Monthly Archives

June 2003

2003, مقالات, نشرة رعيتي

بطرس وبولس والآخرون/ الأحد 29 حزيران 2003 / العدد 26

اليوم نعيّد لهامتي (رأسي) الرسل بطرس وبولس، وغدًا للرسل مجتمعين. لقد عثرنا في دياميس رومية، الأمنكة التي كان المسيحيون يصلون فيها، على هذه العبارة: “يا بطرس ويا بولس تشفعا من اجلنا”. مما يدل على مكانتهما الفريدة، ولعل هذا يعود الى اعتقاد المؤمنين ان هذين الرسولين استشهدا معا السنة الـ 65 اي زمن اضطهاد الامبراطور نيرون للكنيسة.

         اهمية بطرس الرسول اعترافه بأن المسيح هو ابن الله الحي ثم قول السيد له: “انت بطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي”. بطرس هو الاسم البديل لسمعان بن يونا. وهي كلمة يونانية (Petros) اشتقها الرب من كلمة (Petra) التي تعني الصخرة. لقد اراد يسوع ان يقول لهذا التلميذ انت صخري الاسم لأن ايمانك بي هو الصخرة التي أبني عليها كنيستي. ثم بعد نكرانه للمعلم قال له بعد القيامة “ارع خرافي… ارع غنمي”. بهذا الكلام أعاده الرب الى الرسولية التي كان فقدها بالنكران.

         وبعد ان قال له “انت بطرس وعلى هذه الصخرة”، قال: “وسأعطيك مفاتيح ملكوت السموات”. وحتى يفسر السيد كلامه أكمل “فكل ما ربطته على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات” (متى 16: 18و19). ولكن هذه العبارة ليست محصورة ببطرس اذ قال السيد للتلاميذ مجتمعين: “كل ما ربطتموه على الأرض يكون مربوطا في السماء. وكل ما حللتموه على الأرض يكون محلولا في السماء” (متى 18: 18). لا يستنتج اذًا من كلام السيد لبطرس انه حامل وحده مفاتيح الملكوت.

         غير اننا نرى العهد الجديد ولاسيما في سفر الأعمال ان بطرس يقوم ويتكلم باسم الجميع، ولكنا لا نرى إشارة الى ان احدا من بعده هو الاول. ولما أتى الآباء على ذكر الخلافة الرسولية قال اوريجانيس ان كل اسقف عنده ايمان بطرس وان كل مؤمن آمن بما آمن بطرس هو خليفة بطرس. لا نرى اذًا واحدًا يقول ان اولية بابا رومية مشتقة من اولية بطرس. لقد رأت الكنيسة في تنظيمها القانوني (وليس في إيمانها) ان اسقف رومية هو “الاول بين اخوة متساوين” وجعلت بين الكراسي اولويات فجاء ترتيب الكراسي الخمسة هكذا: رومية، القسطنطينية، الاسكندرية، انطاكية وارشليم.

         اما كون بولس هو هامة ايضا فقد أتى من تعليمه (14 رسالة منسوبة اليه) ومن جهاده العظيم. فلما قارن نفسه بالرسل الذين كانوا جميعا قبله: “انا في الأتعاب اكثر. وفي الجلد فوق القياس وفي السجون اكثر. وفي الموت مرارا” حتى أتى الى الرؤيا التي حصلت له: “اختُطفَ (اي هو) الى السماء وسمع كلمات سرية لا يحل لإنسان ان ينطق بها” (راجع الإصحاحين 11 و12 من الرسالة الثانية الى اهل كورنثوس).

         لذلك يتصدر بطرس وبولس صف الرسل في أعلى الايقونسطاس.

