Monthly Archives
بوركت هذه الأبرشية يوم الثلاثاء في الـ14 من آذار بزيارة السيد أنستاسيوس (يانولاتوس) رئيس اساقفة ألبانيا لها. اجل، أتت في سياق زيارة غبطته للكرسي الأنطاكي. غير ان غبطة السيد أنستاسيوس أكرمَ وخصّصَ لنا هذا اليوم حسب قلبه وحسب نشأته الاولى.
لعل سرّه انه يجيء من أخوية «الحياة» التي كانت نفحة التجدد الروحي منذ مفصل القرنين الماضيين. إحياء الناس بالكلمة المحيية مقتبَسة من الإنجيل ومبشرا به بكل وسائل التبليغ. والأخوية هذه، بعناصرها الفتيّة، انعطفت على حركات الشباب في اليونان. وهكذا عرفنا الرجل. رؤيته كنيسة الغد في انبعاثها وانفتاحها كانت رؤيتنا. وهذا ما جعله رسولا كبيرا وأسقفا كبيرا. ما من شك ان تعليمه في الجامعة ساعده على توضيح فكره ودعمه ولاسيما انه كان أستاذ الأديان بما فيها الإسلام. ولكن الروح الذي فيه هو الذي سيَّر الكنيسة الألبانية في السنوات التسع الأخيرة.
لقد نهض بكنيسة ألبانيا من صحراء كاملة (لا عمران، لا كنيسة واحدة) إلى وجودٍ لها ظاهر، فاعل. اتكأ على الايمان المحفوظ في الصدور اثناء اضطهاد ليس مثله في الفتك، اضطهاد محا كل معالم المسيحية ولم يفعل مثله نظام شبيه. تحدّى كل ذلك ولم يكن في يديه فلس، وكشف للعالم اجمع ان اهل المعرفة قادرون بقوة الروح وبعض الفطنة ان يقوموا هم ايضا بالعمران.
كل الذين استقبلوه أحسّوا بأن النعمة منسكبة على شفتيه وانها هي التي تبديه رئيس كهنة عظيما. وطئ ارضنا في دير سيدة كفتون. ولعل اهم ما شاهدنا فيه -وهذا في كل مَعْلَم من معالمنا- دخوله الى الهيكل وجثوه عند المائدة التي كان يلامس كل مرة بهامته كأنه يتكوّن منها. كانت هديّتنا اليه ايقونة القديس يوسف الدمشقي لنقول له ان وحدتنا في كل الكنائس هي وحدة الشهادة واننا متنا هنا لتحيا الأجيال بمن مات حبّا. وأخذ يشرح لنا كيف تمّت محاولة القضاء على المسيح في بلاده، ولكنه انبعث من تحت أنقاض التاريخ البشع لتُجدِّد ارثوذكسية ألبانيا شبابها كالنسر.
تناولنا طعام الغداء في دير سيدة النورية. فكانت له مشاهدة سريعة في الديرين لخبرة الرهبانية عندنا اذ جمعنا حوله رؤساء الأديرة كلها مع إخوة لهم. بعد الظهر زرنا بعض قرى الجبل المهجّر، وهناك رأى ان ما ذقناه من اوجاع شبيه بما ذاقه ابناؤه. في كل من البحمدونين والمنصورية وعاليه احتفى به المؤمنون. صلّى وأَنشدْنا وخَطَب فينا. لم يقل مرة: «بنيتُ وأسستُ» وما إلى ذلك. كان ينسب كل شيء إلى النعمة الإلهية.
كان لي فيما كنت أرافقه ان أعرف حكمته في الرعاية ومواجهته للصعاب. كنا أطلعناكم في «رعيتي» عن اهتمامه بالألبان المسلمين المهجَّرين من كوسوفو إلى ألبانيا. كنيسة فقيرة مثل كنيسته تجمع مالا من الدنيا لتحتضن مشردين ليسوا على ديانتها وليست على اليسر الذي يؤهلها للإحسان. مع ذلك كان المسيح يريد منا المشاركة.
