وجه / الأحد 23 شباط 1964
في يوم قريب من هذا، نطلق إنسان صديق إلى ما وراء حجب الدنيا للقاء الأكبر، كأنّه إلى موعد حبّ. ذهب في خفّة الحرّيّة ومهابة المواجهة كمن يلبيّ نداء، يدفعه توق غريب، وفي أعماقه كينونته أنّ مغامرة الأرض لا نشوة فيها ما لم تكن تذوّقًا لجمالات الخلود.
استهان الألم لا ترفّعًا، بل يقينًا منه ملازمه حتّى آخر شوط. لم يتساءل عن سبب تكثّفه فيه، ولعلّ ذلك كان خيرَ وجه من وجوه إيمانه. ما احتسب يومًا أنّ صبره قدرة، لكنه رأى، في انسياق العبر، أنّ الصمت من مقتضيات الكرامة وأنّه مطلّنا على الآفاق التي تتكلّم. فضيلة كهذه في ذروة مدارج صعاب. غير أنّ الصمت تفضحه البسمة. قد تحمل هذه السخر الشفوق أو رقّة في خفر. وفي كلّ حال، هي العالم الداخليّ منقوشًا على وجه لحوار.
حضرة كهذه لا تغيب أن كان من يستطيع أن يتقبل الصلة. هذه ما كان الجسد إلاّ ركيزتها. ما لنا وللمتوكّأ إذا سقط. هذا الحضور الآتي من بعيد ما زالت منه غير الترجمة. وعندما نلحُّ على شدّ المحسوس إلينا فنستميت لتحلّ المعجزة ولا يتفلّت الراحلون من نطاقنا، أفلسنا نريد لهم أحيانًا مصيرًا لم يرتضوه؟ أليست المحبّة أن نفسح لهم مجال ميعاد تمنّوه؟ وإذا كانت «المحبّة أقوى من الموت»، فنحن معهم على حقيقة الشركة.
الذين اتّخذوا الأبد محجّة لا يفرّق بينهم زمان الارتحال. يجمعهم المبتغى وفيه فقط يبلغون التلاقي الحقّ. فالنفس، إذا صفت بالفراق، زالت بينها وبين من استبقي الحواجز، وكأنّنا نحن أيضًا، على نحوٍ ما، ورثة لبلّوريتها. ندرك، إذا عرفنا ذلك، أنّ التركة التي لنا أغنى ممّا كنّا نظنّ وأنّ ما حسبناه انسلاخًا ما كان سوى وضع آخر من أوضاع الوجود.
الجوهريّ تنقله العبادة أكلمةً كانت أم لحنًا أم مخطوطًا. ولكنّا، في الأساس، نشتاق ما كان التجسيد محاولة للتعريف عنه. من عاش العلاقة البشريّة هكذا، كان يقول بالخلود عنده من مستلزمات هذا العيش. من خبرة الموت نشرف على الوجه الأرضيّ من كياننا وعلى الوجه ذاك. منها نعرف الذي كان في من تولّى فريدًا، ذاك الذي يعلو العابرات والتقطنا عنه صورًا لا تُستعاد. نفهم، عند ذلك، أنّ هذه الشعلة ليست إلى انطفاء، وما كان الغلاف الجسديّ سوى زجاجة المصباح. المذهب، الذي يحتاج إلى الحجّة، ليس القول بالبقاء.
Continue reading