Monthly Archives

July 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم/ الأحد 31 تموز 2005 /العدد 31

الفصل المقروء اليوم يتضمن تعليما يتعلق بالنشاط الكنسي ثم بتوجيه أخلاقي.

          كان في الكنيسة من سمي أنبياء وهم ناس يلهمهم الرب أن يبلغوا الجماعة مشيئته. كانوا من العوام. غير أن الرسول خشية وقوع هؤلاء في خطر الكلام نبههم أن القاعدة في كل الكلام أن يكون موافقا للإيمان. هذا هو محك إن هذا الكلام يجيء من الله.

          النبوءة موهبة وغيرها موهبة. ومن المواهب الخدمة أي خدمة الأسرار. أما الذي يسميه بولس المعلم فقد يكون علمانيا. ووظيفة هذا الآتية من الروح الإلهي أن يعطي فحوى العقيدة. لو سئل مسيحي آنذاك بماذا آنت تؤمن لأجاب انه يؤمن بالله وبموت ابن الله وقيامته والمعمودية وجسد الرب ودمه والقيامة من بين الأموات. كل هذا تجده في رسائل بولس.

          الواعظ له عمل آخر. هو يقف في القداس بعد قراءة الأنبياء ورسالة من بولس (الإنجيل لم يكن مدونا بعد) ويحض المؤمنين على التوبة. لا يعلم وكأنه في صف التعليم (هذه وظيفة المعلم) ولكنه يستخدم التعليم نقطة انطلاق ليدعو إلى التنقية استعدادا للمناولة.

          أما المدبر فتعني المسؤول عن الفقراء وهذا يحضه الرسول على الاجتهاد أي ألا يهمل احدًا منهم وان ينكب على عمل فيه سعي إلى معرفة المحتاجين وحاجاتهم او أعطاهم من مال الجماعة.

          أما من سماه الراحم فهو من أحسن من ماله الخاص وربما كان ناشطا في حقول أخرى مثل عيادة المرضى.

          وبعد أن استعرض بولس كل هذه المواهب تكلم توا على المحبة وكأنه يقول أن المواهب أنزلها الله على المؤمنين من اجل بنيان الكنيسة بالمحبة. يريد المحبة بلا رياء أي ليس بالكلام المعسول وإظهار عاطفة كاذبة ولكنها محبة أخوية صادقة وكان الرسول قد استفاض في الحديث عنها في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (إصحاح 13).

          أما قوله: “مبادرين بعضكم بعضا بالإكرام” فليحثنا على ألا ننتظر الإكرام من آخر بل أن نسبقه به. وهذا لا يعني المديح الذي لم يحبه المسيحيون ابدا ولكنه اقرب إلى لطف المعاملة والحديث القائم على الطراوة وليس فيه جدال حاد او ذم.

          ثم يتكلم ضد الكسل ذلك لكوننا مسؤولين في العمل المهني عن أنفسنا والعائلة والناس. والى هذا ضرورة الاجتهاد في درس الكلمة والعناية بالجميع.

          كل هذا لا يتحقق الا اذا كنا “حارين بالروح” أي متقبلين الروح القدس. هذه هي المعمودية بالروح والنار التي تكلم عنها يسوع. يجب أن يراك البشر شعلة ماشية غير منطفئة وهذا ما يجعلك في العمق عابدا الرب ولا تعبد سواه فإذا عبدت المال او أية شهوة أخرى تكون قد انتقصت من كون الله إلهك الأوحد. هذه العبادة تعطيك الفرح في الرجاء أي تراكم فرح على فرح بانتظار فرح الملكوت.

          هذا لا يمنع الضيق. لذلك يقول: “صابرين في الضيق” لأنه امتحان الله وانتظار المشيئة الإلهية في كل وقت. ولا يسعكم أن تكونوا صابرين الا اذا كنتم “مواظبين على الصلاة”. وهذه ابتدأت أن تنتظم في أوقات محددة في الصباح والغروب. تواظبون عليها لتعيشوا بها.

          غير أن حياتكم في المسيح لن تستقيم لكم الا اذا لبيتم احتياجات القديسين وهم بالدرجة الأولى فقراء أورشليم الذين حدد الرسل لبولس أن هؤلاء يجب أن يكونوا هما من همومه لما أطلقوه إلى تبشير الأمم. كذلك في كل كنيسة محلية ومنها رومية ضيافة الغرباء ولاسيما أن رومية، عاصمة للإمبراطورية، كان يلجأ إليها المسيحيون من الشرق وليس لهم فيها ملجأ.

          أخيرا يحث بولس المؤمنين أن يباركوا الذين يضطهدونهم. والاضطهاد كان له بدايات في عصره وهو من الذين اضطهده اليهود في فلسطين وأماكن أخرى بشر فيها. ثم بعد هذا ببضع سنوات انفجر الاضطهاد الكبير على عهد نيرون.

          وينهي كلامه بقوله: باركوا ولا تلعنوا فالذي يضطهدك يحتاج إلى صلاتك ليحيا بها.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

البيان الوزاري / السبت 30 تموز 2005

البيان الوزاري يستحق اسماً أعظم. على مراعاته للظرف هو شرعة الحكم في لبنان. دقته لا تخليه من طابع وجداني يكاد يكون شعراً في المقدمة والخاتمة كأنه رسالة حب الى اللبنانيين والتزام حب. متوازن من حيث شمول أجزائه الوزارات كلها أو معظمها. قلت انه دقيق بمعنى ان بعضاً منه ولا سيما ما يتعلق بالاقتصاد تقني جداً حتى كدت أفهم هذه الفقرة وتلك بعدما نسيت الاقتصاد السياسي الذي درسته قبل ستين عاما. ولعل الأهمية الكبرى التي يوليها للشأن الاقتصادي والمالي يشدنا الى ان هذا الشأن ركيزة هامة في السياسة ان لم تكن الركيزة الكبرى.

لست اعلم مصيره في مجلس النواب وقد سطرت هذه الكلمات قبل مناقشته فيه. ولكن لا بد من الشهادة له ان هذه الحكومة أخرجتنا من الكلام العام، الإنشائي لتجعلنا أمام فكر سياسي من العصر الحديث مع طموح الى تقويم حكم يضارع ما يقوم في الأمم الراقية. وانت اذا لم تتنطح لهذا لن تبلغ الذرى.

الى هذا أتى في أسلوب عربي أنيق يجعلك تحس ان لغتنا قادرة على ان تستوعب المقولات الحديثة ويجعلك تشعر ان الصياغة بعد اتفاق الوزراء على المضمون هي من قلم واحد. التواضع يملي عليك ان تقول بعد الصحارى التي اجتزناها ان الحكومة ان حققت جزءاً منه تكون قد وضعت نفسها ووضعتنا على الطريق الصحيح وعززت آمالنا في نهوض لبنان لأن النهضة غاية الإصلاح والتغيير.

والوزارة بالوزراء أي بعلمهم وصدقهم وطهارتهم. بهذه يستطيعون تجاوز اختلافات في الرأي لا بد منها وتباين في المشاعر. والحكومة بما هي تطلع على آراء الأحزاب والمحللين السياسيين وبما يناقشها النواب قادرة على ان تصوب مسارها وهكذا تكونها الشورى. المهم ان تشد الشعب اليها بما تقدمه من إنجاز وتأمين حاجاته المعيشية. القضية كلها في ان يكون عندك حكم أو لا يكون.

لعل أهم ما نحتج اليه هو ان يثق اللبنانيون انهم غير مسوقين الى الذبح بالإرهاب والتفجير وما الى ذلك. لعلنا لم نصل بعد الى الرعب الجماعي اذ ان نمط حياتنا كان انك تسير على طرق لبنان آمنا ثم تعود الى بيتك مطمئنا. وهذا يتطلب دربة كبيرة عندالمولجين شؤون الأمن واستمرار تدريب للعديد المطلوب ولحمة شعبنا بكل أطيافه. لقد لفتني في هذه الأيام الأخيرة ان الحكومة البريطانية وضعت يدها على تفجيرات المترو بمعرفتها لبعض المشبوهين. لا يستطيع أحد ان يضع حداً للإجرام لكن اليقظة تعاقبهم “ولكم في القصاص حياة”. متى نتنزه على كل طرق لبنان بلا خوف ولا وجل حتى نشعر حقيقة ان هذا البلد قطعة من الجنة ألقاها الله على هذه الارض!

