Category

2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

أحد النسبة/ 24 كانون الاول 2000/ العدد 52

رسالة اليوم (عبرانيين 11: 9-10 و 32-40) تذكر بعضا من الأبرار الذين سبقوا المسيح. مع ذلك «لم ينالوا الموعد لأن الله سبق فنظر لنا شيئا افضل أنْ لا يَكْمُلوا بدوننا» اي أن لا يكملوا بدون المسيح. في الإنجيل (متى 1: 1-25) يذكر متى لائحة من الرجال الأبرار منذ ابراهيم كانت قوة حياتهم انهم رجوا ظهور المخلّص. قبل ان يتكلم متى على مولد السيد، أراد ان يؤكد انه ابن داود اي ليوحي من مطلع الإنجيل ان يسوع هو المسيح. عبارة «ابن داود» تعني ان الشخص الذي يكتب متى نَسَبَه هو ذاته المسيح. غير ان الإنجيلي لا يقف عند داود، ولكنه يذهب في التاريخ إلى ابراهيم الذي «بنسله» (اي المسيح) تتبارك جميع قبائل الأرض.

          لماذا يضع متى لائحة بهذه الأسماء الوارد معظمها في العهد القديم؟ الجواب انه اراد ان يقول ان السيد في طبيعته البشرية هو خلاصة شعب الله او نهايته بمعنى انه وريث المواعد، انه منتهى الوعد الإلهي وان الحياة الجديدة تبدأ به وتذهب إلى جميع الأمم التي ستتتلمذ على الرسل وتتعمّد باسم الآب والابن والروح القدس (كما ورد في نهاية متى).

          لماذا قال متى: «فكل الأجيال من ابراهيم إلى داود 14 جيلا، ومن داود إلى جلاء بابل 14 جيلا، ومن جلاء بابل إلى المسيح 14 جيلاً»؟ اقترح المفسرون شروحًا عدة. الشرح الذي يبدو لي قويا، بناء على عِلْم الجُمَّل، الذي يعرفه العرب كما عرفه العبرانيون، أن 14 هي مجموع القيمة العددية المنسوبة إلى الأحرف الثلاثة المركَّب منها اسم داود في العبرية والتي تُكتب بدون الألف فتجيء هكذا: د=4 و و=6 والدال الأخيرة 4، فيكون المجموع 14، ويَنسحب هذا على الحقبة الثانية من داود إلى الجلاء والحقبة الثالثة من الجلاء إلى المسيح. كل ذلك لتأكيد ان المسيح ابن داود.

          لماذا هذا الاهتمام عند متى؟ ذلك انه كتب «للمؤمنين الذين من أصل يهودي» ومنهم عدد كبير من كهنة الهيكل الذين اعتنقوا المسيحية. كل ذلك ليثبتهم في الإيمان ان يسوع هو المسيح.

          في اللائحة يسوع منسوب إلى يوسف وعندنا آباؤه. لماذا النَسَب إلى يوسف وليس إلى مريم؟ لأن الولد العبراني منسوب إلى أبيه (وهنا المظنون أباه) ولا يجوز ان يُنسب إلى امه. غير ان مريم هي من هذا النسل فيكون يسوع هو بها ابن داود.

          ماذا يعني قول متى: «لمّا خُطبت مريم امه ليوسف، وُجِدَتْ مِن قَبْل ان يجتمعا حبلى من الروح القدس»؟ نظام الزواج عند اليهود أن الخطبة هي الزواج الشرعي، والزفاف هو الزواج الفعلي المنفّذ. مريم قبل انتقالها إلى بيت يوسف كانت زوجته حسب الشريعة ولم تكن زوجته في لقاء جسدي. في آخر القراءة من بعد ظهور الملاك ليوسف وبعد ان وضع الملاك حدا لارتباك يوسف، «اخذ امرأته» اي قام بحفلة الزفاف وأسكنها معه.

          «ولم يَعْرفها حتى وَلدَت ابنَها البِكْر» اي لم يعرفها قبل ولادتها ابنها البكر. استعماله كلمة «بِكْر» لا يُفيد بحد نفسه أنها أنجبت اولادًا آخرين. غير ان متى لا يتعرض لهذه المسألة، لا يقول انها أنجبت بعد هذا ولا يقول العكس. لا يهتم للأمر لأن همّه ان يثبت الميلاد البتولي ليسوع. ولكن دوام البتولية اعتقاد شاع في الكنيسة الاولى وثبته لنا المجمع المسكوني الخامس وقال به آباؤنا جميعا وتقول به طقوسنا كلها. ايماننا هذا بها جاء من التراث المتواصل. اما عبارة «إخوة يسوع» الذين نَعْرفهم بأسمائهم من الإنجيل فتدلّ على أنسباء ليسوع يقول تقليدنا الشرقي انهم ابناء ليوسف من زواج له سابق ولا سيما ان كلمة «أخ» في اللغة العبرية لا تعني حصرا المولود لك من ابيك أو امك، وتشمل الأنسباء والقريبين.

          انجيل اليوم يؤكد في ما يؤكده شيئين ان مريم كانت عذراء عند الميلاد وهذا بناء على نبوءة اشعياء في الإصحاح السابع، وان يسوع هو عمانوئيل أي «الله معنا». الله صار معنا بإرسال ابنه الوحيد. الله صار قريبا لنا ونحن منسوبون إلى ابنه. ونحن به نسير إلى القداسة بحسب قول يوحنا: «اما النعمة والحق فبيسوع المسيح حصلا». نحن بالابن الوحيد صرنا اولاد الله.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

قرى الجبل/ 17 كانون الأول 2000/ العدد 51

لست أعلم إذا كانت كل قرى العالم مصابة بالانقسامات مثل قرى جبل لبنان، ولست اعلم إذا كان الانشقاق ظاهرة ملازمة لوجود القرية. ولكن المعروف تاريخيا عندنا ان التفسخ قائم منذ ظهور الحزب القيسي والحزب اليمني، ثم اتخذ ألوانا مختلفة بنشوء الأحزاب العقائدية. ولكن هذه الأحزاب تزاوجت في القرى أحيانًا بالانقسامات العائلية فكانت هذه هي الحقيقة الراهنة وكان الحزب طلاء أو قشرة.