         غير ان عيد الغد قائم على اننا كنيسة رسولية اي كنيسة تحفظ تعاليم الرسل والكنائس المحلية القديمة أسسها الرسل. والكنائس الأخرى التي ظهرت جيلا بعد جيل انشأتها الكنائس القديمة بالتبشير. وعن هذا قال بولس: “لستم اذًا بعد غرباء ونزلا بل رعية مع القديسين واهل بيت الله. مبنيين على أساس الرسل والأنبياء” (افسس 2: 19و2.) لذلك يؤكد القديس يوحنا الدمشقي اننا لا نتجاوز تعاليم الرسل. كل الكلام اللاهوتي وكل عباداتنا قيمتها انها مسندة الى التعليم الاول. انها توضيح او شرح “للايمان المسلّم مرة للقديسين” (يهوذا 3).

         بسبب ذلك يسمى الاوفياء لهذا التراث القديم ارثوذكسيين وبالعربية مستقيمي الرأي. ونتيجة ذلك رفضنا للهرطقات التي ظهرت في القديم وتظهر في كل جيل. انها إضافة الى الايمان الطيب او إنقاص له او تشويه. واستقامة الرأي نبقى عليها لا بجهودنا فقط ولكن بنعمة الله.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

احد جميع القديسين/ الأحد 22 حزيران 2003 / العدد 25

“يسوع المسيح هو هو امسًا واليوم والى الأبد” (عبرانيين 13: 8). هو دائما مصدر القداسة. ذلك انه وعدنا اننا “نثبت فيه وهو يثبت فينا”. ونحن صرنا به “امة مقدسة”. وهو يجعلنا له بالروح القدس. لذلك تقيم الكنيسة في الأحد الواقع بعد حلول الروح القدس ذكرى لجميع القديسين. نحن كل يوم من السنة نقيم ذكرى لقديس او اكثر. ولكن في الملكوت قديسون لا نعرفهم ولم تعلن قداستهم رسميا. فأردنا بإقامة هذا العيد ان نقول اننا مرتبطون بهم وانهم يشفعون لنا.

         انهم اولا الرسل الاثنا عشر والأنبياء والشهداء ورؤساء الكهنة والنساك والأبرار (اي الرهبان) والملائكة والذين لا يقعون في اية فئة من هذه الفئات كالعلمانيين العاديين. هؤلاء جميعا توشحوا بالمحاسن الإلهية وبلغوا في الفضيلة مبلغا كبيرا وتطهروا بالآلام وجاهدوا جهادا موصولا.

         القداسة يعلنها المجمع المقدس في اية بطريركية او كنيسة مستقلة. ويكونوا قديسين محليين مثل القديس يوسف الدمشقي الشهيد في الكهنة الذي اعلن   قداسته المجمع الأنطاكي المقدس او القديس سيرافيم من برية ساروف الذي طوبته الكنيسة الروسية. واذا تبنت الكنائس كلها قديسا يكون للكنيسة الجامعة مثل الثلاثة الأقمار وانطونيوس وجاورجيوس ونقولاوس.

         لا يشترط عندنا ان يكون القديس صانع عجائب، والذين قاموا بعجائب نسميهم صانعي عجائب. اما الآخرون فنقدسهم بسبب طهارة حياتهم اذا لم يكن فيها شك او لسمو تعاليمهم اذا اقترنت بنقاوة السيرة. قبل ذلك تدرس الكنيسة حياتهم دراسة دقيقة وتتيقن من عظمة هذه السيرة. عند ذاك يتخذ المجمع المقدس قرارا بالتطويب، ويفوض احد الأدباء الروحيين ان يضع خدمة (صلاة غروب وصلاة سَحَر وطروبارية وما الى ذلك) وتوزع الخدمة على الأبرشيات فيقام العيد كل سنة. ويرسم للقديس ايقونة نموذجية تكون واحدة في كل الكنائس.

