Monthly Archives

July 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

توصيات لبولس الرسول / الأحد 26 تموز 2009 / العدد 30

هي في الرسالة الى أهل رومية بعد أن ختم بولس تعليمه العقائدي.وهذا منهجه، عادة، في الرسائل.غير انه لا ينسى في بدء كلامه أمرا من العقيدة، ويفترض ان الفضائل التي سيذكرها هي مواهب من الروح القدس وكل موهبة تأتي من نعمة مختلفة.يذكر أولا الخدمة كفضيلة.العبادة خدمة، ويضاف اليها عند الشمامسة خدمة الموائد أي العناية بالفقراء.

الى هذا موهبة التعليم، وهو يميّزها عن الوعظ الذي هو حضّ على التقوى والتوبة ولا سيّما في القداس الإلهي.اما التعليم فهو بسط العقيدة.والرسول بـعد ان ذكر التعليم تحدّث عن الوعظ.الى جانب هذا، يـحتاج المتصدّق الى البـساطة اي الى العلاقة الشخصيّة المباشرة مع الفقير دون إبطاء ولا منّة ولا استعلاء يجرح شعـور الفـقيـر.امـا المدبـّر فيرث الاجتـهاد.والمدبّـر في الكنـيسة هو المسؤول عن الأمور الاقتصادية في الكنيسة.

ثم يقول “لتكن المحبة بلا رياء”.احيانا يبدي مَن تـُحْـسن اليـه شعـورًا كاذبـا بـالضيافـات والمجاملات.

تنفيذا للمحبة الصادقة يحضّنا الرسول على ان نكون ماقتين للشر وملتصقين بالخير وبدء هذا أن نقول عن الخير خيرًا وعن الشر شرًا.

ومع انـه ذكـر المحبـّة بـالمطـلق، يـلحّ عـلى أن نكون محبـّين بـعضنا بـعضًا حبـًا أخـويـًا اي كالحـب الطبـيـعي القـائم بيـن أخ وأخ في العائـلة الواحدة.ثـم يـأخـذ الرسول صورة عن المحبـة بـقوله: “مبادرين بـعضكم بـعضا بـالإكرام بـلا تملّق ولا مبالغة ولا مدح كثير”.

“حارّين بالروح” اذ لا يريدنا فاترين بالإيمان او بالصلاة.“عابدين للرب”.بولس يعرف ان المؤمنين الذين يكتب اليهم مشاركون في كل صلاة.ولكن، لخوفه من أن تكون صلاتهم بلا لهب، بلا حماسة، أراد ان تكون قلوبهم عابدة.

“فرحين في الرجاء”.أن نرجو قيامة الموتى لا يكفي دون أن يعطينا هذا الرجاء فرحا.“صابرين في الضيق” هذا قاله مرارا كثيرة وهو عرف الضيقات وأنواعا من الاضطهاد وصبر لأن المسيح كان يقوّيه.“مواظبين على الصلاة”.هو يريد هنا صلاة الطقوس.الغروب والسَحَر وغيرهما (الساعات) كانت معروفة في المسيحية الأولى وتقيمها كنائس كثيرة كما تقيمها الأديرة جميعا.هذا غير الأدعية التي يطلقها المؤمن بحريّته ويؤلّفها أحيانا.“مؤاسين القديسين في احتياجاتهم”.هذه التسميّة تدلّ على فقراء أورشليم كما صارت تعني كلّ المعمّدين.“عاكفين على ضيافة الغرباء” (كنتُ غريبًا فآويتموني).نحن نستقبل كل غريب كأنه المسيح.

“باركوا الذين يضطهدونكم.باركوا ولا تلعنوا”.هذا صدى الموعظة على الجبل (متى 5،6،7) وما يقابله في لوقا.

هذا من شرعة الأخلاق المسيحيّة.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

كنائس المسيح في لبنان / السبت ٢٥ تموز ٢٠٠٩

لن يأتي هذا الكلام حديثا عما سُمّي المسيحيّة اللبنانيّة لكون المسيحيّة تُنعت بذاتها ولا ينعتها وطن. دليل ذلك أن معظم الكنائس عندنا تنسب نفسها الى أنطاكية ويحمل كل بطريرك فيها لقب ببطريرك أنطاكية وسائر المشرقا. وهنا خمسة بطاركة يحملون هذا اللقب مع ان سدّة أنطاكية واحدة. واحد منهم اذًا يستحقّ هذا اللقب وليس هنا المجال لأعرّف عنه. جميعنا  أو معظمنا في الواقع او في الأمنية أنطاكيّ اذ بفي أنطاكية تسمّى التلاميذ اول مرّة بالمسيحيينا (أعمال الرسل 11: 26) تلك المدينة كانت عاصمة الولاية الرومانية المعروفة آذاك بسوريا. أنطاكيون تاليا، المسيحيون القاطنون اليوم سوريا ولبنان وكيليكيا (جنوب تركيا الحالية) والعراق وفي القرون الخمسة الأولى قبرص. هذا اذا لم نذكر الشتات او المغتربات.

         المسيحية القديمة كانت مرتّبة إداريّا على أساس بطريركيات خمس: رومية، القسطنطينية، الإسكندريّة، أنطاكية، اورشليم. نحن في هذا الإطار. بعد نشوء لبنان الكبير بقيت كنيستنا أنطاكيّة ليس بالنسبة الى قومية ولكن بالنسبة الى مدينة وهكذا تعُرف الكنائس. وأتحدّث مع كنيسة أنطاكية ومعها الكنائس المحيطة بها وسُمّيت مجموعة هذه الأبرشيات الكنيسة الأنطاكيّة.

         وعند الانشقاق الأول السنة الـ451 الذي أظهر ما يسمى اليوم الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس، احتفظت كل منهما بالتسمية. كذلك عند تفجّر الكنيسة الأرثوذكسية السنة الـ١٧٢٤ الى أرثوذكسيين وروم كاثوليك، ظلّت كل واحدة منهما  ذات بطريرك أنطاكي. هذا هو الواقع التاريخي الذي لن أناقش فيه محتواه العقدي.