          الضيعة في لبنان مجتمع متراص على رغم اختلافاته، وإذا دخله غريب يبقى ضيفا محبوبا ولكن لا قرار الا للعائلات الموجودة منذ الأزل. هناك أسباب مختلفة للتوتر. عندك أحيانا بيوتات كثيرة العدد لا تفسح في المجال للبيوت الصغرى للمشاركة في مسؤولية الأوقاف أو تشكيل مجلس الرعية. يقولون هكذا اصطلحوا أو اعتادوا أو ورثوا. فهناك العريق وهناك الأقل عراقة، وبكلام آخر بيت زعامة قديمة أو جديدة أو بيوت. وأنت عليك ان تنصاع لكونك من عامة الشعب. ولا تخولك شهادة جامعية أو ذكاء ألمعي ألاّ تصطف. كيف جاءت العراقة، هل هي مدعومة بصفات أخلاقية عالية أو غنى؟ الأمور هي هكذا منزلة من السماء.

          هذا لا يمنع التزاوج وتبادل الزيارات وعاطفة تكون صادقة أحيانا ويقل الصدق إذا تجابهت المصالح في انتخاب مجلس بلدي أو مختار. هذا هو الموروث المقدس، وحرام ان تمس الموروث. وتلتصق بهذا السياسة المحلية الأوسع من القرية. الاختلاف، إذ ذاك، يكون حول النيابة. لأي سبب وطني، لأي برنامج، لأية فكرة إصلاحية أنت لهذا المرشح أو ذاك، فهذه مصيبة الوطن كله.

          يحمل الأرثوذكسي هذا من نفسه ويوليه أهمية كبرى إلى درجة الزعل والجفاء. ويحمل هذه الأشياء الدنيوية هذا أو ذاك ويأتي بها إلى الكنيسة فلا يكون -لو كان البحث صافيا- سبب اختلاف. قد يقتنع بصواب الرأي الذي قال به آخر، ولكنه يقاومه لمجرد ان هذا الآخر أتى به. وتكون النتيجة ان المشاريع تتعرقل أو تؤجل، وتظهر أكثرية قاهرة وأقلية مقهورة، ولن أطيل الوصف لأنه محزن. وبدل ان نحيا بالتعاضد ونقوم بالعمل كإخوة، نتحارب، وسبب الموقف الذي نتخذه ليس هذا الذي نقوله ولكنه سبب مضمر، كامن في العائلية أو التحزب المحلي أو التصادم السياسي الكبير. نبني كنيسة مثلا، وتلاحم حجارتها لا يأتي صورة عن تلاحم القلوب، ونبخل بمعاش الكاهن ليس لأنه لا يستحق ولكن لأن «الخصم» تقدم بالاقتراح.

          إزاء هذا الداء المتفشي قال بولس الرسول: «اطلب إليكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح ان تقولوا جميعكم قولا واحدا ولا يكون بينكم انشقاقات بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد. لأني أُخبرتُ عنكم يا إخوتي من أهل خلُوي ان بينكم خصومات»، حتى يصل إلى القول: «هل انقسم المسيح؟» (1كورنثوس 1: 10- 13).

          شعور بولس ان كنيسة كورنثوس بانقساماتها تصرفت وكأن المسيح مقسوم. فإنها هي المسيح حالاّ في شعبه أو ممدودا في شعبه.

          ما أحزن الرسول يحزنني كل يوم، فتأتي رعايتي في أماكن كثيرة ترقيعا مؤقتا عوضا عن ان تأتي بلسما للجراح. ماذا عملنا بقول السيد: «أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحبتكم»؟ واشعروا أنكم أغصان متشاركة في جذع الكرمة الواحدة. السؤال الحقيقي: هل نحن كنيسة واحدة في القرية أم شرذمة بشر؟

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

بعض آداب الجنازة/ 10 كانون الاول 2000/العدد 50

هناك تصرف مسيحي عند موت عزيز من خشوع وصمت ودعاء عميق. اليوم لن اقول شيئا في هذا. ولكني اود ان ألفتكم إلى ما هو أبسط، إلى أمور تتعلق بي وبكم. أعود إلى حديث حضوري مآتمكم. كشفت لكم غير مرة اني غير توّاق إلى ان أرئس جنازات، وقد تتكاثر في اسبوع واحد أو يوم واحد، ويجب التوفيق بين الاوقات. ولكن الأهم من ذلك ان كاهن رعيتكم كافٍ لإقامتها، وفي هذا راحة للجميع.

          واذا كان تحديد الوقت شيئا هاما، فرجائي اليكم ان تسألوني عن الموعد الذي يناسبني. فقد تحددون وقتا أكون فيه منشغلا بواجب آخر وقد لا أصل بسبب المسافات في ابرشيتنا. وفي المنطق نفسه قداس الأربعين أو السنة لا بد من تحديد تاريخه بالاتفاق معي اياما كثيرة قبل موعده.