قيل في القضاء شيء، حسناً. من أجل التوضيح لا بد من القول ان المواطن الفقير أو الذي لا سند له ينتظر قضاء عدلا يتجاهل أهل السياسة. أذكر انه جاءني رجل مرة وطلب الي ان أساعده في دعوة أمام المحكمة الروحية. قلت له انا لست رئيساً على رئيس المحكمة. أنا أعمل هنا كوزير عدل أي لا آمر ولا أنهي. وقدعينت هيئة أثق بكل اعضائها. ما زهوت بعمل يعتبره الناس فضيلة ولكني زهوت بمنطقي. هل تدعو بعض القضاة الى التوبة بعد ان تكون حاكمتهم وفصلت من يجب فصله. أليس يتطلب هذا ممارسة تفتيش دقيق يقوم به الطاهرون؟ أنا في مطلع شبابي عرفت قضاة لبثوا فقراء وما كانوا يخشون رئيس الجمهورية نفسه اذا تدخل. بلد ليس في الحكم من يظلم فيه يوحي اليك سلاماً كبيراً.

ان عدو الحياة ليس الموت ولكن الخوف. هنا تأتي مسألة التنصت الذي أشار اليها البيان. ان تضخم ممارسته وشموليتها شرائح كبيرة من المواطنين تدل على خوف الأجهزة الأمنية من الناس. فاذا صار الخائف ضحية فالمخيف ضحية أكبر لأنه هو الخائف الأمثل. هذا يعطي للأجهزة المتنصة قدرة على أهل الحكم والنواب وأهل الشأن العام بعامة. وهذا يخترق حياة العائلات وحميميتها والمصالح الاقتصادية ويعرض علاقات البشر لخلل وشكوك. فاذا كانت المجالس بالأمانات فبالقوة نفسها التواصل الهاتفي وما اليه هو بالأمانات أيضا. القانون الجزائي في فرنسا يعاقب الزوج الذي يقرأ الرسائل التي تتلقاها زوجته. أين نحن من هذا؟

يبقى لي ان استخرج من البيان أحب شيئين الي. أولهما البيئة التي يستوقفني فيها أمران أولهما البحر وثانيهما الشجر. فالبحر شهوة السابحين، الميسورين منهم والفقراء، والسباحة يجب ان تكون مجانية كما هي في قبرس. واذا كان عند البحر فندق فتعبره الى المياه غير مستأذن. ماذا يفعل الفقير اذا قال له طبيبه لا شفاء لحالتك الا البحر. الشواطىء الكثيرة عليها بناء يحجب الرؤية اي يحجب الفرح الا عند الذين اعتدوا وبنوا حيث يحظر القانون البناء. الطبيعة متعة لكل انسان وقد تقود الى انتعاش روحي.

أما الغابات عندنا فقد اخذ حيرام ملك صور يقطع منها ليبني بها سليمان الهيكل و”أرسل حيرام الى سليمان قائلا: قد سمعت ما ارسلت به الي. أنا أفعل كل مسرتك في خشب الارز وخشب السرو” (1ملوك 5: 28). منذ قبل الميلاد الى اليوم نقطع نحن شجرنا. ويزين لي ان كل من اجتاحنا تابع مشروع الاقتلاع حتى تصحر البلد اذ ليس عندنا أكثر من 4 في المئة من مساحتنا شجراً . وكلنا يعرف فوائد الأحراج (حفظ التربة، استدرار المياه، صناعة الخشب). كنت مرة في دير لنا كبير في فنلندا فسألت رئيسه مم يعيش هذا البلد؟ أجابني يعيش بالدرجة الاولى من صناعة الورق الذي نستخرجه من الخشب. موارد رهيبة ممكنة يهملها اللبنانيون.

في تصوري ان تشجير كل لبنان في خطة عدة سنوات ممكن. الوسائل كثيرة ومنها البذار التي ترميها الطوافات قاردة على ان تجمل جبلنا والهضاب وان تفيد من هذا في مجال الصناعة. وفي تقديري أيضا ان الكلفة ليست باهظة في برنامج طويل المدى. دائما كان يحز في صدري ألم رؤيتي لجبال جرداء في شمال لبنان في طفولتي ومطلع الشباب. كنت أتعزى عن غياب الشجر بأشعة الشمس تتقاطع وتتغير بذا ألوان الصخر عند الغروب. لكن البلد لا يعيش فقط من مشاعر أطفال.

أصل الى الثقافة. هالني ما قاله لي أحد وزراء الثقافة المتعاقبين ولا أريد ان أسميه لئلا أجرح تواضعه. قال: لم يكن في الموازنة قرش واحد لوزارتي، لما تسلمتها، وكان علي ان أتدبر أمري. ان لم تخني الذاكرة قال: دفعت من جيبي نصف مليون دولار حتى تتحرك الوزارة. أرجو ان يكون لها في الموازنة الحالية أكثر من بضعة قروش ولا سيما اذا طال عمر هذه الحكومة اذ عندنا اليوم وزير أكاديمي واستاذ جامعي وتمرس في الحضارة سنين طويلة ويعرف تاليا “مهنته”.

السؤال هو كيف نترجم الأمنيات الواردة في البيان الثقافي عملاً . هل نطمح مثلاً الى ان يصبح كل لبناني عازفا على آلة مثل كل ألماني؟ ما العلاقة بين هذه الوزارة ووزارة الإعلام بحيث تطغى الاولى على الثانية في البرامج الفنية التي ينقلها التلفزيون. أولاً لماذا هذا الغزو المصري لبرامج عديدة حتى كادت اللهجة المصرية طاغية على الشاشة ثم لماذا نأخذ الكلام التافه من لغتنا الشعبية والعامية قادرة على لسان راق. وكأن هناك ارادة مصوبة لإخراج كل هذا السفه المقيت بما يقال انه هزلي وهو ليس بشيء، بما يدعى فنيا لكونه يدغدغ الغرائز الدنيئة اذ يبدو لأصحاب البرامج انه كلما أوغلوا في العراء الرخيص يتحببون للمشاهدين.

ربما اخذنا ننتج المقبول في عالم السينما ولكن في خفر وقلة. أرجو ان يكون السينمائيون قد تدرجوا في أعلى معاهد الغرب والسينما تصبح أحياناً مدرسة ذوق رفيع. والذوق الرهيف اذا بلغناه من جوامع أهلنا.
ثم من يقرأ في لبنان؟ الواضح مثلاً ان السودان يقرأ أكثر منا. من عنده مكتبة صغيرة؟ لا مانع عندي من استعمال الانترنت. لكن الصورة التي تتقبلها مؤذية. للعينين. والى هذا لا شيء يعوض الورق تقلبه بين يديك فتعود الى هذا الفصل منه وذاك حتى تزداد ثقافة ادبية انسانية ولو ذهبت الى العلوم والتكنولوجيا.

ما قد يتعلل به الناس في ضعف مطالعاتهم ان اختصاصهم يستغرق أوقاتهم. أفهم ان هذا إغراء جذاب. ولكن يؤلمني ان أرى بعضا من الاختصاصيين لا يفقهون شيئاً خارج دراستهم فيغيب عنهم التاريخ والشعر وعلم الديانات وكأنهم أمّيون. ليس نادراً ان تلقى لبنانياً جامعياً لا تعلو ثقافته الحقيقة مستوى عامل بسيط وهذا يدفع هذا الانسان الى التعصب الديني مثلا لأنه لم يراقب في ثقافة واسعة غرائزه أو عدائيته.

الهاجس الثقافي يتعدى إطار الجامعة لأنك ان كنت أسير دراستك لا يكون عقلك بالضرورة ناميا وذواقة. أجل الثقافة دربة وإرث ولكنها أيضاً سياسة. ولا شيء يريح مثل اجتماعك الى انسان مثقف. يريحك مبدئياً لأنه يقبلك. ما ألذها رياضة ان تسبح في عقل انسان آخر ويسبح هو في عقلك فتريان انكما قد خرجتما من الضيق وعانقتما العالم في سعته والتاريخ في مداه والديانات في تشعبها وأعماقها فتلمس ان المثقفين عصبة واحدة ولو اختلفوا في المنحى والحركة والقناعات.