         منذ سنوات قليلة تفاهم الروم والسريان أن كلاًّ منهما يستطيع ان يتقبل الأسرار المقدسة في الكنيسة الأخرى عندما لا يجد في منطقته كاهنا او كنيسة من طقسه، وهذا يعني بوضوح انه يعترف بالكاهن الآخر وبالأسرار التي يقيمها. وقبل تحديد الكنيسة الكاثوليكية العالمية عقيدة رئاسة البابا على العالم كلّه وعصمته ما كان شيء في المبدأ يمنع الأرثوذكسيين والروم الكاثوليك الملكيين أن يتشاركوا بالأسرار المقدسة بعضهم عند بعض. ولهذا السبب لم يكفّر أحد آخر قبل السنة الـ ١٨٧٠ التي ظهرت فيها العقيدة البابويّة بوضوح. لم يكن بين الكنيستين تكفير. ويقول بعض العلماء الغربيين ان الكنيسة الكاثوليكيّة لا تستهدف بالحرم الصادر عن المجمع الفاتيكاني الأول الا أهل الغرب الذين رفضوا الرئاسة البابويّة والعصمة، وهذا لا يتضمّن حرمًا للأرثوذكس.

#                          #

#

         ليس هناك اذًا تهمة بالهرطقة اي بالشذوذ العقدي، ولكن بقي الانفصال الواقعي. وهنا لا بدّ لي من أن أذكّر بالموقف الذي وقفه القديس باسيليوس الكبير بقوله ان الهرطقة او البدعة تحصل خارج الكنيسة، وان الانشقاق هو الحاصل في الكنيسة نفسها. غير ان هذا كلّه يقتضي توضيحا جديدا من الكنائس.

         على كل هذا العرض لم يكن هاجسي ان أبحث في ما يسمّى الكنيسانيّة اي اللاهوت المتعلّق بكيان الكنيسة. همّي الحقيقي ان أقول بخلاف ما يؤكّده بعض العلماء غير المسيحيين ان المسيحيين ليسوا منقسمين حول التجسّد او طبيعة المسيح. كلّ المسيحيين في العالم يؤمنون أن المسيح إله تام وإنسان تام في شخصيّة واحدة. وهذا ما رآه ما لا يقل عن اثني عشر لاهوتيًا شرقيًا في القرون الوسيطة ومنهم ابن العبري السرياني المذهب في القرن الثالث عشر. كلّ هؤلاء أوضحوا أن الخلاف لفظيّ بمعنى انك اذا قلت ان السيّد ذو طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة أو قلت انه ذو طبيعة إلهية واحدة متجسّدة فمدلولك واحد وإيمانك واحد.

         ومن العلماء المعاصرين من ذهب أن النساطرة بصرف النظر عن تعابيرهم لا يجزّئون المسيح الى طبيعة  إلهيّة وطبيعة بشريّة منفصلتين. وقد أكّدت الكنيسة الغربيّة في مفاوضاتها واياهم أنهم على رأي مستقيم.

#                    #

#     

         المسيحيون في صلب العقيدة بالمسيح وفي صلب الثالوث(ماذا بعدهما) هم واحد ولكنهم اصبحوا في الواقع التنظيمي مختلفين. كيف نحلّ هذه المعضلة ليس هاجسي في هذا المقال. المشكلة باتت الى حد بعيد إثنية احيانا او لغويّة (بين الروم الملكيين والروم الأرثوذكس ليس شيء من هذا) او انتساب ما تاريخي غامض الهويّة في كثير من الأحوال ما أنشأ طوائف مختلفة. السريان الكاثوليك والموارنة واحد كليا طقوسيا وفي الانتماء الى الكرسي البابوي. التمايز التنظيمي ناتج اذًا من شيء آخر له تفسير سوسيولوجي- تاريخي وليس له تفسير لاهوتي.

         لماذا نحمل الى اليوم عناصر بشريّة تفرقنا. أليست هذه جلودًا ميتة تحجب الكيان الحي؟ أليس ضمن هذه الجلود الميتة عناصر سياسيّة او قراءات مختلفة للعمل السياسي؟ هل دخلت الدنيا وأزمنة الناس جسد المسيح ولبسنا ثيابًا ليست لنا؟

         ما يحيينا  أن ندرك الوحدة الأصلية لنا من المسيح وفيه، وان نسير الى قيامته معا وننشئ حياة مشتركة قائمة على التجدّد الواحد بالروح القدس غير مهملين التنوّع الطقوسي ومتحرّرين بآن معا من الميثولوجيا التاريخيّة والتمايزات الإثنية واللغويّة وما اليها صابّين اهتماماتنا على القداسة، فرحين بعضنا ببعض وجامعين قوانا الروحيّة لتقوية عهدنا مع المسيح.

         وعندما يكون هذا سيرنا، لا نخشى تهديدا او لا نرى تهديدا. سيموت بعض منّا في العراق. سيظلّ أتباع يسوع ٢٪ في فلسطين والأردن. ستقع المظلوميّة او الدونية على بعض. هذا ليس إصلاحه في السياسة. هذا تغيّره المحبّة بيننا والتي نقدّمها للآخرين واثقين بقوتنا الروحية والشهادة الدائمة للإنجيل.

          كنائس المسيح في لبنان ليست قوتها في أية حماية. لقد جرّبنا الحمايات منذ اتفاقات فرنسا والباب العالي في القرن السادس عشر ومتنا. نحن ليس لنا قوة على الأرض نحيا بها. نحن عندنا قوّة الكلمة ولهب القلوب المُحبة الغافرة. المسيحيون المتراكمون بعضهم على بعض قلنا انهم ركام تراب. المسيحيون الذين يجعلهم الروح الإلهي وجه المسيح في الكون سيطلعون دائما من الضيق ومن خطاياهم ويزدادون حبا بانتصار الحب على البغض والمعرفة على الجهل. كل مسعى دنيويّ لهم ليخرجوا من مآزقهم لا يزيدهم الا يأسا ومرارة. لقد قال لهم المعلّم انهم ليسوا من هذا العالم، وكلما تشبّثوا به أغرقتهم أوحاله.

