Monthly Archives

February 2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

وبِّخ واغفر/ الأحد 27 شباط 2000 / العدد 9

المسيحية فيها لطف كثير يوحي أحيانا بأننا نتفرج على الخطأ ونسترخي أمامه. والحق ان الوداعة والسلاسة في التعامل لا تنفيان اتخاذ موقف شديد إذا كان ضروريا. لذلك كثيرا ما تكلم الكتاب المقدس عن التوبيخ. لقد قيل عن السيد انه «ابتدأ يوبخ المدن التي صُنعت فيها أكثر قواته لأنها لم تَتُب» (متى 11: 20). تنبيه أيّ منا للخاطئ يمكن ان يصل إذًا إلى حد اللوم الشديد.

ولئلا يتأفف المؤمنون من ملاحظات المسؤول، لا يطلب بولس الرسول من الأسقف فقط ان يعظ ولكن ان «يوبخ المنافقين» (تيطس 1: 9). التوبيخ -حسب المناسبة والموضوع- قد يأتي جزءا من العظة لأن مَن أَحب يؤدِّب. أية محبة هذه التي لا تستهدف التقويم؟ وهنا اشتهر يوحنا المعمدان الذي وبّخ هيرودس لسبب هيروديا مع ان الملك كان يصغي إلى القديس بانبساط. الهاجس عند الأخ المحب هو ان يفضح أمام صديقه أخطاءه حتى يُقرَّ بها فتعوم على سطح النفس ولا تبقى في قاع النفس، مخبأة. وفي هذا قال بولس: «الكل إذا توبخ يُظهَر بالنور» (أفسس 5: 13). وليس عندنا من صداقة بحيث تكون أخطاؤك مخفية وأخطائي مخفية فلا تَكاشُف. هذه ليست صداقة. هذا تآمر على الحق.

ربما أصلح الإنسان نفسه بلا موآزرة مرشد. ولكن كثيرا ما أحب الإنسان معصيته إذ يدمر الإنسان نفسه ويعرف أحيانا انه يدمرها. ويفضل خرابها على ترميمها. لا يمكننا ان نشاهد أحدا يهوي في الجحيم ولا نسعفه لارتفاعه.

قد يتبادر إلى الذهن ان مَن أخطأ إليك تدعه بلا لوم حتى لا تظهر مزعجا أو قد تنطوي على فعلته لأنها تحزنك. أما الرب فيقول: «ان اخطأ إليك فوبّخه» (لوقا 17: 3). متّى أضعف لهجة: «ان اخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه» (18: 15). لماذا يجب التوبيخ؟ لأنك أنت عالم بخطيئته ولا يجوز ان تُفشيها لئلا تصير نميمة. وليس دافع التوبيخ أن الخاطئ خضك أو جرحك فأساء إليك وأحدث لك مرارة. لست أنت همّ نفسك وليست القضية قضية عزة نفس. أنت زاهد بنفسك وزاهد بجرحها. أنت يَهمّك الآخر الذي جرح نفسه فيما جرحك. أنت همك خلاصه من الشر لا خلاصك من الحزن. أنت تحزن عليه. وهذه هي فلسفة المحبة عندنا بما فيها محبة الأعداء أن هاجسنا أن يشفوا هم.

المهم الا تنفعل إذا وبخت فإن الغضب يذهب كل فائدة عن التوبيخ. والغضب يعني انك مهتم للجرح الذي أُصبت به لا للسوء الذي حدث في نفس مَن أخطأ إليك. في هذا السياق المهم ألاّ تقسو والا تشتم الآخر فإن الشتم ليس توبيخا. بيّن وجه الخطأ، اكشف طبيعة الغلطة حتى يدرك الخاطئ جسامة فعلته.

بعد هذا «إن تاب فاغفر له» اذ يكفيك ان يعود إلى الله. من الله يعود اليك.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

«أوّل قربانة» أيضًا وأيضًا/ الأحد 20 شباط 2000 /العدد 8

كنا قد اتفقنا مع الكنائس الكاثوليكية على صعيد البطاركة في هذا الشرق ان المدارس لا يجري فيها الاحتفال بالمناولة الاولى ولكن هذه تؤخذ في الرعية. الجانب الأرثوذكسي كان صاحب الفكرة، وتقبّلها السادة البطاركة الكاثوليك برحابة صدر. وكان جميعنا يعلم ان هذا القرار لن يكون سهلا على بعض المدارس المتعلقة باستقلاليتها، ولكن قيل لنا ان هذا القرار ارتضته المدارس الكاثوليكية.

