لن يأتي هذا الكلام حديثا عما سُمّي المسيحيّة اللبنانيّة لكون المسيحيّة تُنعت بذاتها ولا ينعتها وطن. دليل ذلك أن معظم الكنائس عندنا تنسب نفسها الى أنطاكية ويحمل كل بطريرك فيها لقب ببطريرك أنطاكية وسائر المشرقا. وهنا خمسة بطاركة يحملون هذا اللقب مع ان سدّة أنطاكية واحدة. واحد منهم اذًا يستحقّ هذا اللقب وليس هنا المجال لأعرّف عنه. جميعنا أو معظمنا في الواقع او في الأمنية أنطاكيّ اذ بفي أنطاكية تسمّى التلاميذ اول مرّة بالمسيحيينا (أعمال الرسل 11: 26) تلك المدينة كانت عاصمة الولاية الرومانية المعروفة آذاك بسوريا. أنطاكيون تاليا، المسيحيون القاطنون اليوم سوريا ولبنان وكيليكيا (جنوب تركيا الحالية) والعراق وفي القرون الخمسة الأولى قبرص. هذا اذا لم نذكر الشتات او المغتربات.
المسيحية القديمة كانت مرتّبة إداريّا على أساس بطريركيات خمس: رومية، القسطنطينية، الإسكندريّة، أنطاكية، اورشليم. نحن في هذا الإطار. بعد نشوء لبنان الكبير بقيت كنيستنا أنطاكيّة ليس بالنسبة الى قومية ولكن بالنسبة الى مدينة وهكذا تعُرف الكنائس. وأتحدّث مع كنيسة أنطاكية ومعها الكنائس المحيطة بها وسُمّيت مجموعة هذه الأبرشيات الكنيسة الأنطاكيّة.
وعند الانشقاق الأول السنة الـ451 الذي أظهر ما يسمى اليوم الروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس، احتفظت كل منهما بالتسمية. كذلك عند تفجّر الكنيسة الأرثوذكسية السنة الـ١٧٢٤ الى أرثوذكسيين وروم كاثوليك، ظلّت كل واحدة منهما ذات بطريرك أنطاكي. هذا هو الواقع التاريخي الذي لن أناقش فيه محتواه العقدي.
منذ سنوات قليلة تفاهم الروم والسريان أن كلاًّ منهما يستطيع ان يتقبل الأسرار المقدسة في الكنيسة الأخرى عندما لا يجد في منطقته كاهنا او كنيسة من طقسه، وهذا يعني بوضوح انه يعترف بالكاهن الآخر وبالأسرار التي يقيمها. وقبل تحديد الكنيسة الكاثوليكية العالمية عقيدة رئاسة البابا على العالم كلّه وعصمته ما كان شيء في المبدأ يمنع الأرثوذكسيين والروم الكاثوليك الملكيين أن يتشاركوا بالأسرار المقدسة بعضهم عند بعض. ولهذا السبب لم يكفّر أحد آخر قبل السنة الـ ١٨٧٠ التي ظهرت فيها العقيدة البابويّة بوضوح. لم يكن بين الكنيستين تكفير. ويقول بعض العلماء الغربيين ان الكنيسة الكاثوليكيّة لا تستهدف بالحرم الصادر عن المجمع الفاتيكاني الأول الا أهل الغرب الذين رفضوا الرئاسة البابويّة والعصمة، وهذا لا يتضمّن حرمًا للأرثوذكس.
# #
#
ليس هناك اذًا تهمة بالهرطقة اي بالشذوذ العقدي، ولكن بقي الانفصال الواقعي. وهنا لا بدّ لي من أن أذكّر بالموقف الذي وقفه القديس باسيليوس الكبير بقوله ان الهرطقة او البدعة تحصل خارج الكنيسة، وان الانشقاق هو الحاصل في الكنيسة نفسها. غير ان هذا كلّه يقتضي توضيحا جديدا من الكنائس.
على كل هذا العرض لم يكن هاجسي ان أبحث في ما يسمّى الكنيسانيّة اي اللاهوت المتعلّق بكيان الكنيسة. همّي الحقيقي ان أقول بخلاف ما يؤكّده بعض العلماء غير المسيحيين ان المسيحيين ليسوا منقسمين حول التجسّد او طبيعة المسيح. كلّ المسيحيين في العالم يؤمنون أن المسيح إله تام وإنسان تام في شخصيّة واحدة. وهذا ما رآه ما لا يقل عن اثني عشر لاهوتيًا شرقيًا في القرون الوسيطة ومنهم ابن العبري السرياني المذهب في القرن الثالث عشر. كلّ هؤلاء أوضحوا أن الخلاف لفظيّ بمعنى انك اذا قلت ان السيّد ذو طبيعتين إلهيّة وإنسانيّة أو قلت انه ذو طبيعة إلهية واحدة متجسّدة فمدلولك واحد وإيمانك واحد.