          اتمنى ان نكون بسطاء في التعامل. فقد أَعتذر مثلا عن حضور اكليل في آخر لحظة إمّا لتعب شديد أو لانشغالٍ طارئ، فقد يستدعيني واجب كنسي كبير أو ينتدبني السيد البطريرك في مهمة أو لأي سبب ليس من حقكم عليّ ان تعرفوه. هذا ليس إهمالا لكم. ما من راعٍ يحب إهمال خرافه. ظروف الرعاية تملي علي احيانا ان أغيب عن «أفراحكم أو أتراحكم». اتركوا الأمر لتقديري.

          إلى جانب ذلك هناك تصرفات أَعتبرها في غاية الإزعاج. ففي طريقي إلى بيت المتوفى ارى في ساحة البيت صفوفا من الرجال والنساء جالسين، واذا مر الكاهن أو المطران يظلون على كراسيهم قاعدين. الكنيسة جماعة بشر عندها أب. لو كان هؤلاء يحسّون ان عندهم أبا روحيا لوقفوا. العلاقة اذًا ليس فيها دفء أو ليس من علاقة.

          في كثرة من الأحيان، عند نهاية المأتم، عندما أَنزل لتعزية اهل الميت يقف الرجال ولا تقف النساء. انا لا أَقدر ان أصافح انسانا جالسا الا اذا كان مسنا أو مريضا. يخطر في بالي ان النسوة تَعلّمن من الإفرنج الا يقفن. هذا لا ينطبق على تعاملهن مع الإكليريكي. فقد ورد في كتب التهذيب المقروءة عند الاوربين ان الكاهن يُقَدَّم في المجالس على اية سيدة مهما علا شأنها.

          وشبيه بهذا الانزعاج ان يطلب احد المؤمنين تقبيل يد المطران، ولكنه بعد ان يضع يده بيدك يقبّل إصبعه. لماذا التظاهر بتقبيل يدي، ولا احد يرغمك على ذلك؟ ولكن ان اردتم ان تفهموا، فالأمر ليس فيه مجاملة وليس فيه خنوع كما يذهب المتأثرون بأصحاب الهرطقات. لا أحد يرغمك على شيء. ولكن اذا بادرت إلى الأمر، فقُم به صحيحا.

          في بعض الأماكن وليس دائما، لا تكون بعض النساء محتشمات في المآتم. ارتداء السواد يدل على حزن النفس (وهذا دنيوي ولا علاقة له بالكنيسة). كيف تجمع المرأة إلى الحزن الغواية؟

          موضوع «بدل الأكاليل» أخذ يقلقني في بعض المواضع. هذه عادة درجنا عليها من اجل دعم الكنيسة بالاستغناء عن شراء الزهور. ولكن أَسمع احيانا أن مائدة وُضعَتْ لأحدى الجمعيات او أحد الأندية. هذا غير مقبول، ففي هذا تعطيل لموارد الكنيسة. ليس احد منكم ممنوعا ان يتبرع حيث يحلو له ولكن دون ظهور تنافس بين الكنيسة وجمعيات خاصة على ابواب الكنائس.

          آخر بدعة فكرة تخصيص هذا المال لأهل الفقيد. هذا لا أساس له. انه تسول. ان مجلس الرعاية بعد قبضه هذا المال -وهو وحده المرجع- اذا عرف حقا أن اهل الميت في حاجة، يتبرع لهم من مال الكنيسة بصمت أو ينظّم المأتم بكامله. الكنيسة حاضن للجميع.

          أرجو ان نتقيّد بكل هذا لتكون امورنا «بلياقة وترتيب» كما يطلب الرسول.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

أعمى أريحا/ 3 كانون الاول 2000/ العدد 49

كان متسولا ككل المكفوفين الفقراء (لوقا 18: 35-43). حاسة الاتصال عنده السمع. سمع ضجيجا غير مألوف. ما الأمر؟ قيل له: يسوع الناصري عابر. حول بلدة أريحا في منطقة اليهودية، كل الناس كانوا يعلمون ان هذا المعلّم الجديد يصنع معجزات. لقد تمّت هذه الأعجوبة فيما كان يسوع ذاهبا إلى الآلام، وفي طريقه من الجليل إلى اورشليم كان لا بد له ان يمرّ بأريحا. فيما كان ذاهبا إلى نور صليبه، التقى هذا الرجل الفاقد النور، هذا الفقير الذي كان صورة عن اسرائيل الفقير، هذا الأعمى الذي كان صورة اسرائيل الذي لم يقدر أو لم يحبّ ان يرى النور في المسيح.

          مرقس يسمّي هذا المريض ابن تيماوس. يعرّفه باسمه. انه اهم من الجمهور. انه هو الآن في حاجة إلى يسوع. لما أَخبروا الفقير ان يسوع مجتاز، صرخ: «يا يسوع ابن داود ارحمني». صرخ لأنه لم يعرف المسافة التي كان عليها من السيد. كل محتاج يصرخ. سمّى المعلم «ابن داود». هي عبارة تعني ان الناصري هو المسيح. الأعمى يعترف واليهود لم يعترفوا. انتهره الجمع الذي كان يصحب المعلّم. لا يريدون جمهورهم أن يتوقف عن السير. بقي يصرخ ويسترحم. عندئذ وقف يسوع. ما همّه الناس الذين كانوا حوله. ما كانوا بالضرورة مؤمنين. كانوا بالتأكيد فضوليين.

