1963, لسان الحال, مقالات

تجربة الهروب / الأحد 4 آب 1963

الذين أحبّوا الحقيقة فوق كلّ شيء يُعانون الوجود معاناة قاسية، لأنّهم يريدون الناس مسلمين إليها، وأكثر الناس منافقون. ثمّ الذين لا يحقّقون، في الواقع، رغباتهم، وهم غرقى الرغبات، يتلقّون أيضًا من هذا الواقع الصدمات. أهلُ البِرّ وذوو الشهوات جميعًا أمام تجربة الهرب من الواقع في تحدّيه الأليم. ولذا نخشى المواجهة فتتضخّم أمامنا بشاعة الحياة.

في سعير هذا التصادم المستمرّ بيننا وبين البيئة، عند أهل البرّ وأهل الإثم، عبّر الهرب عن ذاته بما يمكن أن يُسمّى التسلية كائنةً ما كانت مراتبها وأنواعها. فالتكالب على الدنيا وعلى الجسد تسلية. والاستغراق في التأمّل النظريّ، الذي لا يُنتج فعلاً روحيًّا، تسلية. فلأنّي لا أريد أن أجعل بيني وبين الآخر علاقة إنسانيّة تقوم على الحوار والتعاطف، لأنّي لا أقتبله كما هو ولا أمارس المحبّة فينغلق عليّ الوجود، فأنا في اضطراب دائم أحيد عنه بالتسلية. وبالنهاية، مَن حلّ كلّ مشاكله الإنسانيّة العميقة، لا يحتاج إلى تسلية.

ومن أعرض عن ملذّات الدنيا، بسبب من عقيدة، وخشي المواجهة الإنسانيّة، أو كان صريع الأشرار فلم يصمد أمام مقاومتهم، مَن اضطرب من كلّ شرّ ولم ينل نعمة الصبر، هذا أيضًا في هروب. والغضب وجهٌ من وجوه هذا الهرب. إنّنا به نغطّي عجزنا عن حلّ مشكلة أو مقابلة ذهن آخر. ولذلك يهرب الصراعيّون، إذا تلقّوا الإخفاق، إلى مختلف ألوان الفنّ أو إلى طريقة أخرى في النضال ليس فيها مواجهة للحقائق، وهي، تاليًا، طريقة نضاليّة كاذبة. وهذا، أيضًا، في النهاية تسلية.

العزلة في هذا المعنى هروب، إنّ كلّ إنسان ضروريّ في هذه المحادثة العامّة الجارية بين الناس والتي نسمّيها الحياة الاجتماعيّة أو الحضارة أو التاريخ. وليست المشكلة في شكل الحياة التي نتّخذ. فالثرثارون المنطرحون في كلّ الحفلات أقلُّ الناس نفعًا في الحوار البشريّ، لأنّهم في فراغ. والراهب الصامت، الذي ينحت حياته قداسة وفعلاً، لأكثرهم حضورًا في المحادثة الإنسانيّة الكبرى.

أن أبقى خيرًا دون أن يتغيّر الواقع، أن أتوقّع السيّئة من كلّ إنسان ولا أحجب عنه محبّتي، أن «أسكب حولي العطور والأغاني» وأنا أعاني في هذا الوجود مريره، ألاّ أتخلّى عن أحد لحظة، ولو اكفهرّت الدنيا في عينيّ وخنقني دخان ظلامها، أن أحيا صادقًا وسط الدجل العميم، هذا عطائي للوجود. في هذا كلّه، قد أتوكّأ على قلّة كريمة، ولكنّي، بالنهاية، وحدي في أداء الشهادة. ومع ذلك، وعلى الرغم من وحدتي، أنا مقرُّ الألوهة.

Continue reading