لقد جعل لهم مسيحهم منطقا غير منطق عقلاء الأزمنة السيئة. دائما خرّبوا حياتهم لما عانقوا عقليّة هذه الدنيا وحالفوا شياطينها. المحزن فيهم انهم لا يعرفون انهم نزلوا من فوق وأنهم منذ الآن سكان السماء إن فهموا. فليتّحدوا بهذا الفهم ليكون لهم بهاؤه، وليستضيئوا به ويضيئوا بسطوع هذا الذي قال لهم: «أنا نور العالم». هو قال لهم ايضًا: «أنتم نور العالم». ليسوا شيئا آخر إن علموا.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

عن المجمع المسكوني الرابع / الأحد 19 تموز 2009 / العدد 29

المجمع الخلقيدوني المنعقد سنة 451 هو الرابع المسكوني. هذا زمن مفصلي ايجابيا بعد ان ثبّتت الكنيسة في دستور الإيمان أن المسيح إله وإنسان معًا ورأت انه يجب ان توضح العلاقة الحميميّة بين اللاهوت والناسوت اي ألوهيّة يسوع وبشريّته. ومـفصليّ سلبـيـا لأنـه كـان اول انشقاق كبيـر في المسيحيـة اذ فصل بيننا (ومعنا اللاتين آنذاك) وبين الكـنائس الشرقيـّة غيـر الخلقيـدونـيّة او ضد الخلقيـدونـيّة وهم السريـان والأرمـن والأقـباط ومـعهم الحـبشة.

أقرّ المجمع نوعًا من دستور الايمان دون إضافة شيء على الدستور النيقاوي المعروف: اؤمن بإله واحد، فتحدد ان “المسيح واحد وذاته ابن، رب، مولود وحيد ذو طبيعتين إلهية وانسانية بلا اختلاط (او تشوش)، بلا استحالة (اي بلا تغيير)، بلا انقسام ولا انفصال، وان اختلاف الطبيعتين لا يزول باتحادهما، وان خواصّ كل واحدة منهما تبقى محفوظة ومجتمعة مع الأخرى في شخص واحد وأقنوم واحد. بلا اختلاط تعني ان العنصر الإلهي لا يختلط بالعنصر البشري كما الخـمر والماء بحيث لا تقدر ان تميّز بين الخمر والماء. بلا استـحالة اي ان العنصر الإلهي لا يـتحوّل الى بـشري. بلا انقسام بحيث لا تتجزأ اية طبيعة من الطبيعتين ولا تخسر شيئا من ماهيتها. بلا انـفصال اي انهما دائما مشتركتان في كل اعمال يسوع.

لـو كـان اختلاط او تـشوش لا يـبقى لأيـة مـنهما ذاتـيـتها او لأبـطلت الواحدة ذاتـية اخـرى. بـلا استحالـة اذ لـو كانـت هذه لبطلت الطبيعة الإلهية ان تكون إلهية ولكانت امتدت في المادة البشرية على طريق امتداد الألوهية في الكون على الطريقة الهندية. بلا انقسام لأن اللحمة قائمة دائما بينهما وتتعاملان الواحدة مع الأخرى.

يـجب ان نحافظ على كل هذه الخواص لنفهم حياة يسوع في البشرة. فالجنين الذي كان في بطن مريم كان إلها كاملا وانسانا كاملا في حشاها، وهذا ما اهّلنا أن ندعوها والدة الإله. العجائب لم يصنعها يسوع بقوّة ألوهيّته فقط ولكن ببشريّته المتحدة بألوهيّته. المعلّق على الصليب كان كلمة الله المتجسّد، ولكن الموت لم يُصب العنصر الإلهي فيه.

هذه الأحوال الأربعة التي كان عليها شخص يسوع هي الميزان الذي نزن فيه كل فكر لاهوتيّ يتعلّق بالسيّد.

بسبب من هذا كل المسيحيين بما فيهم الإنجيليّون يعتمدون على المجمع الخلقيدوني. اذا تخلخل أساس دستور مجمع خلقيدون في عقل انسان يشذّ عن الإيمان فإمّا أن ينكر ألوهيّته مثل أريوس او ينكر بشريّته مثل اوطيخا (بجعلها وهميّة). الهرطقة الشائعة اليوم هي إنكار ألوهيّته والهرطقة الأخرى الاعتقاد ببشريّته سامية جدا فيه جعلته نوعا من إله.

دائما نظرنا الى الطبيعتين وفي آن واحد الى وحده شخصية المعلّ. وهو معنا بكل شخصيته التي يحلها فينا الرح القدس.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

تأملات في الحالة الدينيّة / السبت 18 تموز 2009

لبنان ينتمي هيكليا الآن الى ديانتين لأن نظام المتصرفيّة هكذا شاء ولأن الاحتلال المصري هكذا شاء ولأن الفرنسيين ارتضوا ذلك في عهدهم وقَبِل ذلك منشئو الاستقلال في حين ان الدين لله كما قال المعلّم بطرس البستاني اي لا علاقة له عند المسيحيين بالسياسة وله علاقة بها عند المسلمين اذا كانوا وحدهم في الوطن واستحبوا في هذاالعصر نظاما شرعيا وعودة الى اعتبار أنفسهم خير أمة أُخرجت للناس واعتبار أهل الكتاب أهل ذمّة. ولكن العثمانيين ألغوا في منتصف القرن التاسع عشر نظام أهل الذمّة الى الأبد والمسلمون في بلاد الشام استحبوا ذلك.

هذا هو الإطار الرسمي. اما نفحة القلوب فقد قرر اللبنانيون ان يستمدوها من ان الدين والدنيا واحد وبهذا المعنى أسلموا جميعا، كما قرروا ان تجمعهم اللياقات ولطف الحديث، وبهذا المعنى صاروا حضاريا ينتمون الى سلوكية الموحدين الدروز. واذا فطنوا ان يلطفوا علاقاتهم يذكرون كثيرا لفظة محبة ومن هذا المنظار باتوا ثقافيا مسيحيين. اي انهم اتفقوا ضمنا ان يكون إله ما ملهما لتصرّفهم المجتمعي وقد التقوا على الا يذكروا خلافاتهم الدينيّة حتى يتغلّبوا على صراع الثقافات ويعيشوا في ظلّ ثقافة اجتماعية أقلّه لسانيا. لست أوحي انهم في العمق يدينون بالتقية والكتمان ولكن التقية ساحرتهم لكي يجتمعوا على هذه الكومة العجيبة الغريبة التي تسمى لبنان.

ولكوني مسيحيا لا يقبلني أحد ان ألقي دروسا على كل المواطنين في تكوّن مجتمع واحد لا طائفي ولا سيّما أني أنتمي الى كنيسة أقليّة لا بروز لها في هذا التجمّع المتركم او المتلاصق والذي ليس تجمّعا مدنيا على الطريقة الأوربية التي لا دخل فيها للأديان في تنظيم الانتخابات والإدارة.

