Monthly Archives

May 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

ألوهية المسيح / الأحد 31 أيار 2009/ العدد 22

في هذا الأحد نقيم ذكرى لآباء المجمع المسكوني الأول الذي انعقد في نيقية قرب القسطنطينية السنة الـ 325، وهو المجمع الذي وضع القسم الأكبر من دستور الإيمان (الباقي وضعه المجمع المسكوني الثاني في القسطنطينيّة).

المجمع النيقاوي دعا اليه الامبراطور القديس قسطنطين بسبب ظهور بدعة آريوس القائل ان المسيح مخلوق او اول المخلوقات. اجتمع أساقفة العالم وأوضحوا ان الرب يسوع المسيح هو “ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور إلخ…”.

حرم الآباء آريوس ودحضوا فكره، وهذا آلم الكنيسة طوال القرن الرابع حتى زالت هذه البدعة وإنْ تكرّرت بشكل او بآخر كما عند شهود يهوه الذين هم آريوسيون.

إحيـاءً لذكرى المجمع اقتطفـت الكنيسة اليوم فصلًا مـن أعمال الرسـل وفيـه الحديـث عـن عـودة بـولـس الرسـول مــن اوربـا الـى اورشـليـم، وقـال الفـصل ان بـولس وقف في جزيرة ميليتس وبعث الى أفسس فاستدعى اليه قسوسها ليكلّمهم وقال لهم: “احذروا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة (أي رقباء)” وكانت آنذاك لفظة أسقف غير منحصرة في المطران وتُطلق ايضًا على الكهنة، ثم أكمل خطابه بقوله: “لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه”.

من هو هذا الذي اقتنى الكنيسة بدمه؟ واضح انه يسوع. لغويا الضمير هاء في كلمة “بدمه” راجع الى الله. هذا إقرار واضح بألوهيّة المسيح.

هل واضح عندك يا أخي ان يسوع هو الرب؟ اي انه إله أزليّ غير مخلوق، صادر عن الإله الآب الأزلي. هل تفهم بوضوح قول إنجيل يوحنا: “وكان الكلمة الله” (1:1). هذا المولود من مريم بالجسد خالق مريم. هو ليس مجرّد بشر. الإله اتحد بالبشر في سرّ التجسّد الإلهي. المسيح إله كامل وإنسان كامل. هذه هي المسيحيّة في جوهرها. نحن نؤمن ان الله يخلّص الإنسان وان الإنسان لا يفدي الإنسان. لو كان يسوع مجرّد بشر لكُنّا باقين في خطايانا. ولكن لكونه إلهًا أنقذنا من خطايانا عند صلبه وفي قيامته.

كذلك اقتـطفت الكنيـسة المقـدّسة القراءة الإنـجيـليّـة مـن يـوحنا، مـن هـذا الفـصل المعـروف بصلاة الكاهن العظيم (اي السيّد) وهو بدوره جزء من خطبة الوداع التي نقرأها إنجيلاً أول مساء الخميس العظيم.

هنا يعرّف يوحنا البشير الحياة الأبديّة على أنها معرفة الإله الحقيقي والذي أرسله يسوع المسيح. لا يمكن ان تكون الحياة الأبدية معرفة شخص من البشر لأن من كان بشرًا فقط أي مخلوقا يموت كيف يعطي حياة أبديّة، لا تنقطع. ثم يقول: “مجّدْني أنت يا أبتِ بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”. معنى هذا أن المسيح في مجده كان قائما مع الآب قبل خلق العالم اي انه أزليّ.

ثم عبارة: “اني منك خرجتُ” لا تُطلق على انسان، فالإنسان مخلوق من الله لا خارج من الله. الخارج من الله من كان في ذات الله.

ما جاء به المجمع المسكوني الأول عن ألوهيّة المسيح مستنِد الى هذه الأقوال من يوحنا ومن غيره من الإنجيليين.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

استعدادًا للانتخابات / السبت 30 أيار 2009

البلد مسيّس على درجة من الكثافة لم أرَ لها مثيلا. وفي هذه الحمى نحن سائرون الى الصناديق على رجاء ان نطهّر أنفسنا من كل حقد. فشهوة النصر الحليفة لكل ناخب مشروعة روحيا ولكن يبقى المسلك رياضيا اي ان القلوب تبقى على سماحتها وايّة كانت النتيجة فليست الحصيلة آخر الدنيا. من هذه الزاوية أقول ان الخوف مقصي في البدء بمعنى ان ليس في المعارك السياسيّة من أمر مفصليّ اذا آمنّا أن البلد حيّ وانه قادر ان يفرز ما يشفي الأمراض التي تعتريه. لبنان باقٍ والتمزيق في جسده ليس فيه جديد. هذا شأن السياسة في العالم كلّه وسنعود واحدًا في العمق. كلّ الازمات التي رافقتها منذ السنة الـ 1936 انتهت على مصالحة او تناغم وهذا ما عنى مرّة وحدة الرأي. بولس الرسول كتب مرّة الى إحدى كنائسه: «لا بدّ من الانشقاقات». يحق لك ان تقدّر النيّات بانتظار محاكمة لها أخيرة. ولك أن تصارع في جدّ من السلام الداخلي لنفسك وان ترجو لها وللبلد جميعا سلام الله. الهدوء العميق هو الدواء.

في مبرات البركات الإلهيّة علينا أرجو أن نكون صادقين، طاهرين. هذه ليست مثالية مضحكة. فإن الذين اعتزلوا الصدق والنقاوة لا ينبغي ان يشتركوا في العمليّة الانتخابيّة. هذا موسم توبة ممكنة ومرجوّة عند من لم يبع نفسه للشيطان. انا أراه على طرقات الصناديق وربما ينزل فيها مع ورقة الاقتراع احيانا. ليس هذا دائما لأنّ ثمّة مواطنين أوادم يحملون روح الرب الذي يترجم في هذه الحالة فهمًا وصدقًا. الفهم والتحليل يلازمان الخيار ولكن لا فهم خارج التنقية التي نمارسها قبل السابع من حزيران.

تتولّد الشياطين بعضها من بعض كتلك الدمية الروسيّة التي هي كناية عن علبة ضمنها علب كثيرة. العملية الكبيرة التي تتضمّن مفاسد عديدة هي المال الذي يهدر للتحكّم بالضمائر. المرشّح الراشي مفسد كبير ليس لأنه يضعف الناخب او يعطّل حكمه وحسب بل لكونه يحتقره ويذلّه ويعتبره خاليا من الحكمة التي يحتاج اليها في عمليّة الانتخاب.

# #
#
الأسبوع الماضي على شاشة احدى المحطات رأيت امرأة يسألها موظّف في هذه الإذاعة ان كانت تقبل الرشوة. قالت: «نعم، بدنا نعيش».
هذا الذي يحيا فقيرًا يتوسّل العطاء فيتسوّل. خطيئة جذورها في من أغراه فيغرى. ولكن ان حللنا جيّدًا جواب هذه المرأة فهي لا تعرف شيئا عن وظيفة النائب. هو واحد من الذين يجتمعون ويتكلّمون. عندها الكلام هو لغو فهي لا تفهم شيئا عن التشريع ووظيفة مراقبة الحكومة. الطهارة التي نطلبها من الناخب ندعمها بتثقيف وطنيّ منذ الصغر فاذا أدرك الطالب بأن معيشته تحتاج الى إقامة قيّمين على شؤون العباد وهم أهل الحكم وناقدوهم، اذا أدرك ان حياته على الأرض تتطلّب قوانين يسنّها البرلمان وتطبّقها الحومة لمنفعته ومنفعة عياله لا يسقط في إغراء المال ولكنه ينتخب الأصلح.

من هذا أذهب الى القول ان المرتشي لم يقع فقط في الفساد ولكن في جهل أهميّة النائب. وما يجمع بين الراشي والموتشي ان كليهما لا يثق بالدولة. وعندي ان الدولة العادلة الرشيدة النزيهة تفرض هيبتها ويبدأ الناس رؤية مصالحهم في رعاية الدولة لهم.