قد يصعب تحصيلنا الثقافي لأننا أهل لغتين أو ثلاث. لست أعلم ان كان إتقان العربية واجب وزارة التعليم أو وزارة الثقافة ولكن كيف يدعي لبنان انه ينتمي الى العروبة وتكاد لا تسمع خطيباً لا يلحن. من يقرأ النحو اليوم او من يدقق نصه على ضوء “لسان العرب” أو أقله “محيط المحيط”؟ من قرأ القرآن ونهج البلاغة؟ من يصحح لكتاب الصحف مقالاتهم؟

كان الله بعونك يا دولة رئيس الحكومة وأعوانك. نتمنى عليكم ان تنفذوا البيان الوزاري فقرة فقرة في إصرار كبير مهما لقيتم من عثرات. كلامكم وعد يقيدكم ويقيدنا. بارك الله لمسعاكم تبريكاً كثيراً . لا تملوا أمام ضعاف النفوس والذين لم يصلوا الى تطلعاتكم. الانسان تنقذه تطلعاته.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الإيمان والاعتراف/ الأحد 24 تموز 2005/ العدد 30

في رسالة اليوم إلى أهل رومية: «إن اعترفتَ بفمك بالرب يسوع وآمنتَ بقلبك أن الله قد أقامه من بين الأموات فإنك تخلص». هنا يلخص بولس الإيمان بأنه الإيمان بقيامة السيد. قال هذا لأن القيامة هي الذروة إذ تعني الثقة بيسوع الكاملة وبما أوحاه لنا في إنجيله وبما سلّمت الكنيسة إلينا في العقيدة والعبادات. فإلى جانب تحرّك القلب هناك كل حقائق الوحي: الثالوث، التجسد، الروح القدس، الكنيسة والأسرار و«قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي».

هذه تكشفها لك الكنيسة في التعليم وتعظك بها فتدخل إلى قلبك وعقلك معًا وهما في الأرثوذكسية غير منفصلين. لم يفكّر الرسول والآباء من بعده أن العقل وحده يستنير. القلب دائمًا يلتهب بمحبة المسيح. اختزل بولس كل مضمون الإيمان بقوله «إن الله قد أقام يسوع من بين الأموات». والكنيسة أنشدّت إلى هذا. لذلك تحتفل بالقيامة كل أحد كما تحتفل بها في الفصح وما يلي الفصح حتى العنصرة.

الإيمان ينتج عنه الاعتراف باللسان. على الأقل لا يمكنك في حضور الغرباء عن الإيمان أن تقول عكسه. هذا هو الكفر بالذات. والقلب المؤمن ينكشف باللسان إذ عليك أن تنشر رسالة المسيح وأن تبشّر. كل مسيحي مبشّر لأنه فرح بسيّده ويطفح لسانه بالتكلّم على سيده ويشتهي أن يحب كل إنسان الرب يسوع حتى يخلص وتنمو الكنيسة.

تلك هي الشهادة: «ستكونون لي شهودًا في أورشليم واليهودية والسامرة حتى أقاصي الأرض». بماذا تشهد؟ أنت لست تشهد بمجرّد تلاوة الإنجيل على الناس وتفسيره. ينبغي أن يستقر الإنجيل في داخل نفسك وإلا لا يخرج على اللسان. ولهذا قيل: «الذي كان في البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة فإن الحياة أُظهرَت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا» (1يوحنا 1: 1و2).

واضح هنا أن يوحنا الرسول في مطلع رسالته الأولى الجامعة قد ذاق المسيح وان كلمته دخلت كل كيانه وتحسسها ففاض لسانه بهذه الخبرة الداخلية فكتب. ولهذا قال الكتاب: «به (أي بالمسيح) نحيا ونتحرك ونوجَد». المسيحية حقيقية في الكيان الداخلي ثم تصير كلامًا وعملا.

وقمة الشهادة شهادة الدم التي قدّسها المؤمنون بيسوع ليس فقط زمن الاضطهادات الرومانية ولكن في كل زمان ومكان. هي أن تصرّ على أن المسيح مخلّصنا وانه هو «الطريق والحق والحياة». وأن تقول هذا وتظهره ولو نتج عن هذا أن يقتلك ظالمون (دول أو جماهير عمياء). في مفهومنا أن قلبك ولسانك منسجمان أبدًا حتى لا تنفصل عن المعلّم على أي صعيد في كيانك. نحن ملتصقون بيسوع في حياتنا ومماتنا لأننا «إن حيينا أو متنا فللرب نحن».

عكس موقفنا الموقف الذي يُعبَّر بلفظة  «التقيّة» بحيث تؤمن بقلبك وتكفر بلسانك خوفًا من الموت. هذا مباح في هذا الدين أو ذاك ولكنه عندنا صميم الكفر. نحن عاشقون ليسوع ليس فقط إن كنا في الهناء والسلم إذ نبقى عاشقين ولو كان علينا أن ندفع الدم تعبيرا عن ذلك.

بسبب من واجب الاعتراف، عندنا إلى الشهداء فئة القديسين المعتَرفين الذين عُذّبوا بسبب من إيمانهم ولم يصلوا إلى الموت. ولكنهم شاهدوا يسوع في آلامهم واشتركوا في قيامته.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

النبي والسلطان / السبت 23 تموز 2005

دائما يستوقفني الياس النبي الذي اقمنا عيده هذا الاسبوع. ليس لان محبتي له سهله، وليس لاني اهوى العنف في سيرته او ما صوّر كذلك للتعبير عما هو اعمق. لعل بعضا من المؤمنين يحركهم انه قتل كهنة البعل الذي سيطرت عبادته في السامرة على يد ملكة شريرة ذهبت الى هناك من عندنا وكانت تعيث فسادا وثنياً في البلاط.

لعلي احب هذا النبي اولاً لاسمه وهو في لغتهم ايلياهو اي الله هو الاله اي انه لا يقبل ان يعبد الها آخر ولا ان يعبد احد الها آخر. وكان يعبر صاحبنا عن هذا بقوله: “حي هو الرب الذي انا واقف امامه”. والقولة لها غير معنى بدءا بأن الله وحده حي والوثن غير حي ولا يحيي اهله ولو بانوا كذلك في البهيمية المستترة بالنهم والترف. واذا كان الله وحده حيا فأنا واقف امامه اي لست واقفا امام الملك آحاب (الذي كان آنذاك) بعدما حاد عن معرفة الله فصار ترابا من الارض لا كلمة فيه. وتوسعا? لذلك اقول ان من له روح النبوءة لا يقف امام مخلوق ليستمد نفسه منه. فكل حقيقة في كياننا لا نؤتاها من بشر الا اذا كانوا الهيين اي نازلين من فوق.

قد يكون تسآل الناس: من اين لرجل فقير، اعزل لا عائلة له ولا سند، ان يقف في وجه الملك وهو عالم ان هذا قادر على قتله (وقد حاول اغتياله)؟ قوة هذا الرجل كامنة في ايمانه الكامل بأن الملك غير موجود ولو كان بيده ابادتنا، لان ابادتنا هي ايضا لا شيء، لان الكلمة النبوية لا تباد. يسلم الملك الى القادر ان يسمع الى الانبياء. بلا الهام ينسكب عليك تظن نفسك مليكاً اي واضعا جسمك على كرسي وحولك عسكر.
قال ملك لولي عهده: “انا ذاهب في طريق اهل الارض كلهم. فتشدد وكن رجلا واحفظ اوامر الرب الهك لتسير في طرقه… لتنجح في كل ما تعمل وحيثما توجهت (1ملوك 2: 2 و3). واذا حكمت فاحكم بحكمة وعدل. وقال الشيوخ لاحد الملوك: “ان كنت انت عبدا لهاذ الشعب في هذا اليوم وخدمته وأجبته وكلّمته كلاما حسنا، فانه يكون لك عبدا كل الايام” (1ملوك 12: 6 و7). الرئيس اذاً خادم ومحب فاذا ذهبت محبته الى الآخرين تعود اليه.

الناس رعية الله على قول داود: “الرب يرعاني فلا يعوزني شيء”. وقد قيل في العهد القديم عن الملوك انهم رعاة بمقدار تخلقهم بأخلاق الله.

لذلك كان الملوك في تلك الايام يقربون من انفسهم الذين يكلمونهم باسم الله لئلا يجنحوا. النبي لا يعمل السياسة، لكن المسؤول يعملها في خضوعه لله. المشكلة الواقعية اذا رأى المسؤول ان الرأي الالهي هو في ضميره وغلّب شهوته على ضميره. وخشية التباس الامور على المسؤولين كان بعض الاساقفة والرهبان في الدول المسيحية هم ضمير الملوك. هذا أدعى الى الاطمئنان. حدث مرة ان قتل احد القياصرة اباه الروحي. لا حاجة الى سيف اذ يمات الضمير بلا سفك دم.

الغيرة على الله جعلت اليأس بالقتل كهنة البعل او كانت المذبحة قراءة للكتاب. في الكنائس الجديدة التي تبنى في منطقتي لا اسمح بتصوير مار الياس ذابحا. اخشى ان تعبر هذه الايقونة عن شعور الثأر الكامن في كل واحد منا. ليس الله بجزار ولا يمثله جزار والمسيح ارتضى ان يكون قتيلا.

