أربعون / الأحد 7 تمّوز 1963
اليوم، يبلغ أعزّ شخص لديَّ الأربعين، وكان، قبل ذلك، ينظر الى هذه السنّ وكأنّها المنحدر. إنّها لأعجوبة لو صارت بالنسبة اليه عكس ذلك. ربّما لا تكون سبيلاً إلى الشيخوخة إلاَّ جسديًّا. ولكن، أنىّ للتعبير عن الصبا الروحيّ أن يتوفّر والخلايا هرمة والشيء الكثير من الحسّ تضاءل. قد تبقى اليقظة، واليقظة من نعمة ربّك، وهي وحدها، بالنهاية، دليل الوجود الإنسانيّ الفريد.
قيمة الكهولة في أنَّها تكشف الإنسان لنفسه، تكشفه مراهقًا يستمرّ أو بالغًا تجاوز الزمن إلى التطلّعات الباقية. هذه الحسرة المتواصلة على فقدان الشباب مزاولة للرهق الذهنيّ الذي يرافق الأكثرين، وكأنّهم لا يرون وجودًا إلاّ في المتعة البكر أو، إذا علت رتبة تفكيرهم، في هذا الحماس الدفوق الذي يتّسم به اليافعون. هم على شيء من الحقّ إذا أحسّوا الحياة فورة من القفزات نخلع عند كلّ واحد منها ماضيًا عتق، لندرك سرّ اللحظة في طفرتها. أليست الحياة في الآن الأحد، في اللاعودة؟ ومن هذا القبيل، أليست الكهولة، على قدر ما هي حسّ التكرار، صدمة للحياة أو مذاقة موت؟
كانت هذي خواطر رفيقي لمّا أحسّ دنوّ الأربعين. من جهة، هو راضٍ عن تخطّي الصبا. ومن جهة أخرى، بقي في نفسه شيء من الحنين إلى ذلك السيل المنهمر من الحيويّة التي كان يعرفها في نفسه قبل سنوات، وكأنّ السنّ، التي أدرك الآن، انتزعت منه هذه الحيويّة دون رجعة. فحاولت أن أقول لصديقي أمرين هما غاية في البساطة. أوّلهما أنّ الحياة في صورتيها، مسيرة وبقاء، وأنّ الذي يسلك كلّ سبل العمر، وليس فقط أولاها، يمثّل لنا الإنطلاق والدوام. ويكون عندئذٍ، عمره صورة عن وجهين يظهر الله لنا بهما: الحركة والثبوت. وكانت كلّ قيمة الشباب، في غليانه، أنّه يرمز إلى دفق النعمة في تجديدها لنا وصقلنا.
ثمّ هذا النضوج، الذي أظنّ أن صاحبي بلغه، ليس، بالضرورة، قطعًا للابتكار وتردادًا لاكتشافات النضارة، وهي قادرة، في كلّ حين على أن تسلّم ذاتها للأجيال كلّها، إن حفظت هذه الأجيال الفتوّة الجديرة، وحدها، بهذا الاسم، أي فتوّة اليقظة. بوركت كهولة كهذه تحتوي على كلّ روعة الشباب. ففيها، وحدها، تجد الحداثة مصبًّا لرغباتها ومطهرًا.
وثاني ما قلت لصديقي إنّ ما بلغه من السنّ يمكن أن يكون مرتفعًا يثب منه إلى السماء إذا عرف أن يتتلمذ على الموت. في هذه السنّ، تكمن حكمة صاحبي أن يتدرّب على النهاية بمحبّة تصبح كمال الرضا وقوّة الصفاء. لأنّ الباب، الذي سيفتحه له الموت، يدشّن له ذلك الصبا الأبديّ الذي تبحث عنه الإنسانيّة منذ أن طُردت من الفردوس، وأُودعت شعلة لا تنطفئ.
Continue reading