Category

1991

1991, جريدة النهار, مقالات

المهجّرون أيضًا وأيضًا / جريدة النهار / السبت 16 تشرين الثاني 1991

هناك أنواع وجود هي ذلّ وقمع. منها ظاهرة التهجير التي ما من مسوّغ لاستمرارها. وقد يوفّق الله الحاكمين إلى ما فيه التنفيذ وبدؤه قرار العودة. لماذا لا تحسم الحكومة الأمر؟ فإن قالت إنها عاجزة الآن لأمر يتعلّق بالجهوزيّة العسكريّة فلتقلها لنفهم. فالعجز مرفوض ومن الصمت ما يعذّب.

يريدونها مناقشة وطنيّة واسعة بها تفتدي الحكومة نفسها. إذ ذاك نحن أمام رجاء قابل للتحقيق لئلاّ تتحوّل الهجرة إلى توطين خارج المناطق التي اضطررنا إلى النزوح عنها فيصبح الإنسان غريبًا في وطنه، مخلاً بالبنية السكانيّة ومجروح الكرامة.

ولست أظنّ أن أحدًا يحلم بالفرز السكانيّ ولو تعالت أصوات تزكّيه في ما مضى من هذه الحرب التعسة التي شنّتها علينا الجحيم. لماذا يتغنّون بالعيش المشترك الذي أقمناه في الجبل منذ ألف سنة ونحن عليه في الساحل منذ ألف وأربعمئة سنة. والطبائع اللبنانية سمحاء برغم جروح تحلّ وينساها أهل الغفران وطلاّب الحياة الجديدة.

وعندنا لا تسنّ فئة من فئاتنا القانون ولكن الدولة تشترع بعدما وضع السلاح ذووه فهذا أمر لا تحكمه النزوة ويعود على الجميع بالنفع العميم وما قال أحد إنه يسعى إلى إعادة أهل منطقة واحدة والصلح يقوم على استرجاع الجميع أرزاقهم وهي حقّ قالت به شرعة حقوق الإنسان وتقول به أدياننا قبل الشرعة. والصلح يقوم على العمل وعلى عمق روحي نتمنّى أن يكون هو المعيّة وقد نشأنا على أن قدر الكلّ أن يعيشوا مع الكلّ يشاطرونهم قسوة العيش والمصير الواحد. وإذا كذّبتْ الوقائع هذه القناعة فما أمامنا سوى البحر. هل هذا ما يرضاه دعاة الوطنيّة؟ فلنبدأ بإقرار الحقّ القائل إن اللبناني له أن يسكن حيثما يحلو له وإن عودة المهجّرين ما هي سوى وجه من حقّ الإنسان أن يلازم الأرض التي يشاء وهي في السجلّ العقاريّ تخصّ من تخصّ وكان مأخذ الإنسانيّة المتحضّرة على ستالين وهتلر أنهما نقلا سكان بعض الأراضي إلى أراض أخرى ابتغاء سياسة حزبيّة أو تفريق عنصريّ.

ومن خاف على زعامته فهذا شأنه. غير أننا نذكّره أن خير سياسة تؤول إلى المعايشة الكريمة وأن الديموقراطيّة آن أوانها وأنها مراس يوميّ يقوم به الكلّ ومع الكلّ ذلك لأننا معًا في رعاية الله الواحد ولا رقيّ لجماعة منّا بلا الجماعة الأخرى. وما أعطيت فئة منفردة وحدها الانتاج اقتصاديًّا كان أم ثقافيًّا. ولنا الدهر حتى يأنس القلب للقلب وأداء الشهادة.

⃰   ⃰   ⃰

وقبل أن تتوطّد القلوب على الإيمان بالوحدة كان علينا أن نبدأ بالتصميم وبالتصميم الملحاح تنفتح القلوب وتعود الوجوه إلى الوجوه في الصفاء ونتقابس وأنا موقن بأن كلاّ منّا يستحق الترحاب بالآخر لأن «المحبّة أقوى من الموت» ولنا أن نتوق التحاب وهو ذروة العدالة. والحبّ قبل كلّ شيء السماحة وأن ننسى الماضي لئلاّ نبقى سجناء التاريخ. ذلك أن الكبير يرجو للإنسان الآخر كل فلاح ويؤنسه في وحشته. وإذا سلكنا معًا سبل حضارة عظيمة وأبدعنا معًا وسائل الرقيّ فهذا يحجب عنّا ذرائع الخصام وننشئ الإنسان الجديد على الحرّيّة. فإذا جلسنا معًا إلى موائد الأرض نرى أن الأرض لنا جميعًا وأن الله يرزقنا ما نشتهيه وأن للجميع مأكلاً ومشربًا.