بعد المذبحة هددت الملكة ايليا بالقتل “فخاف وقام ومضى لانقاذ نفسه” ووصل الى جبل حوريب الذي هو سيناء ولما انتهى الى الجبل اذا بريح عظيمة شديدة تهب” ولم يكن الرب في الريح. وبعد الريح زلزال ولم يكن الرب في الزلزال وبعد الزلزال نار ولم يكن الرب في النار وبعد النار صوت نسيم لطيف”. في هذا كان الرب وأفهم هذا الكلام على ان الرب وبخ ايليا على ابادته كهنة الوثنية فان الرب يرعى الوثنيين ايضا ولا يريد ان يهدر دمهم العابدون للاله الواحد. ليس عند الله من ضحية تمجده بالموت.

لعل من اهم ما جاء في سيرة النبي دفاعه عن فقير يدعى نابوت. كان الملك يريد ان يشتري كرم هذا الرجل او يقايضه فأبى. فقالت الملكة لزوجها اني سأتخلص انا منه فقامت بمسرحية دينية اذ امرت الشيوخ والأشراف ان ينادوا بصوم ويجلسوا نابوت في صدر القوم واتت بشاهدي زور قالا: “قد لعن تابوت الله والملك” وقتلته. فواجهه النبي موبخا توبيخا شديدا: “قد بعت نفسك لعمل الشر في عيني الرب. هاءنذا جالب عليك الشر وكانس نسلك”.

لا يقبل اهل النبوءة الظلم ويقولون في فاعليه كلاما شديدا ولا يأبهون لما قد يلحق بهم من اذى. الروحاني رادع الملك اذ يريده دائما قويما ليعكس في السياسة حكم الله. ذلك ان السياسة ليس فيها ضمان من نفسها. اجل كانت منذ اقدم العصور دول ولكن الدولة بالدرجة الاولى في اشخاصها وهؤلاء يجب ان يحركهم أهل الله. وويل لهؤلاء اذا صاروا من أهل الدنيا.

لم يكن له موضع في الارض فلما أـتمّ طوافه فيها رفعه الله اليه. فلما كان مع تلميذه أليشاع عند الاردن وكانا يتحادثان “اذا مركبة نارية وخيل نارية قد فصلت بينهما. وصعد ايليا في العاصفة نحو السماء” (وفي الترجمة اليونانية “كأنه الى السماء”).

طبعا ليس من مركبة نارية ولا من خيل نارية. هذه مركبة الحب الالهي الذي اختطف ايليا طوال حياته واراد الحب ان يقيم ايليا فيه. ولما صعد يسوع الى الجبل استدعى النبي اليه كما استدعى موسى وتجلى معهما وشاهد ايليا الله للمرة الاولى على وجه المسيح. لم يكن ملتقاه مع ربه في حوريب ولكن على جبل ثابور في الجليل.

ارثه الذي نرث تفعيل اسمه: الله هو الاله ولا سيادة لسواه. ونحن تغرينا هذه الدنيا اي تلهينا عن وجه الرب لنتعبد لها ولما فيها ونستمع الى وسوساتها. في كل العهد الجديد – بتعبير او بآخر – نحن سكان السماء ولو عاشت اجسادنا على الارض. المهم ان نحيا هنا في السماء.

هذا لا يعفينا من مهمات لنا في الارض ان تكون لنا عائلة وتجارة وسياسة وما الى ذلك. غير اننا لا ننتمي الى اي بيت او مصدر رزق او تركيبة دولة. هويتنا ليست من هنا ولو عشناها هنا. اجل لا تلغي السماء الارض ولكن ليس هناك من ثنائية بين السماء والارض فاذا سكن العدل الارض فكأنها منذ الان سماء. ولهذا قال المخلص: “ملكوت الله في داخلكم” فلا نحتاج الى مركبة نارية لنذهب الى ما فوق اذ ليس من فوق ولا من تحت او جنبات. الله روح فبالروح والحق نحن عابدون له. وليس لله عرش حسي بعدما سكننا بالمسيح. ما من عرش له الا قلبي وقلبك واذا اخذ هو القلوب ينضم اليها. واذا انضمت اليه لا تموت.

الياس الحي صورة عن اختيار الله لأولئك الذين يقولون الله وحده الهي ويحاولون ان يكونوا له خاصة وحكرا. منه ينزلون الى هذه الدنيا احرارا منها وعاملين فيها يحيونها ولا تحييهم. قد يكونون قلة ولكن لله دائما اصحاب في هذا العالم وهم خاصة الخاصة. اشتراهم ربهم بمحبته وبها يغريهم واذا كبروا بمعرفة محبته لهم يعسر عليهم الانتماء الى الزائلات. وهم الذين يحفظون العالم لان الله حافظهم. فاذا ابصرتهم ابصرته بعدما امسوا له ايقونات تزداد بهاء كلما انزل عليهم البهاء.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

التغيير الجذري / السبت 16 تموز 2005

تساءلت في هذه الزاوية غير مرة ان كان من إناسة لبنانية أعني بها دراسة الإنسان اللبناني من حيث انه ناتج من اعتقادات ومخلفات تاريخية تفسر تصرفاته الأخلاقية ولا سيما في تعبيرها المجتمعي. طبعاً ليس عندي جواب عن سؤال رئيسي كهذا يقودنا الى إصلاحات تربوية من شأنها ان تنتج انساناً لبنانياً جديداً متحرراً من السقوط العميم الذي نحن فيه منذ أجيال أو قرون.بالمقارنة انت تستطيع ان تتحدث عن الإنسان الفرنسي أو الإنسان الألماني من حيث ان كلاً منهما قائم على نمطية تفكير وعيش وإحساس”، نمطية كونها التاريخ والعقيدة الدينية والدولة وما طرأ على هذين الشعبين. هل يمكنك ان تصف الإنسان اللبناني بعامة لتعرف كيف تعالجه؟ هل تتغير المؤسسات بتغير هذا الإنسان؟أجل المقدسون استثناء في كل بقعة من بقاع العالم. انهم ناموس لأنفسهم ويطبعون التاريخ ولا يطبعهم إلا قليلاً . لقد التقى كل منا رائعين في هذا البلد ولكنهم قلة ككل القديسين وقلما يفهمون السياسة. من هنا ان اشعاعهم شخصي ولا يشكلون بيئة.

لماذا توخيت علماً ووصفاً سوسيولوجياً؟ ذلك إن الوعظ والتوجيه الروحي في عصرنا أخذا يرتكزان على ما نعرفه عن الناس ولا ينزل من تعميمات. وفي حسباني انه بات علينا ان نعرف اللبناني معرفة دقيقة ليأتي الكلام الروحي مصيباً الهدف.

قناعتي ان الروحانيين – إذا وجدوا – قادرون إذا تسلحوا بالتربية وعلم النفس والاجتماع على ان يغيروا أخلاق بلد في ثلاثين أو اربعين سنة. فقد أُسند الى مُرَبّ كبير تغيير الأخلاق في إنكلترا من أخلاق شعب هائج، غضوب مثلنا، الى شعب هادىء ودقيق المعاملة وصادق وذلك منذ ثلاثة قرون ونجح الرجل في استخدام المدرسة بلوغا لهدفه.

لست مطلعاً اليوم على كتاب التربية المدنية عندنا. أمنيتي ان يكون وافر الحديث في الأخلاق لا أن يغرق في الشأن المدني الصرف ولكن المطلوب ان ينقح مناقبنا كما هي لا أن ينقح مناقب الألمان. فاذا رأى علماء الإناسة اننا مركنتيليون أو عشاق مال وتالياً مستسهلون الرشوة فيصاغ التعليم لنكافح به شهوة المال. وعندئذ نتكلم عن فرح العفة أو الترفع أو نتكلم عن احترامك للذات الاخرى بحيث لا تلوثها ولا تلوث نفسك بالرشوة.

انت تتعامل مع الإنسان الآخر من حيث هو غاية وأنت غاية وليس هو وسيلة لك ولا أنت وسيلة له. مجرد اقتناعك بذلك يطهرك ويدلك على تعاط للمال جديد. وتنتظم العلاقات بين الناس بحيث يعيش معظمهم بالعفة على هذا الصعيد ولا يموتون جوعاً ولا يفتقرون.

اذذاك يثبت للناس ان الاستقامة سر النجاح (حتى في هذا البلد فكيف إذا تنقى). إذا صارت الاستقامة هي القاعدة تكون كذلك عند العدد الأكبر من المواطنين. يتغير النمط.
قد يتطلب هذا منك تقشفاً في البدء ومراقبة للذات قوية ولكن عندما يتغير السلوك عند عامة القوم أي عندما تتكون أخلاق في المجتمع كله في باب من أبواب الأخلاق تدفعك الرقابة الاجتماعية إلى ان تلازم السلوك السوي. ليس ان المجتمع مصدر المسالك ولكنه حاضن لها ومغذيها.