قبل أن يتمّ هذا الترويض الطويل الأمد لا بدّ لكلّ منّا ان يمتحن قلبه ليرى ان كان قلبه عاشقًآ للمال ورافضًا تاليا الصالح الاجتماعي فيفهم في حركة ثانية من التأمّل ان هذا هو ايضا صالح الفرد وعائلته. والخطر الأساسي الناجم عن الفساد ان المواطن الذي يرى الفساد في القيمين او بعضهم ليس عنده رجاء الى الوطن وقد يتعرّض لخسارة إيمانه بالقيم كلّها. ذلك ان أهل الفضائل القائمة في الذات قلّة. معظمنا يحتاج الى ان يحيط به فاضلون لئلا تخور عزيمته.

# #
#
هنا السؤال الذي يطرح نفسه على المرشّح هو لماذا انت تترشّح؟ هل لإيمانك بأنك حامل رسالة او برنامج؟ حتى الآن ما أقرأه في الصحف وأسمعه في ارذاعات ان المرشحين يقدّمون لك عناوين. ما لفتني عشيّة انتخاب فرنسوا ميتران في مناظرة له مع فاليري جيسكان داستان d’Estaing  انهما تناقشا في شأن كل وزارة ولا أذكر التفاصيل ولكن أذكر انطباعًا. قال احدهم جيشنا يحتاج الى زيادة ألف دبابة وقال آخر بل ألفان. وتباحثا تفصيليا في وزارة الخارجية. كيف نرسم العلاقة مع المانيا ومع الولايات المتحدة. وكل من الفرنسيين رأى نفسه مائلا الى طروحات هذا او ذاك من الطرفين اذ الفرنسيون ينتخبون رئيسهم مباشرة.

كنت أحلم ان يتناظر مرشحان على دائرة من دوائرنا ويبسط كل منهما موقفه من زراعة البطاطا وتسويقها او تخطيطا له يتعلّق بمعالجة السير. لا يكفي ان تقول نريد سيرا منتظمًا. السياسة تبدأ بالكلام على أرقام ومناهج.

هل يؤمن كل مرشح عندنا حقا بأنه حامل تصاميم لهذه الأمة. في أحسن حال يبدو لي انه يعطي نفسه شهادة حسن سلوك واذا فاز يدخل البرلمان مرتجلا مداخلاته. السياسة فيها علم ولا تقوم حصرا على الأخلاق. ولكنها معرفة بأمور البلد والشؤون الدولية. كيف تدحض علميا موقف الخصم والخصومة لا تبنى على المزاج ولكن على القناعات التي أعددت نفسك للدفاع عنها وإقناع الآخرين بها.

لذلك لا يكفيني ان نعد أنفسنا لسنّ قانون انتخابات جديدة ولكن ان نشكل كتلا قد يكون الكثير من مضمونها جديدا ومنها الخيارات الدولية.

انا اعرف ان المجلس ليس كلية العلوم السياسة ولكن الأفضل ان يتزيّن قسم من نواب بعلوم سياسية وحقوقيّة والا يأتي سؤال للحكومة او استجواب جله خطب حماسية. المناهج من شأنها ان تضعف المزاجية والاصطفاف الانفعالي او التعاضد الكيفي مع هذا وذاك من الزملاء إعدادا لولاية لاحقة للمجلس.

يشكو ناسنا والمراقبون الأجانب ان هذا البلد ليس فيه استقرار. هذا من ميراث الانفعالية الشرقية والتشنّجات المتأصلة في تنوّع الأطياف او المذهبية وربما من أسباب أخرى.

ولكن اذا اعتبرنا ان المجلس هو المقام الدستوري الأساس لعرض الفكر السياسي وتحليله فيجب الوصول الى معرفة الأساليب التي تأتينا بأفضل مجلس ممكن على صعيد إعداد المرشحين وإعداد الأمة كلها طلبا لنضجها وفهمها.

انا اعرف ان القانون وحده لا يهذب الشعب ولكنه جزء من تهذيبنا. ولكن عدل الفكر الشخصي والقلب يتجلى بالقانون والقانون يصقله. هناك ما كان قبل المؤسسات وهو الله. اي مقدار من الإلهية في حياتنا السياسة. الطوائف لا تأتي آليا بالله. هو يأتي بها اذا كان العمال والفلاحون مثلا يستندون الى عدل إلهي وفي كلاهم حنان يكون الرب قد نزل الى الحياة السياسية في لبنان. يحق لي ان أحلم بأن يظهر مجلس النواب مثل كنيسة او مسجد اي مكانا إلهيا.

يحلو لي ان يكون ممثلو الأمة متوشحين بالله حسب التعبير الأرثوذكسي. هل لنا ان نرجو ان تتجلى لنا جلسة نيابية مثل قداس. السياسة في أصلها موضع من مواضع سيادة الله في الكون.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

على هامش الانتخابات/ الأحد 24 أيار 2009 / العدد 21

تتساءل لماذا يكتب المطران في موضوع سياسيّ. في الحقيقة هذا ليس حصرا موضوعا سياسيا. هذا موضوع أخلاقيّ. لذلك علينا انا وانت ان نتأمّله معا. عندنا في هذا المشهد سؤالان: ما موقفي امام المرشح الذي يحاول ارشائي بالمال؟ ثم: من هو الذي أنتخبه؟ الجواب عن السؤال الأول هو ان من حاول ان يشتري صوتك لا يحترم رأيك اي لا يحترم شخصك. لا تضعف امام محاولة دنيئة كهذه. فأنت، بشخصيتك ونزاهتك أثمن من المال. المال مفسد كليا فلا تدعه يتسلّط على اختيارك.

السؤال الثاني «من تنتخب»، الجواب البسيط عنه انك تنتخب المرشح المزيَّن بعدة صفات اوّلها الطهارة الأخلاقية، المعروف بمعاملته الحسنة للناس، والصفة الثانية ان يكون محبا للوطن، مخلصًا للبنان اي غير مخلص لبلد آخر، فإن من أحبّ بلدنا هو وحده القادر على خدمة أبناء البلد ولا سيّما المنطقة التي أنت منها. وفي هذا المجال المرشّح المثقّف أفضل من الجاهل لأن مجلس النواب وظيفته الأساسية التشريع، وعضو المجلس الفاهم للقانون أصلح من الذي لا يفهم ويضطره جهله ان يبقى صامتا.

قد لا تكون متمرّسًا في السياسة، واذا كان عندك خبرة تدقق في تحالفات المرشح المعروض عليك اسمه. هل حلفاء من تميل انت اليه طاهرون، محبّون للبنان وعلى قدر الإمكان مختبرون للحياة السياسيّة ومؤهّلون للجهاد؟

انت يجب ان تتمرّن على الفكر السياسي، ان تقرأ على الأقل صحيفة واحدة، ان تستمع الى مناقشات سياسيّة في وسائل الإعلام. النضج السياسي يزيدك خبرة في السنوات القادمة.

الأكيد ان ضعف الديموقراطية ان الفهيم والغبي متساويان فيها على صعيد تكوين البرلمان. كذلك المرشّح السيء والمرشّح الطاهر حتى ينضج المواطنون وتقلّ أخطاء التقدير عندهم. في الديموقراطيّة الحديثة تتراكم الخطايا والأعمال الصالحة، الفكر الجيّد والفكر الشرير عند الناخبين، ويتولّد المجلس من المصالح الجيّدة والسيّئة، ولكن ليس عندنا نظام أفضل. ويتحسّن النظام بالتربية الوطنيّة والفهم والثقافة وخصوصًا النقاوة.

انت يقيّدك قلبك النقي وعقلك الصافي فلست عبدا لأحد ولست اسيرا للائحة من المرشحين. اكتب انت القائمة التي تريد لتُرضي الرب على قدر ما أمكنك الفهم. كن مستقلا عن كل مخلوق ولكن لا تكره خصومك في السياسة ولا تشتم احدًا والشتم عند المرشح دليل الضعف.