وإذا ساغ الكلام عن أهل الجبل فليس لأنهم الأفضلون ولكن لكونهم العدد الأكبر ونحن مستعدّون للتأمّل في عودة كل جماعة إلى الأمكنة التي كانت فيها بحيث نراعي التوازن في الرجوع وجدولة الرجوع وليس لأهل الجبل رغبة في منافسة أحد زعامته وما نافسوا فعلام يخشون؟ وهل من منطق لجعل الجبل قليل العدد وألا يثمره أبناؤه جميعًا؟ وأيّ عقل يقول في هدأته إن الجبل إذا حكمته الدولة يقوم على طائفة واحدة مهما عظمت مواهبها وإن الكثرة ينبغي أن تتشتّت بلا عمل ولا دخل وأن تزيد كثافة المناطق الأخرى ونحن نؤمن بأن في تلاقي الجماعات سرّ نجاحها وأن اللقاء السمح هو ما يجعلنا نزيل عن جبين لبنان عار نفور نعرف من غذاه.

ولعل أهل العار الأعظم أن نجعل من آلام المهجرين بعضًا من صفقة شاملة. من هم أطراف هذه الصفقة؟ فعندنا من جهة بؤس شديد وخطر متفاقم ويأس من الوطن. ويقابل ذلك منافع في الأرض ومجد في الأرض. أي نحن أمام تواز بين إنسانيّة مهيضة الجناح يعذبّها تقاعس الأمّة كلّها ومطمح سياسي. نحن نعرف أن ليس من تاريخ أبدي لطائفة على حساب طائفة. فليسكر كل بماضيه على ألاّ نموت بسببه أو نفرح جميعنا في عيش واحد يسوده من استطاع.

وإن كان لا بدّ من ميثاق فها هو مضمون في وثيقة الوفاق الوطني. إنها ترعى بنية البلد وتلاقي أبنائه بحيث لا يقوم لبنان على التمييز بين وطنيّة هذا ووطنيّة ذاك وبحيث نتسابق في العطاء. فإن كان من ميثاق فإنه يبدأ بالسلام الاجتماعي، هذا الذي فهمته دول أوروبّا بعد تناحرها. فالأوروبّي سيحل حيثما يحلو له ويعمل حيث يستطيع العمل. أما نحن فنخطّط بين قضيّة روحيّة كبرى هي قضيّة المستضعفين في الأرض وقضيّة تجاوزها الزمان أعني قضية التوازن بين الطوائف.

⃰   ⃰   ⃰

وإن كان من حوار بيننا فهو في أمر الإعمار. هذا شأن الدولة أكان هذا بالتسليف أم بطريقة أخرى. ولكننا لا نتوقّع أن تعوّض الحكومة من خسر. لا أعرف سابقة لهذا في العرف الدوليّ. نحن نقول إن الأمن أسبق من الإعمار وإننا نستطيع في ظلّه أن نعود لئلاّ يتعرّض البلد لنكسات. وإعمار القرى المهدّمة لا يسبق العودة لأن تمامه يقتضي سنوات عدّة نكون قد عرّضنا فيها الـمُهجّر لهجرة ثانية عن البلد أو أن يصبح أداة خلل وتخلّف. وهل يسلم الجبل الدرزي إذا سقط السلام الاجتماعي في كل أرجاء الوطن؟ الحديث في الإعمار شرطًا للعودة إلهاء وألهية. الإعمار عندنا فيه الحدّ الأدنى والحدّ الأقصى. نحن قادرون وحدنا على الحد الأدنى الذي يسمح لكل مواطن بغرفة على رزقه ينطلق منها. أعيدوا إلينا الرزق نعطكم عمرانًا بأيدينا وكفانا الله شرّ التسويف وشرّ تسييس لا حوار فيه ولا حنان.