أجل هناك عنصر خوف في حسن السلوك الا عند الأبرار الذين لا يخشون إلا الله. وقناعتي قارئا للعهد الجديد انه لا يخلو من عنصر الخوف ولو ساد الإنجيل المحبة. ولا خوف من الخوف لأن المجتمع في الحقيقة هو الناس الذين حولك ويحبونك أصلا. اعتقادي ان ثمة معدلاً اخلاقياً ولو تجاوزت قلة المعدل بصورة مذهلة، بطولية. هؤلاء لم تلدهم أمهاتهم. جاؤوا من الله وكأنهم هنا روحه.

الى الاستقامة قيم أخرى تتركز اجتماعياً . منها عفة اللسان النابعة من سلام داخلي ورؤية ان الناس أحباء الله وان اكرامك إياهم واحتشامك أمامهم أساسي في تكوينك وتكوينهم. أظن أننا هنا نهتك هذا اللون من العفة كثيراً وهذا ناتج من الغضب وهو بدوره ناتج من البغض. القواعد الاجتماعية هنا لا تكفي اذ لا بد من تطهّر داخلي وتزيّن بالمحبة. مع ذلك ترى مثلاً ان الشعب المصري والشعوب الخليجية أكثر عفة منا. هذه الشعوب يتخاصم أفرادها لسانياً ولكنهم قلما يستعملون الكلام البذيء والشتائم المخلوطة بألفاظ متهتكة أو جاحدة للعزة الإلهية. الغضب مع اللفظ الفاسق من أهم الظواهر اللبنانية.

أنا مراقب للحالة الأخلاقية في لبنان منذ سبعين سنة. والشهادة التي أؤديها هنا اننا في دنيا العمل كنا أكثر استقامة من اليوم وان التدهور الأخلاقي الكبير في هذا المضمار بدأ مع تدهور سعر الليرة اللبنانية السنة الـ1936 وتفاقم مع الحرب العالمية الثانية. وفي المناخ هذا كان الشعب اللبناني مقتنعا بأن القضاء نزيه وعالم. وهذا الأمر كان وضعي المهني يسمح لي بأن أتابعه شخصياً منذمنتصف الأربعينات. فالواقع يبين انك اذا كنت قابلاْ للتدهور الخلقي فأنت قابل للتحسن الخلقي. وهنا أعود إلى الوضع الاقتصادي. وأتصور ان من بذل جهداً كبيراً في انتاجه مثل الفلاح والصناعي يكون أقل تعرضا للخطيئة من المتداول المال الذي لا جهد فيه.

انت لا تستطيع ان تحيا بلا رجاء وبلا قناعة ان الفضيلة على رغم مجانيتها وفرح الإنسان بها إنما هي الطريق الأساسية للوجود المجتمعي. المدينة الفاضلة يمكن ألا تكون حلماً. بالتأكيد سيبقى شاذون. هؤلاء تؤدبهم الدولة وهذه بدورها تنمو صعداً اذا ابتغت كل الشرائح ذلك الحد الأدنى من الفضيلة الذي يؤمن استمرار المدينة فاضلة، ليست غاية الرب ان يجعل الفردوس وحده مكان السمو الروحي. غايته ان ينعكس النور الإلهي على أرضنا. لقد أعلن ملكوت الله هنا ليتحقق شيء منه في هذه الدنيا والاّ كان الدين تسلية كلامية.

من دعا الى الله وصوب الكلمة على خطايانا لا يقولها بصورة غنائية. لست أقول ان الكلمة الإلهية محصورة بالأخلاق. ولكنها ليست محصورة فقط بالإلهيات. الإلهيات ينبغي ان تطل على ما نسميه في المسيحية الرعائيات. انت تتعلم العقيدة لتعيش في ظل الله أي لتعيش منفذاً الكلمة في يومياتك بدءاً من العائلة ووصولاً الى المهنة والمعاملات. لست أدعو الى ان تنتقل الى اللاهوت التطبيقي بحيث تزيل الطابع الوجداني والشعوري عن الدين. لكن إهمال التطبيق إهمال لغاية الكلمة وهي ان نكون على مثال الله في هذه الدنيا فنرث الملكوت في النفس أولاً . ومن كانت نفسه في الملكوت هنا هو وحده الذي يرث الحياة الأبدية.

واذا انتظم المجتمع تنتظم الدولة. بينهما حركة ذهاب واياب. فالمجتمع يقدم للدولة عناصر بشرية سوية. والسلطان يقوّم الناس ويجعل بينهم سلاماً منظوراً فيما يحل الله في قلوبهم سلامه العميق.

هذا البلد في خطر الفناء اذا استمر السقوط الأخلاقي الذي نشكو منه. تحدثت في المناقب فقط عن نماذج. نحن قبل أي إصلاح في نظم الدولة في حاجة الى رؤية جديدة في حقل القيم بل في حاجة الى الإيمان بالقيم أي في حاجة الى تغيير ذهني يجعلنا نترجم الله في لحمنا ودمنا وعيوننا ونحن صاعدون على مركبة الحب.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

سوء الظن/ الأحد 10 تموز 2005 / العدد 28

«سراج الجسد العين». بدء إنجيل اليوم (متى 6: 22-32) مركَّز على الفيزياء القديمة أنّ العين فيها نور والنور يخرج منها لترى. أستعير هذا المفهوم الفيزيائي القديم لأفهم قول السيد: «سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّرا»، أي إذا كنت ترى بالنور الإلهي الذي فيك يستنير كيانك كله وترى ان الآخر كائن إلهي ولو حلّلت تصرفاته أو أدركتها بالمعاشرة ووجدتها سيئة. أنت ان كنت تسلك إلهيا تُسقط على الآخر النور، تعمّده بالنور وتتجاوز ما يزعجك فيه.

طبعا لا تستطيع ان تغمض عينيك إذا تأكدت ان في الآخر سوءا أو كذبا أو استغلالاً لك أو إرادة استغلال أو رغبة فيه لإذلالك وتطويقك أو القضاء على مصلحة لك. افهم انه ينبغي ان ترى الواقع ولا تكون غبيا أو أبله. ان تعرف الآخر كما هو شرط للتعامل بينكما لا تكون فيه ظالما أو مظلوما.

غير ان التلاقي الأول بينك وبين شخص آخر يكون قائما على حسن الظن لئلا تكون ظالما. وإذا كشف التعاون ان في الآخر سوءا أو سوء نية فتتصرف على ما تبين لك. ولكنك مبدئيا تبدأ بحسن الظن.

أجل هناك طبائع بريئة يغشّها الآخرون بسرعة وتخسر. صاحب الطبع البريء يجب ان يتعلم الحكمة وفق قول السيد: «كونوا حكماء كالحيات». ولكن هذا لا يعني الحذر الدائم. ذلك ان الحذر الدائم يجعلك غير قادر على التلاقي أو التعامل، وهنا تخسر أيضا. القاعدة إذًا هي هذه ان توحد بين حسن الظن والذكاء.

أما استمرار سوء الظن فيعرّضك إلى ان ترى كل الناس سيئين أو أعداء، ويعوزك، إذ ذاك، كثير من الجهد لتنتقل إلى الرؤية الصافية المقرونة بالمحبة التي تعطيها مجانا. هناك ناس يصعب عندهم فهم الآخرين ويصعب عليهم التمييز ويقلقهم تعاطي الناس فيهربون منهم ولا سيما إذا توقعوا ان هناك مشاكل أو تعقيدات. ولكن لا بد من المواجهة ليتم التلاقي الصحيح.

الأمور تزداد تعقيدا في العلاقات الزوجية. هنا سوء الظن المستمر يجعلك تغرق في تخيلات رهيبة. وهنا يجب ان تفهم طبع رفيقك في الحياة الزوجية، فإذا كان الفريق الآخر في الحياة الزوجية ذا طبع مرح أو كثير الانفتاح وابتسم لإنسان من جنس آخر، لا تدع سوء الظن يدخل إليك حتى لا تدخل في هذه الحالة المرضية ان تراقب الرفيق أو الرفيقة على كل حركة وكل كلمة يتفوه بها. فالإنسان يمكن ان يكون طاهرا وسلسا مع الآخرين فتظهر أحيانا حرارة بحديثه مع الجنس الآخر. لا يجوز ان يبقى احدنا مغلقا، جافا في التعاطي البشري لئلا ينهدم البيت. لا يجوز ان تكون في حالة المراقبة الدائمة لامرأتك أو العكس. يمكن ان تكون أنت في حالة تعاطف روحي أو فكري مع امرأة ولا تكون امرأتك على الدرجة نفسها من التعاطف. لا تجعل امرأتك في قفص، ولا تجعلي زوجك في قفص. هذا مدمّر للعلاقة الزوجية. ليس مثل الغيرة تقتل الحياة العائلية.