          وقف يسوع لأنها ساعة حبه لهذا المحتاج اليه. «أمر ان يقدَّم اليه»، ان يزول الحاجز البشري بينهما. يسوع مخصِّص نفسَه للمحتاجين اليه، للطالبين النور به. ولما «اقترب (المريض)، سأله قائلا: ماذا تريد أن أَفعل بك؟». طبعا كان السيد عارفا بما كان الرجل يطلبه. ولكنه اراد ان يقيم حوارا معه. اراد ان يقول له انه هنا ليهتمّ به. «فقال يا سيد أن أُبصر». غالبا أنه لم يكن أعمى منذ مولده لأنه كان يعرف قيمة البصر أو انه سمع الناس يتكلمون عن جمال هذه الدنيا. فاذا أبصر سوف يعـود ليتمتع بما كان يشهده في طفولتـه. وفي كل حال لا يبقى في ذُلّ الانسان المستعطي. يمكن ان تكون له حياة جديدة. يمكن ان يتحوّل حلمه بالبصر إلى قدرة عظيمة. «فقال له يسوع: أَبصِرْ». لك أن ترى من تحب. لك أن ترى زوجتك وبنيك وربما أن تستعيد الأصدقاء الذين تركوك. يمكن ان تصير انسانا جديدا. «ايمانك قد شفاك».

          انها تعني ايمانك بي قد شفاك. مجرد التوق إلى الشفاء لا يشفي. هذا مرض لا تأثير فيه للأعصاب. الانفعال العصبي لا يشفي شبكة مسلوخة. انت كنتَ في الكفاف الكامل. هذا لا شيء يشفيه. يسوع وحده يُقيمك منه. انـه قادر على ما عجز عنه الطب. السيد ينقل الإنسان من العدم إلى الوجود.

          «وفي الحال أَبصرَ وتبعه». في الحال، يقول. فإن قدرة المسيح فاعلة فورا. هو سيدُ ما اختلّ في الطبيعة. هو سيدٌ الآن على كل عمى، على كل قلق، على كل يأس. عندما تعجز النفس عن النهوض، عندما يلوح لها ان الأدوية تشفي أو ان التحليل النفسيّ يشفي، ويصدمها مع ذلك كل علاج، ماذا يبقى لها؟ انا لست أقول لأحد لا تلجأ إلى العلاج بسببٍ مِن اختلالٍ في الصحة الجسدية أو الصحة النفسية، فلا بد منهما لنستعمل الوسائل العقلية. الإنجيل لا يُعفينا من أية وسيلة بشرية. غير أن المسيح له -متى شاء- أن يتدخل مباشرة ويُنهضنا من كل كبوة، من كل سقوط للنفس أو الروح، من كل خطيئة مستعصية لأن هذه هي العمى. في المحنة الكبرى لا بدّ لك من أن تصرخ للمعلّم وان تقول له انك وحدك وانك ضعيف. قد تكون الصعوبة الكبرى أن يعترف الإنسان بضعفه وأن يُقرّ بأن المسيح هو كل الحياة. متى حصل له ذلك يمجّد الله كأعمى أريحا. والذين حوله مثل الجمهور المرافق للسيد اذا رأوا التغيير الحاصل يسبّحون الله. الشفاء الروحي فينا دعوة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

المعطي المتهلّل/ 26 تشرين الثاني 2000/ العدد 48

اللافت أن الذي أتى الربَّ في إنجيل السامريّ الشفوق وفي إنجيل اليوم (لوقا 18: 18-27) أتاه مجرّبا. وكلاهما مثقّف لاهوتيا ويعلمان الجواب عن سؤالهما: «ماذا أَعمل لأرِثَ الحياة الأبدية؟». في مثَل السامريّ، السيد يعيد المحاور إلى شريعة موسى والرجل يلخصها بما سُمّي القاعدة الذهبية: أَحببِ الربَّ والقريب. في إنجيل اليوم، السيد نفسه يجيب عن السؤال بسرد خمس وصايا من العشر وكلها تتعلق بالقريب، وكأنه يقول إن محبة القريب تفرض بالأقل ألاّ نعامله بشرّ، وتفرض ايجابيا أن نعامله حَسَنا.

          يبقى ما هو أعمق: «بعْ كلَّ شيء لك ووزِّعْه على المساكين فيكون لكَ كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني». انه العطاء الكبير حتى التجرد من كل شيء. «بع كل شيء» لا تعني، بالضرورة، أن الرب يريدك أن تعيش بالعوز الكامل. فهذا خطر عليك، وعليك مسؤولية العائلة. ولكن يسوع لا يريد ان يضع حدا لمحبتنا للفقراء. ليعطِ قلبُك كل شيء حتى لا يُحسّ بتعلّق مادي. الهاجس الحقيقي ليس أنْ أُعطي العُشْر كما كان اليهود يفعلون. فقد يدعوك الحب إلى بذل اكثر من ذلك أو تدعوك الحاجة إلى بذل الأقل. فقد تعطي العُشْر لأن هذا كان أمرًا من الشريعة ولكنك تتحسّر على هذا الذي أَعطيت. القضية ليست اذًا قضية مبالغ. القضية ألاّ يخطف قلبَك أيُّ شيء مادّيّ (قد يكون مكتبة احترقت أو منزلا هُدِّم أو سيارة سُرقت).

          «فيكون لك كنز في السماء» لأن السماء تكون قد هبطت عليك. ليست الفكرة ان الرب يكافئ كما يكافئ المعلّم في المدرسة أو الدولة. المراد أن قلبك يكون قد انخطف إلى الله بعدما فرغ من كل شيء ارضيّ.

          «وتعال اتبعني». الدافع إلى مشاركة الفقراء بحب كبير وإلى الكرَم هو يسوع نفسه. والقصد من العطاء ان يصل المعطي إلى أن يَقوى في محبة السيد والإخوة، أن يتربى على الحب. قد يكون في العطاء ألم في البدء. هذه علامة التعلّق. ولكن كلّما تروَّض المؤمن على العطاء تضعف شهوة المال فيه ويحدث فيه ضيق مما يملك، مما يملكه بوفرة كبيرة.