Continue reading
1991, جريدة النهار, مقالات

المهجرون / جريدة النهار / السبت 24 آب 1991

هناك خيارات صارت النفس اللبنانيّة تمجّها: التقسيم، التقاسم، الانغلاق المناطقي لقناعة أهلنا بالعيش المشترك. هذا هو الواقع الوحيد الذي نتعامل وإيّاه. يقين الوحدة – ظاهريّة كانت أم عميقة الجذور- بات مكسبنا الراهن ولم نبق أسرى لتنظير أفرزته تلك الحرب التي لا أعرف واحدًا يزكّيها اليوم. لسان حال الجميع أننا طرحناها من تاريخنا ولو كان لنا أن نتّخذ منها عبرة. إنها إذن وراءنا كالكابوس المزعج.

في هذا الإطار النفسي بات تبريرنا للعودة أعظم من الأمنية. إنه منطق تاريخ نتحسّر عليه وتاريخ مشرق نرجوه كأن الرجاء هذا مدخلنا إلى الراهن. نحن لا نجهل أن الأماني شبه الراهنات تدقّ باب اللعبة السياسيّة الدوليّة. واللعبة تجري ضدنّا إن ربطوا قضيّة العودة بقضية لبنان الشاملة وإذا ربطوا هذه أيضًا بقضيّة الشرق الأوسط. نحن رجاؤنا أنه لا يسوغ تسييس شأن المهجرين ولا يجوز إغراقها بالشأن اللبناني الكامل.

نرجو أن يعود الاتّحاد السوفياتي إلى ما كان من حوار مع العالم لئلا نُرمى في سلة المهملات إلى حين. لعلّه إذا خرج إلى الحرّية والتجدّد واستعاد «إعادة بنائه» و«الشفافيّة» يستطيع أن يعتبرنا بعضًا من شرقه فلا يبقى علينا سيف الإهمال مصلتًا.

الوضع المترجرج في أوروبّا الشرقيّة يؤذينا. ولكنّه لن يغيّر في الموقف السوري أو في التوقيت السوري ولن يبدّل في موقع إسرائيل شيئًا. ومن الواضح أن كلّ تباطؤ في تنفيذ القرار الـ 425 سيؤذي العودة والراغبين فيها.

أما نحن فعلى انهزاميّتنا المألوفة أمام الضغط الدوليّ لا نستطيع انتظار المنّ والسلوى من الخارج. وأما إذا آمنّا بأنفسنا أصحابًا للقضيّة فنجعل أنفسنا العنصر الحاسم فيها. لكن لهذا شرطًا واحدًا: أن نقبل الآخر الذي جعلناه آخر في تهجيره صاحب الحقّ الوحيد في العودة. الذي لم يغادر ليس هو المضيف وإذا حسب نفسه كذلك فهو من مرحلة الحلّ. وهذا يتطلّب تغييرًا كلّيًّا في القناعات وأولاها أن يخرج الإنسان من أي شعور له بضرورة سيادة طائفة معيّنة على بقعة من البلد أو على كلّ البلد.

⃰   ⃰   ⃰

لأن اللبناني قبل الحرب لم يستوعب ضرورة كلّ الجماعات في إلفتها اخترع لنفسه آحاديّة هنا وثنائيّات هناك. لا شكّ أن الديموغرافيّة تعذر هذا الإحساس وهذا التصرّف. ولن تتلاشى غدًا التراتبيّة التاريخيّة والسياسيّة التي جعلناها في النفوس والكتب. لكن الوحدة المرتجاة هي عينا هذا أن نسعى إلى أن طائفة واحدة لا تقرّر مصير أيّة بقعة كان لها تاريخيًّا عليها سيادة وأن هذا التاريخ الجزيء لا ينبغي أن يكون الأهمّ والحاسم في مصير لبنان. الطائفيّة التي نشكو منها ليست فقط طائفيّة الانتخابات وتوزيع المناصب. هذه يمكن نظريًّا أن يقلّل الإنسان من حدّتها إذا ذهبنا فيها حتى العبثيّة أو السخف.

الطائفيّة الفتّاكة هي التي نعيشها في الذاكرة التاريخيّة بصورة سلبيّة. من يحيا انتسابه الديني بلا استعلاء أو شعور مرضي بالمظلوميّة؟ من يحيا مع غيره لا ضدّ غيره؟ مثال على ذلك وحدة الجبل الذي إذا أدرك نفسه وحدة أقليّتين تتسالمان حينًا وتتقاتلان أحيانًا حسب ناموس إيقاع زمني لن يعيش طويلاً. فالآحاديّة الدرزيّة إذا استقرّت عند أصحابها قرار عيش أبدي تستدعي آحاديّة مارونيّة متمردّة في الجبل وحاكمة في كل الجمهوريّة. جسم الشوف نعالجه بمفاهيم أخرى أو يحمل سمات معطوبيّة دائمة. المحاورون في الشوف كما في مختلف الأنحاء إن لم ينطلقوا من التقاء الجميع على الحرّيّة والتنوّع والتعدّد لن يكون للعائدين مقرّ في السلام لأن السلام تحديدًا هو التعالي عن كل ما يهمّش الآخر ولا يجعل له إقامة هنيئة في الحياة الوطنيّة.