هذا صراع من اجل الخدمة. في السياسة ليس الحق كله في موقفك او في حزبك او في كتلتك لأن أمور هذه الدنيا كلها نسبية. فقط ما قاله الله حق كله، وفي تحليل أمور الدنيا إمكانية الخطأ وصعوبة التحليل، والدنيا ليست ملكوت الله، ولكن نشاطنا السياسي ضروري لنقرّب هذا العالم ما أمكن من مشيئة الله.

لهذا عليك ان تنتخب للإسهام في الإصلاح ولو أدركت انك قطرة في بحر. ولكن القطرات تتجمّع. انت، مسلحًا بأخلاقك وبقدر من العلم السياسي، تخدم بلدك وتراقب من نجح وتدعمه اذا رأيته مصيبا وتلومه اذا أخطأ. وهكذا يسعى الإنسان الى تصحيح فكره السياسي والى النهوض بالبلد.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

القانون والمؤسسات / السبت 23 أيار 2009

لفظتان متعاقدتان في زمن الإفلاس على رجاء تواصلهما في زمن النهوض المرجو. ولكن لنبدأ باللغة. في لغات الغرب لفظة Canon  تدلّ على القاعدة اذا جعلوها مشتقة من اليونانيّة وهي ذات مدلول كنسي. ولكن من ألمّ بالعربية يرى ان هذه الكلمة اليونانيّة مشتقة من العربية وهي الرمح او كل عصا مستوية. فالدعوة الى القانون دعوة الى المستوي كالعصا غير المعوجّة التي لا تشتريها انت ان لم تكن سويّة لئلا تعثر بحجر رجلك.

الكلام او السلوك المجتمعي يأتي وفق القانون أي وفق الاستقامة وتتعلمه ممن سمت أخلاقهم وتتحول الكلمة القويمة الى قانون يحيا به من يحفظه لأنك لا تحيا الا بالشريعة. هذا ما تقوله الكتب المقدّسة ذلك ان الله يقوّمك عند الاعوجاج. ولكن التقويم لا يحصل الا اذا سعيت اليه. وهناك ألوف مؤلّفة يحبون الإعوجاج الذي اسمه اللاهوتي الخطيئة.

ولكن اذا ترجمت الشريعة قانونًا وضعيًا وبينهما علاقة في الأصل فالجماعة التي أصدرت القانون تجعله إلزاميًا. العقل يرشدك الى ان الكثرة من القوانين الوضعيّة ملزمة للضمير. ألاّ تسرع في قيادة السيارة يدخل الى عالم الوجدان لأن القتل ضد الوجدان. القانون الجزائي في كثير من الأحوال قائمة احكامه في الضمير (الا تقتل، الا تسرق، الا ترتش).

غير ان ثمّة شعوبا لأسباب قاهرة في تاريخها (الظلم، الفقر، الجشع) تتحول او يتحوّل قسم كبير منها الى ناس غير أخلاقيين. هذه الحال تأتي من طغيان الشهوة على شرائح قليلة او كثيرة. يأتي القانون هنا ليحدّ من وطأة الأشرار والجناة ويغريهم بالاستقامة التي أساسها في وجدان المواطن وتنفيذها في وحدة المجتمع ونموّه وصلابته بحيث أمكن القول ان الاستقامة تجارة رابحة اذا قام معظم المجتمع على كره الانحراف عن القانون.
مجتمع لا يقوم على أساس الأخلاق يخلو من سلامة العلاقات بين الناس ويدمّرهم جميعا. والأصل في القانون المساواة امامه بحيث يكون لك ما للمواطنين جميعا ويكون عليك ما عليهم جميعا.

# #
#

تحديدا ليس في القانون محاباة للوجوه اي ليس فيه تفريق بالتعامل اذ لا يعترف واضع القانون على صفة فيك غير صفة المواطَنة ولا يسأل موظف الدولة الذي يتسلّم معاملتك عن جنسك او دينك او منطقتك او ميولك الانتخابية ولا يسأل عن ثروتك. حسبه ان تدفع الرسوم المفروضة. لا يهم هذا الموظف ان تأتيه شخصيا لتعرب له عن تقديرك اياه ولا ينبغي ان يهمّه إقامة علاقات شخصية. في الادارات ليس ما اعتدنا ان نسمّيه شخصنة العلاقة. في المعاملات فقط الموظف يلبي السائل عن خدمة له الحق فيها.

كلّ انسان حرّ يدفع ضرائبه ولا يتعدّى على أحد له الحق في كلّ ما نصّ القانون عليه واذا أُنصف يزداد تقديره للدولة وتاليا يعمق حبه للوطن. من هذه الزاوية الدولة مربيتنا على معانقة لبنان. ما خلا التعامل الموضوعي انت حرّ بعواطفك. ولكن اعلم انك بالعدل تخدم نفسك وجارك والخزينة فإنّ كل مخالفة من هذا النوع سرقة للخزينة التي انت مثل اهل الحكم مؤتمن عليها. ان مال الدولة مال الناس جميعا. فإن لم تدفع الضريبة كاملة تكون هادرا للمال العام اي سارقًا كل مواطن بمقدار.

اما المؤسسات فهي مجموعة الكيانات الإدارية الخادمة للصالح العام فإنها مُنشأة على القوانين الأساسيّة في البلد. فمجلس النواب مؤسسة، كذلك الحكومة ورئاسة الجمهورية ومديريّة كل وزارة والمحافظة والقائمقاميّة والشرطة والدرك والجيش. المؤسسة تقوم على قواعد يستخرجها التراث القانوني والتشريع والمصطلح الحضاري.

هي تحديدًا قائمة من اجل الجماعة الوطنيّة. لا تتحكّم فيها المشاعر الشخصيّة وان كان الإخلاص وهو عاطفة أساسي في سيرها. فيها شعور من اجل البنيان الجماعي وتقوية التنسيق بين القائمين على المؤسسة. المؤسسة ليست متحجّرة ولكنها ثابتة كالأعضاء في الجسد لكون القيّمين عليها عادلين.

بسبب من ذلك العلاقات سليمة. انها مجرّدة اي من طبيعة الفكر التجريدي. يقوم العدل اذا لم تنظر الى وجه احد فلا يهمك جماله او قباحته او ميول قلبه. طبعا محبّة الوطن مفترضة عند كل من تعاطى الشأن العام. هذه المحبّة مبتغاة عند صاحب السلطان الكبير وصاحب السلطان الصغير. المرفوض هو التحيّز.
# #
#
المشكلة عندنا هو كيف ننتقل من حضارة «عاطفيّة» وطائفيّة ومناطقيّة الى حضارة الوطن الكل الوطني وبتعبير آخر كيف نرتقي الى المجتمع الوطني. في الحقيقة ان الانسان لا يدرَّب على حبّ الوطن. هو تنزل عليه المحبة من الله ويتروّض عليها بالعمل. ربما اذا أوتينا رئيسا وأعضاء عظماء بنعمة من ربّكم نتذوّق الاستقامة ونعمل بها. بكلام آخر نحتاج الى دعوة روحيّة والى ذوي خلق كريم نضعهم في المقامات العلى ويعمّرون لنا وطنًا جديدًا. اما العمل السياسي اليومي عمن ننتخب ومن نوظّف فنتاجه عظيم اذا المواطنون سعوا.

من هنا حسن استعداد أهلنا لانتخاب ناس قيّمين. ولا يستهنْ أحد بالواجب الانتخابي. ربما دعم النهضة اللبنانيّة العامة. هذا يفترض ان يستعفّ المرشح والناخب معا وان يفهم هذا الأخير ما أمكنه فهمه. لذلك يجب ان نقرأ السياسة قراءة جيّدة وان نعمل فيها على قدر طاقتنا. والسياسة عقل او فيها عقل كثير حتى لا تتأكلنا المحسوبيات والعودة الانفعالية الى اي مرشّح.