آخر المطاف كان زيارة غبطته لكنيسة السيدة في منصورية المتن. كانت صلاة النوم الكبرى قد انتهت وكان الرجل متعبا للغاية. دخل دخول الملوك في جمهور من المصلّين أتوا من البلدة والقرى المجاورة. أَحسستُ ان الحماسة هنا قد ارتفعت والخشوع كان باديا. جوقة الأبرشية رأت انه يحلو ان تنشد «المسيح قام» فأنشدنا، ورتل هو ورفقاؤه طروبارية الفصح بلغتهم.
بعد العشاء وقفنا ولم نغادر الترتيل الفصحي، وهكذا بلا تحليل قفزنا الى الفصح لنقول لأنفسنا وللآخرين ان المؤمنين يستجيبون بعضهم لبعض بحب ذاك الذي قام من بين الأموات، وانهم يريدون فصحه الأبدي قيامة لكل الكنيسة.
Continue reading120 سنة من حرب ملوك بيزنطية على الايقونات انتهت بتكريم الكنيسة للأيقونة في 11 آذار سنة 843 الذي وقع آنذاك في الأحد الاول من الصوم. وكانت الكنيسة المقدسة رأت أنّ تكريم الايقونة قائم على ايماننا بالتجسُّد، وذلك في مجمع نيقية الثاني المنعقد سنة 787. غير ان الاضطهاد لم ينته الا في الأحد الاول من صيام سنة 843.
لماذا سُمّي هذا الأحد أحد استقامة الرأي؟ لأن الكنيسة اعتبرت ان تكريم الايقونة ختم او دمغة للعقائد السابقة. هو تبيان ايمانك بالتجسّد الإلهي، والتجسّد مؤسَّس على ايمانك بالثالوث. لذلك اذا طفنا بالايقونات في آخر السَحَرية وأكرمناها بالانحناء نعلن قبولنا الايمان المسيحي كله.
كذلك عندنا (على رغم الإهمال الحالي) في نهاية السَحَر قراءة ما يسمّى الـ«سينوذيكون» وفحواه إعلان الحرْم على أصحاب البِدَع التي دحضَتْها الكنيسة الارثوذكسية وتعظيم القديسين المناضلين عن الإيمان. الشعب الارثوذكسي في العالم جعل افتخاره بإيمانه القويم، ومِن أجْله مات الشهداء في كل جيل. وأن يصوم جسدك عن طعام ما هو الا رمز لصيام نفسك عن الشهوات وصوم عقلك عن الخطأ ضد الايمان وأن يتلفّظ لسانك بالعقيدة السليمة. هناك تَماسُك كامل بين العقل والقلب والجسد، فما من منفعة لإمساكٍ عن طعام اذا لم يكن كلامك في الله ومسيحه والكنيسة كلاما صحيحا. وقناعتنا نحن انك لن تبلغ صحة التفكير في الأمور الروحية ما لم تتنزّه عن الشهوات، وعلى قدر ما تتحرر منها ينحو عقلك نحو إيمان صحيح. وقد دلّت معرفتنا للهرطقات انها تنبع من الكبرياء ومن عقل لم يخضع لتجلّيات المسيح. فلئلا يظن المؤمن أن جهاده ينتهي على صعيد الأطعمة، بات يعرف أن الجهاد الأكبر هو الايمان المستقيم. ولذلك كان من الغلط الشديد ان نقول ان الفرق بين الناس هو فقط الفرق بين الأبرار والأشرار. عندنا ان الايمان الصحيح جزء اساسي من البر. انت تَخْلُص بالايمان اولاً. فكما ان «الإيمان بلا اعمال ميت هو»، كذلك الأعمال بلا إيمان باطلة وغير مفيدة. اعمال مرتبطة بالمجد الباطل والدعاية السياسية مثلا تكون ضد الايمان ومدمّرة لصاحبها.