         القديسون نماذج لنا والتطويب لا تنحصر غايته في ان نطلب شفاعة هؤلاء ولكن في الأهمية نفسها ان نقتدي بهم. واذا عرفنا سيرتهم ندرك انهم عاشوا مثلنا في هذا العالم وعرفوا التجارب والمحن، واستطاع الشهداء منهم ان يتحملوا آلاما لا توصف. فاذا عبرت بنا محن شبيهة، نعرف اننا قادرون بالنعمة ان نتشبه بهم وان نبلغ نحن ايضا مرتبة القداسة.

         هذه غير محصورة بالرهبان والكهنة ورؤساء الكهنة “لأن مشيئة الله قداستكم”، والذي قوّى هؤلاء ليصلوا الى ما وصلوا اليه قادر اليوم ان يحررنا من الخطيئة كما حررهم هم من الخطيئة. انها هي العدو الوحيد لنا.

         لا يجوز لأحد ان يقول ان حياتي الزوجية صعبة جدا فكيف أتقدس. ولا يصح له ان يقول ان مهنتي تعرّضني لشتى التجارب فكيف لا اسقط. ما من وضع عائلي او اجتماعي انت فيه يمنعك من اقتبال النعمة الإلهية النازلة عليك. تسلح انت باليقظة والكلمة الإلهية وأعمال التقديس والأسرار الكنسية. هذه كلها وسائل بمتناول يديك وتوصلك الى القداسة.

         ما دام المسيح حيا فهو يمكنك ان تنفّذ ما قاله في الجهاد من اجل البر. المسيح اقوى من كل محنة تعتريك واقوى من كل إغراء. تحصن انت به ولا تيأس لو سقطت. استرحم الله وانهض وانت قادر بنعمته ان تبقى ناهضا وان ترى نور المخلص هنا. المهم ان ترغب في القداسة وان تعتبرها الغاية الوحيدة في حياتك. أمّا اذا قلت في نفسك: “القداسة ليست لي”، فلن تسير نحوها. لتكن القداسة مشتهاك الحقيقي الوحيد. اذ ذاك تنزل اليك، وتصبح السماء مسكنك منذ الآن.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

الروح القدس/ الأحد 15 حزيران 2003 / العدد 24

في الخطاب الوداعي وعد السيد تلاميذه ان يرسل اليهم الروح القدس. “ان لم انطلق لا يأتيكم المعزي” (يوحنا 16: 7). ما وظيفته؟ “متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم الى جميع الحق… وذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم”. نحن نعلم ان المسيح علمنا كل شيء وان أحدا لن يزيد عليه. غير ان كلامه يجب ان نتذكره دوما وان يدخل القلوب. هذا هو عمل الروح القدس.

         تلاحظون في الرسالة المنشورة هنا ان حلول الروح على التلاميذ اتخذ شكل ألسنة نارية استقرت على كل واحد منهم. الروح يلهب القلوب ويوحدها. لذلك نزل عليهم وهم مجتمعون في مكان واحد ليهبهم مواهب. خدمة العنصرة تتكلم على المواهب: “ان الروح القدس نور وحياة وينبوع، حي، عقلي، روح فهم، صالح، مستقيم، عقلي، رئاسي، مطهر للهفوات، إله ومؤلِه، نار من نار بارزة، متكلم، فاعل، مقسم للمواهب…”.

         هذا الروح الواحد ينتج مواهب مختلفة في لمؤمنين، فهذا موهوب لخدمة الفقراء وذاك للتعبد وآخر للتعليم الديني المنظم وآخر للوعظ وذاك للإدارة وغيره لأعمال الرحمة. ومنا من كان له اكثر من موهبة. فالمؤمنون في الكنيسة يتصرفون بحيث لا يحسد احد الآخر ولا يستغني احد عن الآخر. هذه في مجموعتها تجعل الكنيسة جميلة.