كذلك لا تشك دائما بابنك أو ابنتك وصدقهما إذا قال احدهما انه كان هنا أو هناك حتى يثبت العكس. لا تجعل أولادك أيضا في قفص لئلا يختنقوا ويروا انك مستبد بهم. أنت راعيهم ولست شرطيا عليهم، والرعاية تأتي من المحبة والثقة.

الثقة التي تبديها لمن تتعامل معهم في البيت أو دنيا العمل كالثقة بموظفيك تجعلهم في حالة سلام وهدوء وتقوّي شخصيتهم وتزيد المحبة عندهم، وهم عند ذاك يبادلونك الثقة بالثقة. الحياة هي معية.

الثقة هي القاعدة. والرب لما أحبنا بالمسيح كان يعرف قدرتنا على تخطّي أتعابنا وخطايانا. ان يثق بك الناس لحسن ظنك فيهم يقرِّبهم من الثقة بالله.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الله والآخر / السبت 9 تموز 2005

كل شيء يبدأ بالفكر وينتهي الى الفكر. والخطيئة تنشأ فيه وقد لا تتحول فعلاً ظاهراً. لكنها تفسد النفس ويموت الانسان، اذذاك، روحياً ولو بقي على قيد الحياة. من هنا ان الكنيسة المسيحية تتمسك بما تدعوه استقامة الرأي بحيث يأتي عقلك موافقاً لعقل الله. ما نقل الى العربية استقامة الرأي هو في اليونانية أرثوذكسية المؤلفة من كلمة أرثوس” أي المستقيم وذكصا وتعني الرأي كما تعني المجد. أنت أرثوذكسي اذا تكلمت صحيحاً في الله أي وفق ما أوحاه وكذلك اذا مجدته وعلوت اليه كما يليق بطبيعته. وازدواج المعنى لكلمة “ذكصا” يدل على ان معتقدك اذا انحرف لا تقدر على ان تعبد الله كما يريد ان تعبده.

والعبادة والعبودية واحد في العربية بحيث انك لا تقدر على أن تعبد ما لم تستعبد عقلك ومشاعرك وقوتك وحكمتك لله فتأتي، اذذاك، كلها منه أو تكون صورة عما فيه من قوى. تصبح هي نعمة لكونه مغدق النعم. وهذا ما يجعلك على مثاله بعد ان خلقك على صورته. فاذا تقت اليه وتحركت اليه أي اذا صارت هذه الصورة فاعلة فيك تصبح على شبهه، على شبه فكره وعلى شبه حبه.

والعبد ملك لسيده وليس له سيدان. في المسيحية ان معرفتك لنفسك حبيب الله وحراً بهذا الحب يقودك الى ألا تعرف أحداً سواه ولا تؤله غيره بدءاً بما فيك وما تذهب اليه شهوتك. والانسان يتوق دائماً ليس الى الأصنام التي لا يؤلهها احد بما هي أوثان ولكنه يتوق الى أشباه الاصنام أي الى ما فيه من شهوات مؤذية اذا فعلها تدمر كيانه.

لقد استرسل آباؤنا في الحديث عن الشهوات وسموا أصولها الأهواء ومنها ينبع الارتكاب. لذلك كان المعنى المفيد لوحدانية الله اليوم ليس ان تتنكر فقط لتعدد الإله بعد ان ساد التوحيد مناطقنا ولكن الصنمية الآن هي ان تجعل أي هوى من أهوائك إلهاً أي قوة تأتي انت منها وتطبعك.

فعلى سبيل المثال يكون اشتهاء جسد آخر اذا جاء عمداً واستفحالاً مؤذياً لأنه يبدل الها باله ويجعل قواك كلها مسخرة لهذا الإله الجديد فتصير مثل ما تعبده اي جسداً محضاً وتزول فيك محبة الله. الإله الجديد يملي عليك مسلكك وانت ما تسلكه. “من يصنع الخطيئة عبد للخطيئة ومن صنع البر عبد للبر”. واذا توغلت في هذه القولة الإلهية أقول: ان من يصنع الخطيئة يصير كله خطيئة اي يطرح نفسه في العدم الروحي الى ان ينقذ الله منه بالتوبة التي فيها يصير الانسان مألوها، مشدودا الى الله في كل حنانه وكل حكمته وكل قدرته. ينتقل من انسان جسداني الى انسان روحاني ليس بمعنى انه يتجاوز حواسه ولكن بمعنى انه يتجاوز استبداد حواسه وانفعالاته ويصبح الروح الالهي عاملاً فيه.

ليس الروحاني بلا عين واذن ويد ورجل ولكنه ينظر الى ما يتحكم برؤيته ويسمع الى ما لا يطغى على فهمه ويمسك بما لا يكبل يديه ويسعى الى حيث ينجو. الروحاني مثل كل الناس مظهرا ومثل الله عمقاً ويسود حواسه ولا يعطلها. هو لا يلغي جسده فإن ألغاه مات. انه لخرافة ان يقال ان المسيحية تبيد الجسد وتتجاهله. هي قائمة أساساً على ان كلمة الله الذي صار اسمه المسيح اتخذ جسداً وأبصر وسمع وأكل وشرب وسلك على قدميه وفتح فمه كما يقول في متى وخاطبهم ولكنه كان أبداً متجلياً أي أبداً حراً من حواسه. كان فيها وكانت تخصه ولا يخصها.

هو لم يكن مقهور ألوهته تسيره على هذه الأرض كأنه بلا إرادة بشرية اذ قال عن سلوكه في البشرية: “اني أفعل في كل حين ما يرضيه” (أي الآب). معنى ذلك انه في بشريته كان يتمم مشيئة الله. وينتج من ذلك اننا مدعوون في انسانيتنا الى ان نخضع نحن لمشيئة الله واننا قادرون بالنعمة على ذلك. بهذا المعنى نحن روحانيون.

لم يتبسط يسوع الناصري في الحديث عن الخطايا ولو اشار الى بعض منها لأنه كان يريد المحبة. لا بالارادة الصلبة نحن نقترب من الله فاذا ما صرنا عنده بالحب نصير الى الاخوة أيضاً وكأننا معهم في “قبلة مقدسة” كما يعبر بولس. لم أعثر في العهد الجديد على ما يشير كثيراً الى ترويض الارادة ولكنه مليء بالقوة التي تفعل ارادتك أي بالمحبة التي هي تعبير آخر عن ان لك الهاً واحداً أي قطباً واحدا لحياتك يستقطبك الى النور الذي فيه فتتلاشى فيك عتمات الشهوة.

في أحادية هذا الاستقطاب حذرنا السيد كثيراُ من عبادة المال وسماه إلهاً ليس لأنه كذلك حقاً ولكن لأنك أنت مغرى بأن تحوله بعبادته الى إله. وينتج من ذلك غياب الإله الحقيقي عنك وتحولك تالياً الى إنسان لا يحس بالإله الحقيقي ولا يحس تالياً بالانسان الآخر. ذلك ان غياب الله عن بصيرتك يلغي فيك أيضاً حضور الانسان اذ لا تستطيع ان تبصره ما لم يتحول قلبك من رؤية الله الى رؤية الانسان. فاذا جعلك الرب صديقه يجعلك بالضرورة أخاً للانسان الآخر. ومن هنا ان ما استحوذت عليه من الرزق ليس لك بحق الهي ولكنه يخص جميع الذين حولك وما انت سوى مؤتمن على أشيائك. تديرها وتتصرف بها لخدمة الناس جميعاً حسب ظروف حياتك اليومية. وعنذذاك لا تنتظر المحتاج يأتي اليك ولكنك تذهب اليه لتعطيه ما يعود اليه .من هنا ان الذي تسميه ملكك وما هو بملكك.