          هذا الغنيّ الذي حزن من كلام السيد أراد ان يجعل الوصايا سقفا لفضيلته. الفضيلة الظاهرة التنفيذ (حتى لا يذهب إلى الهلاك الأبدي) كانت كافية له. لم يشأ ان يَخرق السقف حتى السماء التي ندركها فقط لعشقنا لله بلا حدود. «اتبعني» تعني اتبعني حتى المنتهى، ليس فقط إلى الصليب، ولكن إلى القيامة. ولكن هذا يكلّف تعبا كبيرا.

          هذا الرجل كان من نوع الذين يريدون الرضاء الإلهي دون ان يبذلوا حبا كثيرا، دون ان يماشوا يسوع حتى النهاية. ولذلك قال السيد عن أمثاله انه صعب عليهم أن يَرِثوا ملكوت الله. فالملكوت لا يَدخله الا الغاصبون، الذين يأخذونه عُنوة. ان يكون لنا رِجْل في الدنيا ورِجْل في الآخرة فهذا مستحيل حتى نقتَنع يومًا أنْ نتركَ كل شيء ونتبعه. عند ذاك نحسّ أنّ مَشينا وراء السيد هيّن وينبوع سعادة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

المتّكل على المال/ 19 تشرين الثاني 2000 /العدد 47

إنجيل اليوم (لوقا 12: 16-21) يصوّر لنا رجلا أَخصبَتْ أرضه وكثُرت غلّته. امام هذا رأى ان مخازن القمح عنده لا تكفي فأراد ان يهدمها ويبني اكبر منها. هذا يبدو طبيعيا. غير أنه اطمأن إلى كونه صار غنيا وأخذ يتّكل على ماله وظن انه يستغني عن الله وكأنه يقول: الله اتكلتُ عليه لما كانت ثروتي قليلة. اما الآن فلست في حاجة اليه.

          لم يلمه الرب لأنه جعل لنفسه أهراء كبيرة ولكن لكونه استنتج من ذلك انه يقدر ان يستغني عن الله. كثيرا ما نتوجّه إلى الله حتى يُخرجنا مِن فقر، وبعد ذلك نجعل قوّتنا في ثروتنا (أو في صحتنا ومجدنا).

          يسوع يقول عن هذا الانسان انه غبيّ. فطمأنينة الإنسان لا تقوم بالأشياء التي يملكها بل بسيادته على هذه الأشياء. فاذا صار عبدا لما يملك يفقد الإنسان حرية الروح اذ «الشكر لله الذي آتانا الغلبة عن يد ربنا يسوع المسيح» (1كورنثوس 15: 57). الملء ليس بامتلائنا من اموال هذه الأرض. فوزنا هو بالذي أَحبَّنا وجعلَنا احرارا من الموت. فوزنا هو بمحبة الله لنا التي في المسيح يسوع ربنا (رومية 8: 37-39).

          أن نعرف هذا، أن نؤمن بهذا يجعلنا مطمئنين إلى الله، أغنياء بالله. الخطر في الغنى ليس الملْك بحد نفسه ولكن في أن يدفعنا الملْك إلى الاستغناء عن النعمة الإلهية. لا يريدنا الله فقراء بالضرورة، ولكن لا يريدنا ان نعتبر الفقر مصيبة كبرى اذا كان مقرونا برضا الله علينا. المهم ان نعرف ان النجاح في الدنيا لا يدلّ على ان البركات نزلت علينا. ليس في العهد الجديد ما يدلّ على أن الله مُنعم علينا بالمال. فقد يكون مُنعما علينا بالفقر. المهم ان نجعل الله كنزا لنا لأنه «حيث تكون كنوزكم فهناك قلوبكم».

          طبعا يريدنا الرب مجتهدين في هذا العالم، ساعين إلى التقدُّم المادي في ما هو شرعي لأن في هذا مصلحة لعيالنا وقدرة على إعطاء الفقراء. يسمح الله ان نفرح بالكسب لا لنكون اقوياء في هذا العالم ولكن لتكون لنا قدرة على خدمة الآخرين.

          المال الوفير يجعله الله في ايدينا لا لنتعشّقه ونفتخر به لأن في هذا استكبارا مؤذيا لأن «مَن افتخرَ فليفتخرْ بالرب». إن عِشْق الدنيا يجعلنا عبيدا للدنيا وطامعين بها. و«الطمع عبادة وَثَن». المال اذا استعبدَنا يصبح بديلا عن الله. ولذلك قال يسوع: «ما من احد يستطيع ان يعمل لسيدين، لأنه إما ان يُبغض أحدَهما ويحبّ الآخر، وإما ان يَلزم أحدَهما ويَزدري بالآخر. لا تستطيعون ان تعملوا لله والمال» (متى 6: 24). المهم ان نكون احرارا في داخل النفس من كل ما هو مخلوق وان نتحرر من وطأة المال علينا بتوزيعه. مشاركتنا للمحتاج هي وحدها التي تُحرّرنا من أنانية الغنى، فاذا ذهبنا إلى الفقير نكون ذاهبين إلى الله.

          أن نتحسّس بوجود الفقير وبأنه أخونا هو الدليل الساطع اننا نتحسّس وجود الله في حياتنا. هذه المشاركة تجعلنا نرى ملكوت الله هنا في عالم القلب. هذه المشاركة هي بناء الكنيسة. هي الرؤية على ان الفقير عضو في جسد المسيح. لا يمكن ترجمة ايماننا الا بهذه المحبة اذ ما من محبة بلا عطاء.