مع ذلك هناك من سمّيناهم هراطقة، وأبانت الدراسات الحديثة انهم ليسوا كذلك. مَثَل على ذلك ذيوسقورس بطريرك الاسكندرية الذي حرمه المجمع الرابع. تَبيّن الآن ان الحرم سببه تخلُّف هذا البطريرك عن حضور المجمع وليس لنكرانه عقيدة في الايمان. النية طبعا كانت نية المحافظة على الإيمان وليس التنكُّر لأشخاص. فاذا ثَبتَ نهائيا ان الرجل غير مخطئ في العقيدة وان أتباعه (السريان والأقباط) هم تاليا غير مخطئين، يكونون ارثوذكسيين حقا، وينبغي ان نرفع الحرمات عنهم وعن آبائهم. هذا هو اتجاه كبير عندنا اليوم. ولكن المجامع الارثوذكسية ينبغي ان تقول هذا رسميا لتحقيق الوحدة الكنسية بيننا.
لقد وعت الكنيسة الأنطاكية هذا قبل غيرها من الكنائس لمّا قررت خدمة إخوتنا السريان بعد الحرب العالمية الاولى في الأماكن التي لم يكن لهم كنائس فيها وقَدّمت لهم خدمة الأسرار المقدسة. وبسبب اقتناعنا بأرثوذكسية تعليمهم واقتناعهم هم بأرثوذكسيتنا، قررنا معا -وبانتظار حلول عالمية- أن نقدّم لهم جسد الرب اذا لم يجدوا كاهنا منهم او كنيسة لهم، وهم فعلوا ذلك بالتبادل. وكذلك قررنا المشاركة في الإكليل والمأتم اذا اقتضت الحاجة.
بصورة او بأخرى في كل الصيام نعلن تعلُّقنا بهذه العقيدة او تلك شرطا لرؤيتنا القيامة.
Continue readingالذين لا يفهمون الصوم يبرّرون أنفسهم بتعييرنا لماذا نُمسك عن طعام ولا نمسك عن الرذائل، كأنهم لا يرتكبونها، وكأننا وحدنا نرتكبها. نحن لا نباشر الصيام بالحزن الا اذا أردنا بذلك الحزن على خطايانا. ولذلك نقول في غروب هذا اليوم (اي الأحد مساء): «لنبدأنّ اوان الصيام بحبور». نحن طلاب فرح لأن كل همّنا في هذه الحقبة ان ننتظر الفصح وان نتذوقه خلال ايام منوّرة. ونؤكد أن صومنا عن الأطعمة يرافقه صومنا عن الأهواء اي عن حوافز الشهوة. نحن لسنا في سعي إلى تحسين صحتنا ولو نَفَعَ الامتناع عن اللحم. نحن في طريقنا إلى رؤية النور يوم القيامة. ولذلك قلنا عند الغروب بالتضاد مع الظلام: «قد أشرقت استنارة نفوسنا».
هذا مؤسَّس على رسالة القداس (رومية 13: 11-14: 4): «ان خلاصنا الآن اقرب مما كان حين آمنّا. قد تناهى الليل واقتربَ النهار». نحن اذًا في شوق إلى القيامة واستباقها في الروح. نور المسيح آتٍ. يستنتج منه الرسول انه يجب ان نسلك «سلوكا لائقا كما في النهار» ويذكر بعض الخطايا التي تُناقض النور. ثم يقول: «البسوا الرب يسوع» اي التصقوا به كالتصاق الثوب بالجسد. واذا صرتم هكذا «لا تهتموا بأجسادكم لقضاء شهواتها» فإنها تطفئ النور فيكم.
ثم يأتي انجيل اليوم (متى 6: 14-21) ليدعونا إلى الغفران: «إنْ لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم ايضا لا يغفر لكم زلاتكم». هذا يبيّن لنا ان الصيام ليس فترة لنقيم فرديا علاقة بالرب ولكن علاقة بالبشر ايضا. التطهُّر الداخلي هذا هو المبتغى. ولذلك يقول: «لا تَكنزوا لكم كنوزا على الأرض». حرب شرسة مع الأنا النهمة، المتضخّمة، المنغلقة تاليا على الله والإخوة.