بعد 7 حزيران سننتخب حكومة تعمل معها او تعمل ضدّها حسب تحليلك للآن السياسي، ولكن هذا يتطلّب متابعة كبيرة عسى نخرج من هذا العالم الثالث المؤذي الى أعلى الوجود السياسي. يسحرني بعض القادة الأفارقة الذين أسمعهم ويبدو انهم أخذوا من الثقافة الأوربيّة اكثر مما أخذنا. كذلك إخوتنا اهل المغرب أرقى منا في معرفة الحضارة فتشبّهوا بهم.

كم تمنيت قبيل كتابتي هذه الأسطر فيما كنت أمر بقرى الجبل ابتغاء وصولي الى البلدة التي أنا قاطنها، كم تمنيّت أن يكون شعب لبنان جميلا كهذه الاشجار او هذه القصور التي أراها. لماذا تبني بيتك ولا تبني نفسك؟ أجل لا بدّ لنا من الرجاء ولكن لنبدأ العمل والتطهّر واقتحام المستحيل. بعد هذا الاقتحام ستبدو العجائب.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

العطاء/ الأحد 17 أيار 2009 / العدد 20

الضيق الذي حصل بسبب استفانوس كما تقول رسالة اليوم يدلّ على القهر الذي عاناه المسيحيون في أورشليم بعد استشهاد استفانوس اوّل الشهداء. نتيجة هذا الضيق ان تبدد الرسل في فينيقية في الساحل اللبناني اليوم وقبرس وانطاكية، وانحصرت بشارتهم بين اليهود. بعد وقت يسير أخذوا يبشّرون الوثنيّين. من هؤلاء المبشرين كان قومٌ من قبرس وقوم قيراونيون اي من ليبيا. ولمعرفتهم باللغة اليونانيّة أخذوا يبشّرون الأمم وربما اليهود الذين كانوا يتكلّمون اليونانيّة، فآمن عدد كثير بالرب يسوع.

فأرادت الكنيسة في أورشليم ان تشدّدهم بالرب، فأرسلت اليهم برنابا الذي لم يكن من الاثني عشر ويعرفه كتاب اعمال الرسل على أنه “كان رجلا صالحا ممتلئا من الروح والإيمان” وانضمّ الى الربّ جمع كثير.

بالمناسبة لا بدّ من القـول ان الكتاب المدعـوّ “انجيل برنابا” كتاب مـزوّر لم يكتبـه برنـابـا. هذا لم يكتبه مسيحيّ، وفيه أغـلاط كثيرة اي إنّ كاتبـه لم يكـن يعـرف فلسـطيـن، وهو يعــود الى أربعـة قـرون قـبـل اليـوم لا الى عشرين قرنًا حيث كان يعيش برنابا.

“ثم خرج برنابا الى طرسوس في طلب شاول” وهو الاسم اليهودي لبولس. وطرسوس هي المدينة التي وُلد فيها بولس وهي من كيليكيا الواقعة حاليا جنوبي تركيا. “ولما وجده أتى به الى أنطاكية وترددا معا في هذه الكنيسة” اي في الجماعة المسيحية وتنصّر كثيرون. “ودُعي التلاميذ مسيحيين في انطاكية اولا”. ويقول بعض المفسرين ان تسمية مسيحيين أطلقها الخصوم ازدراءً بالمسيحيين، ولكنا تبنّيناها وأحببناها وهي مدعاة لفخرنا. هل من عزة لك ووجود خارج انتسابك الى المسيح؟

“وفي تلك الأيام انحدر من أورشليم أنبياء الى انطاكية”. موهبة النبوءة يذكرها بولس الرسول في غير موضع، ويقول انها موهبة من الروح القدس، فيظهر في هذه الرعية او تلك علماني او اكليريكي ويبلغ الكنيسة إرادة الله منها. هذا هو معنى النبوءة في العهد الجديد.

من هؤلاء الأنبياء رجل مسمى أغابوس “فأنبأ بالروح (القدس) أنْ ستكون مجاعة عظيمة على جميع المسكونة”. عند هذا قرر التلاميذ ان يرسلوا خدمة (إعاشة) الى الإخوة الساكنين أورشليم لأنهم كانوا أفقر المسيحيين آنذاك، “وبعثوا الى الشيوخ بالمعونة على أيدي برنابا وشاول”. وكلنا يعلم ان بولس الرسول كان يلح على الكنائس التي بشّرها ان تفتقد الإخوة في أورشليم، وكان هو يجمع المعونات.

دائما كانت الكنيسة تهتمّ بالفقراء الى جانب صلواتها لأن الإيمان الواحد ينتج عنه المساعدة الأخويّة حتى لا يحسّ أحد بالإهمال. من معه يعطي من ليس معه. هذا من مقتضيات المحبّة. مع مرور الزمان صارت الكنيسة تنشئ مؤسسات للفقراء (مياتم، مستشفيات، مستوصفات) حتى لا يبقى أحد محرومًا من الحب الأخوي.

الكنيسة التي تعيش بقراءة الكلمة والصلاة تحيا ايضًا بالمحبّة المبذولة. ايمان وصلاة ومشاركة، هذه هي الأركان الأساسيّة لحياة الكنيسة. وهذا يقتضي احيـانا بـذلا كبيـرًا وليـس إحـسانـا رمزيـا. أن تـشعـر مع الفقير هو إعطاؤه الدليل على أنه أخ له الكرامة نفسها التي للميسور او الغني. ليس في الكنيسة طبقات بالمعنى المادي. المحتاج يأخذ منك ويبقى في كرامته اذا شعر انه أخوك حقًا.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

المسيح والمسيحيون / السبت 16 أيار 2009

قال نيتشه: «آخر مسيحي هو الذي مات على الصليب». لا أخطئه كليّا ولو لم يُصِب لكونه لم يعرف بهاء الشهداء والقديسين او لم يشأ أن يعرف. غير أن الصحيح عنده هو أنك لا تستطيع أن تكون مسيحًا ولو تشبّهت بالمخلّص الى حدّ بعيد. ما لم يقدر عليه بشر هو ان يكون قلبه ولسانه وفعله واحدًا. هذا حققه الناصري وحده. انت ليس في وسعك أن تكون المطلق كما كان هو. غير أنه هو لا يرضى الا تشتهي المطلق. لعلّ هذه هي ميزة المسيحيّة انها تشدّك الى المسيح السيّد في كل ما يتطلّبه. لذلك لا تضع المسيحيّة فوق رأسك سقفًا وتريدك أن تتوخّاه حتى اذا ارتفعت كثيرًا تحسّ بأنّ النعمة النازلة عليك تشدّك دائمًا الى فوق ولا تقبل أن تقف تحت العرش الإلهي بل اليه.

ما نسمّيه صعود المسيح الى السماء من بعد قيامته هو أنه جعل البشريّة التي لبسها تجالس الألوهية. هذا حصل فيه لأنّ بشرته اكتملت بالألوهة التي كانت فيه ولكن بطاعته الكاملة للآب وطاعته ما كانت اغتصاب ألوهته لبشرته بسبب من عدم الاختلاط بين الطبيعتين. كان في حريّته يعمل في كل حين ما يرضي الآب. ويتمنّى هو عليك ان ترضي بحريّتك انت الآب دائمًا.

هو لا يعاهدك على أن تبقى ترابيًا بل يعاهدك على ان تتخطى على قدر استطاعتك نزواتك ويأبى أن تجد فيك أيّة خطيئة مأوى او مسكنًا في ثناياك. هو يبتهل في السماء الى أبيه ليجعلك كاملًا. وأن تكون كاملا في بشريّتك هو أن تسعى باستمرار الى الكمال المؤهلة له طبيعتك. وان لم تدركه تكون خاطئا اذا لم تشتهه. المسيحيّة هي هذا التوثب الكامل والحزن الدائم انك لم تصل. وما لم يكن عندك هذا الحزن تكون قد اخترت ان تعقد مساومة بينك وبين المعصية كبيرة كانت ام كثيرة. أية لوثة فيك قبلها وعيك هي تعاقد بينك وبين مملكة الشرير. وقد لا يكون قبلها وعيك ولكنك أهملت نفسك حتى لا تعي وهذه هي خطيئة.