          يمكن ان نكون أغنياء اذا اعتبرنا أننا وكلاء على أموال الله. هذه ليست مُلْكا لنا. هي ملْك الله وتذهب إلى من كان محتاجا اليها. نحن نفرح بالعطاء، والمحتاج يفرح. لأن «العطاء مغبوط اكثر من الأخذ». هذه شركة الفرح العظيم.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

السامريّ الشفوق/ 12 تشرين الثاني 2000 /العدد 46

كان الفريسيون يحبّون أن يناقشوا يسوع ليُحرِجوه ويُبيّنوا لأنصارهم انه لا يعرف الشريعة. واحد من علماء الشريعة (لوقا 10: 25-37) أراد أن يُوْقِع المعلّم في فخ فسأله: «ماذا أَعملُ لأرث الحياة الأبدية؟». هذا العالِم كان يعرف الجواب لأنه في الكتاب المقدس. مع ذلك لا يقول له السيد: أنت سيّء النية لأنك تطرح علي سؤالاً تعرف أنتَ جوابه. قَبِلَ يسوع الحوار. هذا اللاهوتيّ طرح أخطر سؤال: «ماذا أَعمل لأرث الحياة الأبدية؟» (انه غالبا فريسيّ لأنه يؤمن بالحياة الأبدية). عن السؤال يجيب يسوع بسؤال: ماذا كُتب في الناموس؟ يجيب السيدَ مخاطبُه بقوله: أَحبِبِ الربَّ إلهك ثم أَحبِبْ قريبَك كنفسك. الوصية الأولى مأخوذة من سفر تثنية الاشتراع، والوصية الثانية من اللاويين. بقي لمعلّم الشريعة هذا ان ينتقل من مجرد عارف للوصيّتين إلى التطبيق. دعوة الرب إليه أن يعمل ليحيا.

          بعد أن كلّمه السيد عن القريب، لا يستوضح شيئا عن الله. «أراد أن يزكّي نفسه» لكونه طرح السؤال عمّن هو القريب. ما أراد المسيح أن يقول له إن اليهوديّ قريب لليهودي. هذا معروف في الناموس. حكى له الرب حكاية. إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا. جرحه اللصوص بعد ان سرقوه وألقوه على حافة الطريق بين حيّ وميت. أبصَرَه كاهن كان، بعد أن أتم خدمته في الهيكل، عائدا إلى بيته في أريحا. كاهن بلا شفقة. وكذلك اللاوي –وهو خادم  أيضا في الهيكل– أبصره وجاز أمامه. شخصان هما في خدمة الله، ولكنهما ما كانا في خدمة الإنسان. هل هما حقا في خدمة الرب؟

          دنا إليه سامريّ. إنسان غريب الجنس وغريب الدين، فإن السامريين يَقبلون كُتُبَ موسى الخمسة ولا يَقبلون الأنبياء. هذا أسعفه في تضميد جراحه. أَخذ السامريُّ على عاتقه هذا الغريب. إذ ذاك سأل السيدُ: «أيّ هؤلاء الثلاثة تَحْسَب صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟». سؤال معلّم الشريعة للمسيح: «من هو قريبي؟». لم يجب السيدُ اللاهوتيَّ اليهوديّ عن سؤاله. طرح سؤلا آخر: من صارَ قريبًا للجريح؟ أنتَ ليس عليك أن تسأل: من هو قريبي. السؤال الحقيقي هو بالحريّ هذا: قريبَ مَن تستطيع ان تكون؟ حرَكتُك إلى الآخر هي التي تُعيّن لك قريبك. اذهب وأَحبّ. فالذي تحبه تجعله قريبا لك. أحبب من تراه على طريق حياتك أيا كان. مِن جنسك أَم من غير جنسك كان، من دينك أو من غير دينك، اذهب إليه وارفعه إلى صدرك، يصبح قريبا لك.

          تحبه إن كان خفيف الروح أَم «ثقيل الدم» لأن الله جعله في طريق حياتك. إذهب إلى كل جريح، إلى كل فقير، إلى كل وحيد. هؤلاء كلهم جرحى الوجود. ما يعوزك أن تنتبه. وتنتبه حتمًا إنْ آمنتَ بالله إيمانًا حيًّا محرّكًا. وتترجم حبك لله بمحبتك الآخرين. ولن تحب الله ما لم تُحبّ أبناءه. هؤلاء ليسوا مقرَّبين اليك دائما بالعاطفة. المحبة الإلهية التي فيك تحررك من وطأة القريبين منك عليك. أنسباؤك وابناء عشيرتك قد لا يكونون في حاجة إليك. أما الذي همّشَتْه الحياة ولم يبقَ له صَديق ولا يحسّ به أحد أَحسِسْ أنت به. واذا فعلتَ هذا، يشعر هذا الذي أهمله الجميع أن عنده واحدا يحبه وهو أنت.

          ما يطلبه الإنسان المتروك هو أن يراه واحد. عندئذ لا يبقى له جراح. فحتى تحب يجب أن تذهب عن انغلاقك. يجب أن تذهب وتخدم. هكذا فقط تخلص من أنانيتك. ما يصنعه يسوع هو أنه يدفعنا إلى كل مرميّ على طرقات الوجود ويقول لنا: هذا أخوك.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

الغنيّ ولعازر/ 5 تشرين الثاني 2000 / العدد 45

إذا كان مَثَل السامري الشفوق حديثا في الرحمة بامتياز، فَمثل الغني ولعازر (لوقا 16: 19-31) مَثَل القسوة، وتاليا كان دعوة إلى الرحمة، وإنجيل لوقا هو إنجيل الرحمة بامتياز.