         كل موهبة نعمة اي عطاء مجاني اراده الله لك وهو وحده يعلم لماذا خص فلانا بهذه الموهبة وآخر بموهبة اخرى. نحن نستلم ونأتي بثمار. غير ان الروح الإلهي يبني الكنيسة كلها. “الكنيسة جسد المسيح” اي كيانه الممتد في العالم. الى جانب المواهب الشخصية كيف يعيش المسيح في الكنيسة؟ يعيش بالكلمة التي نسمعها وتحيينا اذ يجعلنا الروح نمتصها، ويعيش كذلك بالأسرار الإلهية (المعمودية، الميرون، القرابين الإلهية وغيرها).

         هذه الأسرار نابعة من المسيح، من موته وقيامته. ففي المعمودية مثلا تموت مع يسوع وتقوم معه. الموت والقيامة حصلا لما كان السيد في البشرة (هنا على الأرض). ولكن كيف يتحقق موته وقيامته فيك؟ بالمعمودية التي يتممها الروح القدس. عند ذاك ينصب عليك فعل الخلاص.

         المسألة قد تكون اوضح في القداس. الكاهن يقول: “خذوا كلوا… اشربوا منه كلكم…”. انه يسرد حادثة العشاء السري الذي تأسس فيه سر الشكر (اي سر القرابين). كيف نبني على هذا الأساس او كيف يتم تفعيل هذا الكلام الإلهي؟ هنا يطلب الكاهن من الآب ان يرسل علينا وعلى القرابين الروح، ويطلب الى الآب ان يحوّل – بنزول الروح القدس – الخبز الى جسد الرب والخمر الى دم الرب. ما كنا موعودين به يتحقق الآن.

         نحن في المعمودية والقربان وسر التوبة وسر الزواج في عنصرة تدوم. الكنيسة تعيش بهذا الحضور الدائم للروح القدس  فيها.

         هو مُبدئ كل شيء. لذلك نقول: “ايها الملك السماوي المعزي…” في بداءة كل خدمة إلهية. انه “يشفع ينا بأنّات لا توصف”.هو يحملنا الى السيد والسيد يحملنا الى الآب.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الروح القدس / السبت 14 حزيران 2003

اذا جاءنا الله نهائيًا في المسيح كيف يستمر المسيح فينا بعد انحجابه عن الانظار؟ قيل في الكتاب وهذا ما يؤمن به كل المسيحيين وقيل في الكنيسة وهذا ما تؤمن به الكنائس القديمة بقوة. لكن ان يجيئك السيد بكلمات وبتجلياته في الجماعة (معمودية، ميرون، قرابين) يفترض تفعيل الكلمات، انتقالها الى قلبك فالفاتر قد لا يلتقط شيئًا والمؤمن الحار يتحرك بها بما هو اعمق واعمق. انت تستدخل الكلمة الملهمة او يدخلها الله اليك. تفعيل الثوابت في النفس، في حركات تجديد للقوة الكامنة، ان تجعل الاحداث القديمة غير منطوية ولكن قائمة حقًا فيك وفي الجماعة هذا هو عمل الروح. الا يكون الزمان فاصلاً بينك الآن وبين موت المسيح و نصره واصطلحنا على تسميته التأوين (ولعلها مصدر من آن). ان تردم هوة الزمان، ان تستنزل المسيح من بعد صعوده اليك والى الجماعة هذا هو عمل الروح القدس وتلك هي العنصرة الدائمة التي ذكراها عندنا غدًا.

في الرسالة التي نقرأها غدًا: «لما حل يوم الخمسين (اي اليوم الخمسين بعد الفصح) كان الرسل كلهم معًا في مكان واحد. فحدث بغتة صوت من السماء كصوت ريح شديدة تعصف وملأ كل البيت الذي كانوا جالسين فيه. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرت على كل واحد منهم. فامتلأوا كلهم من الروح القدس».

