البيان الوزاري يستحق اسماً أعظم. على مراعاته للظرف هو شرعة الحكم في لبنان. دقته لا تخليه من طابع وجداني يكاد يكون شعراً في المقدمة والخاتمة كأنه رسالة حب الى اللبنانيين والتزام حب. متوازن من حيث شمول أجزائه الوزارات كلها أو معظمها. قلت انه دقيق بمعنى ان بعضاً منه ولا سيما ما يتعلق بالاقتصاد تقني جداً حتى كدت أفهم هذه الفقرة وتلك بعدما نسيت الاقتصاد السياسي الذي درسته قبل ستين عاما. ولعل الأهمية الكبرى التي يوليها للشأن الاقتصادي والمالي يشدنا الى ان هذا الشأن ركيزة هامة في السياسة ان لم تكن الركيزة الكبرى.
لست اعلم مصيره في مجلس النواب وقد سطرت هذه الكلمات قبل مناقشته فيه. ولكن لا بد من الشهادة له ان هذه الحكومة أخرجتنا من الكلام العام، الإنشائي لتجعلنا أمام فكر سياسي من العصر الحديث مع طموح الى تقويم حكم يضارع ما يقوم في الأمم الراقية. وانت اذا لم تتنطح لهذا لن تبلغ الذرى.
الى هذا أتى في أسلوب عربي أنيق يجعلك تحس ان لغتنا قادرة على ان تستوعب المقولات الحديثة ويجعلك تشعر ان الصياغة بعد اتفاق الوزراء على المضمون هي من قلم واحد. التواضع يملي عليك ان تقول بعد الصحارى التي اجتزناها ان الحكومة ان حققت جزءاً منه تكون قد وضعت نفسها ووضعتنا على الطريق الصحيح وعززت آمالنا في نهوض لبنان لأن النهضة غاية الإصلاح والتغيير.
والوزارة بالوزراء أي بعلمهم وصدقهم وطهارتهم. بهذه يستطيعون تجاوز اختلافات في الرأي لا بد منها وتباين في المشاعر. والحكومة بما هي تطلع على آراء الأحزاب والمحللين السياسيين وبما يناقشها النواب قادرة على ان تصوب مسارها وهكذا تكونها الشورى. المهم ان تشد الشعب اليها بما تقدمه من إنجاز وتأمين حاجاته المعيشية. القضية كلها في ان يكون عندك حكم أو لا يكون.
لعل أهم ما نحتج اليه هو ان يثق اللبنانيون انهم غير مسوقين الى الذبح بالإرهاب والتفجير وما الى ذلك. لعلنا لم نصل بعد الى الرعب الجماعي اذ ان نمط حياتنا كان انك تسير على طرق لبنان آمنا ثم تعود الى بيتك مطمئنا. وهذا يتطلب دربة كبيرة عندالمولجين شؤون الأمن واستمرار تدريب للعديد المطلوب ولحمة شعبنا بكل أطيافه. لقد لفتني في هذه الأيام الأخيرة ان الحكومة البريطانية وضعت يدها على تفجيرات المترو بمعرفتها لبعض المشبوهين. لا يستطيع أحد ان يضع حداً للإجرام لكن اليقظة تعاقبهم “ولكم في القصاص حياة”. متى نتنزه على كل طرق لبنان بلا خوف ولا وجل حتى نشعر حقيقة ان هذا البلد قطعة من الجنة ألقاها الله على هذه الارض!
قيل في القضاء شيء، حسناً. من أجل التوضيح لا بد من القول ان المواطن الفقير أو الذي لا سند له ينتظر قضاء عدلا يتجاهل أهل السياسة. أذكر انه جاءني رجل مرة وطلب الي ان أساعده في دعوة أمام المحكمة الروحية. قلت له انا لست رئيساً على رئيس المحكمة. أنا أعمل هنا كوزير عدل أي لا آمر ولا أنهي. وقدعينت هيئة أثق بكل اعضائها. ما زهوت بعمل يعتبره الناس فضيلة ولكني زهوت بمنطقي. هل تدعو بعض القضاة الى التوبة بعد ان تكون حاكمتهم وفصلت من يجب فصله. أليس يتطلب هذا ممارسة تفتيش دقيق يقوم به الطاهرون؟ أنا في مطلع شبابي عرفت قضاة لبثوا فقراء وما كانوا يخشون رئيس الجمهورية نفسه اذا تدخل. بلد ليس في الحكم من يظلم فيه يوحي اليك سلاماً كبيراً.