          منذ البدء يصف الكتاب تَنعُّم الغنيّ (يلبس الأرجوان والبَزّ اي الحرير). الفقير يسميه لعازر اي «الله عوني» لعله يوحي ان الفقراء حليفهم الوحيد الرب. وهو لا يوحي بأنه يُطعمهم دائما من جوع ويكسوهم من عري. يكفيهم المسيح بعرائه. يضاف إلى جوع لعازر انه مُعذَّب الجسد، مصاب بقروح، وهذا نقص لا يستطيع سدَّه لأن هذا يتطلب علاجا، والأطباء يطلبون مالا.

          الغنيّ يرى ذلك لأن الآخر مطروح عند بابه. كل محتاج (إلى طعام أو مسكن أو أقساط المدرسة) مطروح في شوارع العالم، ومن أراد ان يبصر قادر على البصر. اليد لا تتحرك من نفسها. القلب وحده يعطي.

          الحكاية الإنجيلية صوَّرت أن هذا البعد الذي كان بين الرجلين استمرّ فوق. الغني في العذاب، ولعازر في حضن إبراهيم. وهذه عبارة قديمة عن راحة الصِدّيقين، ولا نزال نستعملها في صلوات الجنازة عندنا. انما الصورة بعد الموت صورة الهوّة. ليس علينا في منهج تفسير الأمثال أن نسأل عن كل تفصيل من تفاصيل هذا المثَل لنبني عليه لاهوتا يتعلق بما بعد الموت. ليست هذه وظيفة المثَل الإنجيليّ. نفتش عن المعنى الشامل، عن قصد يسوع في رواية هذه الحكاية.

          الواضح أن المثل هذا يُعيدنا إلى إنجيل الدينونة: «كنتُ جائعا فأطعمتموني». يسوع يوحّد نفسه، يدمج نفسه مع المحتاجين. هُم همّه الكبير. هو لا يَمقُت الغنيّ من حيث إنه غنيّ. يمقت الذي يستغني عن الله ويضع كل اتكاله على أمواله ويتحسس بأن هذه الدنيا تكفيه وأنها البداءة والنهاية.

          يسوع لا يحب كل فقير، فقد يحسد الفقير ويشتهي كثيرا. هو يحب ذلك الفقير المحب لله، الذي يضع في الله رجاءه ولا يتذمّر ولا يجعل الله سببًا لمصابه ويؤمن بأن الرب يكفيه في العمق. الفقير الكبير هو الفقير إلى الله، المتواضع القلب، المكسور قلبه امام الله والإخوة.

          هذا الذي استغنى عن الله وانتفخ لا يرى انه قادر أن يجعل –بالعطاء والمشاركة- الفقيرَ يستدعي له نعمة الله. الإنسان الراحم سواه يُحسّ بأنه في حاجة إلى رحمةٍ يؤتاها وإلى رحمةٍ يعطيها. المشاركة بين القلوب لا تتم الا اذا ارتفع قلبُك إلى الرب وأستُودِع قلوبَ الناس.

          تعليم السيد في لوقا: «كونوا رحماء كما ان اباكم رحيم» (6: 36). الرحمة صفة إلهية مشتقة من الرَحِم. والفكرة انكم كما انتم مولودون من أرحام أمّهاتكم تكونون مولودين من الله. والانسان رحيم بمعنى أن من يرحمهم يصيرون ليس اولاده ولكنهم يشعرون انهم صارو ابناء الله. الرحمة ليست فقط بالعطاء المادي، هي قبل كل شيء انتباه ورعاية وضَمّ.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

أولادكم والمدارس/ 29 تشرين الاول 2000/العدد 44

اذا درس اولادكم عند المساء فهم في رعايتكم العلمية بقدر ما تستطيعون ان تواكبوا مناهجهم الجديدة. والكثيرون منكم قادرون على المتابعة لأنكم تريدون لهم فهما وبنيان شخصية ومستقبلا مرتكزا على المعرفة. وذكاء اولادكم وجهدهم فرح ولستم غائبين عن اولادكم في السهرات. وحضوركم في البيت جزء من تربيتكم لهم.

          غير ان التحصيل العلمي لقاءه دفع الأقساط على رغم الضائقة الحاضرة اذا ارسلتم بنيكم وبناتكم الى مدرسة خاصة. ذلك انكم لماّ اخترتم مدرسة خاصة اخذتم علما بالأقساط وتعهدتم دفعها. وكانت المدرسة الرسمية خيارا لكم آخر. ولكنكم فكرتم وقررتم المدرسة الخاصة. وما كان في سلوككم خفة.

          واذا تقاضت المدرسة قسطا منكم فليس لتربح ولكن لتقوم عما يتوجب عليها من نفقات وأهمها رواتب المعلمين بحيث اذا تخلفتم عن الدفع او دفعتم جزئيا يكون هذا عجزا في المدرسة وليس من يدفع عنكم. ولا اعرف رعية  تساهم في ايفاء ديون الأهل.

          اذكر هنا بنوع خاص مدرستينا: القديس انطونيوس–فرن الشباك والقديس جاورجيوس–بصاليم. لقد ارسلتم الينا اولادكم لإيمانكم بأن المستوى التعليمي والتربوي رفيع عندنا. ولقد بلغتكم النتائج الباهرة هنا وهناك. ولست مادحا مؤسساتنا فالمديح يأتي منكم ومن الخبراء الغرباء عنا الذين زارونا. نقدّم حسومات ولكن لا يمكن ان نتجاوز حدا معقولا لئلا تقع الأبرشية في عجز والأبرشية عندها ابواب إنفاق كثيرة تقع على عاتقنا وحدنا ولاسيما باب إخوتنا الفقراء. المدارس تقع تاليا على عاتق الأهل وحدهم. والفقراء يستهلكون نصف ميزانيتنا. هؤلاء ان لم تنظر اليهم كنيستهم لا يرعاهم احد.