روحية الغفران المتبادل جعلت الكنائس السلافيّة تُسمّي هذا الأحد احد الغفران. وفي الارثوذكسية جمعاء، عند نهاية الغروب، ينحني الكاهن امام المؤمنين جميعا وينحني امامه كل مؤمن حتى الأرض ويقبّله. ثم يجثو كل مؤمن امام الآخر ويتشكل هكذا صَفٌّ بحيث يكون كل واحد قبّل كل الحضور. وفي هذا السجود العميم يرتل الروس قِطَعا من عيد الفصح. في فلسطين، في شهادة لصفرونيوس اسقف اورشليم، يجتمع الرهبان في كنيسة الدير ويستغفرون الرئيس وبعضهم بعضا بالقبلة وينطلقون إلى البراري كل منهم وحده (طبعا يعودون مساء السبت من اجل مناولة يوم الأحد). ويردّدون الاستغفار في مساء كل احد، وهذا وارد في طقوسنا حتى اليوم. كل هذا يؤكد ان صياما بلا محبة الإخوة عقيم. ولهذا كان الكهنة في بلادنا حتى الأمس القريب يسألون المعترف اذا كان في حالة المصالحة مع كل الناس شرطا لتناوله في اسبوع الآلام. هذا المعنى نجده في آخر سَحَرية الفصح: «اليومَ يومُ القيامة فسبيلنا ان نتلألأ بالموسم، ونصافِح بعضُنا بعضا ولنقُلْ يا إخوة» (اي نُقبّل بعضُنا بعضا ونعتبر الكل إخوة). بدء الصيام ونهايته في اعتبار الآخر أخا.
من هنا ان المؤمنين الراسخين يهنئون بعضهم بعضا عند حلول الصيام كما في انتهائه. أنت تَعْرض غفرانك. مَن قَبِلَه وغفر بدوره يكون قد دخل في الصيام مباركا وإلا كان صومه مجرد نظام طعاميّ تافه. من بعد أن حلّت محبة الله فينا بتجسُّد الابن لا يبقى لنا غير سر الصعود.
Continue readingهذا اسم آخر لأحد مرفع اللحم الذي نحن فيه اليوم. يتبع منطقيا ذكرى سبت الأموات لأن تجمُّع الأحياء والأموات يمهّد لذكر الدينونة. يكمل فكرة العدل والرحمة الظاهرة في أحد الابن الشاطر، ويُبرز الاستعداد الروحي لصوم الجسد (كنتُ جائعا فأطعمتموني). يحث على التوبة لأن اليوم مطلوبة منا التوبة «قبل الانقضاء». نَستبِقُ النهاية ونسترضي الله قبل الدينونة العظيمة.
ويؤكد القديسون أن الديّان العظيم لا يسألنا عن الأصوام ولكن عن حالتنا الداخلية. «ويحٌ لكِ أيتها النفس المدلهمّة؛ إلامَ لا تنقطعين عن فعل الرذائل؟ حتّامَ تضطجعين بالتواني؟ لم لا تتفطّنين في ساعة الموت المخيفة؟ لم لا ترتعدين بجملتك من منبر المخلّص الرهيب…». المطلوب إذًا الصوم الروحي. رهبة كبيرة: «ها يوم الرب الضابط الكل يوافي، فمَن يحتمل خوف حضوره». رهبة لأننا جميعنا عراة لدى الحاكم العادل. إزاء ذلك التذكير بنصيب الصدّيقين (إذا صرنا منهم) فإنهم «إلى الخدر السماوي بفرح وابتهاج يَدخلون». المطلوب الانتباه قبل الانقضاء. مع ذلك رجاؤنا أن الله متحنن إن عدنا إليه. هذا يعطينا سرورا بالمسيح الإله القائم من بين الأموات. هذا الأحد إذًا ذِكْرُ الرهبة لا يُهمل قيامة المسيح المعزّية.