أنا أفهم أن يكون الإصلاح البروتستنتي قال إن المرجع الوحيد للإيمان هو الكتاب المقدّس. هو عنى انه لا يقيم وزنًا للتراث عظيمًا لأنه رأى فيه جهدًا بشريًا. ولكن ما أقبله في حدس البروتستنتيّة هو أنها اشتهت أن يكون كلّ انسان واحدًا مع كلمة الله.
# #
#
نحن نفهم ان الكلمة ممدودة في التراث وان بعضا من تفاصيله يمكن إسقاطها لأن زينة الكلام لا مفرّ منها في الأديان. ولكن المسيحيّة تريد نفسها كلمة الله فقط وليس من الصعب الا تميّز بين ما هو إلهيّ في ميراث الكنيسة وما هو بشرة ساقطة.

يحزنني فقط أن أرى مسؤولين في كنيسة الأرض لا تهمّهم كثيرًا كلمة الله الحاكمة لكل قول او فعل او تنظيم عندنا بعد ان تأقلموا مع الزينة وأبدلوا حكمة الله بحكمة هذا العالم.

هذا يذكّرني بأقصوصة في الأدب النسكي تحدّثنا عمّن نسمّيه مبتدئا في الحياة الرهبانيّة اي دخيلا فتيًا. وفي تقليدنا القديم ان هذا يعيش في صومعة شيخ يحدّثه ويربّيه. وتقول هذه القصّة ان هذا الفتى مات سنة بعد دخوله الدير ورآه شيخه في منامه والنار واصلة الى ركبتيه فقال الراهب القديم لهذا الشاب: انا ربيتك سنة كاملة على التقوى. ماذا فعلت بنفسك حتى صرت في النار؟ فأجاب الفتى: اطمئن يا أبتِ أنا واقف على كتفَي مطران. لا تعليق.

أعرف أن الفضيلة ليست حكرًا على أحد وأعرف أن لا علاقة لها بالرتب ولكنّي متعب لأني أعرف تاريخ الكنيسة جيدًا وأن فيه غير الشهداء والأبرار. انا قرأت غاندي جيدا وفهمت أنه كان يحبّ كثيرا العظة على الجبل واعترف أن عدم اعتناقه المسيحيّة عائد الى أنه لم يلتقِ مسيحيًا كان يأخذ بالموعظة جديًّا.

انا يكفيني القديسون وأعرف سيرة الكثيرين منهم ويكفونني لأعرف قدرة المسيح فيهم وبهاءه في أولئك الذين فاقت شهادة الدم عندهم كل عقل ووصف ولكن صدماتي الكثيرة انك أحيانًا إذا ما ذهبت في منطق إنجيليّ ترى من لا يتحسس هذا المنطق وينعتك بالغبي. أليس الإنجيل سياسة الله؟ من القوم من يؤثر عليه سياسة هذا العالم بما فيها من لغو وكذب. انا لست أجهل ان سياسة الدنيا أدنى الى النجاح في حالات كثيرة ولكن في مقاييسها. انا لا آخذ على كثرة من المسيحيين خطاياهم فأنا من هذه الفئة. مأخذي الوحيد عليهم أنهم إمّا ضمنًا او وعيًا يهزأون بمقاييس الإنجيل.

لا يواجهني أحد بقول المعلّم: «لا تدينوا لئلا تُدانوا». اعرف جيّدًا ان الله احتفظ لنفسه بالدينونة. مأخذي الوحيد ان الكثيرين من المعمّدين اذا آمنوا بأنّ الإنجيل هو المرجعيّة لا يريدونها في مجال التطبيق.

# #
#
سيبقى هذا المشهد الى أبد الآبدين. سيخطئ الناس. هذه ليست مشكلتي والكتاب قالها مرات. وكان يسوع يعرف انه سيظل الكثيرون في الكنيسة غرقى أوحالهم.

ولكن مشهد الدنس لا يقنعني بأنه يجب علينا ان نقدّم للناس مسيحيّة معدلة بمتناول المعطوبين في الأرض لتصبح ممكنة. غير أن هذه التركيبة المرتبة للناس في وسطيّتهم الأخلاقيّة لن يتعرّف عليها يسوع الناصري أنها كلمته وما خرج عن كلمته لا يؤتيك خلاصًا.

أعرف أني أبقى مسيحيًا إن جاهدت لأصير مثل المعلّم في حدود ضعفاتي. ولكني أكون قد أكملت سعيي وحفظت الإيمان بأن المسيح مطلق واذا بعته بفذلكات فأنا خائن وأكون بحبل يهوذا او بغير حبل قد شنقت نفسي.

لماذا لا نقول للخاطئ انه فعليا جاحد؟ ميزة الجاحد على المؤمن الخاطئ أن عقل ذاك لا يقبل المسيح وعقل هذا يقبله نظريا فقط ولا يحالفه. الذين لا يرتضون السيّد حاكمًا على نفوسهم يكونون معمّدين بالماء فقط لا بالروح القدس. وهؤلاء كانت دينونتهم أعظم.

تاريخ الكنيسة خيانات؟ نعم. هذا التاريخ فيه عشّاق لله كثيرون؟ نعم ايضًا. اخرجوا اذًا ايضًا من الخيانة حتى لا يبقى نيتشه على حق. اقبل انت ايضًا أن تكون مصلوبًا. هذا خيارك الوحيد إن شئت لنفسك خلاصًا.

العشّاق الملتهبون كانوا دائما قلّة عزيزة. قال لنا هذا أندره جيد منذ نصف قرن هنا في بيروت: المخلَّصون دائما قلّة.

سنكمل الطريق. كلّ منكم قادر على ذلك اذا قبِل الإنجيل حاكمًا فيه. واذا اقتنع قلبه بهذا فيكبر نصيبه بأن تتقلّص خطاياه ويعظم حظّه في أن يرى المسيح مخلِّصًا له لا قبل ألفَي سنة ولكن في اليوميّات التي يعيش.

المسيح وحده؟ نعم ولكن ليست هذه أمنيته. «الله يريد الكلّ أن يخلصوا». يريدهم جميعا ان يصطبغوا بصبغته وان يلبسوه. ما أراد نفسه صوتا صارخًا في البريّة. مات لكي لا تخطر لك خاطرة ضد كلمته وألاّ ينثني في لحمك وعظامك غير روحه.

هناك من يحبّ يسوع حبّ الهوى ويرفعه وهو يتخطّر على الأرض الى مستوى العرش الإلهي ويجلسه معه عن يمين الآب.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

عجائب الرسل / الأحد 10 أيار 2009 / العدد 19

في رسالة اليوم، نزل بطرس الى القديسين الساكنين في لدّة. وكلمة قديسين في هذه الفترة كانت تعني كل المسيحيين لأنهم تقدّسوا بالمعمودية والإيمان. بطرس أقام هناك إينياس وكان شابا مخلّعًا اي مفلوجًا. كان الرسول اذًا فيه قوة المسيح الذي قام بأعجوبة شبيهة. نتيجة ذلك ان كثيرًا من اليهود رجعوا الى الرب اي انضمّوا الى المسيحية.

بعد هذا أعجوبة أخرى أقام بها بطرس فتاة من الموت كما أقام يسوع ابن الأرملة ولعازر. واضح هنا ان كاتب سفر الأعمال اي لوقا أراد أن يوحي ان المعجزات التي قام بها السيد تتكرر مع رسوله العظيم. كان هذا ايضًا في لدّة قرب يافا.

