لبنانيون كثيرون هم أبرار بعض منهم قديس. لذلك يعسر التعميم في الحديث عن شعبنا. ولكن كثرة منّا مصابة بانفصام لكونها تفرّق بين الأخلاق الفرديّة والمسلكيّة في الشأن العام. انا أميل الى سقراط، الى اعتبار الخطيئة جهلا ولو ارتكبت عمدًا. فأنا واقع في خوف شديد من ان الكثيرين لا يعتبرون الرشوة مخالفة لوصايا الله. ولعلّ أشدّ ما أخشاه ان تسلم انسانا لا يحترم ضميرك حضورًا سياسيا مميّزًا.
للسبب نفسه أخشى الهدية على الصعيد الشخصي. انها تُضعف تجاهك من أهديت ما لم تحس انك بالهدية لا تسعى الى قربى ولكنك تقرض الله. اذا لم تتصل بالرب في اية حركة من حركاتك فأنت عبد للآخر. انت تحبّ الآخر بسبب من نفسه ومن نفسك ولا تتوقّع بعطائك منه شيئا ولا تريده أن يعطف عليك او يقدّم لك امتيازًا.
كلّما تعاطيت مع الإنسان اللبناني تبرز أمامي مشوهة ديانته ومشوشة شخصيّته ومرتعه الاكتفاء بنفسه او اذا شئت الفردية مع انه يبدو انسان الجماعة أعائلة كانت ام قبيلة ام طائفة. هذا كلّه في الحقيقة تمويه. انه منضم الى هذه الوحدات ليس لأنّه جمعي او شوري ولكن لكونه منعزلا، مضطربا. وبدل ان يشفي نفسه بالوعي او بالله ليصبح صامدا في ذاته يلتصق بهذه الوحدات الجماعيّة ظانا انها تخرجه من وحدته وفي الحقيقة تغرقه فيها وتذيبه.
لا نفهم ان الشورى او المحبّة ليست في الاندماج او الاختلاط بالقوم ولكن في تلاقي الأقوياء وعلى تنوّع في الصفات وهذا ما يميّز القطيع عن المجتمع البشري القائم على التمايز فالتكامل في الحرية. هكذا تبدو الكنيسة عند بولس. هي مشاركة مواهب وتلازم مواهب وهي تؤلّف جسدًا بتنوّعها والجامع بينها مصدرها الواحد أعني المسيح. من هذا القبيل كانت الكنيسة نموذجا للمجتمع السليم. اتخذها صورة له.
ومع أنّ الكنيسة أريد بها التحاب والانضمام بالتحاب يحدث بسبب الخوف اننا نتصرّف فيها كعبيد. فبدل ان تكون عضويّة الحب تصير مكان التفسخ والإقصاء. لم تنجح الكنيسة في لبنان ان تكون مقام الحب.
# #
#
ظاهرة الزعيم هي بامتياز ظاهرة الاحتقار اذ يجعل نفسه إلهًا ولو لم تقلها شفتاه. والآخرون هم له ولتبجيله. هو الى درجة يؤلّه نفسه. انه ليس في حاجة الى شورى والى اكتمال اذ لا يؤمن بجماعة أحرار يعطيها بقدر ما يأخذ منها فكرا وهوية.
مرة استضافني كبير قوم لائقة ضيافته جدا وهذا طبعا جزء من سعيه الى الظهور. سألته لماذا عندك أجراء في فلاحة أراضيك هم تابعوك بالحقيقة وملتصقون بك وليست لهم اية مكانة مجتمعيّة. قال لي انا احميهم. فكرة الزعامة هي بالتحديد ان الله جعله قائدًا لمستضعفين وان كل دورهم ان يوافقوا رئيسهم على ما يقول ويعملوا بأوامره اذ البشريّة مؤلّفة ممن يأمر وممن يطيع.
الأقوياء جعلوا أنفسهم أرستقراطيين وفي اللغة اليونانيّة الأرستقراطيّة تعني سلطة الأفضلين. وهم طبعا كذلك بسبب من القوة او العنف الذي مارسه آباؤهم فاستغنوا وقاتلوا وقتلوا. وتسجد انت للقهر غير مخيّر لأنك ضعيف او اقنعوك بأنك ضعيف وقد تحصل ثورة الضعفاء فيستعبدون من كانوا أقوياء. يتغيّر الأشخاص ولا تتغيّر قاعدة الحقد.