غير ان الأخبار التي تردني في هذه المنطقة تدل على ان بعضا من هذه المدارس أخذ يطلب من تلامذتنا الأرثوذكسيين ان يستحصلوا على إذن من ذويهم لإجراء المناولة الاولى في «الرعية» والمراد بها طبعا الرعية الكاثوليكية المجاورة. هكذا تكون هذه المعاهد تقيّدت بالظاهر بأمر رؤسائها اذ ألغت المشاركة بأول قربانة في المعاهد نفسها، وحوّلت الاولاد إلى الرعية. ظاهر القرار محافَظ عليه، ولكن هناك مخالفة لروح القرار، لأن ما أردناه نحن في التفاهم مع الرئاسات الكاثوليكية ان يتناول الصبي أو البنت في رعيته الأرثوذكسية إن كان أرثوذكسيا. فنحن لا نرفض فقط عبارة «أول قربانة» اذ نأخذها نحن مع المعمودية، ولكنا نرفض مبدأ مشاركة الأسرار في الكنائس غير الأرثوذكسية.

لن اعود اليوم لأذكّر بأن مبدأ عدم المشاركة واحد عندنا وعندهم، ولكن كثيرا ما يحدث عندهم ان كاهنا معيّنا يتساهل بأوامر كنيسته ويتصرف من عنده. ونحن اكثر تقيدا بأوامر الرئاسة الروحية. القاعدة في المسيحية ان العقيدة السليمة عند المتناوِل شرط مناولته. وينتج عنها أن مَن خرج على هذه العقيدة وتبنّى عقيدة اخرى ليس شريكك في المعتقد، وتاليا ليس شريكك في الكأس. فالكأس الواحدة صورة التعبير عن الإيمان الواحد.

قد نعود إلى بحث مستفيض اذا اضطرّنا الأمر. ولكن أودّ اليوم ان أقول شيئين: أولاً) اننا آسفون ان بعض الإدارات المدرسية يتفلّت من قرارات البطاركة. ثانيًا) ما يغيظني بالدرجة الاولى ان بعض الأهل يطلبون من كاهن الرعية الارثوذكسية إذنًا لولدهم بالمناولة في رعية كاثوليكية كأنهم لم يطالعوا في هذه النشرة ما كتبناه مرارا ولم يفهموا ان كنيستنا -لا الأهل- هي التي تقرر في أمور الدين. وكنا قد حذّرنا المدارس ان تتعاطى مع اهل التلاميذ على هذا الصعيد اذ عليها ان تتعاطى معنا بواسطة الرؤساء الروحيين الكاثوليك.

يحزنني بالأكثر ان يشعر بعض الأهالي أن ولدهم يجب ان يُسَرّ مع رفقائه وان يعمل مثلهم. لماذا لا يقول هؤلاء لابنهم عندك كنيستك وتناولتَ فيها منذ شهر أو سنة أو كذا وعند عمادك؟ كيف تقبل ان تعمل «أول قربانة» وهذه ليست كذلك؟

أودّ ان يفهم الأهل أن لنا هوية ولنا أصالة ونُظهرها بلا خجل. نحن لا نخاصم احدا على انتمائه المذهبي. لماذا هذا «الكعر» لأرثوذكسيتنا؟ واذا كان للإدارة المدرسية عذر جهلها لمواقفنا أو رفضها الواعي لمواقفنا، فماذا يعذر لنا نحن هذه الهرولة إلى إخوة مسيحيين نحبهم ونحترمهم ولنا معهم حوار، ولكن لم تكتمل بعد عندنا واياهم شروط الوحدة، وليس عندنا تاليا قدرة على ان نجتمع معا على مائدة الرب.

الكنيسة عندنا شفافة وتحب كل المسيحيين. الذي يعرف نفسه في الحقيقة ابنًا لكنيسته يقول قولها ويتصرف كما تريد منه ان يتصرف وذلك لخلاص نفسه وإدراك الله بإدراك الحقيقة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

تقاسيم على الـمحبة/ الأحد 13 شباط 2000/ العدد 7

لقد علّمني الأرشمندريت ليف جيلله Gillet الفرنسي الذي انضم إلى الأرثوذكسية في أواخر العشرينات في باريس أن من خير الوسائل لتقضي على بغض إنسان محدد أن تذكر اسمه في صلاتك، فإنك إذا رفعت اسمه إلى الرب بضع مرات تتخذه إلى قلبك أيضا. كان يقول لي: «سمِّ عليه اسم يسوع». إذ ذاك يكون مشمولاً بحضرة السيد. وقد يتغير. وأنت لا بد أن تتغير.