ليس فقط في هذا اليوم، ولكن في كل يوم من الصيام، نتذكّر الدينونة. الزمان العادي الذي نعيشه «ليل» تسوده الخطيئة، ولكن في النسك يتراءى نور المسيح «شمس العدل». ننتظر القيامة ونَستبِقُها. كل شيء سيذوب في الحب الإلهي. يشترك فيه الأبرار وتحترق فيه الخطيئة. في المحاكمة لا يستطيع أحد أن يُخفي خطيئته. الحقيقة الإلهية الساطعة توبّخنا. وبهذا قال إسحق السرياني: «كل من كان في جهنم تجلده المحبة الإلهية… إذ المحبة تعمل بطريقتين مختلفتين. إنها إياها ألم في المغضوب عليهم، وفرح في المغبوطين». الذين صنعوا الخير يفرحون بانتظار المكافأة. أما الخطأة فيصرخون من انتظارهم العقاب وانفصالهم عن المختارين.
لذلك ركز هذا الأحد على أن العقاب قريب مِن الذين لم يتوبوا. نار جهنم هي احتراقنا بالشهوات التي لا يطفئ سعيرَها شيء. الإنسان هو الذي يواجه نار الجحيم بخطاياه. فلَسنا في الحقيقة مَرميّين في نار بعيدة عنا ولكن في نارٍ فينا. جهنم النار ما هي إلا إفصاح ظاهر عن رفضنا للمحبة الإلهية. «إذا كنتُ محاطا بكلام الخطيئة فأنا حقًا في جحيم الناس».
ومع كون الخاطئ يستحق العقاب، لا ييأس من الرحمة الإلهية. ولهذا يرجو قبل الانقضاء أن يغفر له الرب بالفضيلة والتوبة.
الخاطئ قبل أن تغلق عليه أبواب الخدر السماوي ينبغي أن يسلك الطريق الوحيد للخلاص وهو التروّض الروحي بالبكاء والقيام بأعمال الرحمة. هتافه إلى الرب: «قبل النهاية خلِّصْني يارب لئلا أَهلك»، «يا نفس، يا نفس قومي…النهاية تقترب». يجب أن يَستبِقَ الخاطئ الدينونة إذا حَكَم هو على نفسه. إن ماء الدموع قادر أن يطفئ نار جهنم.
رؤيتنا للمصلوب قادرة وحدها أن تجعلنا نذرف الدموع. جهد الإنسان أن يجعل المسيح ينزل إلى جحيم النفس الآن ليقوم مع المسيح إذا استأصل في نفسه الشهوات. يحرق هنا ملذات الجسد قبل أن تحرقه النار في اليوم الأخير. هذه هي المعمودية الحقيقية التي نتعمّد فيها بالنار الإلهية والروح الإلهي.
ولهذا شدد الآباء على ضرورة تَذكُّرنا الموت، على رؤية المرء نفسَه ترابا. فليَدْعُ اسم يسوع إزاء ذلك ويتّضع. هذا هو السهر الروحي الذي يجعلنا في الأسبوع العظيم نتهيأ لخدمة الخَتَن أي العريس الإلهي. ولكن لا عرس لنا مع المسيح إلا بالنقاوة.
Continue readingفي كلام الانجيل عن الدينونة شيئان يلفتان: أولاً اننا ندان على مقدار الحب الذي بذلنا وثانياً ندان على المواهب اذا استغللناها لانه يجب ان تنسكب للناس لتصير قربانا لله ولأنه يجب ان نثرى ونجمل في ما الرب أغدق علينا ولا نطمر الوزنات كعبيد كسالى. أما في ما يتعلق بالحديث الذي تذكر فيه الدينونة اسما فيعجب المرء ان الرب لا يسائلنا عن صلاة أديناها او صيام قمنا به ولا يأتي على ذكر الوصايا العشر ولكن على المحبة ان مورست. وليس ذلك لكون الفكر الانجيلي يهمل الشريعة الموسوية القديمة ولكنه يرى ان المحبة كمالها الوصايا العشر ايضاح تعبير عن رؤية لله في القلب وعن رؤيتنا للانسان في الله. ومن لم يبلغ هذا يحتاج الى تدريب الوصية والقانون.