في التعبير المسيحيّ، ليس من قيامة إلا من بعد موت ومعنى ذلك على الصعيد العامّ أن موت أنانيّات الطوائف شرط لانبعاثها معًا في لبنان الجديد.

وقد يعني موت الطوائف ألا ترى بالضرورة إلى تراصّ كل واحدة شرطًا للتراصّ العامّ. من زاوية الإنجيل كثيرًا ما يكون هذا على حساب الوحدة الروحيّة والوعيّ الروحيّ. التناثر الداخلي إذا عنى الغنى الثقافيّ والانتماءات العقليّة والحزبيّة المختلفة قد يكون دربًا إلى الانصهار الوطنيّ. انتشار طائفة في كل ولاء سياسيّ يعتبر في البلاد الراقية علامة نضج فيها. فإذا كانت الطائفة كالبنيان المرصوص فيعني ذلك غالبًا انقيادًا للزعامات القائمة بلا روح نقديّة. والحرّيّة من هذا القبيل ألاّ تفكّر بالضرورة مثل من انتميت إليه روحيًّا أو حضاريًّا. هي أن تنسلخ أمام أفق إنسانيّ جديد عن عشيرتك لتلقى فيه من كان قادرًا في نضجه في الخندق الأخير على أن ينفصل هو أيضًا عن عشيرته.

وقد يكون الانقسام الداخلي هذا، السليم والمسالم، شرطًا لنشوء وحدة جديدة في أعماق الحياة الروحيّة. البغض في البيوتات والزعامات لا التنّوع في الالتزام السياسي كان المصيبة في الطائفة – العشيرة. التبعثر، القلق كان المرض الروحي ولا أدعو إليه لكن التناثر الملتقي الآخرين دعوة تأتي من الإخلاص وتدلّ على أن ما يوحّدنا هو الإحساس اللبناني الشامل ومعه هذه المشرقيّة المنفتحة التي تحرّرنا من حكم القبائل.

المجموعات الثقافيّة – الاجتماعيّة في روح الحرّيّة هي شرط السياسة الوطنيّة التي لا تربط منطقة بحكم طائفة أو ثنائيّة طائفيّة.

⃰   ⃰   ⃰

هذا التوجّه وهذا الأفق هو الضمان الأخير لبقاء العائدين إذا عادوا لئلاّ يكون فرحنا منطلقًا من مجرّد تجربة تنهي مرحلة الضياع إلى حين. أيّة نفسيّة تنتظرنا عند الجوع وأيّة نفسيّة تبنا إليها عند الرجوع تلك هي المسألة. أيّة قناعة روحيّة سوف تجمعنا؟

في بركات هذا العهد إذا اتّخذناه كانت العودة واجبًا وكانت حقًّا، واجبًا على من أقام وحقًّا لمن نزح.

الكلمة الأولى والأخيرة في هذا الموضوع هي حقوق الإنسان أن يسكن حيث يشاء. هذا حقّ طبيعيّ تخضع له السياسة وليس من تفاوض حول هذا الحقّ. وقبل الحديث عن الإعمار وإمكاناته لا بدّ لكل المراجع أن تعلن حرّيّة العودة لئلاّ تفقد هذه المراجع صدقيّتها.

هذا بلد الإنسان ولا قيمة له إلاّ في هذا لئلاّ نكتسب «طبائع الاستبداد» تلك التي يقرّر أصحابها نقل السكّان الاعتباطي. إن التركيز على الإعمار هرب من إعلان هذا الحقّ الطبيعيّ. اللبنانيّ يعرف أن يعمّر إن قلت له: هذه أرضك فاستلم وحميت له أمنه. أعطه حقه في أن ينصب خيمة عليها. هكذا فقط قد يقتنع أنه ليس في مهبّ الريح ولا يخضع لمزاجيّة أحد.

Continue reading