«في مكان واحد» وفي قلب واحد وانتظار واحد تلك هي الكنيسة. يجب ان تكون من الجماعة التي استلمت الكتاب حتى ترث الروح اي يجب ان تتلو الكلمات التي قالها يسوع. يجب ان تملأ النعمة كل البيت لانه قائم على طاعة الكلمة. عند ذاك تستقر عليك نار من السماء وتصبح كل نفسك نارًا. وهذا ما سماه العهد الجديد مواهب الروح. وقد تكون النار فيك دائمة الالتهاب، حريقًا عظيمًا ويرى الناس انك مسلم لكلمة الله وحدها فتؤتيك هي كلمات جديدة اذ تكون قد صارت حية فيك فأحيتك فأحييت انت الآخرين بها.

#  #  #

لذلك كانت الكنيسة حية بالاحياء. فهي ليست مؤسسة بالمعنى الحقوقي يجلس فيها ناس فوق ويجلس الآخرون عند اقدامهم. ليس احد فوق ولا احد تحت. لذلك الكل يتكلمون بسبب من الروح الذي فيهم. فالكنيسة ليس فيها طبقات. وفي الاصل وحسب تراثنا القديم نختار للكهنوت من ادرك الاستنارة وللاسقفية من بلغ التأله او الالهة (فتح اللام) اي ذلك الذي تنزه عن الهوى والانفعال لذلك ما كانت الاسقفية مؤسسة بمعنى اولئك المرصوفين ليقبلوا الطاعة ولكنهم يتقبلونها لأنهم غدوا ورثة الله في الارض. فلا يبقى الاسقف اسقفا بالمعنى العميق، بالمعنى القيمي الا اذا استقرت النار عليه وفيه واستمع الى «ما يقوله الروح للكنائس» والكنائس هنا لا تعني الجماعات حصرا ولكن الافراد الذين الروح اصطفاهم. وهؤلاء قد يلومون الاسقف باسم قداسة الكنيسة بروح الوداعة والتنزه من الغرض اي بلا استكبار ويكونون قد اعتبروا انه مسيح الله. هو وهم انكشفت لهم حقيقة هذه القطعة التي نرتلها في العنصرة: «ان الروح القدس نور وحياة وينبوع، حي، عقلي، روح حكمة، روح فهم، صالح، مستقيم، عقلي، رئاسي، مطهرللهفوات، إله ومؤله (بكسر اللام) نار من نار بارزه، متكلم، فاعل، مقسم للمواهب…».

«مقسم للمواهب» حقيقة اساسية تدعم التكامل بيننا. فهذا موهوب لخدمة الفقراء او لخدمة العبادات، وذاك للتعليم (النظامي) والآخر للوعظ وذاك للتدبير (الادارة) والآخر لاعمال الرحمة وكلنا للمحبة. فلا يزدرين احد الآخر ولا يعتبر العطاء الذي نزل عليه خيرا من عطية اخرى. واذا قارنا آباء الكنيسة نجد ان هذا تغلب عنده موهبة وعند ذاك موهبة اخرى. واذا رأينا الى اللاهوت مثلا فمن الواضح ان الآباء متفاوتون بعمق الرؤية ومتفاوتون بالذكاء. ولكن من كان دون سواه التماعا تحسه اشد انكبابا على خدمة الفقراء. فيتلاقون جميعا لاقامة الكنيسة الواحدة. وفي هذه الحال يصبح الانسان كلمة.

#  #  #

على الصعيد اللاهوتي يبدو لي ان الانقسام الذي حصل بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية في موضوع انبثاق الروح (هل هو منبثق من الآب كما يقول الشرقيون ام في الآب والابن كما يقول الغرب) آخذ بالزوال على وجه التقريب بعدما وضعت روما وثيقة عظيمة اقتربت بها كثيرا من الموقف الشرقي. وفي قراءتي ان الارثوذكسية لن تثير الخلاف القديم في المباحثات بين الكنيستين اذا استؤنفت. غير ان ما يعزي ان الروح القدس الذي كان في التعليم الكاثوليكي غير بارز بما فيه الكفاية اخذ يبرز تعليميا وحركة. مهما يكن من امر فالممتلئون من الروح القدس هم واحد في الكنيستين، هنا وهناك القداسة واحدة وان كنا لاهوتيا لا نتكلم اللغة الواحدة في التعبير عنها. وهنا يبدو السؤال: هل يمكن ان تكون القداسة واحدة اذا لم تكن الكنيسة فعليا واحدة. فالقداسة هنا في حياة الكثيرين ساطعة كالشمس. في الواقع الكنيسة الارثوذكسية لكونها غير مركزية التنظيم تعلن كل بطريركية منها قديسيها وهذا ما يحصل دائما في كنائسنا.