قبل أن يقوم بطرس بهذه الأعجوبة “جثا على ركبتيه وصلّى” اي استمدّ قوته من السيد في حين ان يسوع كان يصنع العجائب بلا صلاة سابقة ما عدا دعاءه الى الآب قبل إقامة لعازر. نتيجة ذلك أن آمن كثيرون بالرب.

على مثال الرسول قام مَن نسمّيهم قديسين بعجائب مماثلة اذ ان رسالة يسوع تكمل في الكنيسة بالتعليم من جهة وبالشفاء من جهة. جيلا بعد جيل شفى القديسون مرضى بكل أنواع الأمراض. يسوع يستمر في كنيسته، ورسمت الكنيسة سر مسحة الزيت لشفاء المريض، وبهذا أوصى يعقوب الرسول في رسالته بقوله: “إذا مرض أحدكم فليدعُ قسوس الكنيسة (اي الكهنة) ويدهنوه بزيت”.

الشفاء ليس مرتبطًا حصرًا بصلاة الزيت هذه ولكن بأية صلاة يقيمها الكاهن او العلماني. وكثيرون من الذين شفوا المرضى كانوا علمانيين يضعون يدهم على رأس المريض او لا يضعون. وقد لا يرونه ويصلّون من أجله من بعيد.

هذا لا يمنعنا من ان نستعيـن بالأطبـاء فإنهم يعالجـون واللـه يشفي. الطبـابـة والصلاة يتمـاشيـان، ومـن الضرورة ان نستدعي الطبيب كما علّم بذلك القديس باسيـليـوس الكبيـر. لا يجـوز لمريض ان يستبعـد الطبـيـب ويتّكل فقط على صلاتـه. الوسيلـة الطبيعيـة اي الطـب تكـون مقرونـة بما هو فوق الطبيعـة اي بالتـدخل الإلهـي. ذلك التدخـل الإلهـي لا نعـرف سره أي لا نعرف أية وسيلـة طبيعيـة يستخدم. الشفـاء الإلهـي يعـود بالمـريض الى ما هو فوق النواميس الطبيعية، فالله سيد نامـوس الطبيعـة ويستخدم الله وسائله الخاصة. كلمتـه هي التي تحيي، ونرجـوه نحـن بالصـلاة ان يقـول كلمتـه فتكـون الأشيـاء.

أحيانًا كثيرة يتقوّى إيمان أهل المريض إذا شُفي أو إيمان مَن عرف بحدوث الأعجوبة. كل هذا لا يعني انه يجب ان نكون سريعي التصديق بكل ما يُحكى لنا عن عجيبة حدثت هنا أو هناك، ولكن الأطباء كثيرًا ما يقولون نحن ليس عندنا تفسير علمي لما حصل. هم لا يريدون أن يتكلّموا عمّا هو خارج نطاقهم، ولكننا نحن المؤمنين نعرف ان التغيير الكلي في جسم المريض إذا حصل يأتي بنعمة الله.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

ما الوطن؟ / السبت ٩ أيار ٢٠٠٩

الوطن رقعة من الارض صنعها التاريخ واصطلحتم على قبولها والناس عليها. قلت صنعها التاريخ إذ ليس من وطن منزل من عند الله. حوادث الزمان الأخير سلّمته إليك. ولذلك كل النقاش لنعته بما هو غير نفسه نقاش باطل يخفي نزاعات أخرى. هو يرث كل شيء قبله بمقدار. فأهل مذهب الفينيقيين كانوا على حق لأن الكثير من الشاطئ الفينيقي ورثناه مواهب، وان تقول إنه عربي صحيح أيضا بعد أن تعرب لساننا وأحسسنا بمشاعر العرب في طلبهم الاستقلال. أما الآن فهو ما هو وقد قبله أبناؤه في الآن الذي هم فيه. ولكن يجب أن تقنع الآخرين بـذلك اذا قدرت أن تبيّن لهم أنك قادر أن تعيش بقواك أي أن تقتنع وجوديا بذلك.

                      قل اذًا الوطن رقعة مع ناسها. قل أيضا ان هذه الكتلة البشرية منظورا إليها واحدة لا إقصائية فيها ولا استعلاء ولا تمييز بالمعاملة هي الاساسية في الانتماء الوطني. الوحدة والتوحد والتلاقي ليست في نقاش.أما أولية كل طائفة أو قدرتها النوعية أو سيادتها فتحت النقاش لأن هذا جزئية تهدد الوحدة وباطل تنكر به الحقيقة. هنا وعلى سبيل المثال المرجو أن يفهم الموارنة أنهم ولو كان لهم الفضل الاكبر في تكوين لبنان الحديث فليس ليجعلوه في حضنهم ولكن ليورثوه الآخرين لأن الآخرين إن لم يرثوا يرتمون في حضن آخر ويكون التاريخ التأسيسي ضد النمو التاريخي. وهنا يجب أن يفهم المسلمون أنهم مدنيا ليسوا خير أمّة أُخرجت للناس ولكن غيرهم أيضا يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، كما ينبغي أن يفهم العروبيون ان العروبة ذوق وميراث ولكنها لا تذيب قطرا في ذاتها. نحن على هذه الرقعة والرقعة بنا، لذلك لا تخترعوا سجالات أكاديميّة بينكم اذ الدعوة الى التاريخ في حقيقتها قتال حول الحاضر.

#                     #

#

                      الرؤية هي الى لبنان لا الى أجزائه ومناطقه وجماعاته الدينيّة. انت لبنانيّ اذا قادك شعورك التلقائي الى خدمة البلد لا الى التميز فيه. الطائفيّة اذًا حالة قبل ان تكون سياسة. ومن حيث هي حالة صافية طاهرة وفهيمة فهي غنى. لا احد يحق له مثلا ان يقول ان الكنيسة الأرثوذكسيّة ليست شيئا عظيمًا في المسيحيّة كلّها. يبدأ الفساد من الكراهيّة والرؤية الدونيّة الى ميراث الغير. ولا معنى او فائدة من اللامذهبيّة في حياة الجماعة لأن المسيحيين والمسلمين اذا لم يقدّموا للبلد كله ما عندهم من خيرات يرتمي البلد في هزالة الفكر. الانتساب الى تراث روحيّ عظيم غنى للناس جميعا. فاذا أزلت حبك لله ولكلمته ماذا يبقى لك؟ ما مضمون الوطنيّة او القوميّة عند ذاك؟

                      المصيبة عندنا ليست في الطوائف بل في تحويلك اياها الى مجموعات تستفيد انت منها دنيويا، واذا استفدت انت تجيّر ذلك كلاميا الى طائفتك. عندما أرى هذه المجموعة الدينيّة تتحسّر لفقدانها منصب مديريّة عامة اتساءل عما تدور حسرتها، والنتيجة عندي ان عائلة واحدة من هذه المجموعة لم تكسب. الطائفة تكون في خسارة خيالية. الا تنتفع الطائفة المحتجة من مدير عام يعمل في التساوي لخدمة الجميع فتخسر الطائفة معنويا وتربح في الحقيقة. الطائفة بمعناها الروحي والوجداني كمحركة للنفس الى الله والناس هي تاليا ربح.

                      الصراع ليس بين الطوائف. انه بين استعلاء واستعلاد او بين انتفاخ وانتفاخ، وهو التعامي عن الوحدة الانسانية التي تربط بيننا. تعقيد آخر، اضافي ظهر في الحرب هو الميليشيات التي كوّنت وحدات اخرى غير متطابقة كليا بالطوائف بدليل تنكّر الكثيرين في كل طائفة للميليشيا التي كانت تدّعي تمثيلها. الجزئية اللبنانية ولدت جزئيات أخرى.

