شباب أم شيخوخة / الأحد 3 تشرين الثاني 1963
لفتني، في عدد الجمعة 25 من الشهر المنصرم، «حديث لكوكتو» فيه كلمة لبيكاسو يقول فيها: «عندما يبلغ المرء الستّين، يبدأ أن يصبح شابًّا… في هذه السنّ، يبتدئ الإنسان يشعر بأنّه حرّ، يتعلّم أن يتخلّص من كلّ شيء إلاّ من بساطته الخلاّقة الضروريّة». لا شكّ في أنّ البساطة ذروة من ذرى الوجود أكان ذلك في الفنّ أم في الحياة الروحيّة، ولا يبلغها الإنسان عادةً إلاّ بعد اجتيازه مضايق التعقيد العقليّ والارتباك الضبابيّ الذي قد تتّسم به الفتوّة. وإذا أوتينا نعمة البساطة بتقادم العمر، لا نفقدن بالضرورة، «فرصة التمرّد» الذي يتكلّم عليها كوكتو. والتمرّد أدنى إلى الحقيقة من الثورة وإن لم يكن الوجودَ عينه، بل إمكان إطلالة على محتوى الوجود. المتمرّد لا يتربّع في الحقيقة كالمتذهّب الخامل. وقفزته فوق الهاوية أقرب إلى اليقين الدينيّ الخلاّق من جحود الرابضين في قفص المحافظة. أنا لا أخشى على المتمرّدين الخطر، لكنّي أحسّ بأنّ عصيانهم مرحلة دون البساطة وتاليًا تخلّف عن الحرّيّة التي يدعونا بيكاسو إليها.
وبالضبط، السؤال الشرعيّ، الذي يُطرح على هذا الرسّام الكبير، هو ما هي الأمور التي يجب أن يتخلّى الإنسان عنها، ليكون حرًّا. هل إذا أزيلت صورة الإنسان من الفنّ، كما فعل هو بعد مرحلته الزرقاء، يبقى للفنّ وجود بالمعنى الإنسانيّ المتكامل؟ لا شكّ في أنّ الفنّ التجريديّ صورة عن الإنسان الذي أضاع نفسه. قد يكون هذا الإنسان المجزّأ المشتّت في غيابه، موضوعًا فنّيًّا، وعند ذلك يشهد التجريد لحقيقة الله وراء هذا التبدّد. ولكن، في الحياة الروحيّة، ماذا يقابل التجريد؟ أنتجرّد عمّا فينا دون الوقوع في الفراغ؟ ومع ذلك، يجب أن يتخلّى الإنسان عمّا يبيد الإنسان فيه، إذًا عن كلّ شيء تقريبًا ما عدا هذا الذي يجعله إنسانًا، كائنًا قائمًا بين السماء والهاوية، معلّقًا بين الوجود الأعلى واللاوجود، في كيان البساطة التي تدرك ارتباك المخلوق ولم ترَ بعدُ البهاء اللامتناهي الذي ينتظرنا. في بركات البساطة، لا يبقى هاجس المرء الظهور، لأنّه أدرك أنّ «الأنا مقيت». وإذا باللمعان فيه يعطيه عمقًا مشعًّا، وتصبح كلّ حقيقة لديه تلك التي بالحبّ تشفي.
عند ذاك، الحديثُ عن التمرّد لغوٌ، والمفاضلة بين سنّ وسنّ فيها من القصر الروحيّ الشيء الكثير. كلٌّ يكشف فضائل عمره، أو يتغنّى بما فات، أو يستهين بالحداثة. والحقّ أنّ القضيّة لا تكمن في نضارة قد تكون عن الشباب العابث ولَّت، ولا النضوج عند الشيوخ ثمرة تراكم السنين وحسب، لأنّ تراكم الفراغ فراغ. القضيّة ليست هنا، لكنّها في تلك البساطة التي تعطيها الشفافيّة عندما تتجرّد النفس عمّا يطويها. فإذا نظر المرتبك إليها أو اللاهي، يحيد عنه الضباب.
Continue reading