هل الروح القدس مرسل الى الذين ليسوا منتمين ظاهرا الى الكنيسة، موضوع غاية في الدقة. لقد اطلقت منذ ثلاثين سنة عبارة «المسيح القائم في ليل الديانات»، أردت بذلك الحقيقة الكامنة فيها بسبب ما سمي في القرن الثاني عندنا «الكلمات المزروعة» أي تلك التي يبعث الله بها في حريته الى هذا او ذاك من الناس. الموقف الذي اقترحه الآن بعد انقضاء هذه السنوات الثلاثين انك ان لم ترفض الانجيل بصريح قوله او لم تناقضه تكون كلماته قد تسربت اليك ولا تكون مقولة فيك قولاً. غير اني آثر في ما أتمتمه أخيرًا ان أقول اني أحجم عن تقويم (او تقييم) الديانات في منطوقها ولكني لا استطيع ان أحجم عن رؤية القوم في طهارة سلوكهم واذا كانت الطهارة بارزة جدًا تكون قد أتت من روح القداسة اذ الجهد البشري وحده ليس مصدر نقاوة. طبعًا ليس عند المسيحيين حرج في قولهم ان الكنيسة أوسع من الجماعة المسيحية القائمة. عندما يقول الحلاج بعدما قطعت يداه وقد أدركته الصلاة، عندما يقول: «ركعتان في العشق لا يسوغ فيهما الوضوء الا بالدم» لا يهمني فقه الوضوء ولكني أرى ان الروح نزل عليه بالشهادة وانضم الى مصلوبية يسوع.

#  #  #

أمام هذا الذي تراءى لنا استحضر دعاء لقديس بيزنطي هو سمعان اللاهوتي الحديث قال: «تعال، ايها النور الحق، تعال أيها الحياة الابدية، تعال يا ايها السر الخفي، تعال يا من لا يقال ولا يدرك، تعال ايها النور الذي لا يعتريه مساء، تعال ايها الرجاء الذي يشاء خلاص الكل، تعال يا قيامة الموتى. تعال يا من يبقى ثابتًا وهو في كل ساعة يتحرك الآن نحو الثاوين في الجحيم… اسمك لن يقوله أحد… تعال يا من أحبته نفسي ولا تزال تحبه. تعال وحدك اليّ وحدي. تعال يا من فصلتني عن الكل وجعلتني وحيدًا في هذا العالم وصرت رغبة فيّ وأردت ان أريدك. تعال يا من لا يبلغ اليه».

وبأشياء كهذه غنينا الروح والمنكسرة قلوبهم عاشوا منه على رجاء التهاب الكون به حتى تغدو هذه الدنيا نورًا محضًا.

Continue reading
2003, مقالات, نشرة رعيتي

المطران/ الأحد 8 حزيران 2003 / العدد 23

العلاقة بيني وبينكم لا ينبغي أن يسودها الانفعال لا مني ولا منكم. هي علاقة تحكمها الكلمة الإلهية وتسودها المحبة من جهتي إليكم ومن جهتكم على ما ارجوه. لقد خطونا خطوات كبيرة في التعاون والمشورة، ويزين لي أننا قدرنا معا ان نقيم أبرشية تحلو ليسوع على رغم ضعفاتنا جميعا. غير ان التآلف العظيم ينبغي ان ينبع مما يريده الله.