                      ما يؤذي لبنان ان الكثيرين من ابنائه لا ينظرون اليه في وحدته العضوية. التحزب بهذا المعنى نغطّيه بالبلاغة الخطابية التي نتقنها. من هنا السؤال كيف نشفى، كيف نقوم من هذا الموت. استعمل مؤخرا احد الفرنسيين عبارة الديموقراطية من تحت بالتقابل مع ديموقراطية النواب والوزراء. انا وددت ان أقول ببساطة ان الحياة الروحيّة او الأخلاق تنجّي المواطن من الربح الطوائفي اي المجزئ  لكيان الوطن. هذه الحياة الروحية هي وحدها منطلق الإنقاذ. الوطن في ناسه والناس في سموّهم والسياسة تركب هذا.

                      الا ترتشي مثلا يعني ان تؤمن بأن ضميرك يملي عليك انتخاب هذا او ذاك لأن ضميرك سكنى الله فيك. هذا لا يعني آليا ان المجلس سيؤلفه عظام ولكنه يعني على الأقل ان يستبعد المدموغين بالسوء.

                      عندنا اليوم نوع جديد من الرشوة تحت ستار العمل الخيري. هذه الكنيسة او تلك من رعيتي قبضت بدون استشارتي مبلغا من المال لإكمال بنائها. هذا  لا يعني انها تنتخب الجهة التي تحديدا عملت خيرا ولكن في ذلك إضعافا للضمائر. اعترف ان هذا الأسلوب ليس سمجا كالقديم ولعله لا يخلو من بعض حب للخير ولكن لماذا لم يقم به قبل هذه الفترة؟

                      طبعا لا تكفي الأخلاق للقيام بالبلد. نحتاج الى علم بشؤون الوطن وهذا يقتضي تعليما موجها لهذا الشأن وتأسيس حلقات فكر وجماعات ضاغطة تحمل هذا الفكر. واذا سلكنا هذا السلوك وصرنا بلدا عظيما (في حجمنا) نكون قد قبضنا على وسائل الحرية والازدهار في كل مجالاتها.

                      للمرة العاشرة ربما أردد ان مشكلتنا الحقيقيّة مشكلة العدالة والاهتمام بالفقراء والمرضى وتعليم الأطفال وهدفنا التنمية الاقتصادية التي نوزع فوائدها على المناطق بعدل. هذه هي الرقعة التي ورثناها بعطف من الله وانه لتكفيل شرعي (اذا سمح لي فقهاء الإسلام باستعمالها)، تكفيل شرعي ان نحب بعضنا بعضا الى درجة اعتبار ان الآخر أفضل منا. متى يتجنّد المميزون من المسيحيين لخدمة المسلمين؟ للمسلمين ان يقولوا هم قولهم في ما يشبه هذا.

                      نحن اللبنانيين -اذا سُمح لي بالاستشهاد بالقرآن واعتماده في سياق آخر- لنا ان نصبح خير أمّة أخرجت للناس في تعاوننا المرتضى لنعطي المشرق وربما العالم في تواضع أمثولة من أمثولات العطاء.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

خدمة الموائد / الأحد 3 أيار 2009/ العدد 18

 “حدثَ تذمّر من اليونانيين على العبرانيّين بأن أراملهم كنّ يُهملن في الخدمة اليوميّة”. ما معنى هذا الكلام؟ اليونانيون الذين كانوا يعيشون في اورشليم هم يهود من الشتات اليهودي الذين كان معظمهم من الاسكندريّة ويتكلّمون اليونانيّة بعد ان غادروا فلسطين وسكنوا في الخارج. هؤلاد تنصّر بعضهم ولكن كان يُشار اليهم باللغة التي كانوا يتكلّمونها. ومن تسمّيهم الرسالة عبرانيين كانوا قد انضمّوا الى الكنيسة ويتكلّمون اللغة الآراميّة التي كانت لغة فلسطين.

حدث بين الفئتين في الكنيسة شيء من العنصريّة اللغويّة. والذين كانوا مستلمين إعالة الفقراء في الكنيسة كانوا يتحيّزون للعنصر الفلسطيني المقيم. امام هذا التذمّر دعا الإثنا عشر (أي الرسل) جمهور التلاميذ (اي كلّ المسيحيّين على اختلاف ألسنتهم) وقالوا لهم: “لا يحسن أن نترك نحن كلمة الله ونخدم الموائد” اي لا يحسن ان نكون مسؤولين عن الإعاشة.

انتخبوا سبعة رجال قيل انهم أول الشمامسة وان رتبة الشموسيّة ظهرت هكذا. مهما يكن مـن أمـر كان الشماس في الكنيسة الأولى الى جانب خدمته في الصلاة يشرف على توزيع المساعدات للمسيحيين. فقد مع الوقت هذا الدور وأُسند للعلمانيين.

الشرط في انتخابهم كان ان يكونوا “ممتلئين من الروح القدس والحكمة”. كل خدمة في الكنيسة مهما كان ظاهرها اجتماعيا تقتضي ان يكون المسؤول عنها ممتلئا من الروح القدس والحكمة، ولا يجوز إسناد خدمة لأحد ما لم يكن إنسانا روحانيا مصليا.

أعمال الرسل تذكر هؤلاء بأسمائهم وأوّلهم استفانوس الذي سيأتي ذكره بالتفصيل وهو اوّل الشهداء في التاريخ المسيحي. والخطاب الذي ألقاه على اليهود دلّ على أنّه فاهم الكتاب المقدّس وقويّ في معرفة المسيح.

ما يـسند كونـهم شمامسة قـول الكتـاب ان “الرسل صلّوا ووضعـوا عليهم الأيدي”. وضع الأيدي الذي هو الرسامة تُستعمل للدلالة على من له رتبة في الكنيسة.

ثم يقول الكتاب: “وكانت كلمة الله تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر في اورشليم جدًا”. غالبا في هذا الوقت لم يكن احد من التلاميذ غادر فلسطين الى البشارة في الخارج، وكان الرسل في هذه الفترة يركزون على دعوة اليهود. ثم ينتهي المقطع الذي نقرأه اليوم ان جمعًا كثيرًا من الكهنة اي من كهنة الهيكل “يطيعون الإيمان”.

سِفْر أعمال الرسل هو سفر عمل الروح القدس بعد العنصرة وبه كانت الكنيسة تنتشر. هذه، بهذا المعنى، كنيسة الروح القدس الذي يجعلها هو كنيسة المسيح فتصير جسده اي كيانه الظاهر في العالم. ما من أمر عظيم وجليل وطاهر تمّ في تاريخ المسيحية الا انطلاقا من نعمة الروح الإلهي.

قد يُخطئ الكثيرون ويحصل إهمال عند الرعاة ويحسّ الإنسان أحيانا ان الكنيسة تتدهور، ومع ذلك تنهض وتعيش. كلّ ذلك لأنّ السيّد قال انه معنا حتى نهاية الدهور. فإذا رأى الله ان كنيسته في إهمال، يبعث الذين يضع فيهـم إيمـانـا عظيمـا وحماسة كبـرى ليقـوموا بالدعوة من جديد فينتعش الكلّ بهم ويتقوّى الضعاف.

دائما ينشل الروح القدس الكنيسة من الهبوط والجهل ويجعل فيها معرفة وتجلّيات.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

هل الوطن آت؟ / السبت ٢ أيار ٢٠٠٩

لبنانيون كثيرون هم أبرار بعض منهم قديس. لذلك يعسر التعميم في الحديث عن شعبنا. ولكن كثرة منّا مصابة بانفصام لكونها تفرّق بين الأخلاق الفرديّة والمسلكيّة في الشأن العام. انا أميل الى سقراط، الى اعتبار الخطيئة جهلا ولو ارتكبت عمدًا. فأنا واقع في خوف شديد من ان الكثيرين لا يعتبرون الرشوة مخالفة لوصايا الله. ولعلّ أشدّ ما أخشاه ان تسلم انسانا لا يحترم ضميرك حضورًا سياسيا مميّزًا.