في حياتنا اليومية نجافي هذا أو ذاك لكوننا أسأنا فهم كلمة منه أو تصرُّف أو لأنه جرحنا وحسبْنا عليه خطيئة التجريح. أمام هذا قد لا ينفع العتاب أو لا بد من تأجيله حتى يهدأ. في هذه الأثناء ضمّ اسم المسيء إلى صدر المسيح ترَه على صدرك أنت. بعد هذا لك ان تعاتب برحمة.

لمّا كنت اسأل هذا المؤمن أو ذاك إن كان عنده المحبة لمن أساء إليه، كان يجيب: «أنا لا أكرهه». هذا طبعا ليس محبة. هذه آدمية مهذَّبة. أن تحبه هو ان تنتبه إلى أتعابه، إلى تعقيداته، إلى حزنه ومسراته وأن تخدمه في الوضع الذي يكون فيه. المحبة لا تنتظر. انها تبادر. اذكر السامري الشفوق كيف يضمد جراح الجريح ويأخذه إلى فندق (أو مستوصف بلغة اليوم) ويطلب ان يُعتنى بأمره. انه يلتزم بالإنسان المشلوح التزاما كليا. طبعا لا يمكنك ان تأخذ عشرات الناس على عاتقك ولكن الذين وضعهم الرب على طريق حياتك، بدءا بأهل بيتك ومن تعمل معهم والأصدقاء، وعلى وجه التخصيص المرضى والحزانى منهم. هؤلاء رعيتك. لا تهملهم. أية التفاتة إليهم، وبخاصة عند ضيقهم وإذا تمرمروا وصارت لهم صدمة، تؤتيهم فرحا كبيرا. كل إنسان منا يعيش من انتباه تلو انتباه. الجبار روحيا هو فقط الذي يكتفي بافتقاد الله له. ولكن الله يريد لنا رعاية بعضنا لبعض، فإن خيوطا عجيبة تربط بين القلوب وكأننا إنسان واحد مفصول قاماتٍ مختلفة.

لا تحسبنّ ان عند قريبك حادثة تافهة. في نظره هو قد يكون لها أهمية كبيرة. لا تقل في نفسك مثلا أنا أزور رفيقي إذا أصابته محنة كبيرة فقط. فقد تصيبه رضّة. فإذا علمتَ بها خذ الهاتف وافتقده. تَقرّب من الناس يرتاحوا في ذلك اليوم إلى ربهم. ليس المهم ان تحافظ على أصدقائك لاستمرار تعزيتك بهم. المهم ان يعيشوا هم في عزاء. «كنتَ أمينا على القليل، سأجعلك أمينا على الكثير». جزئيات الأمور اليومية قد تكون على مستوى الهناء الشخصي أهم الأمور. وهذا الهناء فيه دائما شيء إلهيّ.

في الجزئيات هذا يعني أن تُكلّم زوجتك وأولادك في المساء برقّة وإبداء عناية. وإذا كنت رب عمل وحولك موظفون، ازرع كلمة اهتمام بصحة كل واحد واسأله عن عائلته. هذا مَثَل من أمثال. إذا عظمَتْ مسؤوليتك تدفعك نفسك ويدفعك عملك ان تحتاط بمقربين. هذا من طبيعة العمل وطبيعة الإنتاج. ولكن الحد الأدنى من اللياقات مطلوب منك. ألاّ توجه كلمةً تحمل طابعا شخصيا لمعاون لك يوما بعد يوم يحزنه. كل معاون يريد أن يكون موجودا في عيني من يستخدمه. امرأتك وأولادك وأنسباؤك يحبون ان ينوجدوا في عينيك. المزاجية مسموحة بمقدار قليل. وإذا سمعت ان فلانا يحس بمتروكية عظيمة فاجهد ان تخلق الفرص والوسائل لإنقاذه من متروكيته. أحيانا لا تفهم لماذا يشعر هذا بأنك تعامله بجفاء. ضاعف المسعى وبادر إلى الاقتراب منه أو تقريبه منك. المهم ألاّ يحيا احد منا وحيدا.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة والشدّة/ الأحد 6 شباط 2000 / العدد 6