لن أتكلّم في هذا المجال الضيّق على العلمانية التي لا يقبلها أحد نظريا ولا يقبلها واقعيا خوفا على التصرفات الطائفيّة التي تخلط بين الدين والدنيا والتي تؤمن مصالح الجميع. سأخاطب اذًا في هذه العجالة المسيحيين المؤمنين الذي ليس عليهم لوثة من دنياهم لأكلمهم بكلمات دينهم وهم بين سمو عقيدتهم وروحانيّتهم وتقواهم من جهة وبين هذا العيش الذي سمي مشتركا في الدستور وأدبيات الحرب الأهلية وهي أدبيات مرتكزة على هذا الدهر وليس على الدهر الآتي كما نقول في اللاهوت.

ٍ# #
#
لإخوتي هؤلاء الممارسين منهم والكسالى أقول إنّ المسيحيين بلا مسيح كومة تراب فاذا قال كتابهم ان الايمان ينقل الجبال فمن باب أولى انه يذري التراب.

يجرحني المتسائلون عن بقاء المسيحيين في هذا البلد بعد ان تقلّص عددهم. لهؤلاء أقول: متى اهتمت المسيحيّة بالعدد مع علمي انه سيبقى عدد من المسيحيين مستنير ولكونه مستنيرا سيكون أكثر فاعليّة من كومة التراب. ماذا يفعلون بقول السيّد: »سأكون معكم حتى منتهى الدهر«؟ بولس الرسول لما كتب رسالة دسمة الى أهل رومية كان الذين يعرفهم بولس في المدينة الأبدية ستة عشر انسانا وارتقب منهم انهم بقوة الإنجيل الذي فيهم سينتشرون في كلّ الامبراطوريّة الرومانيّة وفعليا أخذوها في مطلع القرن الرابع. ولكنهم احتلوها بلا سيف ولا سياسة في ذلك الزمان. ألم يقرأ أهلنا ما جاء في كتابهم ان المحبة تطرح الخوف الى خارج؟ انا واثق ان عشرة آلاف مسيحي اذا كانوا من القديسين سيفرضون وجودهم بفاعليّة أعظم من المليون او المليون ونصف القاطنين اليوم هذا البلد.

الكارثة هي هذه ان احدا لا يعتقد ان الانجيل غير المتلبس ثوبا سياسيا أفضل من كل الركض السياسي الذي يقوم به مسيحيون كبار للحفاظ على انفسهم والرعيّة. الى هذا ليس عند المسيحيين تفوق علمي او مهني اليوم ولا ذلك الذكاء المفرط الذي يجعلهم الطليعة كما كانوا قبل خمسين او ستين سنة من اليوم. لقد أخفقوا في اللعب السياسي لما كانوا أكثرية وقد يتسامون سياسيا او يبرزون اذا قل عددهم وعظمت نوعيّتهم بما فيها الحياة الثقافية. وعندئذ لا يكونون في حاجة الى المبارزة السياسيّة.

وقد تجد أتقياء او ممارسين يخافون لأنهم لا يؤمنون حقا ان النقاوة التي تؤخذ من الإنجيل والعبادة هي لا اسكتبارهم التي تقيمهم في اللبنانية الفاعلة وذلك في وسط العالم العربي. عروبة غير لفظيّة تجعلهم ايضا في قلب المجتمع الإسلامي اللبناني وربما خارج الإسلام اللبناني. دائما ذهلت لإعجاب المثقفين المسلمين في ديار العرب بلبنان. أليس هذا لاعتقادهم بأن لبنان فيه نكهة مسيحية تروقهم؟
# #
#

واذا ذكرت الإسلام اللبناني الذي نلامسه على الأقل ونداخله في عيش نريده واحدا فهو إسلام واحد. واذا تلاعب المسيحيون ليلتصقوا بالسنّة او بالشيعة أقول لهم بملء الفم انهم أغبياء. الخلاف بين السنّة والشيعة حول الإمامة أمر يخص المسلمين وليس لنا في السجال الذي يدور بينهم منذ مأساة كربلاء علاقة.
نحن لسنا وسطاء بين المسلمين وهم لا يقبلون وساطتنا. وتكون ذروة الغباء أن نظن ان حلفا حصريا بيننا وبين فريق من المسلمين يقوينا. المسلمون أمّة واحدة بالمعنى الديني يقول لها كتابها انها أمة وسط وهي لا ترحب بإظهار نفسنا اقرب الى التشيّع او أقرب الى اهل السنة والجماعة. ويل للمسيحيين اذا لعبوا لعبة الإغراء بحلف الأقليات في هذا الشرق لأنهم، اذ ذاك، يرون أنفسهم وحلفاءهم الأقلويين مرميين في أحضان الصهيونية. ما من سبيل الى مكافحة اسرائيل مثل اتحادنا المجتمعي والفكري والروحي (نعم الروحي) بالمسلمين جميعا باعتبارهم أمّة واحدة ولكن في حضن الوطنيّة اللبنانيّة.
لقد حذّر المغفور له الإمام مهدي شمس الدين في كتابه الوصايا اهل الشيعة من ان ينظروا سياسيا الى غير شيعة لبنان. السنّة قادرون بهذا المنطق الا يغازلوا سياسيا أهل مذهبهم خارج هذا الوطن. المسيحيون الذين غازلوا اسرائيل في الحرب قد يستفيق فيهم شيطان هذا الغزل اذا عزلوا أنفسهم عن الوحدة الوطنية مع المسلمين في وطن لا تسمح مساحته بتقسيمات إدارية داخل البلد على أساس طائفي. هذه محاولة تولَد سقطا اذا ولدت. مما يأكل سكان الجبل اللبناني؟ هذا حل انتحاري يقضي على الفاعلية المسيحية ان أرادت ان توجد . الداعون الى هذا الحل قال لهم رئيسهم الروحي البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي انهم مدعوون ان يحيوا مع المسلمين في العالم الإسلامي الذي هو قائم ومنه لبنان.
هذا جزء من دور الرئيس الماروني في لبنان. كل رؤساء الجمهوريّة الذين عاصرت اي منذ الرئيس بشارة الخوري كانوا فعليا وفي صدق كامل رؤساء للشعب اللبناني قاطبة. ربما اعتقد البعض حتى اليوم ان ثمّة ريادة مسيحيّة. على سبيل الافتراض أسلم بذلك. هذه ريادة الموارنة ان يكونوا في خدمة لبنان جامعا لكل طوائفه بلا امتياز لأحد.
عند ذاك، يؤمن الجميع بأن لبنان أعجوبة الله في الشرق.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

التبرير بالإيمان/ الأحد 12 تموز 2009/ العدد 28

صلّى بولس من أجل اسرائيل الذي صلب المسيح اذ السيّد نفسه على الصليب غفر لهذا الشعب الذي عنده غيرة لله وبسبب من هذه الغيرة المغلوط هدفها قتل المخلّص.