# #
#
امام الفراغ الذي يجد الإنسان نفسه فيه لا بدّ من الفساد في البلاد الموزع مواطنوها بين راشٍ ومرتشٍ. انه يمارس في اليقين ان المعوز بيمشيا وليس مطلوبا منه ان يقوم بعمل صادر عن قناعاته. المفسد لا يفتش عن كسب قناعتك ولكن ان تحقق له انت الغرض الذي اشتهاه.
في هذا الإطار عند المسيحيين صورة الثالوث المقدّس. الآب والابن متقابلان لأن كل واحد يسكب نفسه في الآخر ولا يزول. وبفضل هذا الحب المسكوب يُثبت نفسه والآخر. هذا ايضًا نموذج فكريّ أعرضه كائنة ما كانت عقيدتنا. هذا ينفي القبيلة وينفي العائليّة من حيث هي عصبيّة وينفي الطائفيّة من حيث هي لون من العصبيّة آخر. فقد تكون ضدّ طائفتك سياسيًا ولو كنت عضوًا فيها روحيًا.
اذا انتقلنا الآن الى الحركة الانتخابيّة مستندين الى التأمّل الروحي الذي خضنا فيه يبدو لي اننا امام حفلة إغراء تستصغر الناخب. لماذا هذه الصورة؟ هل يظن الناخب ان جمال طلعته يؤثر في المواطن؟ أليس يخزي إقدام الناخب على عمل الانتخاب منطلقا من هذا الإغراء؟
ثم هناك ما ليس بإغراء وهو كتابة الشعارات تحت الصورة وكأن الناخب غبي تأخذه عناوين ليس تحتها ذلك الجهد الفكري الذي نسمّيه برنامجا. في البرنامج شيء من احترام عقل المواطن وفيه نقل من العلاقة العاطفية الى العلاقة الموضوعيّة. هذا فكر يواجه فكرًا. والخروج من العلاقات الطائفيّة والعائليّة او القبليّة لا يقوم الا بتكسير فكري للانفعالات البدائية. هذا البرنامج يرفعك الى الحوار اي الى مسألة الحق. كنت أتوقع ان تكشف الأحزاب عندنا برنامجها وان تحكي عنه بشيء من الإسهاب، وعند اكتفائها بالعناوين تبدو لي ان عقيدتها ليست للصراع وكأنها ترف فكري وقوة دعاوة تكسب بها الأنصار.
# #
#
لا بد من المنافسة في كل متحد بشري فالحقيقة تخاصم، واذا لم يكن في الانتخابات مواجهة على أساس الاختلاف فلماذا تقدم عليها؟ اذا كنت موقنا ان الآخر أفضل منك في الدفاع عن نقاط وطنيّة لماذا تتقدّم؟ هل انت قادر ان ترى الآخر أفضل منك في موقعك وان تتمنع عن دخول معركة؟
نائبا، انت قربان. عند ذاك يعترف الأبرار بزعامتك او بمؤهلاتك للقيادة.
نحن في حاجة الى حملة تربويّة تغيّرنا كشعب وتؤهّلنا عند نجاحنا في امتحانات الفضيلة ان نبني دولة اذ ليس من دولة ممكنة بلا شعب بار. الشعوب تنشئ الدول وحكوماتها وليس العكس. انت لا تستطيع ان تصر على الاستقلال والأمة غير قادرة على تخطّي العائليّة والقبليّة والطائفيّة اي قوقعة الفرديّة والا كان هذا استقلالا شكليا، حقوقيا بلا مضمون خلقي. ثم ما هذه السيادة ولا قدرة لك ان تسود الشهوات الكبرى المدمّرة لكيانك الشخصي وكيانك المجتمعي اي تدمير الآخرين.
وهنا يحزنني ان الأديان عندنا تعمل القليل القليل على هذا الخط، لعلها تظن ان إحياء العبادات ينشئ آليا الأخلاق ولعلها تحسب ايضا ان شد الأواصر بين أعضائها هو ربط هؤلاء بالله. مفاعيل التوحيد الذي نؤمن به جميعا هو توحيد الإنسان بالإنسان بما عند كل واحد من قوة روحية وكرامة إلهية وصدق وصبر وطهارة وخدمة للناس جميعا وائتلاف يقوم على البرّ.
لبنان الجديد لم يظهر بعد. لا يستحق وجوده الا اذا جاء.
Continue reading