث بالتضاد مع الليل. وثانيتهما: »انتم نور العالم« قالها للتلاميذ (متى 5: 14) وأتت في الشرعة الخلقيّة التي نسمّيها العظة على الجبل. اذا جمعنا الآيتين نرى ان المسيح يكشف نفسه مصدر النور ويدعو ان يستمد احباؤه ضياءه المنطلق.
النور يسطع بحد نفسه واذا نسيت موضع انبثاقه تبقى في العتمات. نحن في حركة إضاءة واستضاءة واذا استعرضت العهد القديم في المزامير واشعياء وغيرهما ترى هذه الحركيّة كما في قوله: «بنورك نعاين النور» (مزمور 34: 4) ويبدو التأكيد هنا وهناك على نور الصديقين. الأبرار سكناه وخيانة الله هي الظلام. هذا هو ملكوت الفرح والحب.
يتجلّى هذا في العشاء الأخير الذي أقامه يسوع مع تلاميذه فعندما سُئل المعلّم من الذي يسلمه قال: «هو الذي أغمس انا اللقمة وأعطيه فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الاسخريوطي… فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلا» (يوحنا ٢٦:١٣-٣٠). في احتسابي ان كلمة ليل يجب ان تؤخذ بمعناها المجازي ايضًا اي ان قلب يهوذا صار مظلما بدليل التضاد مع النور الروحي اذ ان يسوع قال توّا بعد هذه اللفظة: «الآن تمجّد ابن الانسان وتمجّد الله فيه». ويوحنا عنده كثيرا هذه الرمزيّة.
# #
#
ويستمرّ هذا في النظام الطقوسي. الذهب الذي هو خلفيّة الايقونات دائما، الهالة حول رأس القديسين. الشموع المضاءة ، الاستعمال الخاص للشموع في القداس الذي يقيمه الأسقف في الطقس البيزنطي، حمل شمعة عند الطواف بالإنجيل وتلاوته وعند تناول القرابين. وفي خدمة تقام في الصيام في الكنيسة الأرثوذكسيّة يحمل الكاهن شمعة مضاءة امام المؤمنين ويقول: «نور المسيح مضيء للجميع» وهذا يأتي صدًى لما يقوله في مطلع قداس الفصح: «هلموا خذوا نورًا من النور الذي لا يعتريه مساء». وهذا يتمّ اليوم في النهار حيث لا حاجة الى إنارة. في الكنيسة اللاتينيّة شيء مشابه يوم السبت العظيم الذي يسميه الشعب سبت النور. الأعين شاخصة الى الضوء الحسي فيما القلوب قائمة في النور العقلي الذي هو الحياة.
# #
#
من أحب الايات إليّ في القرآن في هذا السياق قوله: «الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح الصباح في زجاجة كأنها كوكب دريّ يوقَد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء» (سورة النور، ٣٥). يؤكّد الوحي هنا نورانيّة الله بحدّ نفسه ثم يشبه هذه النورانيّة بنور حسيّ هو نور الزيت ويصعد بحركة حب من جديد الى الله بقوله: «نور على نور». اجل الخالق نور بحدّ ذاته ولكنه ينعطف على السموات والأرض اذ يخرج الناس من الظلمات الى النور بصورة عامة ويأتي الى التخصيص بقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور» (المائدة، ٤٤). وفي الإنجيل ايضا هدى ونور (المائدة ٤٦). ويرفض القرآن من يدعي نورا لا يكون الله مصدره اذ قال: «ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور» (سورة النور، ٤٠).
هذا يشير الى ان مضمون كلمة نور في الأساس في ديانات التوحيد الثلاث واحد اذ النور هو الله وحده من حيث هو مصدر ومنطلق وإنارة هي منه ولو كره الكارهون.
# #
#
اذا كانت الجماعات الدينيّة كلّها تطلب النور واهتداءها به يبقى علينا جميعا واجب تجاه الحقيقة وهو قبل كل شيء ان نحبّ الله ليس فقط في ذاته ولكن في إشعاعاته على الآخرين في نصوصهم التأسيسيّة اذ المفروض على كل من علّم دينه لأبناء دينه ان يكشف النور في دين الآخر فإن هذا لا ينتقص من تعلقنا بديانتنا كما يبدو النور ساقطًا عليها. قبل خوض الحوار بمعناه العقلي الموقف الوجداني القائم على الصدق اولا هو ان نعترف ان هذا الجانب او ذاك من عقائد الآخر او اخلاقياته متصل نور بها او هو فيها وان خيطا من ذهب تاليا يربطنا بعضنا ببعض لأن الصراع هو بين النور والظلمة.
اذا كنت تدين بدين فلست برافض تحديدا كل شيء آخر. «أدين بدين الحب أنّى توجّهت ركائبه». ان رأيت أنوارا خارج سورك فأنت منها لأنك تطلب الحب الذي يبث رسائله هنا وهناك. هذا هو الانفتاح الحقيقي الذي ينجي نفسك اليوم وفي القيامة. وهذه البركات يمكن ان تحل على عامة الناس وليس فقط على العلماء. فالقلب المستنير يرى ما لا تراه أحيانا عقول عظيمة.
# #
#
قبل ولوج باب الانفتاح الوجداني على الآخر المبتغى ان تجعل نفسك دائما في إشراف الله عليك بحيث يكون وحده سيّد قلبك وتكون باستمرار في حالة التوبة اليه. ما عدا ذلك ليس من نور. ما عدا ذلك انت أسير اللفظ الديني والمعنى اللغوي للكلمات وأداء طقوس لا تحس بدفئها.
هؤلاء الذين يسيرون في قلوبهم وراء الله، الحاجون الى وجهه المبارك هم جماعته وأحباؤه فإنهم قد استناروا بضيائه كاتنة ما كانت مسالكهم. انا لست أوحّد بين الأديان ولا أقول انها تقول القول الواحد ولكني أرى الله في أتباع الله أنّى كانوا وأتبرّك بهم. من حجّ الى الله، الى كيانه، الى أضوائه فهذا أخي وليس عند المحبّين حدود. ليس المهم فقط ان الله نور ولكن المهم ايضا ان الرب ينير مَت يشاء والنور فيّ يحنّ الى النور فيك.
Continue reading