خطأ اسرائيل -حسب الرسول- انه أقام برّ نفسه ولم يُقم البرّ الذي يأتي من المسيح اي من الإيمان به. اعتبر ان شريعة موسى تُخلّصه وكل غايتها كانت المسيح. لذلك صارت الكنيسة اسرائيل الجديد اي اسرائيل الله.

نحن لسنا ضدّ يهود اليوم ولو جحدوا المسيح. نحن نرجو خلاصهم، وكنيستنا بشّرتهم منذ ايام بولس وبقيّة الرسل. وتحوّل الكثيرون منهم الى المسيحيّة في كلّ أنحاء العالم. هؤلاء هم معنا شعب الله. نحن كنيسة مبشّرة ونبشّر كلّ الناس. قد تتعرقل البشارة بسبب الخطر الكبير المحدق بالمبشّرين، ولكنّنا أُمرنا بدعوة اليهود وغير اليهود الى المسيح لأن الخلاص هو به.

ندعو بالفم، بالسلوك الطاهر واذا عاشت الجماعة بالمحبة. لذلك يقول الرسول: “ان الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك اي كلمة الايمان”.

المعنى أولاً انك تنقل كلمة الله التي نعرفها من الكتاب ومن رؤية الكنيسة للكتاب، من خبرة القديسين. انت تمتلئ من كل هذا التراث، من الحيويّة التي تنتعش بها الكنيسة، من بهاء الأطهار الذين يعيشون في كنيسة المسيح.

الخدم الإلهيّة هي ايضا مكان للبشارة اذ بها ترجمنا الكتاب المقدّس. الرُتب المختلفة ما هي الّا ترجمة للإنجيل بلغة الناس. لذلك لا تنحصر البشارة بأن تقرأ مقاطع من العهد الجديد على الناس وإن كان هذا هو الأهم. البشارة ان تقول كلّ ما في الكنيسة وان تكشفه للناس.

ولكن كلّ المضمون البشاريّ، كل محتوى ما تُبلّغه مؤسَّس على كل بولس في نهاية هذا الفصل الرسائلي: “إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله قد أقامه من بين الأموات فإنك تخلص”. شرطان اساسيّان للخلاص: الايمان بالقلب، والاعتراف باللسان، لأنّ القلب واللسان عندنا واحد وليس عندنا باطنيّة اي لا يحقّ لنا أن نُخفي إيماننا او ان نكفر اذا تعرّضنا الى خطر. الشهادة حتى الدم أمر إلهيّ نأتمر به. فالإيمان حيّ بالمحبة. وأقصى المحبّة ان تموت في سبيل مخلّصك. اذا عرفت المسيح ربا ومخلّصًا لكل انسان تكشف له أنك تدعوه الى الاعتراف بالمسيح. تدعوه لأنك تحبّه وتريد خلاصه.

اذا أحببت شخصًا لا تريده ان يغرق في الظلام لأن الظلام يعذّب النفس ويقتلها. لا تنقل المسيح، ضرورة، بالجدل والسجال. ولا يحقّ لك أن تُخفيه اذ بذلك تشهد ضمنا ان الظلام والنور واحد.

ولكن افهم انك لا تقدر أن تشهد بالفم ما لم تشهد في الحياة الطاهرة. ان كنت مدنسا لا يصدّقك احد ولا يقبل رسالتك.

لقد كسب المسيحيون العالم اذ أشاعوا المحبة وعندما سكبوا دمهم. اذ ذاك آمن الناس بيسوع الناصريّ. ان كان أتباعه فيهم حق بما يقولون وبما يعيشون كم بالحريّ يكون هو الحق.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الوطن / السبت 11 تموز 2009

لقد نحتت عصبة الأمم في جنيف لفظة apatride  اي الذي لا وطن له. وان لم تخني الذاكرة أظن ان هذا الوضع القانوني الغريب أعطي للروس الذين غادروا بلادهم بعد الثورة البلشفية ولجأ الكثيرون منهم الى باريس ولم يحصلوا على الجنسيّة الفرنسيّة او لم يطلبوها لاعتبار أنفسهم روسيين معنويا او ادبيا ولم يصيروا فرنسيين بالمعنى القانوني فاضطرت عصبة الأمم ان تنشئ هذا الوضع الجديد.

تاليا الوطن انتساب قانوني تريده وليس فقط الرقعة التي تولد عليها. لا يكفي ان تحب الأرض التي جئتها اذ يجب ان تختار دولتها. الدولة اذًا تشكّل انطلاقا من أناس يرتضونها ويؤلّفونها بمئة شكل وشكل. هي بنية يصنعها المواطنون فاذا أرادوها كانت وهم أمة في حدودها. فاذا ارادوها يعنون انهم منضوون تحت لوائها ولها عليهم حق الإخلاص بحيث لا يريدون انتظامهم في غيرها اذ لا يستطيعون الانتماء الى اوطان أخرى الا اذا خانوا. والدولة ضعيفة ان أرادوا لها الضعف وقادرة ان أرادوا لها القدرة. من هذه الزاوية كانت الدولة مرآة المجتمع وتصبح بآن أداة في خدمة هذا المجتمع بالدفاع عنه، بحمايته، بترقيته. فعلى قدر ما يخلص لها تخلص هي ايضا له وفي شدّتها تلازمه ويلازمها.

ولكن هذا يعني ان في المجتمع قدرا من تمسكه بدولته لتتمكن هذه من البقاء. وفي عقل الجماعة ان الوطن الذي يصنعه الناس بالحب والجهد نهائي في أمانيه على الأقل وان كانت النهائيّة المطلقة لله اذ تتغيّر الشعوب والأمم واذ ذاك تدول الدولة. الدولة في اللغة العربية تنتهي اذا اقترب شعبها من النهاية بالهجرة او الحروب او الكوارث المختلفة وتنفرط الأمة وتصبح قبائل وقد تبقى الأجهزة الحاكمة الى حين اكتمال التلاشي في القوم. وقد ماتت دول ونشأت دول وماتت أوطان وظهرت أوطان. في هذا الحقل ليس من أبديّة.