بولس في رسالته إلى تيطس يسمّي الأسقف وكيل الله ويأمره ان يعظ بالتعليم ويوبخ المناقضين (1: 7-9). ويقول الرسول في الرسالة إلى العبرانيين: «أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم» (13: 17). القديس إغناطيوس الأنطاكي في رسالته إلى أهل أفسس يقول: «عليكم ان تكونوا برأي واحد مع أسقفكم»، وفي رسالة اخرى له يطلب إلى المؤمنين ان يطيعوا أسقفهم كما يطيعون المسيح.

الكثير منكم يسلك هكذا وبعض لا يسلك هكذا. أنها لخطيئة ان ينفرد بعض عني في ما يقومون به من أعمال. الحمد لله ان هؤلاء قلة ولكن غيرتي عليهم تقودنا إلى ان اذكّر الجميع حتى لا يجربنا الشيطان بالانقسام. انه انقسام ان يتفرد أي مجلس رعية بقرار رئيسي يتضمن مسؤوليتي عن الأوقاف. فقد ذكّرت الجميع بأكثر من رسالة ان أي تغيير في المباني من قيام مبنى أو ترميم كنيسة أو تغيير بملامحها متعلق بي مباشرة. ان مجلس الرعية لا صلاحية له إطلاقا على إقامة حائط صغير أو هدمه أو أي شيء مثل هذا اذ يكون هكذا تصرف تصرف المالك وهو ليس بمالك.

لا أنا ولا أنتم تملكون شيئًا. الله وحده هو المالك. ولكن هنا على الأرض لا بد من ان يتصرف احد بهذه الأوقاف استثمارا أو استبدالا. والقوانين المقدسة القديمة تقول ان الأسقف نفسه لا يستطيع ان يبيع الا بعد مشاورة أساقفة الجوار. ولذا نربط اليوم موضوع البيع بالبطريرك. المؤمنون لهم رأي في كل مسألة وقفية في القرى، أستشيرهم خطيا. فمن باب أولى ان يستشيروني لأتخذ قرار إنسان جعله القانون الكنسي وليّا، وجعله العرب لما دخلوا بلادنا وليّا، ويؤيد هذا إلى اليوم القانون اللبناني. مع هذا أرى تغييرا في معالم الكنائس داخليًا أو خارجيًا.

يَبْلغني من وقت إلى آخر قول الناس: «ها الضيعة ضيعتنا والوقف وقفنا. شو دخل المطران؟». جوابي المتواضع ان الوقف ليس ملككم لتتصرفوا به وحدكم. فإن أجدادكم لما وقفوه وقفوه للكنيسة كلها. فإذا سُمّي وقف ما: وقف دوما أو سن الفيل أو بيت مري أو بحمدون على سبيل المثال، فليس الا من باب انه واقع هناك وانه من اجل لا مركزية الإدارة ينفق دخله محليا. ليس معنى هذا ان الأهالي يقررون وجهة الإنفاق أو الاستثمار. المطران يترك لهم بحريته مسؤولية التدبير لهذه الأمور لأنه لا يقدر ان يكون في كل مكان. ولكن لكون الأهالي مطلعين على الواقع، لا يتفرد المطران برأيه بل يشاور.

خذوا الأمور ببساطة المسيح وتحرروا من الفردية والانغلاق وتعاونوا بإخلاص فقد أثبتت الوقائع خلال ثلاث وثلاثين سنة ان هذه المطرانية لا تطمع بأوقافكم المحلية ولم تطلب منكم قرشا واحدا للأبرشية ككل. «اني لم أشتهِ فضة احد أو ذهبه أو لباسه». غير اني مكلف إلهيا بالحفاظ على نفوسكم ولطفها وقداستها وتاليا مكلف بوحدة الأبرشية.

Continue reading