         للسبب نفسه أخشى الهدية على الصعيد الشخصي. انها تُضعف تجاهك من أهديت ما لم تحس انك بالهدية لا تسعى الى قربى ولكنك تقرض الله. اذا لم تتصل بالرب في اية حركة من حركاتك فأنت عبد للآخر. انت تحبّ الآخر بسبب من نفسه ومن نفسك ولا تتوقّع بعطائك منه شيئا ولا تريده أن يعطف عليك او يقدّم لك امتيازًا.

         كلّما تعاطيت مع الإنسان اللبناني تبرز أمامي مشوهة ديانته ومشوشة شخصيّته ومرتعه الاكتفاء بنفسه او اذا شئت الفردية مع انه يبدو انسان الجماعة أعائلة كانت ام قبيلة ام طائفة. هذا كلّه في الحقيقة تمويه. انه منضم الى هذه الوحدات ليس لأنّه جمعي او شوري ولكن لكونه منعزلا، مضطربا. وبدل ان يشفي نفسه بالوعي او بالله ليصبح صامدا في ذاته يلتصق بهذه الوحدات الجماعيّة ظانا انها تخرجه من وحدته وفي الحقيقة تغرقه فيها وتذيبه.

         لا نفهم ان الشورى او المحبّة ليست  في الاندماج او الاختلاط بالقوم ولكن في تلاقي الأقوياء وعلى تنوّع في الصفات وهذا ما يميّز القطيع عن المجتمع البشري القائم على التمايز فالتكامل في الحرية. هكذا تبدو الكنيسة عند بولس. هي مشاركة مواهب وتلازم مواهب وهي تؤلّف جسدًا بتنوّعها والجامع بينها مصدرها الواحد أعني المسيح. من هذا القبيل كانت الكنيسة نموذجا للمجتمع السليم. اتخذها صورة له.

         ومع أنّ الكنيسة أريد بها التحاب والانضمام بالتحاب يحدث بسبب الخوف اننا نتصرّف فيها كعبيد. فبدل ان تكون عضويّة الحب تصير مكان التفسخ والإقصاء. لم تنجح الكنيسة في لبنان ان تكون مقام الحب.

#                        #

#

         ظاهرة الزعيم هي بامتياز ظاهرة الاحتقار اذ يجعل نفسه إلهًا ولو لم تقلها شفتاه. والآخرون هم له ولتبجيله. هو الى درجة يؤلّه  نفسه. انه ليس في حاجة الى شورى والى اكتمال اذ لا يؤمن بجماعة أحرار يعطيها بقدر ما يأخذ منها فكرا وهوية.

         مرة استضافني كبير قوم لائقة ضيافته جدا وهذا طبعا جزء من سعيه الى الظهور. سألته لماذا عندك أجراء في فلاحة أراضيك هم تابعوك بالحقيقة وملتصقون بك وليست لهم اية مكانة مجتمعيّة. قال لي انا احميهم. فكرة الزعامة هي بالتحديد ان الله جعله قائدًا لمستضعفين وان كل دورهم ان يوافقوا رئيسهم على ما يقول ويعملوا بأوامره اذ البشريّة مؤلّفة ممن يأمر وممن يطيع.

         الأقوياء جعلوا أنفسهم أرستقراطيين وفي اللغة اليونانيّة الأرستقراطيّة تعني سلطة الأفضلين. وهم طبعا كذلك بسبب من القوة او العنف الذي مارسه آباؤهم فاستغنوا وقاتلوا وقتلوا. وتسجد انت للقهر غير مخيّر لأنك ضعيف او اقنعوك بأنك ضعيف وقد تحصل ثورة الضعفاء فيستعبدون من كانوا أقوياء. يتغيّر الأشخاص ولا تتغيّر قاعدة الحقد.

#              #

#

         امام الفراغ الذي يجد الإنسان نفسه فيه لا بدّ من الفساد في البلاد الموزع مواطنوها بين راشٍ ومرتشٍ. انه يمارس في اليقين ان المعوز بيمشيا وليس مطلوبا منه ان يقوم بعمل صادر عن قناعاته. المفسد لا يفتش عن كسب قناعتك ولكن ان تحقق له انت الغرض الذي اشتهاه.

         في هذا الإطار عند المسيحيين صورة الثالوث المقدّس. الآب والابن متقابلان لأن كل واحد يسكب نفسه في الآخر ولا يزول. وبفضل هذا الحب المسكوب يُثبت نفسه والآخر. هذا ايضًا نموذج فكريّ أعرضه كائنة ما كانت عقيدتنا. هذا ينفي القبيلة وينفي العائليّة من حيث هي عصبيّة وينفي الطائفيّة من حيث هي لون من العصبيّة آخر. فقد تكون ضدّ طائفتك سياسيًا ولو كنت عضوًا فيها روحيًا.

         اذا انتقلنا الآن الى الحركة الانتخابيّة مستندين الى التأمّل الروحي الذي خضنا فيه يبدو لي اننا امام حفلة إغراء تستصغر الناخب. لماذا هذه الصورة؟ هل يظن الناخب ان جمال طلعته يؤثر في المواطن؟ أليس يخزي إقدام الناخب على عمل الانتخاب منطلقا من هذا الإغراء؟

         ثم هناك ما ليس بإغراء وهو كتابة الشعارات تحت الصورة وكأن الناخب غبي تأخذه عناوين ليس تحتها ذلك الجهد الفكري الذي نسمّيه برنامجا. في البرنامج شيء من احترام عقل المواطن وفيه نقل من العلاقة العاطفية الى العلاقة الموضوعيّة. هذا فكر يواجه فكرًا. والخروج من العلاقات الطائفيّة والعائليّة او القبليّة لا يقوم الا بتكسير فكري للانفعالات البدائية. هذا البرنامج يرفعك الى الحوار اي الى مسألة الحق. كنت أتوقع ان تكشف الأحزاب عندنا برنامجها وان تحكي عنه بشيء من الإسهاب، وعند اكتفائها بالعناوين تبدو لي ان عقيدتها ليست للصراع وكأنها ترف فكري وقوة دعاوة تكسب بها الأنصار.

#                         #

#

         لا بد من المنافسة في كل متحد بشري فالحقيقة تخاصم، واذا لم يكن في الانتخابات مواجهة على أساس الاختلاف فلماذا تقدم عليها؟ اذا كنت موقنا ان الآخر أفضل منك في الدفاع عن نقاط وطنيّة لماذا تتقدّم؟ هل انت قادر ان ترى الآخر أفضل منك في موقعك وان تتمنع عن دخول معركة؟

         نائبا، انت قربان. عند ذاك يعترف الأبرار بزعامتك او بمؤهلاتك للقيادة.

         نحن في حاجة الى حملة تربويّة تغيّرنا كشعب وتؤهّلنا عند نجاحنا في امتحانات الفضيلة ان نبني دولة اذ ليس من دولة ممكنة بلا شعب بار. الشعوب تنشئ الدول وحكوماتها وليس العكس. انت لا تستطيع ان تصر على الاستقلال والأمة غير قادرة على تخطّي العائليّة والقبليّة والطائفيّة اي قوقعة الفرديّة والا كان هذا استقلالا شكليا، حقوقيا بلا مضمون خلقي. ثم ما هذه السيادة ولا قدرة لك ان تسود الشهوات الكبرى المدمّرة لكيانك الشخصي وكيانك المجتمعي اي تدمير الآخرين.

         وهنا يحزنني ان الأديان عندنا تعمل القليل القليل على هذا الخط، لعلها تظن ان إحياء العبادات ينشئ آليا الأخلاق ولعلها تحسب ايضا ان شد الأواصر بين أعضائها هو ربط هؤلاء بالله. مفاعيل التوحيد الذي نؤمن به جميعا هو توحيد الإنسان بالإنسان بما عند كل واحد من قوة روحية وكرامة إلهية وصدق وصبر وطهارة وخدمة للناس جميعا وائتلاف يقوم على البرّ.

         لبنان الجديد لم يظهر بعد. لا يستحق وجوده الا اذا جاء.

Continue reading