لعل الخطر الاكبر من اشتهاء المال انه يحول كل مسعاك اليه ويشوه فكرك بحيث تراه المحرك الاول للنشاط البشري فتظن ان الناس اليه وانه يحل كل معضلات الانسان. أنا لا انكر نفعه وقدرة الانسان الذي يحوزه على مواجهة كثير من الصعاب. غير ان بعض اغرائه ان يجعلك تلوذ بالأثرياء حتى تحصيل اجتماعيات أفضل لك فيضعف تقديرك للفقير المجاهد الفاضل. الخطر هو في التركز على مقتنيات هذا الوجود، الى ما يسميه يوحنا العالم اذ يقول: “لا تحبوا العالم ولا الاشياء التي في العالم… لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة… والعالم يمضي وشهوته”. لعل الكثير من الجهد الروحي يكمن في ان نميز بين ما يزول وما لا يزول ليس فكرا فقط ولا عملاً ونمكث نحن في الباقيات الصالحات.
غير ان خطر المال لا ينتهي بهذا فقط. انه الطريق الى السلطة أي ان تحل انت في السلطة لتسود الآخرين. التسلط هو صميم الخطيئة لانه الغاء الاحياء الذين حولك بسبب من اعتبار نفسك مركز الوجود. والتسلط نكران لمن له وحده سلطان على الأحياء والاموات ومن بيده مقادير التاريخ والحياة الابدية.

ما من شك في ان شهوة السلطة اثارة للعبودية أي استدرار لعبادة الناس اياك. و اذا نجحت في ذلك يبطل عندهم الفكر وتزول الروية أي تنتهي الارثوذكسية بمعناها اللغوي الذي اشرنا اليه. وتعظم شهوة السلطة عندك اذا رأيت نفسك قادرا على أشياء كثيرة حتى تحويل مجرى أمور عدة في مجتمعك اليك. هذا سكر ليس بعده سكر. لعلك اذا حللت شهوة الجنس تحليلاً نفسياً ترى انه في أعماقه ممارسة للسلطة. يقال “يأخذ” الذكر الانثى أو هي تأخذه لأن قمة السلطة على مختلف أطيافها تملك في حين ان الجنس في معناه الانساني الراقي أي المقرون بالمحبة والعطاء قربان أو مذبح للقربان. واذا بت في أي تعبير سلطوي مركزا لمن هم حولك تزول عندك مركزية الله. ان اشتهاء اية سلطة في اي حقل من حقول الظهور امتهان لسيادة الله عليك.

يضعك زمانك أحيانا وخبرتك في موقع الحكم. اذكر ان الحكم خدمة وانه ليس فرصة للكسب أو للسيطرة. فاذا دخلت اليه فقيراً تخرج منه فقيراً . هذا برهانك الوحيد على انك كنت فيه خادماً للناس. لا تسع أذاً الى منصب سعياً مجنوناً واذا صرت اليه بما رآه أولو الأمر كفاية واخلاقاً فتسلمه من أجل خدمة الناس ولا تشته فيه الجاه لانك تفسد نفسك والمنصب والناس وتشدهم الى الثناء عليك والمجاملة والمصانعة لكي يقتربوا هم أيضاً من مواقع القوة. أما الايمان فيقول ان ليس لك أو فيك من قوة حقيقية الا ببهاء الفضيلة واللطف والوداعة والتواضع.

هذه كلها تهيئها لك النعمة الإلهية ولو كنت ملكاً. صر ملكاً واجلس على عرش التواضع فيتجلى الله بك للناس وتنشىْ هكذا حولك أمة من المتواضعين الملتمسين وجه الله ونوره. ربك معطى بالحب. انت معطى اذا بددت كرمه ليحيا الناس بعطفك والحنان.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

التأبين/ الأحد 3 تموز 2005 / العدد 27

في اللغة أبّنه أثنى عليه بعد موته وذكره بالخير. ويقال عن العظة في المآتم. وهذا نوع من الكلام استعمله الآباء القديسون ولكنهم كانوا يؤبنون العظام منهم المعروفين بقداستهم ولم يتركوا لنا تأبينا في كل انسان.

          وقد انتشر هذا النوع في بلادنا لما أخذوا يدعون المطارنة الى المآتم، وكان هذا نادرا جدا منذ مئة سنة او قبل. وما كانوا ينتظرون من الكهنة ممارسة هذا الصنف من الكلام لاعتبارهم ان المطران كان الأقدر على الخطابة. ثم اخذ بعض الكهنة يتعلمون اللاهوت والبلاغة وصاروا يتكلمون. واحيانا يتكلم الذي يعرف والذي لا يعرف، والخطابة علم من علوم اللغة صعب. غير ان الصعوبة الكبرى ان الميت لا يكون دائما مستأهلا المديح ولا يقال عنه الا انه “آدمي”. كيف تأتي بعظة والميت اقل من عادي بفضائله فتضطر ان تقول انه ربى اولاده حسنا. من يعرف، حقيقة، ذلك؟ ينجر عند ذاك المؤبن ان يقول اشياء عن التربية بصورة عامة وكثيرا ما تأتي تافهة، ويلاحظ المؤمنون ان الواعظ يكرر اقولا له سابقة.

          غير ان الصعوبة الكبرى في الكلام على الناس ان المطارنة قلما عرفوهم ويتّكلون للعلم بهم على كاهن الرعية الذي لا يعرف كل ابناء رعيته بدقة، ويستند هو بدوره على ما سمعه من ناس يعرفون الراحل. بسبب من هذا يقول بعض الخطباء اليوم فلنتكلم على قيامة المخلص وعلى الملكوت والقيامة العامة في حين ان اهل الميت يتوقعون كلاما عنه.

          عندي ان الحقيقة في هذا الشأن متوسطة. الكلام نسيج يجمع بين الأساس الذي هو الكلام الديني المتعلق بموت المسيح وقيامته وما هو ثانوي الكلام على المتوفى، على ان ربط الواعظ بين الأمرين بترجيح كفة الكلام اللاهوتي، اذ المهم ان يتعزى الناس بإحسانات الله الى المتوفى (الرحمة) كما يتعزون هم بالحديث الإلهي اي بذكر المسيح. لا بد من كلمات قليلة او كثيرة عن الذي رقد بالرب حسب الفضائل التي تزين بها. ولكن حتى اذا لم تبرز عنده حسنات واضحة يذكر منها الحد الأدنى (كان مؤمنا، كان يأتي الى الكنيسة، معاملاته حسنة، سهره على عائلته) على ان يأتي كل هذا بصدق ولا مبالغة.

          من الناحية الفنية انك في معظم الأحوال عليك ان ترتجل لأن الدفن سريع في بلادنا الا في بعض الحالات (عندما يؤتى بالجثة من المهجر او يكون انتظار اقرباء له آتين من بعيد)، ولا يستطيع كل كاهن ان يرتجل.

          الأمر الثاني هو اللغة. في هذه المناسبة لا بد ان نستعمل اللغة الفصحى لأن اللغة العامية لا تحتمل البلاغة الحقيقية او الدائمة ما لا يمنع الخطيب ان يستعمل احيانا عبارات قليلة من اللغة الدارجة. اذا كان الرثاء كله عاميا لا اظن انه يبلغ القلوب. مع ذلك هناك حالات معينة (بساطة الحضور) حيث يمكن استعمال اللغة العامية.

          هناك ايضا موضوع الوقت. الناس لا يتحملون الوقت الطويل (10 دقائق على الأكثر) ما لم يكن المتوفى انسانا عظيما فيتقبل المؤمنون وقتا اطول. من لا يعرف نفسه بليغا لا ينبغي ان يُتعب الناس. هم دائما يتأففون اذا كرر الكاهن اقواله مأتما بعد مأتم. التأبين من أصعب انواع الوعظ ويحتاج صاحبه الى تمرين كبير على معرفة الكتاب المقدس وباقي ابواب اللاهوت، كما يحتاج الى ما امكن من الفصاحة. مع ذلك اذا كان الكاهن ذا نَفَس روحي حقيقي فلا يخف، واذا عنده روح يسوع فهذا الروح يصل الى المؤمنين.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

السياسة / السبت في 2 تموز 2005

كلمة سياسة عند ارسطو مشتقة من المدينة اي انها تفترض ان الناس الاحرار عائشون معا في مجتمع واحد. فهو يستوي واحدًا بمقاصدهم أو لا اي بارادتهم الا يتذابحوا اذا ما اختلفوا وان يحاولوا التنسيق في ما بينهم لو اختلفوا. فهم صورة عن العالم الكبير المنسجم وذلك بالفكر المتلاقي والفكر الآخر على ذلك التنوع الذي يؤسس للوحدة. وجدلية الوحدة والتنوع قائمة على تعدد الافراد وحريتهم وانشاء الوحدة في الجماعة. وهذا تناسق صعب. غير ان الحوار الذي ابتدعه سقراط يؤسس على ان الحقيقة التي فيك استثيرها منك لتنيرني وتنيرك وتوصلنا معا الى بناء اثينا.