وينشأ وطن جديد صغير بعد انفراط وطن اكبر او بعد انقسامه وتترتب أوضاع جديدة في رقعة جديدة وفي هذه الدنيا ليس من مأساة على هذا الصعيد وان كانت هناك جراح وأحزان حتى ينمو فرح في التركيبة الجديدة اذا هذه صمدت.

ولا داعي إطلاقا الى رؤية الوطن متجذّرًا في التاريخ القديم لأن معظم البلدان الحالية مستحدثة بسبب من حروب يتم فيها استيلاء الأقوياء على الضعاف وتعبر فترات قصيرة نسبيا حتى تجد الدولة الجديدة حدودًا لها ويرتضيها من عاش ضمن هذه الحدود.
# #
#
والحب ينشأ بعد تصوّر الأوطان بسبب من التعايش المرتضى والفوائد المجنية من تشكلها على اقتصاد ما مزدهرا كان ام غير مزدهر وعلى السلام ما أمكن السلام.

لماذا الأوطان؟ لأن الإنسان لا يستطيع ان يعيش وحده، لأنه يحيا على رقعة من الدنيا وتنفع عياله ولأنه يجد فيها من يحبّه ولأنه لا يحصل على لقمة عيشه الا بالتعاون. غيز ان هذا التعايش يشترط حدا من اأخلاق معقولا لئلا يبتلع الكبير الصغير فيرد الإنسان الى وحشته ويرحل او يموت. الحد الأدنى من التعايش هو الا اقتلك ولا تقتلني وان نتعاون في المهن والعناية المتبادلة والنمو الصحي والدراسة والى كل ما يسند صمودنا معا. واذا غاب هذا الهمّ او ضعف كثيرا بالخصومات والحروب الأهليّة والعداء الذي يقضي على شرائح مختلفة يضيع الوطن وتاليا تسقط الدولة.

هناك مقدار من قبول الغير على مستوى معقول حتى لا ينفجر البلد من الداخل. قد يضرب البلد من الخارج والأخلاق وحدها تنقذه بطول الأناة والعمل والشجاعة والروح المعطاء. ان الخطر الخارجي أقل أذى من انهيار روح الوحدة الداخليّة. واذا سمح لي باستعمال تعبير ديني ينهض البلد من بعد انهيار اذا كان فيه ابرار ينتعش بهم الناس ويرجون الخلاص. اما اذا قلّ الأبرار فيذوي البلد ويذبل ويفتش باطلا عن حلول خارج البر. بلد يكثر فيه السرّاقون والمحتالون والكسالى والشتامون والمتذاكون باطلا بلد يدعوه الفناء اليه ويهلك آجلا ام عاجلا. ليس من بلد عنده امتياز البقاء من الله. الله لا يحب بلدًا بصورة خاصة ويزكيه ويعلي شأنه لأنه اختاره منذ الأزل. ليس لبلد واحد من سرمديّة. البلدان تموت كعشب الصحراء وتختنق وتقرأ عنها في كتب التاريخ. ويكون أهلها قد قتلوها عمدًا او غفلة. وخطيئة الغفلة عند علماء الأخلاق كالخطيئة الطوعيّة.

ولا عذر لأحد ان تدهور بلده. فكلنا قاتل او غافل. ومعصية أولي الأمر أقسى من معاصي العامة لأن أولي الأمر تسلّموا من الناس القدرة ويستعملونها للاقتصاص من المجرمين وتلك هي مسؤوليّتهم الأولى على ما قاله بولس في رسالته الى أهل رومية. اما اذا كانت الدولة مغناجة مع المجرمين فلا عذر لها لأن حماية هؤلاء تعدِّ على الأبرياء وانتقاص من حريّتهم حتى تزول الحريّة فيزول الانسان.

# #
#
ماذا يقول الكتاب عن المتسلمين الشأن العام؟ يقول: «يا أيها الملوك تعقّلوا واتعظوا يا حكام الأرض» (مزمور 2: 10). عندما يقول تعقّلوا يفترض ان لهم عقلا راجحا يرجعون اليه واذا قال اتعظوا يثق ان لهم قدرة على الحكمة. ماذا يقول الكتاب لصلاح الحكم؟ أشعياء يكتب: «حكامك قوم متمرّدون وشركاء لقطاع الطريق. كلّهم يحب الرشوة» (1: 22). ازاء ذلك يقول النبي نفسه: «اما الرافضون مكاسب الظلم، النافضون أيديهم من الرشوة…فهم يسكنون في الأعالي» (33: 15 و16).
وأقوال أخرى في الرشوة لا مجال هنا لذكرها جميعا حتى لا تقع لعنة الأنبياء علينا. ان استمرار هذه الأمة يعني ان البلد الذي يصاب به طولا وعرضا يجلب عليه غضب الله ومعنى ذلك ان لعنه الله نازلة على كلّ من رشا او ارتشى وان لا ضمانة لبلد يرتكب هذه الفحشاء بمقدار كبير فيكون هذا الإثم لدمار الوطن والأمة والدولة جميعا.

في دغدغة اللذات فقط تحسبون ان بركات الله نازلة على لبنان منذ الأزل. هذه هي الكذبة الكبرى. البركة تشمل فقط الإنسان الطاهر ولا تميز بلدا. الى جانب تعظيم التوراة أرز لبنان يقول الكتاب: «افتح يا لبنان أبوابك فتأكل النيران أرزك. ولوِل ايها السرو على سقوط أرز لبنان» (زكريا 11: 1 و2). كفّوا عن التغني بلبنان ان لم تتوبوا. لا يقوم لبنان بلا طهارة تكلله، بلا ناس أنقياء، بلا حكم صالح. ليس من نهائية لبلد لم يضع اساسا لنهائيّته. الذين لا يستوطنون عند الرب لا وطن لهم هنا. والذين لا يسعون الي بلد يجعلونه مقرا لله سيموت بلدهم آجلا ام عاجلا.