العهد الجديد لا يلغي موسى. يتجاوزه. يأخذنا الى العمق. ويريدنا ان نخرج من العمق لنتعاطى الصيام. وقبل ان نتعاطى الصيام شاءت الكنيسة ان تضعنا امام الرؤية الكبرى وهي ان الله في الانسان الآخر وانه يستحيل عليك ان ترى وجه الله الا اذا رأيته في وجه بشري مدمى او جسد جائع او نفس طريحة في وحشتها. الله لا صلة لنا به الا هنا ليس من خلال الناس ولكن في الناس. واذا قال يسوع: “لا أحد يأتي الى الآب الا بي” فإنما لا يكتفي باعتبار نفسه الوسيط بين البشر وخالقهم ولكنه يوسع مدى كلامه ليعني ان أحدا لا يأتي الى الله الا اذا وجده في الانسان الآخر.
استعدادا للصيام الكبير نقرأ غدا انجيل الدينونة في متى ومطلعه: “كنت جائعا فأطعمتموني” وبعد هذا “كنت جائعا فلم تطعموني”. ليس من شيء آخر. في آخر الازمنة او في آخر مطاف الانسان الفرد يحاكم الله الانسان على قلبه. شيء في الاخير سيحدث وهو ان الله يدين سرائر الناس. معنى هذا ان الله لكونه الحقيقة فاضح الانسان، انك لا تستطيع ان تمازح الله. انت يمكنك ان تكون مهرجا هنا او مخادعا او متذاكيا وتركّب كل تبرير يغطيك وتتلاعب بين ميدان الابليسية وميدان الألوهة وكلاهما فيك. لكنك لا تستطيع أن “تبلف” الله لا اليوم ولا غدا ولا تقدر -ان كنت قديسا عظيما- ان تتعاظم امامه لأن قداستك، اذ ذاك، تنهار وتعود قزما كما كنت قبل محاولة القداسة.
الأهمية في فكرة الدينونة ان الناس جميعا يمثلون صغارا في حضرة الرب، عراة لا يغطي عورتهم شيء ولا يحمل أحد في يمينه تذكرة دخول الى السماء لكن رب السماء يمد ذراعه من الداخل ليأخذهم في رحمته. ليس اننا نموت روحيا لو تباهينا بفضيلتنا ولكن “برنا امام الله كخرقة الطامث” كما يقول اشعياء. الله وحده يقرأنا ويقرأنا دائما قباحا ويرحضنا بماء حنوه لانه هكذا يروقه ثم يخلع علينا حلة النور لندخل الى النور.
الدينونة في اليوم الأخير واردة في صريح الأناجيل الاربعة وليس المجال لتجريدها من صورة الاله – القاضي. والله يقاضي شعبه ويصدر أحكاما يجب تنفيذها. هذا كله مرتبط بصورة الله الرهيب المعاقب والمثيب. والله يدين الانسانية بالنار كما يوضح اشعياء وذلك في ما يسمى يوم الرب. هذه هي صورة اليوم الآخر. غير ان امامنا صورة اخرى يتفرد بها انجيل يوحنا الذي يعلم ان الدينونة حاصلة اليوم. “هذه هي الدينونة ان النور قد جاء الى العالم وأحب الناس الظلمة على النور لان اعمالهم كانت شريرة” (يوحنا 19: 3). الدينونة حاصلة في القلب البشري خارجا عن المقولات القضائية. لقد دين العالم لانه قتل المسيح. العالم فضح نفسه بهذه الميتة. والمعنى الاخير للجريمة التي ارتكبتها البشرية على الجلجلة انها أصرت على ان تبيد ما كان الهيا فيها اي ان تقتل الحب. غير ان يسوع اعطى موته معنى انبعاث للبشر وتحقق المعنى بقيامته. وازاء نورها تندرج بالمسيح او ترفضه.
واذا كانت الدينونة، اساسا وفي عمقها، تجري في النفس البشرية وهنا، اذا كانت انكشاف النفس الحقيقي في حضرة الله وصدقه لا تكون جهنم سوى احتراق النفس بشهواتها. ما من نار الا فيك وما من سماء الا فيك. كذلك انت سماء للناس او جحيم لهم.