هنا يزين لي ان الديموقراطية التي تحدث عنها افلاطون تفترض ان نواب الامة فاضلون حتى التحلي بالحكمة فيصدر عن الحوار حكمة واحدة هي لصالح الجماعة. واذا كانت الحكمة هي المبتغى فلا يفسدها مال ولا تدركها شهوة. فاذا ما توخى النواب صالح اثينا فهم لا يسعون الى صالح اسبرطة او صالح اي منهم. وغير العقل لا يدخل في الاعتبار ومجلس اثينا مجمع العقلاء والعقول وحدها هي التي تتواجه عند الاغريق. فالقوة العاقلة عندهم اعلى ما في الانسان ولو احتوى القوة الغاضبة او القوة الشهوية. هاتان تنسجمان معا في اشراف العقل عليهما. اذ تبقى عندهم كل مكونات الانسان لاعبة، متلاقية ولكن في شريعة الفكر الجميل. والخضوع له هو الفضيلة باعتبار انه لا يبتغي الا الخير وما من جمال الا في الخير.

أجل النائب يجيء من قوم، من فئة من الاحرار ولكنه ليس بوقا لهم ولو مثلهم قانونيا لانه يمثل فقط من انتدبه اي العقل الذي هو صورة الله لان الله عندهم فكرة الافكار اي العقل الاسمى والجامع. ارتباط النائب ليس بمن بعث به ولكن بمن يبعث هو اليه اي الله اذ مبتغاه ان يجعل المدينة اجمل تجمع بشري قائمة على الحق والخير والجمال وهذا الثالوث في ترجمته البشرية هو الفضيلة فليس من خير او جمال خارجها.

الثورة الفرنسية ولئن قالت بسيادة الشعب الا انها لم ترد تراكم الشعب افرادا ولكنها افترضت ايضا ان هذا الشعب لا يتوجب بما يشبه مصالح الملوك واستبداد الملوك ولكنه خاضع للكائن الاعلى. ليس الشعب اذاً قائما بذاته ولكنه قائم بإلهه، الحرية التي نادت بها الثورة هي الفرصة التي تجعلنا نرى الله ونذهب بها معا الى الله. فالثورة دائما مثالية. واما اقترانها بالدم فليس من طبيعتها. طبيعتها الفكر الملتزم للانسان الآخر وسعادته الامر الذي يؤول عندهم الى سيادة الكل من حيث انهم مشدودون بالمساواة والاخوة والحرية الى ادراك الامة لجوهرها القائم على انسجام جزيئاته وهذا ينزل على كل فرد لانه يتوخى الشيء الذي يتوخاه المواطن الآخر. والآخر مواطن ليس لانه يعيش معك على ارض واحدة ولكن لانكما تطلبان معا الحرية والمساواة والاخاء. الوطن يتكون لانك انت والآخر تريدان ما هو فوق الارض بماديتها. الارض قائمة بمشروعيتها او شرعيتها بسبب من سياسة الحكمة.

كل ثورة مهما كانت سطحية تبتغي الوضع الافضل اي تجاوز الراهن السيئ الى المرجو. المؤسف ان هذه المسيرة ملطخة بالدم احيانا كثيرة. لذلك اتت معظم الثورات باطلة في رؤية الحكمة. الى هذا فكل حكم ينبغي ان يكون ثوريا على نفسه لانه ان لم يتبع الافضل كل يوم يكون قد ابطل رغبته في الحكمة وعاد الى شهواته. ان يريد ذلك هو ان يصبح جديدا كل يوم منزها عما يعطل فيه سلطة العقل وما يبيد عنده قوة التلاقي والاعتراف بالآخر من حيث هو مكمله الى الوحدة.

في هذه الفلسفة يمكن ان تؤثر الآخر على نفسك وقول الآخر على قولك. من هنا ان الكتل لا تعني الا شيئا واحدا ان يكون اهلها على فكر واحد يعتبرونه من صالح الامة اذ هم ترهبوا للجماعة الوطنية كلها. في الاخلاص ليس من كتلة او من تحالف. اجل لا يحيا الانسان الا اذا تصور ان هذا او ذاك يريده ما يريد هو من الخير. الكتلة لا يؤلفها سوى التعاهد على الخير فاذا سقط حليفك بالباطل تترك حليفك لتلتحق بمن تلتقي معه بصورة الخير. ييسر هذا الامر قيام الاحزاب في الديموقراطيات الحديثة اذ تقوم على برامج هي قراءة لما ينفع الوطن في كل الحقول السياسية. اما اذا تعددت الاحزاب كثيرا فليس من المعقول ان تكون مختلفة مثل تعددها. وتكون قد دخلت في التعدد خلافات بشرية جزئية او خامرتها مصالح القادة. ولهذا رأت بعض الدول العريقة في ديموقراطيتها ان المطالب الوطنية يمكن سكبها في حزبين او ثلاثة. فالخيارات ليست متعددة بصورة مذهلة. والاحزاب هي احزاب الامة لان مصالح الامة واحدة.

هذا يفترض ان المواطنين لا ينتمون الى فئات اجتماعية مختلفة كطوائف لبنان لها احزابها. فعلى سبيل المثال رأيك في ادارة الكهرباء او المديونية العامة او الموقف من اسرائيل لا يختلف باختلاف الطوائف. ليس في الطوائف اطروحات سياسية او اقتصادية وقد لا تمتاز هذه الطائفة عن تلك بفلسفتها السياسية. ولم يعقل احد ان دوامي بدوامك ودوام فهمي بدوام فهمك واننا قادرون على التلاقي على ان نبقى خارج منطق القوة عددية كانت ام غير عددية. واذا كان الآخر “ضروريا حتى التنفس” فالتمسك الارضي بالطائفة يبطل التمسك بالجماعة كلها. وارادة السيطرة على المجموعات الاخرى كائنة ما كانت وسيلة السيطرة انما هي الغاء للآخر. من هنا ان استثارة الغرائز الطائفية كانت إبطالا للوطن.

ان ارادة الوطن الواحد تقوم اولا على احترام الاقليات الصغيرة التي ليس عندها مال او لا تستعمله. لا ترغموها على تحالفات في الوطن هي تأباها ولا تفرضوا عليها تحالفا. فهذه كلها تتوسل مشاعر ليست من جمال اثينا القديمة بشيء. فالكبير ان لم يقتنع انه بكيانه العميق والتاريخي يجيء من الصغير يبطل كبره بسبب غياب الحكمة عنه. هناك تراص العقل والعقل فقط وتراص القراءة والقراءة. اما تراكم الاجساد من هذه الفئة وتلك فإبطال للنفس العاقلة. لا تفرضوا الهزائم لان من تنهزم امامه يجعلك عبدا له والوطن ليس فيه عبيد.

حلف الطوائف الذي يبدو في الافق نرجو الا يتحقق لانكم تكونون قد قتلتم الوطن الى الابد. قتلتموه بالتشرذم وبعودة الشهوات الى مكانها. والشهوة هي حكم قوة فينا لم تنزل عليها المحبة. وحكم القوة المفروضة خارج نظام الوفاق يعني نكرانا للدولة الحديثة التي جاءت مكوناتها من التاريخ. وانت لا يسعك ان تلغي تاريخي. والمواطنة محاولة جدية، حثيثة، تقية للاعتراف بهويتك الخاصة واصالتها في حين ننشئ وطنية واحدة لنا مجتمعين.

رجاؤنا ان يصبح نوابنا الجدد ووزراؤنا على صورة الحكمة التي ذروتها المحبة وعلى سفحها المعرفة والصدق وان يعلو لبنان كل رغبة فئوية بما فيها رغبات الكتل والاحزاب ولينكسر ما ينكسر فلا ولاء الا للحق ومنفعة البلد. ورجائي ان نزداد وعيا لنزداد طهرا ولتصر الدولة مدرسة للمجتمع وليصر المجتمع مربيا للدولة ولا نغرق في قضايا باطلة.

احلم بزوال الباطل عن بلدي في تكويناته ومسؤوليه لئلا يبقى لبنان حلما لا تدركه. يجب ان نبني على هذه الجبال وفي السواحل مدينة الله ولا تبقى على هامش الزمان الفاعل لئلا يأكلنا غيابنا ونسقط في العدم حتى نحيا ونعشق الشرائع التي من شأنها ان تنقذنا من فوضى الفكر وفوضى السلوك. وهنا اقول للنواب الجدد وبعضهم صديق: “هاتوا برهانكم” خلال السنوات الاربع المقبلة لئلا نقول لكم اذهبوا.

اما الآن فليبارككم الله انى جلستم وحيثما تكتلتم. وتعاملوا بالخير بعضكم مع بعض وبالنية الحسنة علكم تزرعون الامل في نفوسنا. ابسط مطلب منكم الاخلاص وبعده العلم.

اعرف ان بناء البلد يتطلب اجيالا لكن الوقت وقت بدء وهذا كله على الرجاء.

Continue reading