ان عدو الحياة ليس الموت ولكن الخوف. هنا تأتي مسألة التنصت الذي أشار اليها البيان. ان تضخم ممارسته وشموليتها شرائح كبيرة من المواطنين تدل على خوف الأجهزة الأمنية من الناس. فاذا صار الخائف ضحية فالمخيف ضحية أكبر لأنه هو الخائف الأمثل. هذا يعطي للأجهزة المتنصة قدرة على أهل الحكم والنواب وأهل الشأن العام بعامة. وهذا يخترق حياة العائلات وحميميتها والمصالح الاقتصادية ويعرض علاقات البشر لخلل وشكوك. فاذا كانت المجالس بالأمانات فبالقوة نفسها التواصل الهاتفي وما اليه هو بالأمانات أيضا. القانون الجزائي في فرنسا يعاقب الزوج الذي يقرأ الرسائل التي تتلقاها زوجته. أين نحن من هذا؟
يبقى لي ان استخرج من البيان أحب شيئين الي. أولهما البيئة التي يستوقفني فيها أمران أولهما البحر وثانيهما الشجر. فالبحر شهوة السابحين، الميسورين منهم والفقراء، والسباحة يجب ان تكون مجانية كما هي في قبرس. واذا كان عند البحر فندق فتعبره الى المياه غير مستأذن. ماذا يفعل الفقير اذا قال له طبيبه لا شفاء لحالتك الا البحر. الشواطىء الكثيرة عليها بناء يحجب الرؤية اي يحجب الفرح الا عند الذين اعتدوا وبنوا حيث يحظر القانون البناء. الطبيعة متعة لكل انسان وقد تقود الى انتعاش روحي.
أما الغابات عندنا فقد اخذ حيرام ملك صور يقطع منها ليبني بها سليمان الهيكل و”أرسل حيرام الى سليمان قائلا: قد سمعت ما ارسلت به الي. أنا أفعل كل مسرتك في خشب الارز وخشب السرو” (1ملوك 5: 28). منذ قبل الميلاد الى اليوم نقطع نحن شجرنا. ويزين لي ان كل من اجتاحنا تابع مشروع الاقتلاع حتى تصحر البلد اذ ليس عندنا أكثر من 4 في المئة من مساحتنا شجراً . وكلنا يعرف فوائد الأحراج (حفظ التربة، استدرار المياه، صناعة الخشب). كنت مرة في دير لنا كبير في فنلندا فسألت رئيسه مم يعيش هذا البلد؟ أجابني يعيش بالدرجة الاولى من صناعة الورق الذي نستخرجه من الخشب. موارد رهيبة ممكنة يهملها اللبنانيون.
في تصوري ان تشجير كل لبنان في خطة عدة سنوات ممكن. الوسائل كثيرة ومنها البذار التي ترميها الطوافات قاردة على ان تجمل جبلنا والهضاب وان تفيد من هذا في مجال الصناعة. وفي تقديري أيضا ان الكلفة ليست باهظة في برنامج طويل المدى. دائما كان يحز في صدري ألم رؤيتي لجبال جرداء في شمال لبنان في طفولتي ومطلع الشباب. كنت أتعزى عن غياب الشجر بأشعة الشمس تتقاطع وتتغير بذا ألوان الصخر عند الغروب. لكن البلد لا يعيش فقط من مشاعر أطفال.
أصل الى الثقافة. هالني ما قاله لي أحد وزراء الثقافة المتعاقبين ولا أريد ان أسميه لئلا أجرح تواضعه. قال: لم يكن في الموازنة قرش واحد لوزارتي، لما تسلمتها، وكان علي ان أتدبر أمري. ان لم تخني الذاكرة قال: دفعت من جيبي نصف مليون دولار حتى تتحرك الوزارة. أرجو ان يكون لها في الموازنة الحالية أكثر من بضعة قروش ولا سيما اذا طال عمر هذه الحكومة اذ عندنا اليوم وزير أكاديمي واستاذ جامعي وتمرس في الحضارة سنين طويلة ويعرف تاليا “مهنته”.