ومن العلماء المعاصرين من ذهب أن النساطرة بصرف النظر عن تعابيرهم لا يجزّئون المسيح الى طبيعة إلهيّة وطبيعة بشريّة منفصلتين. وقد أكّدت الكنيسة الغربيّة في مفاوضاتها واياهم أنهم على رأي مستقيم.
# #
#
المسيحيون في صلب العقيدة بالمسيح وفي صلب الثالوث(ماذا بعدهما) هم واحد ولكنهم اصبحوا في الواقع التنظيمي مختلفين. كيف نحلّ هذه المعضلة ليس هاجسي في هذا المقال. المشكلة باتت الى حد بعيد إثنية احيانا او لغويّة (بين الروم الملكيين والروم الأرثوذكس ليس شيء من هذا) او انتساب ما تاريخي غامض الهويّة في كثير من الأحوال ما أنشأ طوائف مختلفة. السريان الكاثوليك والموارنة واحد كليا طقوسيا وفي الانتماء الى الكرسي البابوي. التمايز التنظيمي ناتج اذًا من شيء آخر له تفسير سوسيولوجي- تاريخي وليس له تفسير لاهوتي.
لماذا نحمل الى اليوم عناصر بشريّة تفرقنا. أليست هذه جلودًا ميتة تحجب الكيان الحي؟ أليس ضمن هذه الجلود الميتة عناصر سياسيّة او قراءات مختلفة للعمل السياسي؟ هل دخلت الدنيا وأزمنة الناس جسد المسيح ولبسنا ثيابًا ليست لنا؟
ما يحيينا أن ندرك الوحدة الأصلية لنا من المسيح وفيه، وان نسير الى قيامته معا وننشئ حياة مشتركة قائمة على التجدّد الواحد بالروح القدس غير مهملين التنوّع الطقوسي ومتحرّرين بآن معا من الميثولوجيا التاريخيّة والتمايزات الإثنية واللغويّة وما اليها صابّين اهتماماتنا على القداسة، فرحين بعضنا ببعض وجامعين قوانا الروحيّة لتقوية عهدنا مع المسيح.
وعندما يكون هذا سيرنا، لا نخشى تهديدا او لا نرى تهديدا. سيموت بعض منّا في العراق. سيظلّ أتباع يسوع ٢٪ في فلسطين والأردن. ستقع المظلوميّة او الدونية على بعض. هذا ليس إصلاحه في السياسة. هذا تغيّره المحبّة بيننا والتي نقدّمها للآخرين واثقين بقوتنا الروحية والشهادة الدائمة للإنجيل.
كنائس المسيح في لبنان ليست قوتها في أية حماية. لقد جرّبنا الحمايات منذ اتفاقات فرنسا والباب العالي في القرن السادس عشر ومتنا. نحن ليس لنا قوة على الأرض نحيا بها. نحن عندنا قوّة الكلمة ولهب القلوب المُحبة الغافرة. المسيحيون المتراكمون بعضهم على بعض قلنا انهم ركام تراب. المسيحيون الذين يجعلهم الروح الإلهي وجه المسيح في الكون سيطلعون دائما من الضيق ومن خطاياهم ويزدادون حبا بانتصار الحب على البغض والمعرفة على الجهل. كل مسعى دنيويّ لهم ليخرجوا من مآزقهم لا يزيدهم الا يأسا ومرارة. لقد قال لهم المعلّم انهم ليسوا من هذا العالم، وكلما تشبّثوا به أغرقتهم أوحاله.
لقد جعل لهم مسيحهم منطقا غير منطق عقلاء الأزمنة السيئة. دائما خرّبوا حياتهم لما عانقوا عقليّة هذه الدنيا وحالفوا شياطينها. المحزن فيهم انهم لا يعرفون انهم نزلوا من فوق وأنهم منذ الآن سكان السماء إن فهموا. فليتّحدوا بهذا الفهم ليكون لهم بهاؤه، وليستضيئوا به ويضيئوا بسطوع هذا الذي قال لهم: «أنا نور العالم». هو قال لهم ايضًا: «أنتم نور العالم». ليسوا شيئا آخر إن علموا.
Continue reading