إن أحببتم حقيقة الله تجدون حقيقة الانسان والناس جميعا. الوطن هو في هذه الحقيقة او يبقى بحرا وجبلا واشجارا وبيوتا وطرقات اي لا شيء. هل تريدون لبنان مسجلا في السماء اي بعضا من الوطن السماوي ام تريدونه مالا في جيوبكم وسلطة تمارسونها. يريد الله لنا بلدا جميلا. لا تقبحوه انتم طوعا او غفلة لئلا يهرب منكم. أوجدوه بالحق تجدوا أنفسكم في الخلاص.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الخطيئة والموت / الأحد 5 تموز 2009 / العدد 27

في رسالة اليوم وهي الى أهل رومية الأصعب في رسائل بولس يقول الرسول: “بعد ان أُعتقتم من الخطيئة صرتم عبيدًا للبِر”. يقابل عبوديتنا للخطيئة التي كنا فيها مع عبوديتنا للبِر التي صرنا فيها بالمعمودية. والمعمودية عنده كانت لاحقة للإيمان اذ كان يتوجّه الى البالغين. عنى بهذا تماسكا كيانيا مع البِر.

ثم يفسر هذا بقوله إن العبودية للخطيئة هي “عبادة الإثم للإثم” بمعنى ان الإثم الذي هو ذروة الخطيئة يولد الإثم. ويعود ليؤكد ان العبودية للبر هي للقداسة التي هي تنزه عن كل معصية وتوغل في حياة المسيح. وحتى لا يفهم احد انه من الممكن ان يخلط الخطيئة والبِر بحيث يأخذ من هذا ومن تلك، عاد الى التأكيد ان عبيد الخطيئة احرار من البِر اذ لا يجتمع النور والظلمة.

بعد هذا يدلي بفكرة أخرى بأن الأمور السيئة التي كان المؤمنون يرتكبونها قبل اهتدائهم إنّما عاقبتُها الموت. الخطيئة عنده سبب الموت اذ كان الله عند الخلق أعدّنا للخلود، ولما عصا آدم دخل الموت الى الكيان البشري.

لا يقول الطب شيئًا عن سبب الموت ولو لاحظ أمراضًا. أحيانا يموت انسان بلا مرض معروف. هذه هي النظرة البيولوجية.

اما بولس فلا يتحدّث عن كيان الجسد وتركيبته ونـهايته. يكشف السبب الذي هو عنده الخطيئة. نـحن في الإيمان ليس اختصاصنا الصحة والمرض. لا ندخل هذا الحـديـث. نقول ان ثمّة سببا للموت ليس من اختصاص العلماء أن يـبحثوه. هو الخطيئة. ولا يعني بهذا خطيـئة الفـرد ولكن الخطيـئة المنتـشرة في العـالم. ثمار الخطيــئـة العـامـة، المتـفشّيـة في البـشر تـصيـب كل انسان.

يكرر فكره هذا اذا قال: “قد أُعتقتم من الخطيئـة واستـُعبدتم لله”. المعنى الذي يريد ناتج من رؤيـته للعبـوديـة التي كان يـعمل بها في الامبراطورية الرومانية حيث كان العبد مُلكا لسيّـده، وكان في بدء نظام العبـوديـة للسيد ان يـحفظ لعبـده الحيـاة او ان يميته كما يـشاء.

“استُعبدتم لله” تعني ان الله حافظنا في الخير واننا خاصّته. هذا الاستعباد لله ثمره القداسة. “والعاقبة هي الحياة الأبدية”. والحياة الأبدية عرّفها المسيح على انّها معرفة لله ولابنه اي معايشة حياة ومرافقة حياة بيننا وبين الله. وهذه المرافقة حصرية بمعنى انه ليس لنا مشاركة مع غير الله.

أخيرًا يوضح ان “أُجرة الخطيئة موت”. والموت عند بولس عدوّ، وآخر عدوّ تبطله القيامة من بين الأموات التي انحدرت الينا من قيامة المخلّص.

ويُنهي بولس هذا المقطع بقوله: “ان الحياة الأبدية هي في المسيح يسوع” بمعنى اننا لا نوهبها فقط عند القيامة ولكنها بدأت فينا مع المعمودية ونجدّدها في الأسرار وفي حياة البرّ.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

لبنان الإلهي / السبت 4 تموز 2009

أنا حزين لأن لبنان الأرض أجمل من اللبنانيين وكنت قد اشتهيت ان يكون أبناء بلدي أجمل من طبيعة بلدهم. أخذت اليوم القلم ليس لأبدي حزنا لا يهمّ أحدًا ولكن لأدعو أبناء هذه الرقعة من الدنيا الى أن يكونوا عظاما.

ملّ الجميع من أن أتكلّم على أهل السياسة. سأحيد عنهم لأخاطب ضميركم ليصبح شامخًا كالأرز. من أنا لأعتب. غير اني أحسست ان خطابي اليكم واجب عليّ لئلا أموت من صمت كاذب. ويأخذني الخفر قبل الكلام حتى لا أقع تحت الدينونة وحتى لا أسوق احدًا الى دينونة الله وحده يقوم بها. ولكني متعب من الكثيرين، من الأكثرين. وحتى لا أموت يجب أن أتكلّم.

البلد، يا أحبة، هو أنتم. فيه شجر وجبال وأودية وبحر ولكنه قبل كل شيء أنتم. ورجائي أن يصبح أبهى مما هو الآن ان أردتم ان يرمي كلّ قباحة عنكم. نحن الآن مقيمون في قباحات جارحة. انا لست عالم إناسة لأصفكم بدقة وما أكملت هدوئي لأتحدّث عنكم بصفاء ولكن البشاعات جلية. ورثناها من عصور غابرة وليس المجال لنتقصى عن الذين زرعوها فينا. المهم اننا نقيم في خطيئات أمست أهواء تتأكلنا من الداخل ولعلّنا ارتضيناها نمط عيش. ولا يقنعني أحد اننا هببنا لإقصائها. لا يعوزك ذكاء كبير او تنقيب دقيق لتلحظ ان الكذب كثير الانتشار. من يصدّق من في لبنان؟

قلت هذا لراهب كبير عندي متوجعا. علّق على كلامي قائلا اننا في الأمس ظُلمنا (بضمّ الظاء) فقُهرنا (بضم القاف) وهذا رسخ فينا الباطنيّة لنعيش. انا لست عالم تاريخ. هاجسي ان أشخص المرض وان أدعو الى الاستشفاء لنصبح راسخين في الحق، متلألئين مثل كواكب السماء. الكذب خوف. كيف نبعد الخوف عن النفس اي كيف يؤمن الإنسان انه كامل القوة وان القوّة تعطيه الشجاعة ليواجه الأكبرين.