الرحمة موقف القلب من الخاطئ والمسيء. هي الغفران له وألاّ تحمل الحقد عليه وأن تعامله بوداعة. ولكن هذه كلها يرافقها لين أو ترافقها شدة من أجل تربية الخاطئ. والتربية تكون بلا انفعال. يقررها العقل الفاحص الوضع والمحب معًا. «كونوا رحماء كما أن أباكم أيضًا رحيم» (لوقا 6: 36). هذا تابع لقوله: «أحِبّوا أعداءكم»، ويتبعه «لا تَدينوا… اغفروا»، ويتبعه أيضًا: «لماذا تنظر القذى في عين أخيك»؟. ان احتضان الله لنا يقودنا إلى احتضان الآخرين. أبوّة الله للجميع تستتبع أُخوّتنا للجميع.

غير أن المحبة ليست بلا تأديب. «من أحبّه الرب يؤدبه». والكتاب نفسه الذي يتكلّم على محبة الله فهو القائل: «من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تَذَّخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب» (رومية 2: 5). ان الرب عندما يغضب عليك يبقى محبًا لك، ولكنه بغضبه يربّيك. أبوّته تفرض عليه أن يعيدك إلى وعي نفسك ابنًا. جاء في الرسالة إلى العبرانيين: «قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدِّبين، وكنا نهابهم». ولئلا يظن من نؤدبه انه مكروه، تابع الرسول فكره بقوله ان الذين يتدربون بالتأديب يعطيهم الرب ثمر بِرّ للسلام. ويتابع فكره هذا بقوله: «قوّموا الأيدي المسترخية والركب المخلّعة». هذا العلاج يحتاج أحيانًا تمارين قوية.

اللين أسلوب وليس غاية أو منطلقًا. قد يأتي بثمار مع الطبائع الحساسة المرهفة، ولا يؤتي ثمارًا مع الطبائع الغليظة أو التي صَمّمت على السوء. هذه لا تنفعها الا الشدة التي تذهب أحيانًا إلى حد الكسر. طبعًا بعد الكسر جبر. ولكن لا بدّ أحيانا أن نمرّ بالكسر سبيلا إلى الشفاء. لا بد من صفعة أحيانا (معنوية). ولا بد من قطيعة أو قطع أحيانا أخرى أو من سخط وإظهار سخط. قد لا ينفع الصراخ أبدا، ولكن ينفع الكلام القاسي الذي لا شتم فيه ولا إهانة ولا تحقير لئلا يفهم الخاطئ من صمتنا اننا نوافق على فعلته أو انه لم يجرح الحقيقة.

المهم ان نبيّن للمخطئ اننا لسنا ثائرين من اجل كبريائنا، ولكنا ثائرون من اجل الحقيقة، ولنا غيرة على المخطئ لكوننا نريده ان يعود إلى الحقيقة. وقد لا يعي انه شَذّ عنها إذ لم ينضج روحيا ليفهم انه شذ. علينا، إذ ذاك، ان نُعيد الحسّ الروحي إليه أو ان نذكّره بالوصية الإلهية التي خالف إنْ كان له إحساس بها. لنا ان نبيّن له وجه الخطأ في تصرفه وطبيعة الانحراف الذي انحرف به.

وهذا كله يعني علاجا هادئا صبورا. فالصمت على الخطأ يعني اننا نريد الا ننزعج ولا نُخَضّ، ويبقى المرض ونكون غير محبين لمن شخّصنا مرضه. أن نهمل الأمر ونتّكل على الزمن، فالزمن لا يؤتيك دائما بتهدئة، وتتكرر الأخطاء وتتراكم فتنفجر. التريُّث وقتا قصيرا نافع لمواجهة المشاكل بهدوء عند المؤدِب والمؤدَب.

العظيم مَن إذا أَدركَ خطأه يحيد عن عناده ويعترف. الذي نصالحه هو من قد صالح الحق وارتضى نفسَه في الحق. أن نربّي الناس على ان الحقيقة تنجّيهم وأنهم إذا انوجدوا فيها فهُم في سلام وفرح، هذا وجه كبير من وجوه المحبة.

Continue reading