          نحتاج الى محسنين. والميسورون موجودون بينكم. ونحن نقوم بسعي للتعرف اليهم. غير ان المساهمة الكبرى تقع على ذوي الطلاب. هناك اولية  الى جانب الطعام والكساء والسكن وهي اولية اولادكم. الضعيف ماليا منكم اذا اصر على المدرسة الخاصة والمدرسة الارثوذكسية لأنه يريد مبادئ يدعوه ربه الى التقشف، هذا الانسان لا يحق له ان ينفق شيئا على ملذاته قبل ان يوفي الفلس الأخير من قسط ولده المدرسي. فلا يبكِ ولا يستبكِ على ابواب الإدارة عندنا.

          اذا احببتم استمرار مدارسنا فقوموا بكل تضحية ممكنة في سبيل اطفالكم وشبانكم، هذا اذا اردتم فعليا ان تبنوهم على قواعد الإيمان والأخلاق من جهة وعلى قواعد العلم من جهة اخرى. لا نستطيع شيئا حقيقيا في سبيلكم ما لم تتحسسوا بنا وباوضاعنا. لن تكمل مدارسنا رسالتها ما لم تريدوا انتم ذلك. وبذلكم الأقساط المترتبة هو الدليل البليغ على انكم تريدوننا ان نحضن اولادكم معكم.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

القدس / 22 تشرين الاول 2000/ العدد 43

من زاوية مسيحية، روحية كيف ننظر إلى قضية القدس؟ اجل لها اهمية كبرى لأن السيد قضى حياته على الأرض هناك وصُلب فيها وقام. ولكن ما أولى المسيحيون الاوائل اهمية لها قبل القرن الرابع حيث اخذ المؤمنون يقصدونها من كل صوب، وتنظمت في المدينة ثم حولها في دير مار سابا العبادات المسيحية كلها، وفي القرن الخامس اعتُبرت اورشليم البطريركية الخامسة بعد روما والقسطنطينية والاسكندرية وانطاكية.

          إلاّ ان الأهمية القصوى ليست للحجر ولكن للبشر. انهم هم مقدَّسون اكثر من الأراضي المقدسة. فالمسيحيون هناك صاروا بسبب الهجرة قليلين. كانوا حوالي 75000 قبل الحرب، وأمسوا الآن عشرة آلاف او اكثر بقليل بسبب الضغوط التي تمارَس عليهم والقوانين الظالمة التي تفرّق بينهم وبين اليهود. بيت لحم المجاورة التي كانت مدينةً معظم سكانها مسيحيون، صار هؤلاء فيها قلة. أمانينا الا تضعف الكنيسة هناك عددا لتبقى شهادتنا حية وكنائسنا مفتوحة. ومن الصعوبات التي يعانيها الارثوذكسيون ان الرئاسة الروحية هناك أجنبية (يونانية) غير قادرة على القيام بالوعظ باللغة العربية وهي صادمة للرعية وجارحة لها لأن البطريركية تبيع الكثير من اراضي الوقف لليهود او تؤجرها إجارة طويلة. وما يغري الارثوذكسيين بترك كنيستهم ان السلطات الروحية الأخرى (الأنكليكانية منها واللاتينية) صارت كلها عربية.

          الأهم من الأماكن المقدسة الشعب المقدس الذي تقوم عليه حملة شرسة من الحكومة الاسرائيلية. أكتبُ هذه السطور ومنذ قليل رأيت على الشاشة قصف رام الله وغزة، ولست اعلم كيف تكون عليه الحالة عند وصولكم «رعيتي». نرجو ألاّ يباد الشعب الفلسطيني ولا سيما انه أعزل وليس عنده سلاح يقاوم به. ويموت الأطفال ويسقط الجرحى بالمئات ولا يتحرك العالم. ظلم رهيب يحل بالإنسان، وليس من يرفع الظلم.

          اكتب اليكم على رجاء التهدئة والسلام الذي في ظله تنمو الشعوب. نحن طلاب سلام ولكنا ايضا طلاب عدل. ذلك ان القهر قنبلة موقوتة. نحن المؤمنين بيسوع نطلب السلام لكل البشر العائشين على ارض فلسطين. ولكن العدل وحده يحفظه. العدل يعني ان تتجمع الأرض الفلسطينية ولا تكون جزرا متفرقة، وأن تَحْكم هذه الأرض دولةٌ لكي يعيش هذا الشعب بكرامة.

          كذلك يقتضي العدل ان يعود اللاجئون الى بلداتهم وقراهم هذه التي ولدوا فيها وأحبوها وعلّموا اولادهم حبها. هذا جزء من الحل العادل. لا يجوز ان يبقى هذا الشعب مشتتا.

          والعدل –كما القوانين الدولية– يقضي ان تعود القدس إلى اهلها. لا يجوز للاغتصاب والاحتلال ان يدوم. لا يجوز ان تكبّ 4 ملايين انسان خارج بلادهم.

          بهذه الشروط الثلاثة تنكشف لنا اهمية البشر، وتعود القدس رمزا للعالم المسيحي فنحج اليها للتبرك. مدينة المسيح لا يجوز ان يملكها شعب يكره يسوع ولا يعترف به. المسلمون لهم طريقتهم في تكريم المسيح ويذكرونه في كتابهم وعاشوا معنا خلال قرون فصارت المدينة المقدسة مرتعا لأهل هاتين الديانتين. ليس من الطبيعي ألاّ يصلّي المسلمون في مساجدهم ولا ان يصلي المسيحيون في كنائسهم. كذلك لا يكفي تأمين حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة. المسيحيون والمسلمون يحبون –وهذا حقهم– ان يسكنوا حول معابدهم. القدس بمعنى الحجر والبشر هي مطلب عدل لنا.

Continue reading