مرّة كنت أستمع الى اعتراف فتى فسألته ان كان يكذب. قال نعم ولكني لا أوذي أحدًا . قلت بل تؤذي نفسك لأنك تتقزّم أمام الأقوياء ولا ينبغي ان يهمّك الأقوياء. مجتمع فيه فقراء كثيرون معرض لاجتناب الحقيقة. مجتمع ليس كله وفاء او تسوده ذهنية السماسرة والمستقوون بمالهم او نفوذهم يضرب الحقيقة بقوّة استضعافه. كيف نكافح اسباب الخوف في الفرد والجماعات ذلك كان السؤال ان ابتغينا حقا الحرية الداخلية التي تمكّننا من الشهادة؟
# #
#

لست أعلم على وجه الدقّة ان كانت غايات الكذب احيانا اقتناء المال. ولكن تحصيل المال كثيرا ما اختلط بالكذب لا ريب في ذلك. الأغنياء والفقراء معا يشتهون المال. الفقراء من أجل يسر معقول والأغنياء اشتهاءً منهم للسلطة ونحن نعلم ان «كلّ سلطة مفسدة والسلطة المطلقة تفسد كليا» لأنها حتما استعباد اي إقصاء. اعرف ان كل ّشعوب الأرض واقعة في شهوة الاقتناء. اما نحن فتقوى الشهوة فينا لنحمي أنفسنا من الجوع الذي ذقناه في الحرب العالمية الأولى وقضى على ربع شعبنا ولنحمي أنفسنا من عدم الاستقرار ونقيها شر تقلبات الحكم المرتقبة ابدًا. هل تمكين الحكم يضعف فينا هذا الشبق؟ هل نستعيد القناعة المنقولة التي عرفناها في أجيال سابقة؟ هل يقبل الثري ان يعيش باحتشام ليؤهّله ربّه للعطاء؟

الترف خوف ايضا وأول ما في هذا الخوف ان الاستعلاء والذي تطلبه الغواية يقيمنا في ذلك المجد الباطل الذي يفرّقنا عن العامة. نحتاج الى أشياء نظنّها تزيّن شخصيّتنا او تصبح جزءًا منها ان لم نحس اننا بتنا نحن جزءًا من قصورنا ومما نملك. هل يوقن الكثير انه مع الله يملك الأرض وهو لا يختزن شيئا منها او لا يتعاطى سياسة. من يطمح الى وجود ليس فيه تفه؟

اذا أدركت لحظة ان المال ليس بحاسم خياراتك واقتنعت انه لا ينبغي ان يحسم خيار احد تجعل المال لمحتاجيه في دولة مليئة كما يقولون اليوم وتاليا قادرة. انت تحول القدرة الى السلطة التي لا تخشى أحدًا وتقيم العدل.

# #
#
هل عدل السلطات يجعلنا ننسى القبائل ونصير شعب لبنان فقط. كيف ننتقل من تعدد الشعوب الى رؤية أمة واحدة لا تنسى التمايزات ولكن تتجاوزها لإقرار وحدة كياننا؟ كل طائفة فريدة لكونها تحمل مواهب بادية في فعلها، في مشاركتها ولا تهمل فرادتها ان توحّدت بلا ذوبان. نحن لوحة تفترض عدّة ألوان تتلاقى ولا تتمازج. لست أظنّ ان جماعة دينيّة بما هي قوم تحسب نفسها الأولى. كلّنا من تراب اي من أخطاء يغطيها جمال وتبقى أخطاء. والأجمل في هذا الاتحاد ان تعترف للمتحدين معك ان فيهم حقيقة ومواهب من السماء ومن التاريخ. كل فريق ديني عندنا عنده دواعي افتخار. ونحن نصل الى الوحدة ان افتخرنا بالآخرين وضممناهم ليس الى قلوبنا وحسب ولكن الى عقولنا ايضًا.

وحدتنا كل منا مع لبنان يفترض ان يعتزل كلّ منا فرديّته التي هي مرض الكثرة فينا. والمرض هذا في أقصى حدته ان يحسب المرء انه وحده في الوجود وانه قادر ان يكمل نفسه بلا الآخرين. الوجود مشاركة وهذه تعني انك موجود اذا ضممت الكلّ اليك وانك شاعر بأن موجوديّتك هي بهم. وهذا يعني انك ان لم تكن مبذولا فلست بشيء. هذا يعني بتعبير فلسفي انّك تخلي نفسك من انطوائها على ذاتها لتعرف انها تنمو من ملء صار فيها ان هي أحبّت. وان أحبّت تقوم من الموت الذي هو تعظيم الأنا الفقيرة، الفارغة. ان تستغني وحدك والناس جياع، ان تسود وحدك والجماعة حولك تفنى في فقرها، في جهلها فهذا موت فيك. ان لم يحيَ الجميع فليس من حي. ان ترى الناس كلّهم لك وأنت عبد للذة التقوقع هذا امحاء كامل لوجودك الفاعل. ان لم تشعر انك تأتي من الآخرين فأنت مرمي في صحراء لست تعلم انك تعطش فيها.

# #
#
لبنان لن يصير شيئا ما لم يكن شعبه قد صار عظيما بتحرر الكثيرين من الكذب ومن عبادة المال والسلطة والأنا المقيت العدوة للشراكة. بلدنا يتحقق في كلّ أفراده، في سموّ يتعالى في رؤيته للحق والتعالي هو التواضع والافتقار الى الكمالات الروحية التي لبست من هذا التراب ولا الزمان الشرير.

السياسة تقوم من صنعنا الحياة العليا الكامنة في النفس. لبنان الرسمي يصنعه شعبنا المغتذي من الحقيقة والطهارة والبرّ والذكاء الذي يجيء منها. بلدنا يصير جميلا من سطوع الحقيقة فيه وهي وحدها بهاؤها. كيف نصير الى هذه الحقيقة يبدأ بقيام كلّ واحد منا على الكفر بالذات اي على الكفر بما كنّا، في جهالاتنا، نعتبره الذات من شهوات المال والسلطة والكذب والانطواء على الأنا الفارغة القاتلة للآخرين . لبنان هو شعبه العظيم ليس امجاد زائفة تقوم على الادّعاء ولكن في المجد الإلهي القائم في قلب الإنسان الذي يذوق قيم الله.



Continue reading