السؤال هو كيف نترجم الأمنيات الواردة في البيان الثقافي عملاً . هل نطمح مثلاً الى ان يصبح كل لبناني عازفا على آلة مثل كل ألماني؟ ما العلاقة بين هذه الوزارة ووزارة الإعلام بحيث تطغى الاولى على الثانية في البرامج الفنية التي ينقلها التلفزيون. أولاً لماذا هذا الغزو المصري لبرامج عديدة حتى كادت اللهجة المصرية طاغية على الشاشة ثم لماذا نأخذ الكلام التافه من لغتنا الشعبية والعامية قادرة على لسان راق. وكأن هناك ارادة مصوبة لإخراج كل هذا السفه المقيت بما يقال انه هزلي وهو ليس بشيء، بما يدعى فنيا لكونه يدغدغ الغرائز الدنيئة اذ يبدو لأصحاب البرامج انه كلما أوغلوا في العراء الرخيص يتحببون للمشاهدين.
ربما اخذنا ننتج المقبول في عالم السينما ولكن في خفر وقلة. أرجو ان يكون السينمائيون قد تدرجوا في أعلى معاهد الغرب والسينما تصبح أحياناً مدرسة ذوق رفيع. والذوق الرهيف اذا بلغناه من جوامع أهلنا.
ثم من يقرأ في لبنان؟ الواضح مثلاً ان السودان يقرأ أكثر منا. من عنده مكتبة صغيرة؟ لا مانع عندي من استعمال الانترنت. لكن الصورة التي تتقبلها مؤذية. للعينين. والى هذا لا شيء يعوض الورق تقلبه بين يديك فتعود الى هذا الفصل منه وذاك حتى تزداد ثقافة ادبية انسانية ولو ذهبت الى العلوم والتكنولوجيا.
ما قد يتعلل به الناس في ضعف مطالعاتهم ان اختصاصهم يستغرق أوقاتهم. أفهم ان هذا إغراء جذاب. ولكن يؤلمني ان أرى بعضا من الاختصاصيين لا يفقهون شيئاً خارج دراستهم فيغيب عنهم التاريخ والشعر وعلم الديانات وكأنهم أمّيون. ليس نادراً ان تلقى لبنانياً جامعياً لا تعلو ثقافته الحقيقة مستوى عامل بسيط وهذا يدفع هذا الانسان الى التعصب الديني مثلا لأنه لم يراقب في ثقافة واسعة غرائزه أو عدائيته.
الهاجس الثقافي يتعدى إطار الجامعة لأنك ان كنت أسير دراستك لا يكون عقلك بالضرورة ناميا وذواقة. أجل الثقافة دربة وإرث ولكنها أيضاً سياسة. ولا شيء يريح مثل اجتماعك الى انسان مثقف. يريحك مبدئياً لأنه يقبلك. ما ألذها رياضة ان تسبح في عقل انسان آخر ويسبح هو في عقلك فتريان انكما قد خرجتما من الضيق وعانقتما العالم في سعته والتاريخ في مداه والديانات في تشعبها وأعماقها فتلمس ان المثقفين عصبة واحدة ولو اختلفوا في المنحى والحركة والقناعات.
قد يصعب تحصيلنا الثقافي لأننا أهل لغتين أو ثلاث. لست أعلم ان كان إتقان العربية واجب وزارة التعليم أو وزارة الثقافة ولكن كيف يدعي لبنان انه ينتمي الى العروبة وتكاد لا تسمع خطيباً لا يلحن. من يقرأ النحو اليوم او من يدقق نصه على ضوء “لسان العرب” أو أقله “محيط المحيط”؟ من قرأ القرآن ونهج البلاغة؟ من يصحح لكتاب الصحف مقالاتهم؟
كان الله بعونك يا دولة رئيس الحكومة وأعوانك. نتمنى عليكم ان تنفذوا البيان الوزاري فقرة فقرة في إصرار كبير مهما لقيتم من عثرات. كلامكم وعد يقيدكم ويقيدنا. بارك الله لمسعاكم تبريكاً كثيراً . لا تملوا أمام ضعاف النفوس والذين لم يصلوا الى تطلعاتكم. الانسان تنقذه تطلعاته.
Continue reading