بسبب من اللدنية الالهية قال اسحق السرياني: “كل من كان في جهنم تجلده المحبة الالهية… اذ المحبة تعمل بطريقتين مختلفتين. انها اياها ألم في المغضوب عليهم وفرح في المغبوطين”. الله نفسه نور لبعض ونار لبعض وهو وحده المسكن اذا سكنت فيه واليه او انت المسكن اذا استقر هو فيك كما يقول يوحنا الحبيب.
غير ان إله الانجيل قال شيئا أعظم. “كنت جائعا فأطعمتموني”. هنا المسيح الذي يعتقد متى راوي هذا القول انه ابن الله جعل بينه وبين الفقير تماهيا وكذلك مع المريض والسجين ومن اليهما… عشراء يسوع صعاليك الارض. لكونهم اخوتهم نفوهم فباتوا في غربة صاروا أخوة يسوع. لقد حصرك المسيح حصرا محكما لما جعل اقترابك من المستضعفين منهم شرطا لاقترابك منه. ما يوجع يسوع ان المحتاجين غرباء.
ان قدرة الانسان على التكيف بأوضاع مزرية لمذهلة. قد يأكل قليلا جدا ويبيت في كوخ ويحتمل المرض لعجزه عن زيارة طبيب والدفع. ليس هذا هو الاكثر ايلاما ولكن ان يجعلك الميسور المستعلي تحس بدونيتك لانه يريدها ليثبت في شبق المال والسلطة هذا أشد وجعاً من العوز. في رقة بالغة يسمي الناصري هؤلاء: “اخوتي هؤلاء الصغار”.
ولكن في انجيل الدينونة يقول ما هو أبلغ. يقول: انهم هم اياه. “كنت جائعا”. لم يقل في موضع آخر عن شيء انه هو هذا الشيء. قال ما كان قريبا منه. قال: “الكلام الذي أكلمكم به هو نور وحياة”. لكنه لم “يقل: هذا الكلام هو انا بصورة اخرى” ولو عناها. وعن القربان قال: “هذا هو جسدي” ولم يقل هو انا ولو عناها. هنا يقول: هذا الفقير هو انا.
يبقى سؤال شرعي في فكر القرن التاسع عشر: ما نفع الاهتمام بالفقراء. المهم الغاء الفقر. هنا لا أناقش وسيلة الالغاء، الثورة مثلا او مكان الالغاء، الاقتصاد السياسي. والتنطح لذلك يبقى هاجسا نبيلا جدا ان أمكن. انا همي ان أحب الآن بوسائلي وفي محيطي لان الفقير محبوبي اهم مما انا أعطيه وانا أهم عنده من عطائي.
غير ان ما يعطى قليل لأن الحب قليل. وعندما لا أعطى انا المحتاج شيئا فأنا غير محبوب. انت لا تحسن الى الفقير. هو يحسن اليك ان أخذ. انت تخدمه على انه سيدك. من أبسط الاشياء الا تعرف يسارك ما فعلت يمينك لأنك تكون لم تحس ان المعوز تصدق عليك بأنه أعطاك فرصة حب. ولقد أحس بذلك يوحنا الذهبي الفم لما سمى العطاء للفقير “مذبح الأخ” معليا اياه على مذبح الكنيسة ولم يقدم تفسيرا على تفضيله هذا لكن الفكر الانجيلي يعلمنا ان العطاء الحق محك الصدق في علاقتك بالله. واجترىء على القول ان من أحب الاخوة حبا كبيرا لا يدان وذلك أسوة بالشهداء وهم عند معلمينا لا يدانون لأنهم أدركوا المحبة الكاملة.
كم يؤلمني ان أرى البخل عميما وذلك في ايام البحبوحة كما في أيام القحط. كم يصدمني أن ألاحظ ان الدين عند الكثيرين كلام وعند بعضهم ان “الكلمة صار جسدا” وفي سياقنا صار عطاء لنصبح جميعا المسيح بعضنا الى بعض وهكذا اذا أمسكنا عن طعام نفهم انه رياضة نثب بها الى اولئك الذين كتب علينا ان نجعلهم علينا ملوكا.
Continue reading